الفصل الثامن والعشرون

الفوضى والفتن الداخلية

١٠٥٧–١٠٨١

وتوفيت ثيودورة وانقطعت سلاسة باسيليوس الأول مؤسس الأسرة المقدونية، وكان خلفها ميخائيل السادس قد أصبح هرمًا كبيرَ السن، وكان لا يزال في صفوف الجيش وخارجها عدد من القادة الطامعين، فنشبت مشادة عنيفة بين كبار المدنيين في القصر وبين هؤلاء العسكريين، وقبل أن تنتهي السنة الأُولى من حُكم ميخائيل السادس دبَّر العسكريون مؤامرةً لخلع ميخائيل، فوصل إلى عرش رومة الجديدة إسحاق كومنينوس زعيم العسكريين.

إسحاق كومنينوس (١٠٥٧–١٠٥٩)

وانتسب الكونينيون إلى قرية كومنة في ضواحي أدرنة، واشتهر والد إسحاق إيروتيكوس في دفاعه عن نيقية ضد هجمات برداس أسكليروس في السنة ٩٧٨، وذلك في عهد باسيليوس الثاني، فاكتسب أرضين واسعة في آسية الصُّغرى مَكَّنَتْهُ من الدخول في عِداد الأرستوقراطيين العسكريين،١ وانتصر العسكريون بوُصُول إسحاق إلى العرش واستوائه عليه، ووزع الفسيلفس الجديد المكافآت على مَنْ عاونه في الوصول، وأمر بتمثيله ممتشقًا حسامه على العملة التي سُكَّتْ باسمه؛ دلالةً على انتصار العسكريين،٢ ولكنه لم يتمكن من الاحتفاظ بالسلطة أكثر من سنتين.
وأُصيب إسحاق في السنة الأولى من حكمه بالمرض، وجوبه بخزينة خاوية، فلجأ إلى الاقتصاد ولم يستثنِ منه أحدًا، فأغضب الشيوخ والشعب والجيش والرهبان، وكان في بداية عهده قد كافأ البطريرك المسكوني ميخائيل؛ لاشتراكه في إزاحة الفسيلفس السابق ميخائيل السادس أستراتيوتيكوس عن العرش، فمنحه الحق في أن ينتقي ويعين إيكونوموس كنيسة الحكمة الإلهية (أي مدبر أملاكها)، وأمين الأواني الكنائسية فيها «أسكيفوفيلاكس»، وكان البطريرك قد طلب ذلك من ثيودورة وميخائيل السادس فلم يفلح،٣ وظن البطريرك أنه سيتمكن من إرشاد الفسيلفس وتوجيهه، ولكن إسحاق تقبل هذا الإرشاد بشيءٍ من الفُتُور في أول الأمر ثم ردَّ ما جاء من نوعه بعدئذٍ، فنشأ شيءٌ من البُغض بين الاثنين ما لبث أن تحوَّل إلى عداء، وسرعان ما أخذ البطريرك يهدد الفسيلفس ثم احتذى الحذاء الأرجواني، وادعى أن الاحتذاء بالأرجواني حقٌّ قديمٌ من حُقُوق السدة البطريركية،٤ وكان الإقدام على الاحتذاء بالأرجواني في عرف الروم آنئذٍ أول دليل على الطمع في السلطة العليا،٥ وفي الثامن من تشرين الثاني حين كان البطريرك متوجهًا مع أخصائه ليخدم القداس في دير الملائكة، ألقى الفسيلفس القبض عليه ونفاه مع أولاد أخيه إلى جزيرة إيمبرس، وهاج الشعب وطلب إرجاع البطريرك، فاستحضره الفسيلفس وجمع مجمعًا وطلب محاكمته؛ لأنه عطف على راهبين كانا يتعاطيان الشعوذة، ولأنه كان يقرأ أشعار الشعراء وقت الخدمة، ولأنه أيضًا ثار على الفسيلفس السابق، ولم يحر البطريرك جوابًا عن شيء من هذا، وقام في النهاية وسامح الفسيلفس والقضاة، ودعا للشعب ولأعدائه، وسقط ميتًا وهو يقول: «السلام لجميعكم.» مشيرًا بيده اليُمنى إشارة البركة، فأمر الفسيلفس بدفنه بحفاوة فائقة في دير الملائكة، واشترك بنفسه في تشييع الجثمان،٦ ورقي الكرسي المسكوني بعده قسطنطين الثالث «ليخوذي»، ومرض الفسيلفس فاستقال فبدل الأرجوان بثوب الرهبنة وأقام في الدير الاستودي.٧

