الفصل الثلاثون

خلفاء أليكسيوس كومنينوس

١١١٨–١١٨٥

يوحنا الثاني (١١١٨–١١٤٣)

وكان يوحنا في الثلاثين من عمره عندما تبوأ عرش والده، وجاء في الأليكسياذة لشقيقته حنَّة أنه كان قصيرًا، صغيرًا، أسمر اللون، عريض الجبهة، أسود العينين، ضامر الوجه، ومن هنا لقبه «المغربي»، وأجمع شعبه على حبه واحترامه؛ للطفه ودماثة أخلاقه ورحابة صدره وكرمه وتأدبه واستقامته، فأطلقوا عليه لقبًا آخرَ وعَرَفُوهُ به هو يوحنا الصالح Caloyan، وكان كسائرِ أفراد أُسْرَتِهِ جنديًّا كاملًا حازمًا عادلًا جريئًا شُجَاعًا، يشارك جُنُودَه المشقة، ويَسْهَرُ على راحتهم، وكان يَشْعُرُ بمسئولية الحُكم، ويحافظ على وقاره، ويسعى سعيًا حثيثًا للدفاع عن كرامة الدولة.١
وليس لدينا لتاريخ الروم في عهد هذا الرجل الصالح من المراجع الأولية ما يُمَكِّنُنا من التوسُّع في أخباره وفهمه فهمًا كافيًا؛ فحنَّة صاحبة الأليكسياذة وقفت — فيما يظهر في روايتها — عند وفاة والدها، وقناموس Cinnamus ونيقيتاس مُؤَرِّخَا القرن الثاني عشر عُنِيَا بأخبار عمانوئيل الأول ابن يوحنا، وما جاء في كتابيهما عن يوحنا إنما ورد مقدمةً لأخبار عمانوئيل، ويجوزُ القولُ إن يوحنا الثاني سعى لإعمار الدولة، فاستقدم بعضَ العناصر الجديدة وأَنْشَأَ لهذه الغاية بعض القرى والدساكر، ويستدلُّ من الخريسوبولة التي أصدرها لإنشاء دير البانتوقراتور Pantocrator أنه سعى أيضًا لتخفيف البؤس والشقاء والعَوَز، ولكن همه الأول كان — فيما يظهر — إعلاء شأن الدولة وتدعيم كرامتها.٢

أخبارُهُ في أوروبة

وفي السنة الثالثة من حُكمه عبر البتشناغ الدانوب، وانتشروا في البلقان مخرِّبين نَاهِبِينَ، ولكنهم لم يتمكنوا مِنَ الوقوف في وجه جيشٍ منظم مدرب، فخسروا معركة بيردة وانقطعت أخبارُهُم، وتدخل يوحنا في أُمُور الصرب تَدَخُّلًا فعليًّا فأقام على هؤلاء أمراء موالين له مخلصين للروم كُلَّ الإخلاص.

وعلى الرغم مِنْ أَنَّ زوجته الفسيلسة كانت أميرةً مجريةً، فإن طمع بعض الزعماء المجريين في الوصول إلى ساحل الأدرياتيك عن طريق البلقان والتقارُب بين هؤلاء وبعض الزعماء الصربيين؛ أَوْجَبَ اللجوءَ إلى القوة؛ لإبقاء المجريين ما وراء الدانوب، وتفوق الجيش البيزنطي المدرب على العشائر المجرية، وأنزل بهم خسائرَ جَمَّةً، ولكن هذا كله لم يَحُلَّ المشكلة المجرية حلًّا دائمًا.٣

وكبُر على يوحنا الثاني أَنْ يدفع للبنادقة المال السنوي الذي كان قد أَقَرَّهُ والدُهُ في أثناء محنته، فأعلن البنادقةُ الحرب وأَنْفَذُوا أُسطولهم إلى مداخل الأدرياتيك وإلى بحر إيجه، فاحتلُّوا كورفو ورودوس وخيوس في السنة ١١٢٤، وساموس ولسبوس وأنذروس ومودونة في المورة سنة ١١٢٥، وقيفالونية في السنة ١١٢٦، فاضطر يوحنا إلى أَنْ يَعْتَرِفَ بمعاهدة السنة ١٠٨٢ وأن ينفذ شروطها.

