الفصل الثالث

أيُّها البروتين، صحِّحْ نفسك!

في عام ١٩٩٦، كتبتُ مقالًا عن التسلسل الجينومي لميكروب «المكورة الميثانية الجاناشية»، وهو أول تسلسل جينومي على الإطلاق لأحد أغربِ أنواع الميكروبات المعروفة باسم العتائق، التي تختلف بعض الشيء عن البكتيريا، على الرغم من أن هذا التقسيم الجوهري لم يُكتشَف إلا في ثمانينيات القرن العشرين. وقد اقترحتُ استخدامَ مخطَّط دائري ظهر مع البحث الأصلي ويبيِّن الجينوم بأكمله في لمحة سريعة، مع تمييز الأنواع المختلفة من العناصر الوظيفية بألوان متباينة. وبما أنني لستُ حقًّا المسئولَ عن الصور التي تُرفَق بمقالاتي، فلم أُعِر انتباهًا كبيرًا إلى تفاصيل هذا المخطط، إلى أن عاد المحرِّر إليَّ بهذا السؤال: «ما معنى الإنتئين؟» اتضح أن هذه الصورة حدَّدت ١٨ تسلسلًا بصفتها إنتئينات، ولم تكن لديَّ أدنى فكرة عن ماهيتها، ولكنها — بالمصادفة — أصبحت مثيرةً جدًّا للاهتمام؛ لذا كان عليَّ أن أكتب تكملة لمقال الجينوم. والآن لم تَعُدِ التسلسلات الجينومية الصغيرة مثيرةً للفضول، على عكس الإنتئينات.

تخيَّلْ أنك اشتريتَ شريط كاسيت من متجر للموسيقى السحرية في حارة دياجون، وكان هذا الشريط يحتوي بداخله على شريط مغناطيسي قديم الطراز. تخيَّلْ أنكَ أخذتَه إلى المنزل، وفتحتَ العلبة، ثم لاحظتَ كتلةً معقودةً من الشريط تتدلَّى خارجه، ثم تلتفُّ هذه الكتلة على هيئة مقصٍّ وتفصل نفسها عن بقية الشريط. ولكن لكي لا تتركك القطعة المنفصلة مع شريط كاسيت غير قابل للتشغيل، فإنها تستحضر فرشاة صغيرة وصمغًا، وتلصق الطرفين المنفصلين للشريط، قبل أن تذهب في طريقها. قد يبدو لك هذا أمرًا مثيرًا للجنون، ولكن لو استبدلت بالشريط المغناطيسي شريط الحمض النووي الريبي (آر إن إيه)، أو البروتين في واقع الأمر، فسيبدو هذا منطقيًّا.

كانت الإنتئينات — وهي بروتينات تتمتع بالقدرة على تضفير نفسها — تُعتبَر من الأمور الغريبة إلى حدٍّ ما حتى عام ١٩٩٦. وداخل التسلسل الجينومي ﻟ «المكورة الميثانية الجاناشية» — وهو أول جينوم من مملكة العتائق — تم اكتشاف ١٨ تسلسلًا في ١٤ جينًا مختلفًا؛ مما يضاعف عدد الأمثلة المعروفة. تشبه الإنتئينات إنترونات الحمض النووي الريبي؛ إذ تستطيع أن تقص نفسها وتحرِّرها من رابطة طويلة لمتعدد الببتيدات، وأن تلحم الأجزاء المتبقية (التي تُسمَّى بالإكستينات والشبيهة بإكسونات الحمض النووي الريبي). إلا أن هذه العملية لم تُكتشَف حتى عام ١٩٩٠، ولم تلقَ اهتمامًا كبيرًا كالذي حظيت به عملية تضفير الحمض النووي الريبي.

