الفصل التاسع

جزيء مُستقبِل رائع

الآن هذا المقال رائع بكل ما تحمله الكلمة من معنًى: اكتشاف جزيء مُستقبِل يستجيب لكلٍّ من المِنتول ودرجات الحرارة المنخفضة. إنه أمرٌ رائع!

من المثير للدهشة أن العلم لم يكتشِف الكثيرَ عن كيفية عمل حواسنا (باستثناء حاسة البصر المدروسة جيدًا) على المستوى الجزيئي. وعلى وجه التحديد، فإن الجزيئات المسئولة عن التذوُّق والإحساس بدرجةِ الحرارة لم تكن متاحةً للدراسة إلا منذ منتصف تسعينيات القرن العشرين، عندما منحَتْ تقنياتُ الاستنساخ الجزيئي بالإضافة إلى البحث عبر قاعدةِ بياناتِ الجينوم فرصةً أفضل للباحثين لتتبُّع هذه البروتينات الغشائية المحيِّرة والنادرة، واتضح أن ثمة علاقةً لافتة بين الإحساس ﺑ «الحرارة» الذي يسبِّبه الفلفلُ الحار وذلك الذي تسبِّبه درجاتُ الحرارة المرتفعة؛ فكلاهما يحفِّزهما نفسُ المُستقبِل الغشائي، الذي استنسخه فريقٌ بقيادة ديفيد يوليوس من جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو عام ١٩٩٧، وأطلقوا عليه اسم «في آر ١» VR1 (نسبةً إلى النمط ١ من مُستقبِلات الفانيلويد؛ إذ إن المكوِّن النَّشِط في الفلفل الحار، وهو الكابسيسين، ينتمي لعائلة الفانيلويدات).

فيما بعدُ، طبَّق فريق يوليوس نفسَ المنطق الذي ساعَدَ في تحديد جزيء «في آر ١» باعتباره جزيئًا مُستقبِلًا للحرارة الشديدة الناتجة عن إحساس البرودة. وقد اختاروا مادةً كيميائية تحفِّز الإحساس بالبرودة، وهي المنتول، ثم حدَّدوا مجموعةً من الخلايا العصبية التي تستجيب لهذه المادة الكيميائية ولدرجات الحرارة الباردة. وفيما يبدو، فإن أداء مستنبتات العصب الثلاثي التوائم في الفئران يكون أفضل من خلايا عُقد الجذر الخلفي الظهرية المستخدَمة عادةً في مثل هذه الأبحاث. وباستخدام هذه الخلايا، وصفوا الخواصَّ الفسيولوجية للمستقبِل المزعوم حتى الآن، لكي يكتشفوا السبيل الأمثل إلى الإمساك به. وبَدَا أن الاستجابةَ إلى الإحساس بالبرودة يحفِّزها تدفُّقٌ خارجي للأيونات الموجبة الشحنة، بما في ذلك أيونات الكالسيوم التي تُعَدُّ أهمها على الإطلاق.

