الفصل الثالث

بلورات مصممة وفقًا للمقاييس

كنتُ معجبًا جدًّا بمؤتمرات البحث الأوروبي التي تنظِّمها مؤسسة العلوم الأوروبية، والتي هي عبارة عن اجتماعات ودية صغيرة، تتناول في العادة موضوعات متعدِّدة الاختصاصات في العلوم. في عام ١٩٩٦، حضرتُ أحد هذه المؤتمرات، الذي كان يدور حول التعرُّف الجزيئي (كنتُ أدرسُ التعرُّف الركائزي للبروتينات المقترنة في ذلك الوقت). اكتشفتُ بحثًا رائعًا للغاية هناك، وشرعتُ في كتابة أول مقالٍ لي عنه.

دعونا نسافر عبر الزمن إلى باريس في عام ١٨٤٨. هناك سنجد عالِمَ كيمياء حديثَ التخرُّج، يبلغ من العمر ٢٥ عامًا، متحيِّرًا للغاية؛ فهو يتعجَّب باستمرار لماذا يلف حمض الطرطريك سطحَ الضوء المستقطَب، في حين أن الحمض الراسيمي — المطابِق بجميع المعايير الكيميائية — يتركه دون تغيير؟ وقد جهَّزَ محاليل مفرطة التشبُّع للمركب غير النَّشِط ضوئيًّا وتركه ليتبلور طوال الليل على عتبة نافذة معمله، وعندما فحص البلورات بالميكروسكوب في اليوم التالي، اكتشف وجود نوعين من البلورات يتسمان بنفس البنية الهندسية، ولكن كان كلٌّ منهما صورة مطابقة للآخَر، مثل القفازين الأيمن والأيسر. وبالاستخدام الدقيق لمِلقط مع النظر عبر الميكروسكوب، فصلَ النوعين وأعاد إذابتهما على نحوٍ منفصل وفحص ما فعلَتْه المحاليلُ للضوء المستقطَب. تلك البلورات التي كانت في نفس «اتجاه» البلورات المأخوذة من محاليل الطرطرات سبَّبَتْ تدويرًا في اتجاه عقارب الساعة بنفس الطريقة التي تتبعها الطرطرات. بينما وجَّه المحلول الآخَر سطحَ الضوء المستقطَب بنفس الزاوية، ولكن في الاتجاه المعاكس. وبالتالي، ففي الوقت الذي كانت فيه الذرات والجزيئات لم تزل مسلَّمات محيِّرة، حدَّد هذا الرجل العلاقةَ المباشِرة بين عدم التناظُر المِرآتي (اليدوانية) للجزيئات (حسبما تمَّتْ ملاحظته خلال النشاط البصري)، وعدم التناظُر المِرآتي للبلورات التي تكوِّنها. وبالطبع، لم تكن تلك سوى البداية في مسيرة لوي باستير (١٨٢٢–١٨٩٥).

بعد ذلك بأقل من قرن ونصف، خطَا باحثون في فريق ليا أدادي من معهد فايتسمان في رحوفوت بإسرائيل على خُطَى باستير، فشرعوا في تصنيف البلورات التي تكوِّنها الجزيئات المنعكسة (المصاوغات المِرآتية) باستخدام الميكروسكوب. وهذه المرة كان العنصر العديم التناظر المِرآتي هو ملح حمض الطرطريك، وتحديدًا طرطرات الكالسيوم. بَدَا أنه من المستحيل التمييزُ بين بلورات المصاوغات المرآتية؛ لأنها متماثِلة في المظهر، وليس في التناظُر المِرآتي. ومع هذا، إذا عرَّض الباحثون أنواعًا معينة من الخلايا الحية — مثل خلايا الكُلى المستنبتة والمأخوذة من العلجوم ذي المخالب «القيطم الأفريقي» — لاحتكاكٍ مباشِر مع البلورات المختلطة، فإنها ستبدو قادرةً تمامًا على التمييز بين البلورات المتماثلة في المظهر. في المرحلة الأولى من التجربة اختاروا حصريًّا سطحًا معيَّنًا للبلورات يكوِّنه المصاوغ المِرآتي «آر آر» RR، وباستخدام إجراءٍ تصنيفي على طريقة باستير، لقياس النشاط البصري للمحاليل المشتقة من البلورات التي اختارت الخلايا أن تنمو فوقها بالمقارنة مع غيرها، استطاعت أدادي وزملاؤها إثباتَ أن نمو الخلايا على السطح البلوري هو معيارٌ موثوق به للفصل المصاوغاتي المِرآتي للبلورات التي ما كان سيمكن التعرُّف عليها لولاه.

