الفصل الأول

الحياة على الصخور

مجددًا، دعونا نتمعن الأمورَ ونستهلَّ هذا الجزءَ بالحديث عن شيءٍ رائع يتيح للكائنات الرائعة الحياةَ في درجات الحرارة المنخفضة.

الماء السائل هو أحد أهم متطلبات الحياة؛ فالميكروبات التي تعيش في أعماق البحار لا تستطيع أن تنمو إلا في درجة حرارة تصل إلى ١١٠ درجة مئوية؛ لأن ضغط عمود الماء فوقها يرفع نقطة غليان الماء إلى ما فوق درجة الحرارة هذه. ومع أن الكائنات الحية التي تعيش في أقصى حدود درجات الحرارة البيولوجية لا تتلقَّى عونًا كبيرًا من الظروف الفيزيائية المحيطة، فإن العديد من الكائنات الحية التي تعيش في المناطق الثلجية تستطيع أن تحافظ بقوة على الماء في حالته السائلة التي تُعتبَر ضروريةً لبقاء هذه الكائنات على قيد الحياة.

من واقع تجاربنا اليومية، فإننا نعرف طرقًا متنوعة نتجنَّب بها الضررَ الناتج عن التجمُّدِ. فسائقو السيارات، على سبيل المثال، يضيفون عوامِلَ مضادَّة للتجمُّد (مثل كحول جليكول الإثيلين) إلى ماء التبريد وماء ماسحات الزجاج في سياراتهم، كما يمكن إذابة الثلج على الطرق الثلجية بواسطة الملح. يذوب كلا العنصرين بسهولة شديدة في الماء، ولكن لا يمكن أن تحتوي البلورات الثلجية عليهما؛ لذا فإنهما يُخِلَّان بالتوازن القائم بين الحالة السائلة والحالة الصلبة للماء لصالح الحالة السائلة، وبالتالي يُقلِّلان نقطةَ التجمُّد بضعَ درجات.

لا تتمتَّع الأسماك التي تعيش في المياه القطبية بميزة درجة حرارة الجسم المرتفعة دائمًا التي نتمتَّع بها نحن ذوي الدم الحار، إلا أن طريقة سائقي السيارات المعتمِدة على خلط تركيزات عالية من الجزيئات الصغيرة في سوائلها الجسدية ستعرضها للخطر أيضًا؛ فالميل الطبيعي إلى معادلة التركيزات (التناضح) سيجذب الماءَ إلى خلاياها ويولِّد ضغطًا تناضحيًّا يمكن أن يدمِّرَها، على الأقل بقدر ما يمكن أن يفعل التجمُّد والذوبان. لهذا السبب، طوَّرت سلالات متنوعة من الأسماك بروتيناتٍ مضادَّةً للتجمُّد تتفاعَل على وجه التحديد مع أدق الروابط الصلبة لجزيئات الماء التي تبدأ عملية التجمد، والتي تُعرَف باسم نوى التبلور. وعن طريق ربط تلك النوى، تمنعها البروتينات المضادة للتجمُّد من النمو في صورة بلورات ثلج أضخم؛ مما يقلِّل بفاعليةٍ نقطةَ التجمد في بيئتها الحالية.

على النقيض من ذلك، تفعل سلالاتٌ معينة من الضفادع والسلاحف العكسَ تمامًا؛ فهي تتجنَّب الضررَ بتسهيل تجميد سوائل أجسامها باستخدام بروتينات التنوي الثلجية التي تحفِّز تكوين نوى التبلور. والتجمُّد السريع الذي يبدأ في نفس الوقت في العديد من تلك النوى يحافظ على بلورات الثلج صغيرةً للغاية بحيث لا تستطيع أن تسبِّب أيَّ ضررٍ ميكانيكي. وتمتلك أيضًا البكتيريا مجموعةً من بروتينات صدمة البرد — إلى جانب بروتينات الصدمة الحرارية المدروسة بإسهابٍ — لمساعدتها على تجنُّب عواقب هبوط درجة الحرارة.

إذن نحن ننظر إلى تفاعُلات معينة للجزيئات الحيوية مع نوى الثلج التي بدأت لتوِّها في التكوُّن إما لمنعها من النمو وإما لتسهيل تكوُّنها ونموها، وهي مشكلة تبدو معقَّدةً وتتطلب بنًى جزيئيةً متطوِّرة. ومع هذا، فإن حلَّ أول بنية بلورية لهذا البروتين كشف عن تصميمٍ بسيط يثير الدهشة؛ فالبروتين المضاد للتجمُّد في السمك المفلطح سيدوبلويارنكتس أمريكانوس، الذي يتكوَّن من ٣٧ بقية حمض أميني، يكون ملفوفًا بالكامل ليشكِّل حلزونَ ألفا أحاديًّا ذا تِسْع لفَّاتٍ. فُوجِئ الباحثون باكتشافهم أن مثلَ هذه البنية البسيطة، المفتقِرة إلى اللُّب المانع للماء الذي يُعتقَد أنه مهِمٌّ للبنى البروتينية، يمكن أن تكون مستقرةً وفعَّالةً. وهم ينسبون الاستقرار غير العادي الذي يتَّسِم به هذا الحلزون الأحادي إلى بنًى خاصة تاجية الشكل ومرتبطة بالروابط الهيدروجينية عند كلا طرفَي الحلزون.