قسطنطين العاشر «دوكه» (١٠٥٩–١٠٦٧)

وتحدَّر هذا أيضًا من أُسرة عريقة في الشرف، ولكن شرفها لم يكن عسكريًّا ريفيًّا بقدر ما كان أرستقراطيًّا مدينيًّا، وهذا سببُ التفاهُم بينه وبين أقطاب رجال السياسة والإدارة في العاصمة، ومن هنا نفوذ ميخائيل بسلوس في عهده وتوليه تربية الأمير ميخائيل بن الفسيلفس، ووصول قسطنطين الثالث إلى السدة البطريركية، وإكراه يوحنا الثامن على قبول العكاز البطريركي بعد وفاة قسطنطين الثالث (١٠٦٤)،٨ ومن هنا أيضًا عَطْف الفسيلفس على العلم، وإكرامه للعلماء، وإكراه ولي العهد ميخائيل على الدرس والمطالعة، واجتياز امتحان في الحقوق العمومية قبل إشراكه في الحكم،٩ ولهذا أيضًا منح عضوية مجلس الشيوخ إلى عدد من كبار رجال الطبقة المتوسطة، مما أغضب طبقة الأراكنة Archontes،١٠ واضطر قسطنطين العاشر إلى أن يعنى بالخزينة عناية سلفه إسحاق، فاقتصد في كل شيء، وأدى به اقتصادُهُ إلى الإقدام على عملٍ جنونيٍّ؛ إذ سرَّح عددًا غير يسير من الجُنُود، وأنقص مرتبات الباقين، بينما كان خطرُ الحرب يُهدد الدولة في أكثر من جبهة واحدة.١١
وفي عهد قسطنطين العاشر، وعهد البطريرك المسكوني يوحنا الثامن، وعهد البابا ألكسندروس الثاني (١٠٦١–١٠٧٣)، وفي السنة ١٠٦٤؛ توجه عددٌ من أَسَاقِفَة الغرب، يتقدمهم سيغفريد رئيس أساقفة ماينتز، وعدد كبير من الأشراف وغيرهم، إلى زيارة الأماكن المقدَّسة، ومرُّوا بالقسطنطينية فأكرمهم الفسيلفس إكرامًا جزيلًا وزاروا كنيسة الحكمة الإلهية، ولَدَى وُصُولهم إلى المدينة المقدسة خرج صفرونيوس البطريرك الأوروشليمي بنفسه لمُلاقاتهم ومعه الإكليروس والشعب بالمباخر والشموع، وأدخلهم باحتفاءٍ عظيمٍ كنيسةَ القبر المقدس!١٢ وهو أمر ذو بال في موقف رجال الدين في الغرب والشرق معًا من حرم البابا لاوون التاسع، وحرم البطريرك المسكوني ميخائيل الأول، اللذَين صدرا قبل ذلك بعشر سنوات فقط! وحسَّن قسطنطين العاشر علاقاتِهِ مع الخليفة الفاطمي، فتحسنتْ بذلك حالةُ المسيحيين في المدينة المقدسة؛ إذ منح الخليفة الفاطمي بطريرك هذه المدينة حَقَّ السلطة المدنية على أبناء رعيته في القدس.١٣
وفي شهر أيار من السنة ١٠٦٧ اقترب أجل قسطنطين العاشر فأوصى بالملك لأولاده الثلاثة بوصاية أمهم إفذوكية على أن لا تتزوج،١٤ وكانت إفذوكية من أفذاذ عصرها في العلم، وكانت تُجيد النظم أيضًا، ولكنها بعد وفاة زوجها لم تستطع القيام بأعباء الحُكم وحدها؛ نظرًا لِتَحَرُّج الموقف الحربي الدولي، وأخذ سكان العاصمة يتهامسون عن مستقبل المملكة، ثم قالوا بضرورة إقامة ملك قدير، وخشيتْ إفذوكية سُوءَ العاقبة فأخذتْ صك قسم اليمين من البطريرك، وتزوجت بعد سبعة أشهر من وفاة قسطنطين بالقائد رومانوس ديوجانس قائد الجيش في بلغارية.١٥