ومع هذا، فإن الخلايا التي اختارت بلورات «آر آر» في الساعات الأولى من التجربة خضعت لعواقب اختيارها بعد حوالي يوم واحد؛ فارتباط جزيئات سطح الخلية بسطح البلورات كان محكمًا بقوةٍ وشديدًا لدرجة أن الخلايا ماتَتْ كالحشرات العالقة بالورق المبيد للذباب. أما في حالة بلورات المصاوغ المِرآتي الآخَر، فقد كانت على النقيض من ذلك؛ إذ إن المستنبتات الخلوية الأصغر والأقل ارتباطًا بدأَتْ تنمو في اليوم الثاني وظلَّتْ على قيد الحياة لعدة أيام أخرى.

هذا الوصف للكيفية التي تستطيع بها جزيئاتُ سطح الخلية التعرُّفَ على عدم التناظر المِرآتي للجزيئات المكونة في البلورات المتماثِلة مجهريًّا هو مجرد مثال واحد للتفاعُلات المتنوعة والمحددة غالبًا على نحوٍ مُدهِش بين الجزيئات الكبرى الحيوية والبلورات الجزيئية الصغيرة. في عام ١٩٩٤، أثبتت أدادي وزملاؤها أن الأجسام المضادة التي أنتجوها لمقاوَمةِ الأملاح المتباينة من حمض البوليك ومقاوَمةِ التناظُر المحايد للألوبورينول، يمكن أن تحفِّز على نحوٍ متخصِّصٍ تكوينَ نوع البلورات التي أُنتِجتْ في الأساس لمقاومتها. ومع أن تخصُّصيةَ الأجسامِ المضادة قد تمَّ اختيارها للتعرُّف على البلورات الكاملة النمو، فقد بَدَتْ أنها تحفظ استقرارَ التجمُّعات الأولى لما بين ٢٠ و٣٠ جزيئًا تقريبًا خلال تنوي نمو البلورات. وبطريقة مماثِلة لتلك الأجسام المضادة التي أنتجها الباحثون لمقاومة تناظرات الحالة الانتقالية في التفاعلات الكيميائية البسيطة، التي اكتشفوا أنها تعمل كمادة محفِّزة عن طريق تقليلِ طاقة الحالة الانتقالية مثلما تفعل الإنزيمات؛ تبدو الأجسام المضادة التي أنتجَتْها أدادي موادَّ محفِّزةً متخصِّصةً لتفاعلات التجمعات الأكثر تعقيدًا التي تؤدي إلى تكوين البلورات.

وقد أدَّتِ الأبحاثُ الأحدث التي أجراها فريقها إلى إنتاج مستحضرات أجسام مضادة أحادية النسيلة، يتكوَّن كلٌّ منها من تسلسل بروتيني واحد محدَّد، كي تصبح الأبحاث البنيوية ممكنةً. وكشفت التنبؤات البنيوية لجسم مضاد معين مقاوِم لبلورات الكوليسترول شذوذًا حادًّا على نحو مدهش في موقع القَطع، الذي يطابق بالضبط الحواف الموجودة على سطح بلورة الكوليسترول.

حتى الآن، قد يُغفَر للمرء تفكيره في أن مثل هذه الأجسام المضادة هي مجرد لعبة كيميائية حيوية ممتعة، ولكنها في حقيقة الأمر نماذج لعملية فسيولوجية ذات أصول طبية هائلة؛ فأعراض نوبة داء المفاصل (النقرس) يُعتقَد أنها تنشأ من بلورات حمض البوليك المتراكمة في أحد المفاصل، التي تتعرَّف عليها عندئذٍ الأجسامُ المضادة للجهاز المناعي بوصفها أجسامًا غريبة (على الرغم من أن نفس المركب في صورته السائلة لا يحفِّز استجابةً مناعيةً)؛ وهو ما يؤدِّي بدوره إلى استجابةٍ التهابيةٍ في المفصل. وتشير نتائج التخصُّص التي توصَّلَ إليها فريقُ أدادي إلى أن تعرُّفًا مماثِلًا في المفصل المصاب هو السبب الأرجح المسبِّب للالتهاب. كما أنها تعطي فرصة لتخمين أن الجهاز المناعي قد يزيد الأمور سوءًا بتوفير أعداد كبيرة من الأجسام المضادة لمقاومة البلورات المهاجمة، التي تحفِّز دونَ قصدٍ تكوينَ المزيد من البلورات، وقد يفسِّر هذا سببَ زيادة عدد نوبات النقرس مع تقدُّم مراحل المرض؛ إذ إن الجهاز المناعي يعمل على نحو خاطئ تمامًا. علاوة على ذلك، لا يمكن للاستجابة المناعية أن تقضي على البلورات المهاجمة؛ إذ إن أنظمتها التطهيرية مصممة لكي تتمكَّنَ من مقاومة الخلايا والفيروسات والجزيئات الحيوية، بدلًا من مقاومة بلورات الجزيئات الصغيرة.