ومن المثير للدهشة أيضًا ملاحظة أن البروتين يحتوي على تسعة أنواع فقط من العشرين نوعًا المختلفة المتاحة من عناصر الحمض الأميني الأساسية. عندما ينظر خبراء البروتين إلى التسلسل النووي، لا يجدون صعوبةً في تخمين بقايا الحمض الأميني التي تساهم في عملية الارتباط الثلجي؛ إذ يستولي الألانين — الذي لا يصلح لهذا الغرض — على أكثر من نصف المواضع. ويعتقد الباحثون أن جميعَ البقايا الأربع عشرة غير المرتبطة بالألانين تلعب أدوارًا مهمة، سواء في استقرار الحلزون أو في التعرُّف على البلورات الثلجية والارتباط بها. وقد عُرِف تتابُع الارتباط بالثلج بصفته ثالوثَ الأحماض الأمينية: الأسباراجين والثريونين والليوسين، الذي يتكرَّر في كل لفة ثالثة للحلزون. ونفس النظام موجود في البروتينات الحلزونية الكبرى المضادة للتجمد، التي يتكرَّر فيها نفسُ تتابُع الارتباط خمسَ مرات. وتكوِّن هذه البقايا سطحًا مستويًا على نحو مفاجئ، تبرز منه قليلًا سلسلتا الأسباراجين والثريونين الجانبيتان، اللتان تستطيعان تكوين روابط هيدروجينية ذات بِنًى متكررة بانتظام على أسطح معينة من البلورات الثلجية؛ وبالتالي تمنع البلورات من النمو.

على عكس مجموعة البروتينات الحلزونية المضادة للتجمد (النوع الأول من البروتينات المضادة للتجمد) ببساطتها المفاجئة، فإن النوع الثالث من البروتينات المضادة للتجمد الموجودة في أسماكٍ أخرى تعيش في المحيط، مثل سمك الحدوق، تتَّسِم ببنية أكثر تعقيدًا بعض الشيء. فعلى الرغم من صِغَر حجمها نسبيًّا، فإنها تتميز ببنية مطوية معقَّدَة لا يتضح انتظامها ولا ما يدل على تتابعات الارتباط الثلجي. بعد أن تعرف الباحثون على بنية النوع الثالث من البروتينات المضادة للتجمُّد بواسطة مطياف الرنين النووي المغناطيسي، ظلوا في حاجة إلى دراسات مضنية تتناول الأحماضَ الأمينية بالتبادل واحدًا تلو الآخَر؛ لكي يكتشفوا أيُّها ضروري من أجل التفاعل مع البلورات الثلجية. وفي نفس الوقت، يبدو أنه من بين جدائل التسلسُل الثماني المشتركة في تكوين بنى صفائح بيتا المطوية، فإن الجديلة الأقرب إلى نهاية التسلسل (الطرف الكاربوكسيلي) هي التي تكوِّن موقعَ الارتباط.

لا يزال الباحثون متحيِّرين بشأن النوع الثاني من البروتينات المضادة للتجمُّد، التي توجد في سمك الرنجة على سبيل المثال. ففيما يتعلَّق بهذه البروتينات، لا توجد بيانات بنائية فعلية بعدُ، بل مجرد نماذج بنائية افتراضية قائمة على صلة قرابة بعيدة بعضَ الشيء مع مجموعةٍ من بروتينات النبات المسمَّاة اللكتينات.

لا توجد معلومات كثيرة معروفة عن بروتينات التنوي الثلجية التي يسبِّب تفاعُلُها مع نوى التبلور الثلجي تأثيرًا عكسيًّا، وتحديدًا تسهيل التنوي والتجمُّد السريع. يمكِّن هذا التأثيرُ بعضَ سلالات الضفادع والسلاحف من النجاة من التجمُّد دون ضرر، مع أن ٦٥٪ من المحتوى المائي في أجسامها قد يتحوَّل إلى ثلج. تفرز بعضُ الكائنات الحية الدقيقة بروتيناتٍ لها وظائفُ مماثلة، خصوصًا من جنس «سودوماناس» و«زانثوموناس» و«إيروينيا»، من أجل التحكم في تكوين الثلج في بيئتها الحالية. وبما أن هذه البروتينات تحتوي على تكرارات دائمة لتتابعات الارتباط، يشكُّ العلماء في أن ثمة بنيةً منتظمة الشكل — ربما تكون إحدى صفائح بيتا المطوية الكبيرة — تطابِق تكوُّنَ البلورات الثلجية الذي يحدث على فترات منتظمة.