رومانوس الرابع «ديوجانس» (١٠٦٨–١٠٧١)

وكان رومانوس من كبار رجال الجيش وأصحاب الأملاك الواسعة في قبدوقية، وكان محبوبًا محترمًا من الجُند شجاعًا قويًّا، ولكنه كان يُحِبُّ السُّلْطة، فَاستأثر بها، فأغضب إفذوكية بعد مرور شهرين فقط على زواجهما، فخَرَجَ من القصر وأقام في آسية عبر البوسفور بعد حملة عسكرية شنها على الأتراك السلاجقة.١٦
وكانتْ أحوالُ الروم قد ساءتْ في البلقان وفي إيطالية، فالمجر عَبَرُوا الدانوب وحاصروا بلغراد ثلاثةَ أَشْهُر في السنة ١٠٦٤، وكان الغز أبناء عم السلاجقة قد نزحوا من شمالي قزوين إلى جنوبي روسية، فأَجْلَوُا البتشناغ عن مراعيهم ودفعوا بهم إلى مصب الدانوب، فعبر هؤلاء الدانوب في السنة ١٠٦٥ وأوغلوا في البلقان حتى ثيسالونيكية وثيسالية، ولَمْ تَقْوَ الجيوشُ على صَدِّهِم، فسمح قسطنطين العاشر ببقائهم في مقدونية على أن ينخرطوا في خدمة الدولة.١٧
وأدى النزاع في إيطالية بين البابا نيقولاووس الثاني والبابا بندكتوس العاشر في السنة ١٠٥٩ إلى تفاهُم وتحالُف بين نيقولاووس الثاني والنورمنديين، فأقر البابا نيقولاووس شرعية مطالبة هؤلاء بكابوة وكلابرية، وانطلق روبر غيسكار وأخوه روجه فأخضعا كلابرية، فأنفذ قسطنطين العاشر حملةً إلى إيطالية الجنوبية، فعاد روبر من صقلية؛ حيث كان يعاون أخاه روجه في إخضاع هذه الجزيرة ليحافظ على ممتلكاته الجديدة في جنوبي إيطالية، وبدأتْ بذلك حربٌ بين الروم والنورمنديين انتهت بسقوط باري في السادس عشر من نيسان ١٠٧١ وخروج الروم من إيطالية الجنوبية بعد حُكْم دام ثلاثةَ قُرُون متتالية، ولم يُجْدِ قسطنطين العاشر نفعًا تدخلُهُ في سياسة الكنيسة الرومانية وتأييدُهُ للبابا أونوريوس الثاني مناظر ألكسندروس الثاني.١٨
وكان طغرل بك زعيم الأتراك السلاجقة قد تُوُفي في السنة ١٠٦٢، فخلفه السلطان أَلب أرسلان واستولى على آني Ani الأرمنية في السنة ١٠٦٤ فذبح ونَفَى، ثم قام إلى الرها فَصَدَّهُ عنها دُوق أنطاكية في السنة ١٠٦٥،١٩ وفي ربيع السنة ١٠٦٧ هاجم أَلب أرسلان الروم من الشرق والجنوب في آن واحد، فدخلت جيوشه البونط وقيليقية، ووصل إلى قيصرية قبدوقية فخرَّبها.٢٠

واستوى رومانوس على العرش، فتولى مهمة صد الأتراك السلاجقة، وقاد إلى الميدان كل رجل استطاع أن يجنده في أوروبة وآسية، فطردهم من البونط أولًا وأنزل بهم هزيمةً كبيرةً عند تفريقية، ثم قام إلى سورية الشمالية فأحرز نصرًا مبينًا في العشرين من تشرين الثاني سنة ١٠٦٩ عند هيرابوليس «منبج»، وكان السلاجقةُ قد توغلوا في غلاطية فعاد رومانوس إليها وحَرَّرَها، وفي السنة ١٠٧٠ حاصر أَلب أرسلان مدينة الرها دون جدوى.

