الفصل الثاني

كروموسوم الأم وكروموسوم الأب

نادرًا ما تسنح لي الفرصة لكي أستعين بالشِّعر في مقالاتي، وكثيرًا ما استشهدَتْ عائلتي بسطور جوته التي تعبِّر بدقةٍ عن هذا المقال خلال فترة نضوجي؛ لهذا استغلَلْتُ الفرصةَ لكي أكتب مقالًا علميًّا حولها.

من أبي ورثتُ بنيةَ جسمي،
وكذلك طبيعتي الجادة،
أما ميلي للتفاؤل وحكاية القصص
فورثْتُه عن أمي الحبيبة.

بهذه الطريقة، حلَّل يوهان فولفجانج فون جوته إعادةَ توزيع الصفات الوراثية بمفهومه الخاص. لقد اعتقد أنه وَرِثَ بنيته الجسدية وطبيعته الجادة من أبيه، في حين أن جانبه المتفائِل ورغبته في حكاية القصص لا بد أنه قد ورِثَهما من أمه.

جوته ليس الشخصَ الوحيد المهتمَّ بهذه المسائل، وبما أننا الآن نعرف أكثرَ عن قواعد اللعبة الوراثية، فثمة فرصة أفضل لتعقُّب الأصل الذي انحدرَتْ منه هاتان الأُذُنان الكبيرتان، مع أنه لم تزل توجد بعض التفاصيل الغريبة التي لا بد من مراجعتها.

يساهم كلٌّ من الأب والأم بثلاثة وعشرين كروموسومًا في مجموع الستة والأربعين كروموسومًا التي نملكها، واحد من كل زوج، بما في ذلك زوج الكروموسومات الجنسية المتعرج. هذا التشكيل حتمي تمامًا، وأي انحراف عن هذه القاعدة سيؤدِّي إلى اختلالات خطيرة، مثل متلازمة داون. إلا أن جانبًا مهمًّا من مسألة الحظ الوراثي هنا يكمن في مسألة أيُّ النسختين من كلِّ جينٍ ومن كل كروموسوم سينقلهما الأب والأم؛ النسخة المتوارثة من الجد أم تلك المتوارثة من الجدة. بما أن كل بويضة وكل حيوان منوي لا يحمل إلا مجموعةً واحدة مكوَّنة من ٢٣ كروموسومًا، يصبح من الضروري اتخاذ بعض القرارات الصعبة.

من الناحية النظرية، من الممكن أن يتمَّ انتقاءُ مجموعة كروموسومية كاملة من أحد الطرفين أو الآخَر، ولكن ثمة عملية اختلاط إضافية تُعرَف باسم التبادُل الكروموسومي، تُمَكِّن كروموسومات الجد والجدة من الامتزاج معًا وتبادُلِ أجزاء كبيرة من مادتيهما الوراثية، بحيث يصبح من الصعب في نهاية المطاف أن نحدِّد أيُّهما ستستقر جيناته في الحيوان المنوي للأب أو في بويضة الأم. ولهذا السبب يكون الأشقاء جميعًا مختلفين (باستثناء التوءمين اللذين من نفس البويضة المُخصَّبة).

ولكن بعد حدوث التبادل الكروموسومي، وقيام الحيوان المنوي الفائز بتخصيب البويضة صاحبة الدور هذا الشهر، مَنْ الذي يقرِّر أن تسود نسخة صفة وراثية معينة؛ كروموسوم الأم أم كروموسوم الأب؟ في حالاتٍ معينة توسَّعَ علمُ الوراثة القديم في دراستها، تكمن الإجابة في طبيعة الجين؛ فالجينات السائدة ستفوز حتى لو كانت موروثةً من أحد الأبوين فقط، في حين تتطلَّب الصفات المتنحية نسخًا مماثلةً من كلا الأبوين لكي تُظهِر نفسها في الذرية.

ولكن في تسعينيات القرن العشرين، اكتشف الباحثون أن مسألة الحظ هذه تتخطَّى مجرد التبادل الكروموسومي والصراع بين الجينات السائدة والمتنحية؛ فقد اكتشفوا في بعض الحالات أن الجينات المتطابقة تكون لها تأثيراتٌ مختلفة بناءً على كونها قد انحدرت من الأم أو من الأب.

يرجع كلُّ هذا إلى اكتشاف مذهل قام به عظيم سوراني في معهد علم وظائف الحيوان بجامعة كامبريدج عام ١٩٨٤؛ فقد أراد أن يعرف لماذا لا تعيش أجِنَّة الفئران الناتجة عن بويضات غير مُخصَّبة حتى نهاية فترة الحمل. لهذا، بدأ التلاعُب بالبويضات الحديثة التخصيب، حيث لم تزل النواتان المنحدرتان من البويضة والحيوان المنوي منفصلتين ويشار إليهما بالنواة الطليعية. وحين استبدَلَ بإحدى النواتين — التي تحتوي على مجموعة كروموسومية واحدة من أحد الأبوين — بنيةً مطابِقةً من بويضة مُخصَّبة مختلفة، وجَدَ أن البويضات التي تمَّ التلاعُبُ بها لا تنمو على نحوٍ طبيعي إلا إذا ظلَّتْ محتفِظةً بنواة طليعية منحدِرة من الذكر وأخرى من الأنثى. أما تلك الأجِنَّة التي انتقلت إليها مجموعتان كروموسوميتان من الذكر أو من الأنثى، فقد ماتَتْ بعد بضعة انقسامات خلوية.