بالطبع قد تجد الضفادعُ التجمُّدَ صعبًا على الرغم من ذلك، وثمة ما يدل على أنها تتأقلم مع هذا عن طريق تخليق بروتينات معينة خاصة بصدمة البرد، مماثِلةً لبروتينات الصدمة الحرارية التي تنتجها معظمُ الكائنات الحية عند تعرُّضها لدرجات الحرارة المرتفعة.

يأمل الباحثون في الحصول على المزيد من المعلومات عن وظيفة بروتينات صدمة البرد عن طريق دراسة البكتيريا، التي تتسم ببساطتها في مثل هذه الأمور الجوهرية. ومن ثمَّ، فقد تمَّ التعرُّف على بروتين صدمة البرد الرئيسي «سي إس بي إيه» CspA في «الإشريكية القولونية» وتوصيفه في عام ١٩٩٠، ولكن لم يتم حلُّ بنيته البلورية إلا بحلول عام ١٩٩٤، وهو متطابِق تمامًا مع بنية «سي إس بي بي» CspB في بكتيريا «العصويات الرقيقة» التي تمَّ التعرُّفُ عليها بعد ذلك بعام؛ مما يشير إلى أن هذه الوظيفة قديمةٌ من الناحية التطوُّرية وحدثَتْ قبل انقسام المملكة البكتيرية إلى البكتيريا الموجبة الجرام وتلك السالبة الجرام. تحتوي كلتاهما على بِنًى مماثِلة للبروتينات التي ترتبط بالأحماض النووية (ثمة تشابُه مع البروتين الريبوسومي «إس ١» S1، على سبيل المثال). ومع أن وظيفتها لم تتضح بعدُ، فإنها في الغالب غير مرتبطة مباشَرةً بالآثار الفيزيائية للبرد (مثلما تفعل البروتينات المضادة للتجمد)، ولكنها تساعد الخلية في تكييف وظيفتها مع حالة الإجهاد.

ونتيجةً لجميع هذه الدراسات، يأمل الباحثون فيما هو أكثر من مجرد اكتشافِ المزيد من المعلومات عن آليات الاستجابة للظروف القاسية. (في هذا المجال، أصبحَتِ استجابةُ الصدمة الحرارية نموذجًا للدراسة، في حين أن ظروفًا قاسية أخرى مثل: البرد والضغط ودرجة الحموضة (الأس الهيدروجيني) البالغة والتركيز المِلحي العالي، لم تَنَلْ نصيبَها من الدراسة المتمعنة.) علاوة على ذلك، يأمل علماء التكنولوجيا الحيوية في ترجمة معرفتهم التفصيلية عن الآليات الطبيعية إلى تطبيقات زراعية، وقد حاولوا بالفعل أن يجعلوا نباتَ البطاطس يُنتِج البروتينَ المضاد للتجمد الموجود في السمك المفلطح؛ على أمل ابتكارِ نوعٍ من البطاطس قادِرٍ على النمو في جبال الأنديز المرتفعة. ويعمل بروتين التنوي الثلجي المأخوذ من «سودوموناس سيرينجا» بالفعل في التصنيع الروتيني للثلج الصناعي، وفي يوم من الأيام، ربما يستخدم سائقو السيارات مُنتَجًا بيولوجيًّا لإزالة الجليد عن سياراتهم في صباح الأيام الشتوية الباردة.

(١٩٩٨)

أحدث التطورات

بعض الفجوات التي سُلِّط عليها الضوءُ في هذا المقال تمَّ سدُّها منذ أن كتبتُها؛ فهناك الآن بنًى تفصيلية للنوع الثاني من البروتينات المضادة للتجمد، التي اتضح فعلًا أنها مرتبطة باللكتينات. وبالنسبة إلى بروتينات التنوي الثلجية، فإنه توجد على الأقل نماذج لها. ومنذ عام ٢٠٠٦، استُخدِمت البروتينات المضادة للتجمُّد التي كوَّنَتْها مستنبتات الخميرة في إنتاج الآيس كريم؛ إذ إنها تساعد في الحيلولة دون تكوُّن بلورات ثلجية ضخمة في الآيس كريم على نحوٍ غير مرغوب فيه.

قراءات إضافية

  • M. Gross Life on the Edge, Plenum, 1998.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