وجاءت السنة ١٠٧١ فأعاد رومانوس تنظيم جيشه، وقام في منتصف آذار إلى الجبهة الشرقية الجنوبية، فوصل إلى منزيكرت «ملاذكرد» على الفرات الأعلى، فوجد نفسه وجهًا لوجه، ليس أمام جيشٍ واحد من جيوش السلاجقة فحسب، بل أمام قوة السلطنة السلجوقية كلها، وأمام ألب أرسلان نفسه، وكان قد حلَّ بجيش الروم شيءٌ من الارتباك بسبب السير الطويل، وكان الفسيلفس قد أرسل فرقةً كاملة إلى روسل دي بايول القائد النورمندي الذي كان قد اتجه نحو بحيرة وان.

وعلى الرغم من هذا كله بقي الفسيلفس متلهفًا إلى القتال، شاعرًا أن السلاجقة لم يُتيحوا له من قبل ميدانًا صالحًا للقتال مثل هذا، متيقنًا من أن جنوده المدرعين سيقضون قضاءً مبرمًا على الفرسان السلاجقة مهما بلغ عددهم، وكان ألب أرسلان قد زاد خصمه وثوقًا من نفسه بأن أرسل إليه تقارير كاذبة تفيد أن السلاجقة عازمون على الرحيل متجهين إلى بغداد.

وفي السادس والعشرين من آب سنة ١٠٧١ انبرى ألب أرسلان لقتال الروم، فأبلى فرسان الروم المدرعون بلاءً حسنًا وظلوا يومًا كاملًا يخترقون خطوط أعدائهم، ولكن هؤلاء كانوا دائمًا يسدون الثُّلُمات بسرعة وبجموع جديدة كانت تفد باستمرار، وفي المساء كان القتال لا يزال مائعًا، وفي أثناء الليل رأى رومانوس أن يسحب جنوده إلى المعسكر، فأساء بعضُهُم فَهْمَ الأوامر، فانقلب التراجع المنظم إلى فرار مستعجل، وأصبح القسم الذي قاده الفسيلفس محاطًا بالعدو من جميع النواحي، وجرح رومانوس نفسه وسقط عن حصانه ووقع أسيرًا.٢١
وسِيقَ رومانوس إلى خيمة عدوه واستُقبل بحفاوة، ثم تفاوض الكبيران في الصلح فاتفقا على أن يدوم خمسين سنة، وعلى أن يدفع الروم في كل سنة ثلاثمائة وستين ألف قطعة ذهبية، وعلى أن يفدي رومانوس نفسه بمليون ونصف مليون من هذه القطع عينها، وتصدعت جبهةُ الروم واختلَّ نظامُهُم الدفاعي في هذا القطاع، ثم اندلعت نيرانُ حرب أهلية مكنت السلاجقة من الدخول إلى آسية الصغرى والاستقرار فيها.٢٢

ميخائيل السابع (١٠٧١–١٠٧٨)

