الفصل الثامن

الجميع معًا الآن

لطالما استمتعتُ بتحدِّي وجهة النظر التقليدية التي تقول بأن البشر هم «أرقى» صور الحياة على كوكب الأرض، وأن كل كائن آخَر مجرد صورة بدائية. على سبيل المثال، البكتيريا ليست بالغباء الذي تبدو عليه؛ إذ تستطيع أعدادٌ هائلة منها تنسيقَ أنشطتها زمنيًّا ومكانيًّا، بالاعتماد على شكل من أشكال التواصل الكيميائي يُعرَف باسم استشعار النِّصاب. فهل هو سلوك اجتماعي لدى البكتيريا؟ يا لها من فكرة مجنونة!

توجد خرافة قديمة ولكنها ما زالَتْ شائعةً تقول بأن سلالة الجنس البشري المعروفة باسم «الإنسان العاقل» تمثِّل أكثر صور الحياة تعقيدًا على كوكب الأرض، في حين أن البكتيريا هي أكثر الصور بدائيةً. ولكن اشتهر دوجلاس أدامز بأنه أسقَطَ الجزءَ الأول من هذه الخرافة، وبدأ علماء البيولوجيا المجهرية الآن يدركون أن البكتيريا أكثر تعقيدًا مما كنَّا نحن البشر الزائلين نعتقد. صحيحٌ أن الأنواع القليلة التي يمكن استزراعها بسهولةٍ داخل المعمل غالبًا ما تُوصَف بافتراض أنها خلية وحيدة مبرمَجة على الانقسام بعد مدة معينة ما توافَرَ طعام كافٍ حولها، إلا أنك لو راقبْتَ البكتيريا في الطبيعة، فستجد أنها أشدُّ تعقيدًا ومليئة بالمفاجآت التي قلَّما يمكن التنبؤ بها.

يقدِّر علماء البيولوجيا المجهرية الآن أن معظم الكتلة الحيوية البكتيرية لا توجد في الحقيقة بصفتها خلايا أحادية تعيش حرَّةً، ولكنها مشتركة في تنظيم أرقى، يتضمَّن التكافُلَ مع الكائنات الحية الأخرى (مثل الأُشنات وأحشاء الحيوانات) والأغشية البيولوجية الرقيقة. يمكن أن تصبح الزَّراقِم جزءًا من الأُشنات، التي تبدو على نحوٍ مخادِع شبيهةً بالنباتات الراقية، وكذلك في البِنى الطبقية التي تعكس تنظيمًا بنيويًّا صارمًا على نطاقات أوسع. وتستطيع مستعمرات البكتيريا المتوهجة إرسالَ ومضاتٍ ضوئية منسَّقة بدقة. تتطلب جميع هذه الأنشطة «الاجتماعية» من كلِّ بكتيريا مفردة أن تستشعر وجودَ البكتيريا الأخرى حولها كي تتواصَلَ معها. وتحقيقًا لهذا الغرض، فإنها تتمتَّع بنظام إشارات كيميائي يُعرَف باسم استشعار النِّصاب (هو نظام تنبيه واستجابة تستخدمه البكتيريا لتنظيم التعبير الجيني لها تبعًا لكثافتها العددية في حيِّزٍ مكاني ما).

اكتُشِف هذا النظام أول ما اكتُشِف في البكتيريا المتوهِّجة التي تلمع فقط عندما يوجد العديد من صديقاتها في الجوار. وفي سبعينيات القرن العشرين، أثبَتَ الباحثون أن هذه البكتيريا تُفرِز رسولًا جزيئيًّا يُسمَّى المحفِّز الذاتي، داخلَ الوسيط، ولا تنتج الضوءَ إلا عندما تستشعر تركيزًا حَديًّا معيَّنًا لهذا الجزيء. طوال سنوات عديدة، اعتقَدَ علماء البيولوجيا أن هذا التواصُلَ يقتصر على التوهُّج البيولوجي، بيد أنه في تسعينيات القرن العشرين اتضح أن استشعار النِّصاب هو ظاهرة أكثر عمومًا، وتنطوي على عمليات مختلفة بما في ذلك تصنيع المضادات الحيوية في بكتيريا «إروينيا كاروتوفورا»، وإنتاج العوامل الخبيثة في البكتيريا المسبِّبة للمرض.

