الفصل الأول

دببة قصيرة متناهية الصغر

أبهرَتْني على مدى أعوام عديدة الكائناتُ المدهشة التي تعيش في أقسى ظروف الحياة على كوكب الأرض. وبما أنني قد تحدَّثتُ في أطروحتي لنيل الدكتوراه، وفي أحد كتبي كذلك، عن طبيعة الحياة في الظروف الشديدة القسوة، فلم أَعُدْ أنبهر بسهولةٍ بحكايات الحياة في المياه الشديدة الغليان أو الصحاري الحارقة أو الجليد الدائم. ومع ذلك، فإن المقال التالي (الذي لم يظهر — للأسف — إلا بعد وقت طويل من طبع النسخة الأصلية من كتاب «الحياة على حافة الهاوية») يتفوَّق على هذه المعالجات جميعًا. فإذا أراد أحدٌ أن يرسل حيوانات إلى كوكب المريخ، فإنني أقترح عليه أن يجرِّب «الدببة الصغيرة»، تلك الكائنات المعروفة أيضًا باسم دببة الماء أو البطيئات المشية. والنص التالي مقتبَسٌ بتصرفٍ من إحدى الحواشي المُضمَّنة في النسخة الورقية الغلاف من كتاب «الحياة على حافة الهاوية».

بطيئات المشية هي حيواناتٌ ميكروسكوبية دقيقة تشبه الدببة الصغيرة الحجم، ويبلغ طولها نصف ملِّيمتر على أقصى تقدير. تعيش في قُطيرات الماء المتكوِّنة على الطحالب والأُشنات، ويمكن أن توجد في جميع أنحاء العالم. والآن لو كنتَ أحدَ هذه الدببة المتناهية الصغر المُعرَّضة لكل هذه الظروف القاسية، فإنك حتمًا ستحتاج إلى بعض المهارات الخاصة جدًّا للبقاء على قيد الحياة.

لبطيئات المشية طريقتان نمطيتان رئيستان على الأقل في حالة الطوارئ؛ فإذا غمر الماء موطنها، وكان ثمة احتمال لحدوث نقص في الأكسجين، فإنها تتضخم إلى حالة خاملة كالبالون؛ مما يمكِّنها من أن تطفو على سطح الماء لأيامٍ. ومع ذلك، إذا كان التهديد بسبب نقص الماء، فإنها تنكمش لتكوِّن ما يُسمَّى الحالةَ البرميلية (لأنها تشبه البرميل)، التي يمكن وصفها بالمكافئ الحيواني للبَوْغ. وقد استطاع الباحثون إعادةَ إحياء بطيئات المشية عن طريق إعادة إماهة عينات طُحلبية بعد تخزينها لما يصل إلى ١٠٠ عام على أرفف المتاحف؛ مما يثبت ما تتسم به هذه الحالة من استقرارٍ مدهش وطويل الأجل.

fig2
شكل ١-١: صورة مجهرية إلكترونية لدب الماء. بطيئات المشية أو دِبَبَة الماء هي أكثر الحيوانات المعروفة قدرةً على الاحتمال والمقاومة.

كانت هذه الحالة البرميلية هي ما استعان بها كونيهيرو سيكي وماساتو تويوشيما (من جامعة كاناجاوا، في اليابان) في دراساتهما عن مقاومة مستويات الضغط العالية. فنظرًا لأن وجود الماء كان سيُعِيد هذه الحيوانات إلى الحالة النَّشِطة، علَّقَ الباحثان هذه الحيوانات بما هي عليه من حالة برميلية في محلول من الهيدروكربونات المشبعة بالفلور قبل تعريضها لضغطٍ وصل إلى ٦٠٠٠ وحدة ضغط جوي (أيْ أكثر من خمسة أضعاف الضغط الموجود في أعمق أغوار المحيط). وبينما تفنى جماعات بطيئات المشية النَّشِطة في الماء بفعل ٢٠٠٠ وحدة ضغط جوي (وهو بالفعل الحد الأقصى الذي قد يتحمَّله أيُّ حيوان)، فإن الحالةَ البرميلية أتاحت البقاءَ لنسبة ٩٥٪ من أفراد أحد الأنواع، و٨٠٪ من نوع آخَر في أقصى درجات الضغط الجوي التي تبلغ ٦٠٠٠ وحدة ضغط جوي.

هذه الملاحظة غير مسبوقة بالنسبة إلى أي نوع من الحيوانات. والحيوانات الوحيدة التي يُؤمَل أن تنافِس تلك الحيوانات هي بعض الطحالب والأبواغ البكتيرية. ومع ذلك، ربما لم يندهش خبراء بطيئات المشية إلا قليلًا؛ لأنهم كانوا يعلمون فعلًا أنه من الممكن إعادة إحيائها في تلك الحالة البرميلية بعد تجميدها في الهليوم السائل؛ إذ إنها مقاوِمة للتجمُّد حتى درجة حرارة ٠٫٥ درجة كلفينية. ولا توجد بعدُ تفسيراتٌ ميكانيكية مفصَّلة لهذه الاكتشافات المحطِّمة للأرقام القياسية، والشيء الوحيد المؤكَّد أن جسم بطيئات المشية في هذه الحالة البرميلية يحتوي على تركيزات عالية من تريهالوز السكر، المعروف عنه أنه يحسِّن مقاومة الضغط في خميرة الخبز.

لقد أثارَ العمرُ التخزيني الاستثنائي الذي تظل فيه بطيئات المشية في الحالة البرميلية على قيد الحياة؛ اهتمامَ الباحثين في التكنولوجيا الطبية، ويحاول بعضهم محاكاةَ طريقة بطيئات المشية لبلوغ حالة استقرار مماثلة طويلة الأجل للأعضاء البشرية لكي تُستخدَم في عمليات زرع الأعضاء.

(٢٠٠٠)

أحدث التطورات

يسعدني أن أقول إن الباحثين قد نفَّذوا بالفعل اقتراحي وأرسلوا بطيئات المشية إلى الفضاء؛ فقد كانت تجربة «بطيئات المشية في الفضاء» — التي يُشار إليها اختصارًا بتجربة «تارديس» — جزءًا من بعثة المركبة الفضائية فوتون إم ثري، التي انطلقت في الرابع عشر من سبتمبر عام ٢٠٠٧، وعادت بسلام في السادس والعشرين من الشهر نفسه، بعد دورانها ١٨٩ دورة حول الأرض. وفي الوقت الذي أكتب فيه هذا المقالَ، كان الركَّاب من بطيئات المشية في انتظار التحليلات المفصلة التي ستُجرَى لهم، والتي ستكشف بالتأكيد مدى ملاءمتها لتحمُّل ظروف الفضاء.

قراءات إضافية

  • M. Gross, Life on the Edge, Plenum, 1991.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