ورأى يوحنا أن يوثق علاقاته مع بعض المدن الإيطالية الأخرى؛ ليحد من نفوذ البنادقة، فأقر لتجار بيزة امتيازاتهم في السنة ١١٣٦، ودخل في تعاوُن مُماثل مع تُجار جنوى في السنة ١١٤٢، ومن هنا ما جاء في تاريخ نيقيتاس من أن مراكبَ إيطالية سارتْ مبسوطةَ القلوع نحو أُمِّ المدن.٤

حروبه في آسية

وكان يحيط بملكه في آسية إمارات تركيةٌ سلجوقيةٌ ثلاث؛ مسعود في قونية وما جاورها، وملك غازي في سيواس وجهاتها، وطغرل أرسلان بن قلج أرسلان في ملاطية وتوابعها، وكان السلطان مسعود يهدد وادي المياندر وسهل دوريلة لإيجاد المراعي اللازمة لجُمُوعه الرحل، أما ملك غازي فإنه كان يطمع في مرافئ البحر الأسود، وكان طغرل لا ينفك عن الإغارة على سواحل أدنة وسائر قيليقية، فهبَّ يوحنا في السنة ١١١٩ إلى قلب آسية الصغرى، إلى حدود سلطنة مسعود، فاحتل لاذقية الأناضول وأنشأ فيها حصنًا منيعًا يسيطر به على وادي المياندر،٥ وفي السنة ١١٢٠ استولى على سوزوبوليس Sozopolis فتيسر له تأمينُ المواصلات مع أضالية في الجنوب،٦ وفي كانون الأول من السنة ١١٢٤ هجم كلٌّ من السلطان مسعود وملك غازي على إمارة طغرل في ملاطية فأكرهاه على الالتجاء إلى يوحنا،٧ ثم دب الشقاق في سلطنة قونية فثار عرب على أخيه مسعود فالتجأ هذا إلى القسطنطينية، ثم تعاون مسعود وغازي على عرب، فأكرهاه على اللجوء إلى القسطنطينية،٨ فعظم أمر ملك غازي واتسع سلطانُهُ واشتدت مطامعُهُ في ساحل البحر الأسود وفي وادي الفُرات، فحاربه الفسيلفس أكثر من مرة بين السنة ١١٣٢ والسنة ١١٣٥ واستولى على قسطموني وعلى جميع شاطئ البحر الأسود، وبعد وفاة ملك غازي في السنة ١١٣٤ صادق الفسيلفس السلطان مسعود واتجهت أنظارُهُ نحو قيليقية،٩ وفي السنة ١١٣٧ حشد يوحنا قوة كبيرة في أضالية، وبعد أن وصل إليها بحرًا قام على رأسها إلى قيليقية فأبعد عنها أميرها لاوون الأرمني وأولاده واحتل مُدُنها وسهولها، وفي السنة التالية ألقي القبض على لاوون وأولاده وأرسلوا مخفورين إلى القسطنطينية.١٠
وكانت مشكلة أنطاكية لا تزال قائمة تنتظر حلًّا لائقًا، وكان قد تُوُفي بوهيموند الأول في إيطالية — كما سبق أن أشرنا — وكان قد قتل في الميدان كلٌّ من تنكريد الصقلي (١١١٢) وبوهيموند الثاني (١١٣٠) وتولى الوصاية على قسطندية ابنة بوهيموند الثاني روجه السلارنوي Roger de Salerne، فارتأى يوحنا الثاني أن يُزوج ابنه عمانوئيل من قسطندية، ووافقت والدة الأميرة الوريثة، ولكن فولك دانجو ملك القدس أزوج الأميرة من ريمون قومس بواتييه، فغضب يوحنا الثاني لكرامته، وكان عماد الدين زنكي حاكم الموصل أحد أتابكة السلاجقة يتأهب للإغارة على دول الإفرنج، فما كاد يستولي على Montferrand في بعرين في تلال النصيرية المطلة في حماه، ويحصر فيها ملك القدس وقومس طرابلس؛ حتى ظهر يوحنا أمام أسوار أنطاكية (آب ١١٣٧)، فحاصرها فسقطت في يده فرفع علمه على قلعتها وأكره أميرها ريمون على يمين الولاء والطاعة،١١ وفي السنة ١١٣٨ زحف على حلب بجموعه وجموع الإفرنج الموالين له فلم يتمكن من دخولها، وحاصر شيزر على العاصي ثلاثة أسابيع (٢٦ نيسان–٢١ أيار) فلم يقوَ عليها،١٢ فعاد إلى أنطاكية ليجابه ثورة دبرها له أمير الرها جوسلان Jocelin، فقام إلى القسطنطينية ممتعضًا.١٣