على الرغم من أن معظم الأمثلة المعروفة للإنتئينات ترجع إلى مملكة العتائق (أو الجراثيم العتيقة سابقًا) التي شاع عنها أنها غريبة، فقد اكتُشِف النموذجُ الأوليُّ في كائن حي كثيرًا ما استُخدِم في الأبحاث العلمية وخدم البشرية على مدار قرون من الزمان؛ أَلَا وهو خميرة الخُبز. لاحَظَ توم إتش ستيفنز وزملاؤه بجامعة أوريجون في مدينة يوجين أن جين «تي إف بي ١» TFP1 في الخميرة من الواضح أنه يقوم بالتشفير لإنتاج بروتينين. ويتم تشفير البروتين الأصغر في المنطقة الوسطى من الجين، ويلاصقه النصفان المنفصلان للبروتين الأكبر. لم يكن هذا الاكتشاف في حدِّ ذاته مميزًا؛ إذ يوجد العديد من الأمثلة للجينات المتداخلة أو المتشابكة، ولكن العجيب في الأمر أنه بدلًا من إنتاج الشريطين الرسولين للحمض النووي الريبي كما هو متوقَّع (أيْ شريط لكل بروتين ناتج)، فإن شريطًا واحدًا فقط هو الذي تكوَّن، وتطابَقَ طولُه مع مجموع الأطوال المتوقَّعة. ولهذا شكَّ فريق ستيفنز في أن المعلومات الجينية لم تُصحَّح على مستوى الحمض النووي الرسول، كما في العديد من الحالات الأخرى. وبدلًا من ذلك، بَدَا أن الشريط الأحادي من الحمض النووي الرسول قد تُرجِم إلى بروتين اندماج واحد، ينقسم إلى المكونَيْن النهائيَّيْن بعد الترجمة الجينية.

لاختبار صحة هذه الفرضية، أحدَثَ الباحثون طفرات في الجزء الأوسط من الحمض النووي الرسول؛ مما أدَّى إلى ترحيل في القراءة، أيْ إلى خطأ في تقسيم شريط النيوكليوتيدات (الحروف) إلى كلمات مكوَّنة من ثلاثة حروف تحدِّد الأحماض الأمينية المفترض دمجها في البروتين. وهذا النوع من الطفرات لا يؤثِّر على الكلمة التي يَحدُث فيها فحسب، بل يتعرض أيضًا النصُّ كله الموجود خلفه للتشويه. لو كان قد حدث تضفير على مستوى الحمض النووي الرسول، فإن طفرةَ تغيُّر الإطار لم تكن ستؤثِّر إلا على الإنترون المقطوع من الحمض النووي الرسول، في حين ستظل الإكسونات المُضفَّرة محتفظةً بالإطار الصحيح. لهذا السبب، يجب عدم إحداث طفرات إلا في البروتين الذي جرى تشفيره بالمقطع الأوسط، وليس في البروتين الذي جرى تشفيره بالمقاطع الخارجية. ومع هذا، فقد اكتُشِف أن كلا البروتينين قد تأثَّرَا بطفرة تغيُّر الإطار، (بالطبع، يجب أن يأخذ المرء حذره من ألَّا تؤثِّر الطفرات الموجودة في الجزء الأوسط على تفاعل التضفير، وهو ما يمكن تأكيده بالأوزان الجزيئية للبروتينين الناتجين.) إلا أن الباحثين فشلوا في عزل البروتين الطليعي غير المشقوق؛ مما دفعهم إلى الشك في أن التضفير قد يكون عمليةً ذاتيةَ التحفيز. في هذه الحالة، سيعمل البروتين نفسه على تسريع تفاعُل التضفير لدرجة أنه سيكون من المستحيل الإمساك بناتج الترجمة الأصلي.