ومع هذا، فإن التفاعلات بين البروتينات وأسطح البلورات يمكن أيضًا أن تكون مفيدةً على نحو هائل للكائنات الحية التي تعتمد على التحكم في نمو البلورات، كما هو الحال في التشبُّع البيولوجي بالمواد المعدنية وفي الوقاية من التجمُّد (انظر مقال «الحياة على الصخور»). وأخيرًا، ثمة مجموعة أخرى من العمليات الطبيعية المهمة للغاية التي تعتمد على التفاعلات بين الجزيئات الكبرى الحيوية والمراحل البلورية أو اللابلورية للمواد الصلبة، وهي تتضمَّن العمليات التي تكوِّن عظامنا وأسناننا، وتلك التي تمد اللافقاريات مثل الرخويات والحلزونات بصَدفة خارجية صلبة، لتغطِّي تكوينَ أكثر من ٦٠ معدنًا مختلفًا ونطاقًا هائلًا من الظواهر، التي يُطلَق عليها بصفة عامة التشبُّع البيولوجي بالمواد المعدنية.

يمكن أن تقرر الجزيئات الحيوية التي تتحكَّم في هذه العمليات إن كان ترسُّب الصورة المعدنية من المحلول يؤدِّي إلى مرحلة لا بلورية أو مرحلة بلورية (مجهرية)، ويحفِّز البلورة، ويغيِّر الانحرافَ بين الصور البلورية (التشكُّلات) المختلفة، ويوجِّه أو يقيِّد اتجاهات نمو الخلايا في الفراغ، ويوقف العملية برمتها. في معظم الحالات (ولكن ليس في حالة عظامنا)، تنتمي هذه العوامل المتحكِّمة إلى فئةٍ من البروتينات مذهلةٍ للغاية، لدرجة أنه يُشار إليها غالبًا باسم «الجزيئات الكبرى الحمضية العجيبة». (كان المثال الأول عبارة عن بروتين مستمَد من الأسنان خلال ستينيات القرن العشرين، وُجِد أنه يحتوي على ٤٠ مولًا في المائة من حمض الأسبارتيك.) بصفة عامة، تحتوي هذه الجزيئات على حمض الأسبارتيك مرةً كل موقعين أو ثلاثة، كما تحتوي أيضًا على نِسَب عالية للغاية من الأحماض الأمينية المُفَسْفَرة، لا سيَّما الفوسفوسرين. وتؤدِّي جميع هذه الخواص غير العادية إلى مشكلةٍ مفادها أن هذه البروتينات يصعب للغاية تحليلها ووصفها بالوسائل التقليدية، حتى إن تحديدَ الوزن الجزيئي غالبًا ما يسبِّب مشكلاتٍ. ومن المحتمَل أنها تستطيع تكوين بنى صفائح بيتا ممتدة مشابهة لتلك الخاصة ببروتينات التنوي الثلجي. ومع أن التحكُّم في التشبُّع بالمواد المعدنية بواسطة هذه الجزيئات يمكن محاكاته معمليًّا، فإن آلياتها لا تزال محل جدال. وسيكون من الممكن أن تعمل البروتيناتُ الحمضية في أغشية و/أو في محلول حر عن طريق التأثير على تكوين واتجاه النوى و/أو نمو البلورات.

في العديد من الحالات — فكِّرْ فقط في الشكل اللولبي لأصداف الحلزون التي تتلوَّى دائمًا في نفس الاتجاه — يؤدي التحكُّمُ في نمو البلورات بواسطة الجزيئات الحيوية العديمة التناظر المِرآتي إلى تكوين أجسام مجهرية تتسم بعدم التناظر المِرآتي تمامًا مثلما فعلَتْ بلورات باستير. والمثير للدهشة أن هذا قد يحدث حتى لو كانَتِ العناصرُ الأساسية الجزيئية (فوسفات الكالسيوم في حالة الحلزون) عديمةَ التناظر المِرآتي.

(١٩٩٥)

أحدث التطورات

لطالما ظلَّ التفاعلُ بين البلورات الصلبة والبروتينات المفترَض أنها غير صلبة يذهلني في سياقاتٍ متنوعة؛ ولهذا تناولتُ العديدَ من التطوُّرات الأخرى في هذا المجال، خصوصًا الجزيئات المشتركة في تكوين أصداف الدياتوم، انظر مقال «الانبهار بالدياتومات». وقد نجحَتْ جوانا أيتسنبِرج — تلميذة أدادي — في التعامُلِ مع الوسيط المعدني البيولوجي/تكنولوجيا النانو، لتُحدِث ضجةً باكتشافها «الأليافَ البصرية» في الإسفنج البحري في عام ٢٠٠٣.

قراءات إضافية

  • M. Gross, Travels to the Nanoworld, Perseus, 1999.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