وهكذا، صار من الواضح أن عدد الكروموسومات لم يكن وحده المهم لحدوث النمو، ولا اندماج الكروموسومات الجنسية؛ إذ إن اندماج نواتين طليعيتين من الأنثى كان سيؤدِّي إلى حدوث اندماج طبيعي لكروموسومَيْ «إكس»، مثلما هو الحال بالنسبة إلى كلِّ أنثى تحمل بالطريقة الطبيعية. وإلى جانب هذه المسائل العددية، فقد اتضحت أهمية وجود مساهمة غير معلومة من كلا الأبوين، من المحتمَل أن تكون عبارة عن علامة مميزة تشير إلى منشأ الجينات أو الكروموسومات، من أجل حدوث نمو سليم. ويجب أن تكون عملية التمييز هذه قابلةً للانعكاس، بما أن كل جين من الأم يمكن أن ينتقل في نهاية الأمر إلى الحيوانات المنوية للابن، وبالعكس، يمكن أن يصبح جينٌ منحدِرٌ من الأب جينًا في بويضات الابنة تنقله ضمن الجينات المنحدرة منها عندما تصير أمًّا.

شكَّ سوراني في أن النمو الجنيني قد استخدَمَ فقط النسخةَ المنحدرة من الأب أو الأم لجينات معينة، في حين كانت النسخة الثانية تحمل العلامةَ «ممنوع الاستخدام»؛ ولهذا كانت الأجنة تموت في تجربته إذا امتلكت كروموسومات الأم فقط أو كروموسومات الأب فقط. وبالطبع، سرعان ما اكتشف الباحثون أدلةً تفصيلية على أن ما لا يقل عن ١٥ جينًا في الفئران وفي البشر يحمل هذه العلامات، وسُميَّت هذه الظاهرة ﺑ «الدمغ الجيني».

ولكي يعرف الباحثون تفاصيلَ كيفية حدوث الدمغ الجيني، كان عليهم التوصُّل إلى وسائل أكثر تعقيدًا واستهدافًا. وعليه، أنتَجَ باري كيفيرن وزملاؤه في جامعة كامبريدج أجِنَّة مختلطة، حيث احتوَتْ بعض الخلايا على كروموسومات أحد الأبوين فقط، في حين احتوَتْ بقية الخلايا على مجموعة الكروموسومات الطبيعية من كلا الأبوين. يمكن أن يكتمل النمو شريطةَ أن يكون نصف الخلايا على الأقل في جنين الطور المبكر طبيعيًّا. والمثير للدهشة أن الفئران التي احتوت على عدد أكبر من كروموسومات الأم وُلِدت برءوس كبيرة وأجسام صغيرة، في حين أن تلك التي احتوت على عدد أكبر من كروموسومات الأب أظهرت أثرًا عكسيًّا.

من ناحية البيولوجيا الاجتماعية، قد يُستحَثُّ المرء على تفسير هذه الميول باعتبارها صراعًا بين كروموسومات الأبوين؛ وبالتالي تعمل جينات الأب على إنتاج مولود ضخم الحجم دون القلق حيال قدر الطاقة الذي سيستنفده ذلك من جينات الأم. أما جينات الأم، فتكون أكثر ترشيدًا لطاقة الأم وتعطي الطفل مخًّا أضخم لتعوِّضه عن ضآلة جسمه. لكن ما يُؤسَف له أن التحليلات التفصيلية لمعدل الطفرات (الذي يجب أن يكون مرتفعًا في حالة وجود صراع بين جينات الأبوين) فشلت في إثبات هذه الفرضية.

دعت الاختلافات الواضحة في حجمَي الرأس والمخ كلًّا من سوراني وكيفيرن إلى تحري الدقة في تحديد أجزاء المخ التي استقرت فيها الخلايا التي تحتوي على كروموسومات الأب فقط أو كروموسومات الأم فقط؛ وتحقيقًا لهذا الهدف، وسَمَا الخلايا الجنينيةَ التي تمَّ التلاعب بها بحيث يستطيعان بعد ذلك تحديدَ الخلايا المُتحدِّرة منها في مخ الفأر البالغ.

كانت النتيجة المفاجئة كالتالي: بغضِّ النظر عن عدد الخلايا التي حملت جينات الأم فقط، كبيرًا كان أم صغيرًا، فإن الخلايا المُتحدِّرة تسود نفسَ المناطق داخل المخ، وتحديدًا تلك التي تتحكم في الوظائف المعقدة مثل التعلُّم والذاكرة، وعلى العكس من ذلك، تُستبعَد هذه الخلايا من مناطق أخرى معينة مرتبطة بالغرائز مثل التغذية والرغبة الجنسية. أجل، ما خمَّنْتَه صحيح، تسير الخلايا التي تحتوي على جينات الأب فقط في الاتجاه المعاكس تمامًا، وكأنَّ لسان حال جينات الأب المدموغة يقول: «لا أريد أن أتعلَّم شيئًا أو أتذكَّره. شكرًا، سأكتفي بالخمور والفتيات.»