لم يكن بالإمكان تخطِّي هذه المعضلة إلا بعد اكتشاف الإنتئينات أيضًا في العديد من العتائق أليفة الحرارة العالية، مثل بكتيريا «ثيرموكوكوس ليتوراليس» وسلالات متنوعة من بكتيريا «بيروكوكوس». صمَّمت فرانسين بي بيرليه وزملاؤها في مختبرات نيو إنجلاند بايولابس نظامًا صناعيًّا للتضفير الذاتي حول الإنتئين الخاص ببُوليميِراز الحمض النووي لبكتيريا «بيروكوكوس»؛ وذلك عن طريق وضع الجين المسئول عن إنتاج بروتين رابط للمالتوز «إم» M أمامه (باعتباره إكستين «إن» N، كما هو عند نهاية الطرف الأميني من التسلسل)، ووضع الجين المسئول عن إنتاج الباراميوزين «بي» P خلفه (باعتباره إكستين «سي» C، للطرف الكربوكسي). وقد قدَّموا الجينَ الناتج عن هذا الاندماج إلى بكتيريا «الإشريكية القولونية» المعوية (وهي وسيلة معملية شائعة الاستخدام)، التي نجح جهازُ تصنيع البروتين بها في إنتاج متعدِّد الببتيدات المندمج (إم آي بي) عند درجات حرارة تتراوح بين ١٢ و٣٢ درجة مئوية. عند درجات الحرارة المنخفضة هذه، لم يحدث تفاعل التضفير الذاتي إلا ببطء شديد، لكون الإنتئين المستخدَم مأخوذًا من كائن حي يستطيع التكيُّف مع الحياة قرب نقطة غليان الماء. وفي واقع الأمر، أُبطِئت العملية برمتها إلى الحد الذي أتاح للباحثين تنقيةَ البروتين الطليعي غير المُعالَج. فعن طريق تحضين متعدِّد الببتيدات هذا في محاليل مائية لا تحتوي إلا على كميات صغيرة من كلوريد الصوديوم والمحلول المنظم الفوسفاتي، ثم تسخينها ببطء؛ نجحوا في ملاحظة بداية التضفير الذاتي عند درجات الحرارة المرتفعة. وبهذه الطريقة، استطاعوا أيضًا عَزْلَ مركَّب وسيط (وهو «إم آي بي»؛ أي متعدِّد الببتيدات المندمج)، جاء سلوكه مناقِضًا إلى حدٍّ ما؛ إذ بَدَا أنه يتمتع بوزن جزيئي أكبر من مركب «إم آي بي»؛ لأنه كان يتحرك على نحو أكثر بطئًا عبر الجِل الرحلاني، كما بَدَا أنه يحمل نسختين مختلفتين من الطرف الأميني («بداية» رابطة بروتينية). حُلَّ اللغز عندما اكتشفوا أن المركَّب الوسيط يحمل بكل وضوح بنيةً متفرِّعةً، أدَّى كبر حجمها إلى تقليل الحركة داخل الجِل. وما حدث حتمًا أن كلًّا من الإكستين «إم» و«بي» كوَّنَا رابطة، على الرغم من استمرار ارتباط الإكستين «آي» I بالإكستين «بي».

بالإضافة إلى قدرة الإنتئينات على التضفير الذاتي، فإنها تشترك مع إنترونات معينة في مزيدٍ من الخصائص؛ أو بشكل أكثر تحديدًا، مع بروتينات معينة ناتجة عن ترجمة الإنترون. ويعمل كلاهما كنيوكليز داخلي؛ مما يعني أنهما يستطيعان التعرُّفَ على تسلسلات معينة للأحماض النووية، وقصَّ الحمض النووي عند موضع محدَّد داخل هذه التسلسلات أو بالقرب منها. وهما يختصان بمقاطع الحمض النووي التي تميِّز الجين «الأصلي»، ولكنهما يفتقران إلى تسلسل الإنترون أو الإنتئين. وهكذا، فإنهما يقصَّان الجينَ عند الموضع المطابِق، وبالتالي يحفِّزان آلية «الإصلاح»، التي قد تستعين بنسخةٍ من الجين تحتوي على إنترون/إنتئين كقالب نموذجي، فتُنتج بذلك التسلسُل الدخيل وتضيفه إلى الجين.

لم تُثبَت هذه العملية — التي كانت تُعرَف سابقًا باسم «توطين الإنترون» — بهذه الدرجة إلا لهذه الإنتئينات الأربعة المعروفة، ومع ذلك، يُستنتَج من المقارنات بين التسلسلات أن جميع الإنتئينات المعروفة مرتبطة على الأقل بالنيوكليزات الداخلية، حتى لو خسر بعضها وظيفة التوطين خلال تطوُّره الأخير. كما يوحي التوزيع المتفاوت لتسلسلات الإنتئين بين سلالات ممالك الحياة الثلاث جميعًا بأن نشاط النيوكليز الداخلي هذا قد أتاح انتشارَ الإنتئينات بسهولة بفضل الانتقال الجيني الأفقي (أي الانتقال بين السلالات الحديثة).