لهذا فحَصَ الباحثون الحمضَ النووي المُكمِّل (أيِ الحمض النووي المشتق من الحمض النووي الريبي الرسول الموجود في النسيج، الذي يمثِّل بالتالي الجيناتِ النَّشِطةَ) عن طريق استخدام تقنيات تصوير الكالسيوم للتأكُّد مما إنْ كانَتِ المستنبتات الخلوية التي تعبِّر عن أحد الأحماض النووية المكمِّلة قد استجابَتْ للمنتول أم لم تستجِبْ له. وحصل الباحثون على جزيء حمض نووي مكمِّل واحد منح خلاياه المضيفة استجابة تدفقية أيونية للبرد وللمنتول، وأيضًا للمركبين المُبردين: الأيسيلين واليوكاليبتول. وقد أثبتَتِ النتائجُ المُجمَّعة من مزيدٍ من الأبحاث في أنواع مختلفة من المستنبتات الخلوية أن البروتينَ الغشائي المشفَّر يتمتَّع بجميع الخواص المطلوبة لتفسير الاستجابة الفسيولوجية للخلايا العصبية الحسَّاسة للبرد التي بدأت الدراسة بها؛ ولهذا أُطلِق عليه النمط ١ من مستقبِل المنتول-البرد، واختصارًا «سي إم آر ١» CMR1.
اتضح أن «سي إم آر ١» بروتين غشائي مكوَّن من أكثر من ١١٠٠ حمض أميني، بتسلسلات موسومة مماثِلة لمجموعة من القنوات الأيونية التي لم تُعرَف وظيفتها الفسيولوجية بعدُ، التي يُطلَق عليها قنوات «تي آر بي». لكن على عكس معظم هذه القنوات، فإن «سي إم آر ١» لا يحتوي على نطاق إنزيمي يتدلى من الجانب السيتوبلازمي للغشاء. وعندما فحص الباحثون الجينوم البشري بحثًا عن نُسَخٍ من المُستقبِل الجديد، اكتشفوا جينًا اسمه «تي آر بي-بي ٨» trp-p8، كان يُعتقَد أنه يُعبَّر عنه تحديدًا من خلال ظهارة غدة البروستاتا السليمة وعدد من الأورام. وحتى الآن، لا يُعرَف إنْ كان هذا الجين يُعبَّر عنه أيضًا في الخلايا العصبية الحساسة للبرد لدى البشر، وبالتالي يصلح ليكون نظيرًا لبروتين «سي إم آر ١» الموجود في الفئران.
في نفس الوقت، توصَّلَ فريق بحثي آخَر إلى نفس النتائج من اتجاه مختلف؛ فقد درس بيير وزملاؤه قنواتِ «تي آر بي» بهدف توضيح وظائفها الفسيولوجية. وبما أن كلًّا من مجسي الحرارة المعروفين «في آر إل ١» و«في آر إل ١» ينتميان إلى هذه العائلة أيضًا، فقد كان الإحساس بالبرودة فرضيةً معقولة يجب التأكُّد من صحتها. وحدَّدَ هذا الفريق نفسَ المُستقبِل، ولكنهم أطلقوا عليه اسم «تي آر بي إم ٨» TRPM8.

يستطيع بروتين «سي إم آر ١»، بالإضافة إلى مُستقبِلَي الحرارة هذين، أن يعمل كترمومتر فسيولوجي لنطاق درجات الحرارة الذي يتراوح ما بين ٨ درجات مئوية وحوالي ٦٠ درجة مئوية، وذلك في معظمه وليس كله. ومن غير الواضح بعدُ إن كان يوجد المزيد من مُستقبِلات درجة الحرارة التي لم تُكتشَف بعدُ أو إنْ كانت توجد آليات غير معروفة حتى الآن قد تُعدِّل نطاق المُستقبِلات الثلاثة التي نعرفها. وبالمثل، فإن تفاصيل كيفية انتقال إشارات هذه المُستقبِلات ومعالجتها لم تُستكشَف بعدُ. والاكتشاف القائل بأنها جميعًا تنتمي لعائلة واحدة وتستجيب بنفس الطريقة تقريبًا قد يساهم في فهم الظواهر المتداخلة التفاعُل، مثل حقيقة أن الإحساس بالبرد القارس قد يشبه اللسعَ، والمفارَقةَ التي تنطوي على ألم اللسع الذي ينتج عن الاحتكاك بسطح ساخِنٍ وآخَر باردٍ في نفس الوقت. ومع اكتشاف الباحثين للجزيئات الرئيسية، اكتشفوا أخيرًا وسيلةً يتناولون بها الموضوعات المُلِحَّة المتعلِّقة بالإحساس بدرجات الحرارة.