ظلت الآلية الجزيئية لاستشعار النِّصاب غامضةً طوال سنوات. وفي عام ٢٠٠٢، استطاع الباحثون بفضل بنيتين بلوريتين للبروتين تشتركان في العملية، أن يفهموا على الأقل بعضَ الجوانب الجوهرية لهذه الآلية. كما تمكَّنَ فريقُ فريدريك هوجسون من جامعة برينستون (نيوجيرسي) من تحديد محفِّز ذاتي لا يزال محيِّرًا حتى الآن اسمه «إيه آي-٢» AI-2 عن طريق إذابة البنية البلورية لمُستقبِله، الذي اتضح أنه يحتوي على الجزيء «إيه آي-٢». ومع أن العديد من الظواهر البكتيرية المعروفة حتى الآن مختصَّة بنوع واحد، فإنه يبدو أن «إيه آي-٢» موزَّع على نطاق واسع، وقد يفيد باعتباره وسيلةَ تواصُلٍ بين الأنواع المختلفة.
المُستقبِل المشار إليه هنا هو «إل يو إكس بي» LuxP، وهو بروتين يشترك في التوهُّج البيولوجي المنظَّم للبكتيريا المائية «فيبريو هارفي» (وهي بكتيريا غير ضارة ذات صلةِ قرابةٍ بعيدةٍ بجرثومة الكوليرا، وسُمِّيت باسم رائد أبحاث التوهُّج البيولوجي «إي نيوتن هارفي»). ومع أن بنية البروتين على هذا النحو مشابِهة لبِنى بروتيناتٍ رابطة أخرى موجودة في الحِبْلَة المحيطية بالخلية (وهي المساحة الواقعة بين الغشاء الخلوي والجدار الخلوي)، فإن البنية الكيميائية غير العادية للمحفِّز الذاتي المحبوسة بالداخل، التي تُعتبَر أولَ مثال لجزيء حيوي يحتوي على البورون، كانت هي ما تسبَّب في حفر اسمه على صفحات مجلة «نيتشر».
بعد ذلك ببضعة أشهر، قدَّمَ فريق أندريه جوشيماك في معمل أرجون الوطني (أرجون، إلينوي) بنيةً بلوريةً أخرى لبروتين رئيسي يشترك في استشعار النِّصاب. وكان هدف الفريق هو بروتين «تي آر إيه آر» TraR المأخوذ من الجرثومة النباتية المُمرِضة المعروفة باسم الأجرعية المورمة «أجروباكتيريوم تيوميفيشينس». يرتبط هذا البروتين بأحد مستشعرات النِّصاب الأخرى في جهاز التوهُّج البيولوجي، ويشكِّل رابطةً مباشِرةً بين التعرُّف على الفيرومون وبين التغيير الناتج في التعبير الجيني؛ إذ إنه يعمل كمُستقبِل إشارة ومُعزِّز نُسَخ في الوقت نفسه. وقد نجح فريق أرجون في رصده أثناء الحدث، أي في الوقت الذي يرتبط فيه جزيئان من المحفِّز الذاتي بمقطع من الحمض النووي المرتبط بالبروتين المَثْنَوي.

من الجوانب اللافتة للنظر في البنية الناتجة أن الفيرومون يبدو مُغلَّفًا بالكامل داخل الطيَّة البروتينية، وطبقًا للأبحاث الكيميائية البيولوجية السابقة، التي تشير إلى أن البروتين يكتسب مقاوَمةً ضد الهضم بالبروتياز عند ربط الجزيء الصغير، فإن هذا الاكتشاف يوحي بأن المستشعِر «يُطوى حول» الجزيء الرسول الخاص به. بعبارة أخرى، يبدأ من بنية ضعيفة الطيِّ، وربما مونومرية، ولا يُطوى ليصبح البروتين المَثْنَوي الرابط بالحمض النووي، إلا عندما يحصل على الجزيئين الخاصين به من المحفِّز الذاتي. وبالتالي، فإن ارتباط جزيء الإشارة هو تحوُّل لا يمكن الرجوع فيه بصفة أساسية من بروتين «تي آر إيه آر» غير النَّشِط إلى البنية النَّشِطة.

وبما أن الأجرعية المورمة «أجروباكتيريوم تيوميفيشينس» تعيش عن طريق اجتياح النباتات وإنشاء مستعمرات في بِنى تبدو كالأورام السرطانية (ومن هنا جاء اسمها)، فسيكون من الضروري بالنسبة إلى كلِّ بكتيريا أن تعرف إنْ كانَتْ جزءًا من قواتِ اجتياحٍ ناجحة، أم أنها ستواجه مصيرها وحدها. ينشط جين «تي آر إيه آر» بمجرد استشعار البكتيريا موادَّ كيميائيةً معينة خاصة بالنبات، فتصبح البكتيريا الواحدة جزءًا من جيش منظَّم منذ تلك اللحظة. ومن المأمول أن يمكِّننا الفهمُ الأعمق للتواصُل البكتيري، بناءً على الدراسات البنيوية الحالية والأبحاث المستقبلية، من محاربة الاجتياحات البكتيرية لأجسامنا بفاعلية؛ نظرًا لأننا من المفترض أن نكون أذكى منها.

(٢٠٠٢)

أحدث التطورات

لم ينمُ إلى سمعي رصدُ أيِّ تواصُل بكتيري في السنوات الأخيرة، ولكني متيقِّن من أن أبحاثًا كثيرة مهمة لا تزال تُجرَى في هذا المجال. حاوِلْ زيارةَ موقع استشعار النِّصاب لتعلمَ ما يحدث.

قراءات إضافية

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