ولم يتمكنْ يوحنا من العودةِ إلى ميدان القتال في سورية؛ لأن محمد بن ملك غازي أغار على حُدُود الدولة الشرقية، فصَدَّهُ يوحنا في السنة ١١٣٩ ثم تأثره داخل حدوده محاولًا الاستيلاء على حصن قيصرية الجديدة الذي أنشأه محمد فلم يفلح واضطر إلى أن يعود إلى عاصمته في أواخر السنة ١١٤٠.

وتُوُفي محمد وتنازع الحكم بعده أبناؤُهُ وغيرهم، فأَعَدَّ يوحنا حملةً جديدةً قام بها إلى أنطاكية ليؤسس إمارةً لابنه عمانوئيل تشمل قبرص وأضالية وما جاورها حتى أنطاكية،١٤ وفي شتاء السنة ١١٤٢ تقبل خضوع جوسلان Jocelin قومس تل باشر وتقدم نحو أنطاكية واضطر إلى أن يحاصرها، وكتب إلى فولك ملك القدس أنه ينوي زيارة الأماكن المقدسة بجمعه، فأجاب فولك أنه يتعذر عليه إيجاد المؤن اللازمة لجيش صديقه الكريم، فكتب يوحنا ثانيةً مبينًا أنه لا يمكنه القيام إلى القدس دون حرسٍ لائقٍ برتبته ومكانته، ثم عدل عن هذه الزيارة،١٥ وقام من أنطاكية إلى قيليقية لتمضية الشتاء، وفي أثناء إقامته فيها أصابه سهمٌ مسمومٌ في أثناء الصيد، فشعر باقتراب الأجل، فنظر في ولاية العرش، وكان ابناه الأكبران قد تُوُفيا ولم يبقَ من أولاده الذكور الأربعة سوى إسحاق وعمانوئيل، فولى الأصغر عمانوئيل وقام إلى القسطنطينية وتُوُفي فيها في الثامن من نيسان سنة ١١٤٣.١٦

عمانوئيل الأول (١١٤٢–١١٨٠)

وخشي عمانوئيل مطامع عمه إسحاق الذي كان قد تآمر مرارًا على أخيه يوحنا، واضطر إلى أَنْ يَلْجَأَ إلى الأتراك، وكان لا يزال آنئذٍ منفيًّا في هرقلية، وخشي أيضًا أخاه إسحاق الذي كان أكبر منه سنًّا وأحق في الملك، ولكن ولاء الشعب لوالده يوحنا ومقدرة وزيره الأول يوحنا أخوخ١٧ ضمنا له الوصول إلى العرش سالمًا ساكنًا، وكان قد بقي في أضالية حتى منتصف السنة ١١٤٣ فقام إلى القسطنطينية وتقبل التاج من يد البطريرك المسكوني في كنيسة الحكمة الإلهية كالعادة.
وكان عمانوئيل طويلَ القامة قويًّا جميل الطلعة طلق المحيا أسمر اللون فاتن العينين، وكان مُعجبًا بقُوَّتِهِ وفروسيته يستغل كل ظرفٍ لإظهار ما أُوتِيَ منها، فذاع صيتُهُ في الآفاق وبلغت شهرتُهُ الدانيَ والقاصي، ومما يُروى من هذا القبيل أنه تقلد أثقل الأسلحة وأن أمراء الصليبيين سمعوا بذلك فلم يصدقوه، وأُتيح لأمير أنطاكية أن يمثل أمام الفسيلفس الجبار، وشاهد هذا السلاح الصقيل فأراد أن يتثبت من نوعه ووزنه، فطلب إلى الفسيلفس أن يسمح له بحمل رمحه وترسه، وما إن فعل حتى أُعجب بما أُوتي الفسيلفس من قوة وعظمة، فأعاد السلاح مؤكدًا أن صاحبه كان في الواقع جبارًا، واعتذر عن تَطَفُّله.١٨