(٢٠٠١)

أحدث التطورات

كشفت أبحاث لاحقة المزيدَ من المُستقبِلات المرشَّحة، بما في ذلك مُستقبِل للبرد الشديد (القارس). ولكي يوضِّح فريق يوليوس دورَ المُستقبِل الذي اكتشفوه، والذي يُطلَق عليه الآن عالميًّا اسمَ «تي آر بي إم ٨»، أنتجوا سلالةً من الفئران المنتقصة جينيًّا بعد أن استأصلوا منها الجينَ المسئول عن إنتاج بروتين «تي آر بي إم ٨» لدرجة أن البروتين الغشائي قد أُنتِج ولكنه لا يستطيع القيام بوظيفته كمُستقبِل. وفي الوقت نفسه، طبَّق فريقان آخَران على نحوٍ منفصِلٍ نفسَ المنهج.

أعلنَتِ الفِرَقُ الثلاث، التي نُشِرت نتائجُ أبحاثها في نفس الوقت عام ٢٠٠٧، أن نقص بروتين «تي آر بي إم ٨» يكبت استجابةَ الفأر للبرد المتوسط. وفي المستنبتات الخلوية للخلايا العصبية المأخوذة من الفئران المنتقصة جينيًّا، كُبِتَتِ الاستجابةُ للبرد أيضًا، في حين تعمل الاستجابةُ للحرارة على نحوٍ طبيعي.

اتضح أن الفئران المنتقصة جينيًّا طبيعيةٌ تمامًا، باستثناء ما يتعلَّق باستجابتها للاختلافات في درجات الحرارة. فالفئران الطبيعية تفضِّل سطحًا درجة حرارته ٣٠ درجة مئوية عن السطح البارد، حتى لو كانت درجة حرارة السطح البارد ٢٥ أو ٢٠ درجة مئوية، حسبما يستطيع الباحثون أن يُثبِتوا عن طريق إجراء تجارب بسيطة للغاية يقيسون فيها المدةَ التي تختار هذه الفئران قضاءها لاستكشاف سطحين يبدوان متطابقين. أما الفئران التي تفتقر إلى جزيء «تي آر بي إم ٨» نَشِط، فلم تفاضِلْ بين الأسطح التي تتراوح درجة حرارتها ما بين ٣٠ و٢٠ درجة مئوية، لكن بعدما قام الباحثون بتبريد المنطقة الباردة إلى ١٥ درجة مئوية، ثم إلى ١٠ درجات مئوية، أظهرَتِ الفئرانُ تفضيلًا بسيطًا وقويًّا، على التوالي، للمنطقة الأكثر دفئًا. وعندما وصلت درجة حرارة السطح إلى ٥ درجات مئوية، عاد سلوكها متماشيًا مع سلوك الفئران الطبيعية.

بناءً على ذلك، تُثبِت أبحاثُ الانتقاص الجيني، بالاتساق مع الدراسات البيولوجية الخلوية والجزيئية، أن الترمومتر البيولوجي في الفأر — الذي كان يُفترَض أنه مشابِه تمامًا لما لدى البشر — يميِّز بين نوعين من البرودة؛ فيوجد بردٌ مكروه قليلًا، يكون بروتين «تي آر بي إم ٨» هو مجسه الأساسي، ويوجد البرد القارس الذي تقترب درجاتُ الحرارة فيه من نقطة التجمُّد، والذي له مُستقبِلات أخرى. ولم تُستكشَف بعدُ تفاصيلُ الآليات المستخدَمة والظواهر المتداخلة بين هذه النطاقات من سُلَّم الحرارة.

قراءات إضافية

  • D. D. McKemy et al., Nature, 2002, 416, 52.
  • A. M. Peier et al., Cell, 2002, 108, 705.
  • D. M. Bautista et al., Nature, 2007, 448, 204.
  • A. Dhaka et al., Neuron, 2007, 54, 371.
  • R. W. Colburn et al., Neuron, 2007, 54, 379.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