وما إن علمت إفذوكية بما حلَّ برومانوس حتى استقدمت إلى العاصمة القيصر يوحنا دوكاس أخا قسطنطين العاشر، وأعلنت نُزُول رومانوس الرابع عن العرش، وترك ألب أرسلان الفسيلفس رومانوس دون أن يدفع له شيئًا؛ معتمدًا في ذلك على وعده فقط، واتجه رومانوس نحو العاصمة على رأس مَنْ تمكن من جمعهم من الرجال، فصده قسطنطين دوكاس ابن القيصر يوحنا، والتجأ رومانوس إلى قلعة تيروبويون Tyropoion، وكاد يخسر كل شيء ولكن دوق أنطاكية مدَّه بالمساعدة فأنقذه وقام به إلى قيليقية؛ ليستعدا معًا للمقاومة.
وفي بدء السنة ١٠٧٢ أُكره رومانوس على الدخول إلى أدنه والاعتصام بها، ثم سلَّم شرط إبقائه في قيد الحياة، ولكن القيصر يوحنا أمر بقص شعره وسمل عينيه، ثم نفاه إلى دير في جزيرة بروتي؛ حيث مات بعد قليل.٢٣
وكان ميخائيل السابع مهذبًا مثقفًا، يحب العلم ويكرم العلماء، ولكنه كان خوَّارًا مترددًا بعيدًا عن الجيش لا يرغب في الحرب والقتال، وتمكن الخصي نيقيفوريتزس دوق أنطاكية من الوصول إلى القصر والسيطرة على ميخائيل، فأبعد بسلوس عن القصر، وأزال الحظوة عن القيصر يوحنا، ثم انصرف إلى جمع المال فاستحوذ على تجارة القمح واحتكرها، ثم رفع الأسعار فضايق العباد، فنال سيده ميخائيل لقب Parapinakes ومعناه أبو الربعة، والسبب في هذا أن الناس أصبحوا؛ نتيجةً لاحتكار الحنطة يبتاعون ربع المد بالقيمة نفسها التي كانوا يدفعونها من قبل لشراء مدٍّ كامل.٢٤

الأتراك السلاجقة

وتدل المصادر العربية والإسلامية على أن يوم منزيكرت أقر السلاجقة في أرمينية نهائيًّا، وأمَّلهم في الاستيلاء على مناطق الرها وأنطاكية، وفيما سوى هذا اعترف ألب أرسلان بالوضع الراهن، وبالغ في احترام الفسيلفس الأسير وأطلق سراحه محملًا بالهدايا،٢٥ وبدلًا من أن يتبع النصر بالنصر في آسية الصغرى، قام ألب أرسلان إلى حُدُوده الشرقية وتُوُفي عندها (١٠٧٢)، فتولى الحكم بعده ابنه جلال الدولة ملكشاه، ويُستفاد من هذه المراجع الأولية وغيرها أن الروم أنفسهم تشاغلوا عن حماية حدودهم الشرقية والجنوبية، ولهوا بمطامع قادتهم وأمرائهم، وأن الجنود تركوا الحدود والثغور ليؤيدوا هذا أو ذاك في حروب داخلية، مما أتاح للسلاجقة أن يتدفقوا عصابات عصابات للنهب والسلب.٢٦
وطمع روسل دي بايُّول النورمندي في السنة ١٠٧٣ بالاستقلال في مناطق قونية وأنقرة، فاستعان ميخائيل السابع بالسلاجقة، فدخل مائة ألف من هؤلاء بقيادة سليمان قطلمش فغشوا البلاد حتى ضفة البوسفور (١٠٧٤)، ووقع روسل النورمندي في الأسر ثم افتدى نفسه وجمع حوله عصاباته من جديد وحارب الأتراك والروم في منطقة سيواس، فهرع إليه أليكسيوس كومنينوس باسم الفسيلفس لإخضاعه. وظهر في هذه اللحظة قائدٌ تركيٌّ جديدٌ تتخ «طوطاخ» بجموع سلجوقية جديدة، فاستعان به أليكسيوس وقضى على روسل وعلى حركته النورمندية، ولكن هذا النصر جاء على حساب الروم؛ لأن طوطاخ وجماعاته استقروا في قبدوقية.٢٧

نيقيفوروس الثالث «بوتانياتس» (١٠٧٨–١٠٨١)