لكن دعونا نتذكَّر أننا ما زلنا نتحدث عن الفئران هنا، فهل يمكن أن تنطبق هذه المعلومات على الإنسان؟ هل يمكنها أن تثبت أن جوته قد ورِثَ من أمه استمتاعَه بحكاية القصص؟ في واقع الأمر، لا بد أن كيفيرن كان يهدف إلى الإجابة عن هذه الأسئلة؛ لأن المجال الرئيسي لأبحاثه هو المهارات المعرفية لدى الرئيسيات، وهو يشير إلى تلك المناطق في المخ التي يبدو أنها ترتبط بجينات النمو المنحدرة من الأم وتنفِّذ مهامَّ معرفيةً معقَّدَة بصفتها «المنطقة التنفيذية»، موضِّحًا أن هذا الجزء هو الذي كان ينمو أكثر من غيره خلال مسار التطور البيولوجي للإنسان المعاصر. وهو يقارن هذه المنطقة ﺑ «المنطقة العاطفية» المرتبطة بجينات الأب، والمسئولة عن التصرفات الغريزية والتصرفات المُستحَثة بالهرمونات، والتي تضاءَلَتْ بعضَ الشيء خلال تطوُّرِنا البيولوجي.

إذا استعنَّا بهذا النمط من أنماط تقسيم المخ النابع من علم الوراثة التنموي في دراسة السلوك الاجتماعي لسلالاتٍ مختلفة من الرئيسيات، فسنجد بعضَ الروابط المثيرة للفضول. على سبيل المثال، كلما كان حجم المجموعات التي تشكِّلها الرئيسيات كبيرًا، تضاءَلَ حجمُ المنطقة العاطفية؛ وبالتالي تصبح كثرة الغرائز فيما يبدو ضارة باستقرار الأوضاع. وبالعكس، يزيد حجم المنطقة التنفيذية بازدياد حجم المجموعة، فتبدو هي المسيطرة بدلًا من المنطقة العاطفية التي تتراجع سيطرتها.

بالمثل، يبدو أن حياتنا العاطفية قد انتقلَتْ جزئيًّا من مجال الهرمونات إلى مجال الأحاسيس الأكثر وعيًا؛ فيزيد حجمُ المنطقة التنفيذية كلما طالَ موسم التزاوُج. فعلى عكس معظم الثدييات، بوسعنا أن نمارس الجنس طوال السنة، ولكننا نستطيع أيضًا أن نقرِّر عدم ممارسته.

أشارَتْ بعضُ التقارير الصحفية في مبادَرةٍ سريعة من جانبها إلى أن الآباء يخسرون بسببِ الدمغ الجيني، إلا أنه لا يزال من غير الواضح معرفة إن كان للدمغ الجيني فعلًا دورٌ في نقل قدرات عقلية معينة من جيل إلى آخَر أم لا؛ فمهارات إدراكية بشرية عادية مثل اللغة والتخطيط والإبداع تعتمد على شبكة معقدة من الجينات، بعضها فقط يحمل إشارات الدمغ الجيني.

علاوة على ذلك، أثارت الأبحاث التي أُجريت على الأفراد المصابين بانحرافات كروموسومية، مثل متلازمة تيرنر (حيث يكون كروموسومُ «إكس» واحدٌ فقط هو الكروموسوم الجنسي الوحيد الموجود، وقد يتم توارُثه من الأب أو الأم)، الكثيرَ من الشكوك حول مثل هذه الاستنتاجات الفورية؛ نظرًا لأن المرضى المصابين بمتلازمة تيرنر ويحملون الكروموسوم «إكس» من الأب يجيدون المهاراتِ الاجتماعيةَ والإدراكية مقارَنةً بأولئك الذين يحملون هذا الكروموسوم من الأم. وبالتالي، فلا بد من العثور على طرق تحليلية أكثر تعقيدًا وتفصيلًا (ناهيك عن أن تكون أقل ضررًا!) كي يستطيع العلماءُ أن يكتشفوا أصلَ مهارات الحكاية القصصية تلك ومنبعها.

(١٩٩٧)

أحدث التطورات

حتى عام ٢٠٠٧، لم يكن من الواضح أيُّ الجينات الموجودة في الجينوم البشري يتمُّ دمغها جينيًّا. لكن قدَّمَتْ دراسة منشورة في شهر مارس ٢٠٠٦ قائمةً قصيرةً تحتوي على ٦٠٠ جين مرشَّح، سيتعيَّن على الباحثين اختبار كلِّ جين منها على حدة.

قراءات إضافية

  • W. Reik and J. Walter, Nat. Rev. Genet., 2001, 2, 21.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