وكان الفسيلفس الجديد جنديًّا رائعًا مدهشًا يُجيد رُكُوب الخيل ويشاطر جُنُودَهُ التعب وشظف العيش، ويهرع لمعونتهم غيرَ مبالٍ بالتعب أو الخطر، ومما جاء من هذا القبيل أنه رمى بنفسه مرةً في نهر الدانوب لينقذَ مركبًا أشرف على الخطر وفيه عدد من الجنود، وقد جاء أيضًا أنه كان يهرع إلى حصانه أحيانًا فيمتطيه ويسرع به لمطاردة العدو قبل أن يستكمل سلاحه، بَيْدَ أن توقُّد عاطفته الذي ألهب فيه هذا النوع من الشجاعة غضى من قيمته كقائدٍ عسكري، فقد كانت الصعوبات في ميدان القتال توهن عزائمه وتثبط همته فتؤدي به إلى التضعضع والتراجُع.

وأُعجب عمانوئيل بالفرسان الصليبيين وبصلابتهم وبأسهم، فجاراهم في عاداتهم وتقاليدهم الحربية، ووكل إلى بعضهم إدارة شئون الدولة، وأدخل غيرهم في الجيش وقلدهم مناصب هامة، وأكبروا هم فيه مواهبه الحربية ومقدرته الجسدية وثقته بهم، وتدرب هو على أساليبهم الحربية، وراقتْه مبارياتُهُم في الفروسية، فأقامها كما كانوا يقيمونها، وباراهم فيها في أنطاكية، فقلب الكثيرين منهم عن سروج خيولهم.١٩
وخالف عمانوئيل أباه يوحنا في بذخه ومرحه، وأصبح البلاط في عصره كثير الحفلات زاهيًا رائعًا، تؤمه الظريفات الجميلات من جميع أنحاء الدولة، وتكثر فيه المغازلات والمغامرات، وكان الفسيلفس يحب الجمال والأناقة والرشاقة فعني بهن بغير حساب، وضاقت نفسه بزوجته برتة الألمانية التي لم تتزين ولم تتدلَّل ولم تتغنج، فمال نحو ثيودورة إحدى قريباته، ثم تزوج من مريم الأنطاكية الإفرنجية التي فاقت أفروديتة «بعينيها الساحرتين وشعرها الذهبي وابتسامتها العذبة وجسمها الفتان»،٢٠ وألَّم بالفسيلفس مرضٌ، واشتدت وطأته عليه وفقد الأطباء كل أمل في شفائه، فطلب إليه وزراؤُهُ تعيينَ خلفه وأشار عليه البطريرك المسكوني بالندامة والصلاة، ولكن عمانوئيل أكد لهؤلاء جميعًا أن المنجمين كشفوا له بخته وقالوا إنه سيعيش أربع عشرة سنة وأنه سيعود إلى نشاطه وسابق حبه ومغامراته!٢١
وتميز عمانوئيل بين زملائه في الشرق والغرب معًا بعلمه وأدبه وسعة اطلاعه، فإنه كان يقرأ كثيرًا ويكتب جيدًا، ويَجِدُ لذةً خاصةً في الفلسفة، فيجادل فيها بنجاح، وكان مولعًا بالطب، يجالس رجاله ويباحثهم فيه ويمارسه، فهو الذي عالج كونراد الثالث في أثناء الحرب الصليبية الثانية، وهو الذي قدم الإسعاف الأولي لبودوان ملك القدس عندما وقع عن ظهر حصانه في أثناء الصيد فكُسر ذراعُهُ، وكان موقفُهُ من الدين وعلومه موقف كل فسيلفس أرثوذكسي قبله وبعده؛ فإنه أظهر رغبة في بحث المشاكل العقائدية، وقام بجميع الفروض الطقسية، وأنشأ الكنائس والأديرة، واهتم بنوعٍ خاصٍّ بكنيسة دير البانتوقراطور الجميلة وأحب أن يدفن فيها هو وسائر أفراد أسرته.٢٢

واتسعت آفاقُ عمانوئيل السياسية وطمع في إيطالية وصقلية وفي إمارات الشرق اللاتينية، فكثر عددُ دُعَاتِهِ وجواسيسه، وتَدَخَّلَ في أُمور وأُمور فأصبحت القسطنطينية مركزًا هامًّا جدًّا للسياسة الدولية في القرن الثاني عشر، وأثارتْ مطامعُهُ هذه مخاوفَ شديدةً في بلاط فريديريكس بارباروسة وابنه هنريكوس السادس، كما أيقظت رُوحَ العداء بين الروم والصليبيين، ولم يرضَ الروم عن عطفه على الغربيين وإدخالهم في ملاك الإدارة وتقليدهم المناصب الهامة، فقاموا — عند وفاته — بثورة واسعة النطاق أدت إلى تواري زوجته مريم اللاتينية وابنه وإلى ذبح الإيطاليين في العاصمة.