وبينما كان السلاجقة يزدادون قوةً وتقدمًا في أراضي الروم، كاد كل قائد من قواد هؤلاء ينادي بنفسه فسيلفسًا، وأهم هؤلاء القادة الطامعين: نيقيفوروس بريانيوس Bryennius في البلقان، ونيقيفوروس بوتانياتس Botaniates في آسية الصغرى، وقبل هذا في صفوفه عددًا كبيرًا من الأتراك السلاجقة، فاستولَوا باسمه على قيزيقة ونيقية ونيقوميذية وخريسوبوليس، واستقروا فيها،٢٨ وكانوا لا يزالون جيوشًا مرتزقة في خدمة الروم، وتدخل الشعب في العاصمة لوضع حدٍّ لهذه الفوضى، واهتم رجال الدين للأمر نفسه، فنادى أميليانوس بطريرك أنطاكية، الذي كان آنئذٍ في العاصمة، بنيقيفوروس بوتانياتس فسيلفسًا، ونزل ميخائيل السابع عن العرش ولبس ثوب الرهبنة،٢٩ وكان نيقيفوروس الثالث عسكريًّا لامعًا فطنًا متبصرًا في الأُمُور، ولكنه لم يتمكن من إعادة النظام إلى صفوف الجيش، وطمع نيقيفوروس ميليسانوس في الحُكم وثار على نيقيفوروس الثالث، فحالف سليمان بن قطلمش على شروط أهمها أن يقدم سليمان الرجال للزحف على القسطنطينية «فيستولي» على نصف المدن والمقاطعات التي تُستخلص من يد نيقيفوروس،٣٠ فرحب بهؤلاء من سبقهم من إخوانهم إلى ضفة مرمرة والبوسفور ممن تربع في المدن المشار إليها أعلاه باسم نيقيفوروس الثالث نفسه، فأرسل هذا قسطنطين أخا ميخائيل السابع بجيش لمحاربة السلاجقة وإخراجهم من المدن التي امتنعوا فيها، فعصا قسطنطين بدوره وطالب بالعرش.

البابا غريغوريوس السابع (١٠٧٣–١٠٨٥)

وعلى الرغم من الانشقاق الذي وقع في السنة ١٠٥٤ بين فرعي الكنيسة الرئيسين، فإن العلاقات بين الفسيلفس والبابا لم تنقطع؛ ولذا فإن ميخائيل السابع كتب إلى غريغوريوس السابع يطلب المعونة ضد الأتراك السلاجقة واعدًا بالسعي لإعادة العلاقات بين الكنيستين إلى ما كانت عليه قبل الانشقاق، فقَبِلَ البابا اقتراح الفسيلفس وأرسل إلى القسطنطينية رئيس أساقفة البندقية يمثله فيها (١٠٧٣)، وقام هو في الغرب يدعو إلى حملة عسكرية يكون هدفُها تحرير الكنائس الشرقية من تسلط المسلمين، ولكن دعوة البابا لم تلقَ آذانًا صاغية، فعدل الحبر الروماني من مشروعه العظيم.٣١
واتصل ميخائيل السابع في الوقت نفسه بروبر غيسكار النورمندي خاطبًا إحدى بناته لأخيه قسطنطين، فرفض غيسكار هذا التحالُف العائلي، ثم رُزق ميخائيل ولدًا ذكرًا وريثًا، فأعاد الكَرَّة وخطب إحدى بنات غيسكار لولي العهد، فوافق غيسكار، وقامت الأميرة الصغيرة إلى القسطنطينية حيث دعيت هيلانة، ثم جاء انقلاب السنة ١٠٧٨ فقضى على هذا التحالف، وأمر نيقيفوروس الثالث بإقامة الأميرة النورمندية في دير من الأديار، فغضب لميخائيل السابع كلٌّ من البابا وغيسكار، فحرم البابا غريغوريوس السابع نيقيفوروس الثالث، وأعلن غيسكار نفسه مُدافعًا عن حقوق الفسيلفس المخلوع.٣٢