لماذا قامت الإنترونات والإنتئينات الذاتية التضفير بتطوير وظيفة النيوكليزات الداخلية الخاصة بالتوطين؟ حسنًا، ربما طُرِح هذا السؤال على نحو معكوس، إذا عكسته فستكون الإجابة واضحة. لماذا تتسم النيوكليزات الداخلية الخاصة بالتوجيه بالتضفير الذاتي، سواء على مستوى الحمض النووي الريبي أو البروتين؟ من المحتمَل أن يكون الإنزيم القادر على قصِّ جين ليضع فيه محتواه الجيني مُهلِكًا لأية خلية؛ إذ إنه سيدمِّر في وقتٍ ما جينًا مهمًّا. ولكن لو أمكن إصلاحُ الضرر عند مستوى الحمض النووي الريبي أو البروتين، عن طريق التسلسل الدخيل الذي يحفِّز تفاعُلَ التضفير ليعيد بناء المنتج الأصلي، فسيكون كل شيء على ما يرام.

وهكذا، فإن نشاط الإنترون أو الإنتئين هو الحالة التي يجب أن يصل إليها أي عنصر جيني متحرِّك لكي تتقبَّلَه الخلية. ولو فشل في هذا، فإنه سيدمِّر خليته المضيفة ولن تبقى له سوى فرصة واحدة للنجاة؛ أَلَا وهي اكتساب القدرة على إصابة الخلايا الأخرى، وبالتالي يصبح من الفيروسات. لهذا، فعلى الأرجح أنه ليس من قبيل المصادفة أن يكون التصحيح الذاتي على مستوى البروتين ملحوظًا على نحو شائع في الفيروسات. فالمادة الجينية، على سبيل المثال، لفيروس نقص المناعة البشرية (إتش آي في) المسبِّب لمرض الإيدز؛ تقوم بتشفير رابطة طويلة من متعدِّد الببتيدات تحتوي على جميع البروتينات الفيروسية مترابطة معًا. ويعمل نشاط البروتياز الخاص بفيروس نقص المناعة البشرية الموجود في هذا البروتين المتعدد على انقسام الجزيء لتكوين البروتينات المطلوبة.

ربما يكون «الهدف» البيولوجي من الإنتئينات (التي من الواضح أنها عديمة الفائدة بالنسبة إلى الخلية، وتعيش فقط لأنها تساعد في نشر جيناتها دون أن تضرَّ الخليةَ كثيرًا) هو النظر إليها بصفتها بشيرًا تطوريًّا أو بديلًا مسالمًا للفيروسات. ويجب أن يبقيها المرء بالتأكيد تحت الملاحظة.

(١٩٩٦)

أحدث التطورات

أصبحَتِ الإنتئينات الآن متاحةً تجاريًّا كجزء من أدوات التعبير البروتيني التي تتيح للباحثين إنتاجَ بروتين اصطناعي معيَّن وتنقيته في خطوة واحدة. وتتمحور الفكرة حول تشفير ما يُعرَف باسم علامة التقارب عند أحد طرفَي الجين؛ مما يضمن أن يحظى ذيلُ البروتين الاصطناعي بتقارب ارتباطي قوي ومحدَّد تجاه مادة معينة، مثل الكيتين. وهكذا، يُصبِح من السهل تنقيته بتمرير المستخلص الخلوي عبر عمودِ فَصْل يحتوي على هذه المادة، حيث يرتبط بها البروتين المطلوب في حين يمرُّ كلُّ شيء آخَر بسرعة؛ وبذلك يضمن تسلسُل الإنتئين الموجود بين العلامة والبروتين أن تنفصل العلامةُ بعد التنقية دون الحاجة إلى أي إجراء إضافي.

قراءات إضافية

  • F. B. Perler and E. Adam, Curr. Opin. Biotechnol, 2000, 11: 377.
  • C. J. Bult et al., Science, 1996, 273, 1066.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