مشكلة أنطاكية

وانتهز ريمون دي بواتييه أمير أنطاكية فرصة وفاة يوحنا الثاني، فاحتل بعض الأماكن داخل حدود الروم في سورية الشمالية وأغار على قيليقية، فاضطر الفسيلفس عمانوئيل أن ينفذ حملة عسكرية إلى أنطاكية نفسها، واضطر ريمون — بدوره — أن يقوم بنفسه إلى القسطنطينية ليطلبَ العفوَ عَمَّا صَدَرَ عنه كما اضطر أن يزور قبر يوحنا الثاني ويركع أمامه؛ تكفيرًا وتعظيمًا (١١٤٥).٢٣

سلطنة قونية

وضعفت إمارة ملك غازي في شرقي آسية الصُّغرى، وطمع سلطان قونية مسعود فيها، فالتجأ أميرُها إلى الفسيلفس طالبًا المعونة، فقام عمانوئيل في السنة ١١٤٦ إلى قونية مخربًا مدمرًا، فأكره سلطانها على شُرُوط معينة مرضية، وعاد إلى القسطنطينية يتدبر أمر الحملة الصليبية الثانية التي كانت قد بدأتْ تتحرك متجهةً نحو الشرق.٢٤

الحملة الصليبية الثانية (١١٤٧–١١٤٩)

وهال الغربَ سقوطُ الرها في يد عماد الدين زنكي في السنة ١١٤٤ وهبَّ القديس برناردوس يطوف أوروبة الغربية مستنهضًا مستثيرًا الهمم، فلَبَّى النداء ملوكُ أوروبة هذه المرة لا أمراؤها كما في الحملة الأولى، وتزعَّم القيادة كونراد الثالث إمبراطور ألمانية (١١٣٨–١١٥٢)، وكتب البابا أوجانيوس الثالث إلى عمانوئيل يدعوه إلى الاشتراك في الجهاد، وأرسل لويس السابع ملك فرنسة وفدًا خاصًّا لهذه الغاية نفسها، فأجاب عمانوئيل مُرَحِّبًا واعدًا بتقديم المؤن والمراكب والمعونة العسكرية إذا سمحت الظروفُ بذلك، وكَثُرَ القيلُ والقالُ في عاصمة الروم حول عدد المجاهدين، وأجمعت الآراءُ على أَنَّ الحملة الصليبية الثانية ستشتمل على مائة وأربعين ألف فارس وعددٍ لا يُحصى من المُشاة وأن مجموع القوى قد يقارب المليون، واضطرب عمانوئيل في قرارة نفسه وحسب ألف حساب، ولم يخشَ طمع الألمان؛ لأن والده كان قد وطَّد العلاقات معهم ووَقَّعَ تحالفًا أصبح ركن سياسة القسطنطينية في علاقاتها الدولية، ولأنه هو كان قد تزوج في السنة ١١٤٦ من أميرةٍ ألمانيةٍ تَمُتُّ إلى الإمبراطور بصلة النسب، ولكنه خشي جموع الفرنسيس؛ لأن لويس السابع كان يعطف كثيرًا على النورمنديين الإيطاليين أعداء الروم، ولأن أمراء أنطاكية والقدس كانوا فرنسويين.

