الفصل الحادي عشر

كنوزٌ محيِّرة

فكرتُ لوهلةٍ في تحويل المقال التالي إلى كتاب، مختزلًا حياةَ فريتز هابر وأعماله الهائلة في حجم معقول بالتركيز على هذا الجانب من أعماله غير المعروف والغريب والمحكوم عليه تمامًا بالفشل. ثم خشيتُ من الأبحاث الإضافية التي تتطلَّبُها كتابةُ السيرة الذاتية واقتصرت على هذا التناول القصير، الذي يعود بنا إلى الموضوع المثير المتعلِّق بالعنصر ٧٩، المعروف باسم الذهب.

إذا تعلَّق الأمر بممارسة لعبة «ست درجات من التباعد» مع علماء الكيمياء، فأنا في الموضع المناسب. على سبيل المثال: فريتز هابر (١٨٦٨–١٩٣٤) — تلك الشخصية التراجيدية على نحو بارز والحائزة على جائزة نوبل — على مقربة ثلاث خطوات فقط مني؛ إذ إن يوهانِز جينيكه هو المشرف السابق على رسالة الدكتوراه خاصتي، وهو ابن مساعِد هابر وكاتب سيرته الذاتية في المستقبل. وأعتز بهذه العلاقة لأنها تُلقِي بعضَ الضوء غير المعتاد لحدٍّ ما على هذا الرجل العظيم.

إنَّ كل الجوانب المعروفة من سيرة حياة هابر لها أثر عظيم في التاريخ وفي حياة الناس؛ فنظرًا إلى كون هابر مواطنًا ألمانيًّا تحلَّى بالوطنية الشديدة خلال الحرب العالمية الأولى، فقد ساعَدَ في تصميم أسلحة كيميائية وأشرَفَ على استخدامها في جبهة القتال، وعلى الرغم من وعيه بالمعاناة الشنيعة التي تسبِّبها، فإنه ظنَّ أنها ستجلب نهايةً سريعة للحرب، وبالتالي تقلِّل من إجمالي الوفيات. إلا أن زوجته الشابة، كلارا إميروار، التي كانت من أولى النساء اللاتي ينلن دكتوراه في الكيمياء، لم توافقه الرأي وانتحرَتْ بعد أن فشلت في منعه. وعلى الجانب الآخَر من المعادلة، يمكن للمرء أن يقدِّر لهابر أن قرابة نصف كمية النيتروجين الذي يغذِّي سكان العالم اليوم مصدره العملية التي اخترَعَها والتي أسماها عملية هابر-بوش. وقد اختتم مسيرة حياته المعقدة بنهاية تراجيدية؛ إذ اضطر إلى الهروب من ألمانيا النازية، ومات في سويسرا وهو في طريقه إلى مدينة رحوفوت، حيث عرض عليه حاييم وايزمان منصبًا.

قضى مساعِد هابر السابق يوهانز جينيكه، مع زوجته، عقودًا من الزمان وهو يجمع موادَّ تصلح للسيرة الذاتية، التي لم ينتهِ منها قطُّ نظرًا إلى كبر حجم المهمة وضعف بصره بعدما كبر في العمر. (السيرتان الموجودتان حاليًّا اللتان كتبهما كلٌّ من ديتريش شتولتسينبِرج ودانيل تشارلز تعتمدان إلى حدٍّ كبير على المادة التي جمعها جينيكه.) أحد المشروعات البحثية التي شارَكَ فيها جينيكه بنفسه تمَّ فيما بين الحربين العالميتين، ويُلقِي ببعض الضوء على الحياة الفاوستية لهابر. ففي ربيع عام ١٩٢٠، فاجَأَ هابر كلًّا من جينيكه وزملاءَ آخَرين عندما أعلَنَ أنه يريد دراسة احتمالية استخلاص مادة الذهب من ماء البحر، والتي قُدِّر أنها ما بين ٥ و١٠ أجزاء من المليار. وقد اعتقد أن هذا الرقم لو كان صحيحًا، فسيكون استخلاصُ كميات كبيرة من الذهب عمليًّا من الناحية الاقتصادية، وقد يساعد ألمانيا في سداد ديونها الثقيلة الناجمة عن الحرب العالمية الأولى ومعاهدة فِرساي.

fig15
شكل ١١-١: الفريق الذي حاوَلَ استخلاصَ الذهبِ من ماء البحر. يقف فريتز هابر في الوسط، ويوهانِز جينيكه إلى يمينه.