أرمينية الصغرى

وكان الروم قد استولَوا على أرمينية الكُبرى وأكرهوا الأسرة الأزرونية على التخلِّي عن الحكم في السنة ١٠٢٢، كما أكرهوا الأسرة البغراتية على الأمر نفسه في السنة ١٠٤٥ والسنة ١٠٦٤، وكانوا قد أخفقوا في الدفاع عن الأرمن ضد الأتراك السلاجقة، وجاءت موقعةُ منزيكرت في السنة ١٠٧١ فاحتفظ أحدُ قادة الروم براخاميوس فيلاريتوس Brakhamios Philaretos الأرمني الأصل بجُنُوده المرتزقة، وكان عددُ هؤلاء لا يقل عن ثمانية آلاف، جُلُّهم من الفرنجة، وامتنع فيلرتة هذا عن الاعتراف بميخائيل السابع واعتصم بجبال مرعش، وأراد في السنة ١٠٧٣ أن يفرض سلطته على طورنيق بن موشيل Thornik Mouchel زعيم ساسون، ولكنه خسر المعركة، وفقد أحد كبار زُعماء جنوده الإفرنج، فاستعان بالأتراك السلاجقة وقضى على طورنيق واقتسم أمواله مع أمير ميافارقين (١٠٧٤)، وتقطعتْ أوصالُ دولة الروم في هذه الفترة فأصبح فيلرتة، بقوته العسكرية وبصفته المسلكية العسكرية العالية، الممثل الوحيد الفعَّال لسلطة الفسيلفس الشرعية في مناطق الحدود الجنوبية، وكثر قُصَّادُهُ، وعَلَتْ مكانته في أعين الموالين للروم في هذه المناطق، فانقاد الناس إليه وتعاونوا معه وشدوا أزره، فبلغتْ قواته العسكرية ثلاثين ألفًا، وامتد سلطانه من خربوط شرقًا حتى طرسوس غربًا، وفي السنة ١٠٧٧ أرسل أحد ضباطه باسيليوس بن أبي خاب إلى الرها ليحكمها ويدبِّر شئونها، فصَدَّهُ حاكمها عن ذلك ولكن أهلها ثاروا على هذا وذبحوه وسلموا المدينة لممثل فيلرتة، وجرى مثل هذا تمامًا في أنطاكية؛ ففي شتاء السنة ١٠٧٨-١٠٧٩ قام سكانها الروم على حاكمها الأرمني فاساك باهلافوني Vassak Pahlavouni فقتلوه وطلبوا إلى فيلرتة أن يتولى أمرهم ففعل،٣٣ أما شيزر، حصن الروم على العاصي بالقرب من حماة؛ فإنها سقطت في يد علي بن منقذ في التاسع عشر من كانون الأول سنة ١٠٨١، واعترف نيقيفوروس بالواقع فحكم فيلرتة باسم الفسيلفس جميع هذه المناطق وأسس بذلك أرمينية الصغرى.٣٤

ثورة أليكسيوس كومنينوس (١٠٨١)