ووصل الألمانُ أولًا وكانوا قد نهبوا ذات اليمين وذات الشمال في أثناء مرورهم في أراضي الروم، فطلب عمانوئيل إلى كونراد أن يعبر جنودُهُ الدردنيل لا البوسفور في طريقهم إلى آسية، ولكن كونراد رفض وتابع سيره نحو القسطنطينية، وحَطَّتْ رحالُ جُنُوده خارجَ أسوارها وسلبوا ونهبوا وأَحْرَقُوا، ولم يرضَ كونراد عن التقاليد المُتَّبَعَة في التشرفيات في القصر المقدس، فساءَت العلاقات بين الكبيرَين، ولكن عمانوئيل تمكن من إقناع ضيفه الكبير بوجوب الانتقال إلى آسية ومتابعة السير نحو الأراضي المقدسة،٢٥ وبعد هذا بقليل في خريف السنة ١١٤٧ أطلَّ لويس السابع بجموعه فحلَّ ضيفًا مكرمًا على الفسيلفس، واشترك الضيف والمضيف في عيد القديس دنيس في التاسع من تشرين الأول، وساد الحُبُّ والتفاهُمُ الأحاديثَ والعلاقاتِ كلها، ثم طلب عمانوئيل إلى لويس السابع وأمرائه وأشرافه أن يُقسموا يمين الطاعة والولاء كما فعل أمراءُ الحملة الأولى، لم يرضَ الملك الإفرنسي بذلك وشاركه في الرفض جميعُ حاشيته من كبار الرجال، وارتأى أحدُ الأساقفة الإفرنسيين أن يصار إلى احتلال القسطنطينية، ولكن لويس أبى مذكرًا الأسقف وغيره بالنذر الصليبي.٢٦

واصطدم كونراد بالأتراك السلاجقة عند دوريلة ولم يتمكنْ من محابهتهم، فجعل عمانوئيل انكساره نصرًا، وما إن سمع الإفرنسيون بهذا «النصر» حتى هَمُّوا بالرحيل؛ لِيَتَسَنَّى لهمُ الاشتراك بالنصر، وعبروا البوسفور واتجهوا جنوبًا حتى أضالية فأنهكهم التعب وقَلَّ انتظامُهُم، فقام لويس على رأس قسم من جموعه إلى الأراضي المقدسة على متن مراكب رومية واتجه الباقون برًّا بدون انتظامٍ، وكان عماد الدين زنكي قد خَرَّ صريعًا بضربةِ خنجر في السنة ١١٤٦ فتَمَكَّنَ الأمير جوسلان الصليبي من الاستيلاء على الرها، ولكنه لم يتمكن من صد غارات نور الدين على أراضيه.

فلما وصل ملوك الفرنجة إلى سورية الشمالية رأى ملك القدس بودوان الثالث أَنْ يتجه الملوك المجاهدون نحو دمشق، فوصلوا إليها في تموز السنة ١١٤٨ وأحاطوا بها وخرَّبوا غوطتها، ولكنهم لم يتمكنوا من الاستيلاء على المدينة، وأخفقت الحملةُ الصليبية الثانية وعزا أمراؤها هذا الإخفاق إلى عمانوئيل وحكومته، وعَادوا إلى الغرب يعدون العدة لحملة ثالثة توجه ضد الروم أنفسهم.٢٧

الحرب النورمندية (١١٤٧–١١٥٨)

وكان روجه الثاني قد خلف روبر غيسكار في صقلية وجنوبي إيطالية، وكان يحلم منذ تتويجه في بالرمو في السنة ١١٣٠ بتوسُّع كبير عبر الأدرياتيك، وما إن ابتلي عمانوئيل بمشاكل الحملة الصليبية الثانية في صيف السنة ١١٤٧ حتى أعلن روجه الحرب عليه واحتل كروفو، ثم قام منها إلى المورة وما فتئ حتى احتل كورونثوس، وكثرت غنائمُهُ ونقل فضةً وذهبًا كثيرًا، ولكن أفضل ما وقعت يدُهُ عليه صناعة الحرير التي كانت لا تزال سرًّا من الأسرار خارج لبنان والمورة، فنقل إلى صقلية عددًا كبيرًا من سُكان مناطق التوت ودود الحرير إلى صقلية، فأنهى بذلك احتكارًا كبيرًا كانت القسطنطينية قد تمتعتْ به زمنًا طويلًا.