شكَّلَ هابر فريقًا بقيادة يوهانِز جينيكه لتطوير هذا المشروع بشكل أكبر. وطوال خمس سنوات، عمل ١٢ باحثًا وطالب دكتوراه في سريَّة تامة على مشروع الذهب، وعلى الرغم من إعلام الرُّعاة الصناعيين، بما في ذلك شركة ديجوسا، ظلَّ المشروع سرًّا مخفيًّا عن سلطات الحلفاء. في البداية، عمل الباحثون على تحسين تقنيات التحليل والعَزل، وعلى الرغم من أن عدد عينات ماء البحر المتاحة كان محدودًا، فقد أكَّدَتْ تحليلاتهم فيما يبدو أن مادة الذهب تقع في نطاق الجزء من المليار. ولإجراء عملية العزل، اختبروا مناهِجَ مختلفةً واستقروا في النهاية على ربط الذهب بالكبريت الغرواني والتنقية بواسطة الرمال المشبَّعة أيضًا بالكبريت.

بحلول صيف عام ١٩٢٣، كانت التجاربُ جاهزةً لنقلها إلى سفينة حقيقية مُبحِرة في عرض المحيط. صعد فريقٌ من الباحثين، منهم هابر نفسه، وهم لا يزالون محتفظين بسرية المشروع التامة، إلى متن سفينة الرُّكاب هانزا المتجهة إلى نيويورك، حيث كانوا مسجَّلين رسميًّا بأنهم من طاقم السفينة. ويشاع أن هابر كان سعيدًا للغاية لاعتباره «محاسِبًا زائدًا على العدد». وفي الوقت الذي عمل فيه علماء الكيمياء خلف الأبواب المغلقة، انتشَرَتِ الشائعات وسط الرُّكاب انتشارَ النار في الهشيم، وبمجرد وصول السفينة إلى نيويورك، أعلنت إحدى الجرائد: «علماءٌ ألمان يبحثون عن طرق لقيادة السفن باستخدام قوةٍ خفية.» ثم أُرسِلت بعثة ثانية في خريف نفس العام أخذت فريق هابر إلى الأرجنتين.

قدَّمَتِ العيناتُ التي جُمِعت خلال هاتين الرحلتين نتائجَ مختلفة تمامًا، بحيث اضطر الباحثون إلى العودة إلى المعمل وتحسين طرقهم التحليلية أكثر، واستثناء مكاسِب الذهب (من المواد الكيميائية الشائعة، أو التراب، أو المجوهرات) وخسائره (بدءًا من الامتصاص إلى المعدات). وتمَّتْ تعبئة آلاف الزجاجات بعينات من ماء البحر من جميع أنحاء الكرة الأرضية، وتخزينها في صناديق خشبية مصمَّمة خصوصًا لهذا الغرض، وشحنها إلى برلين لفحصها. ومع هذا، كانت النتيجة المحبِطة للآمال أن مادة الذهب الحقيقية في معظم العينات كانت أقلَّ بمقدار قيمتين أسيتين مقارَنةً بما أشارت إليه التحليلات السابقة؛ مما استبعَدَ أيَّ أملٍ في الإصلاح الاقتصادي. وفي عام ١٩٢٧، نشر هابر نتائجه وألغى المشروع.

مع أن هذا المشروع فشل في تحقيق هدفه، فإنه طوَّر بالفعل الوسائل التحليلية، كما ساعَدَ في توفير تمويل لأبحاث هابر خلال الأوقات العصيبة. والمثير أكثر للمفارَقة أن المشروع لو كان وفَّرَ كميات هائلة من الذهب؛ لَأتى تخفيضُ قيمةِ هذا المعدن النفيس بنتائجَ عكسيةٍ. وحسبما اكتشَفَ الإسبان بعد سلب ذهب السكان الأصليين في أمريكا اللاتينية، فإن «إيجاد» أطنان من الذهب لا يجعلك تلقائيًّا غنيًّا على المدى البعيد؛ فالنيتروجين المأخوذ من الهواء كان أقل إبهارًا، ولكنه في نهاية المطاف يفوقه قيمةً.

(٢٠٠٣)

أحدث التطورات

يُعتبَر التنقيبُ في المحيطات موضوعًا يتكرَّر بمعدلاتٍ منتظمة في صور جديدة وقديمة. وغالبًا ما يسعى الناسُ هذه الأيام إلى عناصر مثل المنجنيز، ولكن مع تحسُّن الوسائلِ المعملية بمرور الوقت، لن أتفاجَأَ إذا أعادَ أحدٌ فتحَ البحثِ القديم عن ذهبِ المحيط.

قراءات إضافية

  • D. Stoltzenberg, Fritz Haber: Chemist, Nobel Laureate, German, Jew, Chemical Heritage Foundation, 2005.
  • D. Charles, Master Mind: The Rise and fall of Fritz Haber, the Nobel Laureate Who Launched the Age of Chemical Warfare, Ecco, 2005.
  • R. Hahn, Fritz Haber’s (1868–1934) Forschungen zur Gewinnung von Gold aus Meerwasser, Master’s thesis, Technical University of Berlin, 1995.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