ولم يوفَّق نيقيفوروس الثالث في مساعيه، وتطورت أحوال الدولة من سيئٍ إلى أسوأ، وتزوج الفسيلفس للمرة الثالثة واتخذ مريم زوجة ميخائيل السابع زوجةً له، وكان ميخائيل لا يزال في قيد الحياة، فلم يرضَ الشعب. ثم ثار ثائرُهُ عندما علم أن نيقيفوروس سيجعل ابن عمه وريثًا له بدلًا من قسطنطين بن ميخائيل السابع، وخشيت أسرةُ كومنينوس ما كان يدبره لها وزراءُ نيقيفوروس من دسائسَ ومكائد، فانتهزت هذا الظرف وخرج أليكسيوس وأخوه من العاصمة في منتصف شباط من السنة ١٠٨١ إلى تشرلو؛ حيث كانت تتجمع قُوى الجيش لمحاربة السلاجقة، ولدى وصولهما نادى الجُندُ بأليكسيوس فسيلفسًا، وفي أواخر آذار ظهر الفسيلفس الجديد بجُنُوده أمام أسوار العاصمة، فانحاز إليه القائد ميليسينوس، وخان المرتزقة الألمانيون نيقيفوروس، فدخل أليكسيوس كومنينوس العاصمة في أول نيسان سنة ١٠٨١ وتنازل عن نيقيفوروس ودخل الدير وعاش راهبًا باقي عمره.٣٥
١  Cedrenus, G., Synopsis Historion, II, 353.
٢  Sabatier, Monnaies Byzantines, II, 162; Ostrogorski, G., Gesch. des Byz. Staates, 238-239.
٣  Dolger, F., Regesten, 938, Sept., 1, 1057; Cedrenus, G., Synopsis Historion, II, 353.
٤  Cedrenus, G., Op. Cit., II, 372; Bréhier, L. Schisme Oriental, 276-277.
٥  Bréhier, L., Byzance, 273-274; Cedrenus, G., Op. Cit., II, 372-373.
٦  Bréhier, L., Byzance, 273-274; Cedrenus, G., Op. Cit., II, 372-373.
٧  Psellus, M., Chronographia, II, 129–138.
٨  Bréhier, L., Byzance, 274-275; Dolger, F., Regesten, 954.
٩  Psellus, M., Chron., II, 144.
١٠  Psellus, M., Op. Cit., II, 146-147.
١١  Psellus, M., Op. Cit., II, 139.
١٢  Annales Altahenses Majores (M. B. SS., XX); Lambert de Hersfeld (M. G. SS., V. 168-169).
١٣  Guillaume de Tyr, Historia Rerum, IX, 17-18.
١٤  Psellus, M., Op. Cit., II, 147-148.
١٥  Psellus, M., Op. Cit., II, 154–157; Cedrenus, G., Synopsis, II, 391–396.
١٦  Psellus, M., Discours, II, 159.
١٧  Cedrenus, G., Synopsis, II, 384-385; Dolger, F., Regesten, 955.
١٨  Bréhier, L. Byzance, 278-279.
١٩  Matthieu d’Edesse, Chronique, 91.
٢٠  Michel d’Attalie, 94; Cedrenus, G., Synopsis, II, 389; Laurent, J., Byzance et les Tures Seljoucides, 25.
٢١  أومان، الإمبراطورية البيزنطية، ص١٩٨.
٢٢  Psellus, M., Chron., II, 161-162; Michel d’Attalie, 159ff; Laurent, J., Op. Cit., 1–44; Dolger, F., Regesten, 972; Ostrogorsky, G., Gesch. des Byz. Staates, 243-244.
٢٣  Psellus, M., Chron., II, 168–172; Bréhier, L., Byzance, 281-282.
٢٤  Laurent, J., Byzance et Antioche, (Revue des Etudes Arméniennes, 1929), 64-65; Cedrenus, G., Synopsis, II, 444-445.
٢٥  Laurent, J., Byzance et les Seljoucides, 95; Cahen, Claude, La Campagne de Menzikert, (Byzantion, 1934), 636–639.
٢٦  Laurent, J., Op. Cit., 63; Cahen, Op. Cit., 641.
٢٧  Chalandon, F., Alexis Comnène, 30-31.
٢٨  Attaliates, 241, 266–269, 276–278.
٢٩  Bréhier, L., Byzance, 275–287.
٣٠  Laurent, J., Op. Cit., 98.
٣١  Dolger, F., Regesten, 988; Mansi, Amplissima Collectio, XX, 74-75, 100, 153; Chalandon, F., Domination Normande, I., 235-236.
٣٢  Dolger, F., Regesten, 939, 1003; Anne Comnène, Alexiade, I., 10–12; Grégoire VII, Registre, I., 330.
٣٣  Mathieu d’Edesse, Ch. 107, 175-176; Ch. 116, 180-181; Ch. 111, 178-179.
٣٤  Laurent, J., Byzance et Antioche, (Rev. des Etudes Arméniennes), 1929, 69-70; Grousset, R., Emp. du Levant, 176–181.
٣٥  Anne Comnène, Op. Cit., II, 6–12; Bréhier, L., Byzance, 288-289.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