ولم يتمكن عمانوئيل مِنْ صدِّ روجه فور نزوله في كورفو والمورة؛ لانشغاله بمشاكل الحملة الصليبية الثانية، وأول ما فعل أنه اتصل بالبنادقة، وعقد معهم تحالُفًا جديدًا ضد روجه، وذلك في الخريف السنة ١١٤٧، ثم أعقبه بتحالُف آخر في آذار السنة التالية، وقضى هذا التحالف بأن يشترك البنادقةُ في صَدِّ روجه عن مطامعه مقابل امتيازاتٍ تجاريةٍ جديدةٍ يمنحهم إياها الفسيلفس، وأهمُّ هذه الامتيازات فتح مرافئ قبرص ورودس لتجارتهم وتوسيع منطقة إقامتهم في عاصمة الدولة،٢٨ وفي أواخر السنة ١١٤٨ ضرب الروم والبنادقة الحصار على كورفو واستولَوا عليها في صيف السنة ١١٤٩، وأنزل أُسطول الروم بأُسطول النورمنديين هزيمةً كبيرةً عند رأس مالي، فنزعت نفس عمانوئيل إلى صقلية وإيطالية الجنوبية لا بل إلى جميع إيطالية، وتمكن الفسيلفس من احتلال أنكونة في السنة ١١٥١، فهبَّ روجه يفتش عن حلفاء يعاونونه في الدفاع عن مُلكه، فلقي استعدادًا كبيرًا لذلك لدى حبر رومة أوجانيوس الثالث، وترحيبًا حارًّا في عاصمة الفرنسيس، وأثار الصربَ على الروم، وتراءى لبعض رجال السياسة أن الحرب الرومية النورمندية ستُصبح حربًا أوروبيةً عامةً؛ لأن الإمبراطور الغربي كونراد الثالث كان لا يزال يؤيد الروم تأييدًا شديدًا.

وتُوُفي كونراد الثالث في السنة ١١٥٢، وتولى العرشَ بعده فريديريكوس الأول بارباروسه (١١٥٢–١١٩٠)، وكان يطمع في الاستيلاء على إيطالية فلم يندفعْ في تأييد الروم اندفاعَ سلفه كونراد الثالث، بل تقرب من البابا أوجانيوس الثالثا فتفاهما، ولم ترضَ البندقيةُ عن احتلال أنكونة ورأت في مطامع عمانوئيل في إيطالية خطرًا على مصالحها في الأدرياتيك ووَقَّعَت صُلْحًا منفردًا مع النورمنديين في السنة ١١٥٤، وتُوُفي روجه في هذه السنة نفسها وخَلَفَه على العرش وليم الأول، وخشي وليم مُنَاوَأَةَ كبار النورمنديين له فأرسل يفاوض عمانوئيل في الصلح، فلم يقبل الفسيلفس ولم يعترف بالمَلِك الجديد، ثم وَقَّع حلفًا مع جنوى في خريف السنة ١١٥٥ وأنزل جيشًا في إيطالية الجنوبية واستولى على باري وتراني وحاصر برنديزي، ثم غُلِبَ على أمره فيها ووَقَعَ قائد جيوشه في الأسر.

وتغلب النورمنديون عليه في موقعة بحرية في بحر إيجه بالقرب من شبه جزيرة إفوبية، وخشي البابا أدريانوس الرابع مطامعَ فريديريكوس الأول في إيطالية، فتدخل في النزاع الناشب بين الروم والنورمنديين وألمح بوجوب إنهاء الحرب في إيطالية، وكان الفسيلفس يرغب في استمالة البابا ويخشى في الوقت ذاته تَطَوُّر الموقف في البلقان وفي سورية الشمالية، فقبل بالصلح ووَقَّعَ مع وليم الأول معاهدةً لهذه الغاية في السنة ١١٥٨.

ولا نعلم تفاصيل هذه المعاهدة، وجُلُّ ما نعلمه عنها أنها شملتْ تحالُفًا بين الروم والنورمنديين لمدة ثلاثين عامًا، ولعل هذا التحالف كان موجهًا ضد فريديريكوس ومطامعه في إيطالية.

الفسيلفس سيد سورية وفلسطين ولبنان

وفشل الصليبيون في حملتهم الثانية، وقتل ريمون أمير أنطاكية في الحرب ضد المسلمين في السنة ١١٤٩ فشمل الفسيلفس أرملته قسطنسة بعطفه وحمايته، وعلى الرغم من عدم انصياعها له في أمر زواجها وإقدامها على التزوُّج من رينو دي شاتيون؛ فإنه ظل يعتبر نفسه سيد أنطاكية وتوابعها، وفي السنة ١١٥٠ اندثرت قومسية الرها، فشمل الفسيلفس أميرتها بعطفه وعرض عليها ابتياع حقوقها فيها،٢٩ وفي السنة ١١٥٢ ثار طوروس بن لاوون الأرمني على عمانوئيل، واعتصم بتلال قيليقية، واستولى على طرسوس وغيرها، فاستعان عمانوئيل برينو أمير أنطاكية ووعده بمكافأة مالية جزيلة، فجرد رينو حملةً على طوروس وكاد يضايقه، ولكنه شعر أن مكافأة الروم قد تكون غير كافية فانضم إلى طوروس وتعاون معه في إغارة كبيرة على قبرص (١١٥٦)،٣٠ فاستشاط الفسيلفس غيظًا، وجاءت معاهدة السنة ١١٥٨ تنهي الحرب في إيطالية فنهض عمانوئيل بنفسه إلى قيليقية فأخضع طوروس ثم أنفذ رجاله إلى أنطاكية، فخشي رينو عاقبة خيانته والتجأ إلى سيده بودوان الثالث ملك القدس طالبًا توسُّطه في الأمر، ولكن بودوان كان قد ساءه تصرف رينو وكان قد صاهر الفسيلفس فلم يجب سؤله، فحار رينو في أمره، ولما لم يجد من يعينه أمَّ مصيصة مقر عمانوئيل في قيليقية أعزل، عاري القدمين، حاسر الرأس، ممسكًا بسيفه من طرف نصلته، وارتمى عند موطئ قدمي الفسيلفس، وما فتئ كذلك حتى أمره عمانوئيل بالنهوض، فنهض واعترف بسيادة الفسيلفس، ثم رضي بتسليم قلعة أنطاكية وبعودة البطريرك الأرثوذكسي إلى مقره فيها،٣١ ووفد على الفسيلفس في أنطاكية ملك القدس بودوان الثالث فاعترف بسيادة عمانوئيل أيضًا ووعد بتقديم المساعدة العسكرية التي يتطلبها سيده منه،٣٢ وقام الفسيلفس إلى أنطاكية فدخلها ممتطيًا حصانه يواكبه رينو وغيره من أمراء الصليبيين مشيًا على الأقدام، ثم دخلها بعده ملك القدس ممتطيًا جواده ولكن دون أَيَّةِ شارة من شارات الملك والسيادة، وفي أثناء إقامته في أنطاكية فاوض عمانوئيل نور الدين أمير حلب في أمر الأسرى الإفرنج فأخلى سبيل ستة آلاف منهم، وتعهد نور الدين بتأمين سير الحجاج داخل منطقته،٣٣ وعاد عمانوئيل في السنة ١١٥٩ مكللًا بالظفر والمجد.

وظلت علاقاتُ الروم مع الصليبيين حسنة طيبة حتى نهاية عهد عمانوئيل، وظل هو محافظًا على احترامه لأمراء الفرنجة مكبرًا فيهم مُثُلَهم العليا في الفروسية طوال أيامه.

وبعد وفاة زوجته الأولى برتة الألمانية اتجه نحو قصور هؤلاء الأمراء يفتش عن فسيلسة جديدة، وكاد يجدها في طرابلس في شخص شقيقة أميرها الصليبي، ثم آثر الاقتران بمريم ابنة قسطنسة وريثة أنطاكية فتزوج منها في السنة ١١٦١،٣٤ وفي السنة ١١٦٤ وقع بوهيموند الثالث في يد المسلمين أسيرًا فتدخل عمانوئيل وأطلق سراحه، فقام هذا الأميرُ الصليبي إلى القسطنطينية يشكر للفسيلفس صنيعَه وتزوج من أميرة رومية، وفي السنة ١١٦٢ تُوُفي بردوان الثالث ملك القدس فتسنم العرشَ بعده أخوه أموري، فتزوج هذا أيضًا من أميرةٍ رومية واعترف بسيادة عمانوئيل، وأنفق الفسيلفس على كنائس الأماكن المقدسة وآثارها واعترف الملك أَموري بذلك وأقام النقوش؛ تخليدًا لاهتمام سيده، ولا تزال هُنالك كتابةٌ باليونانية تحفظ ذكر عمانوئيل في كنيسة بيت لحم حتى يومنا هذا، وقد جاء في مطلعها ما يدل على سيادة الفسيلفس، فإن هذا النقش التاريخي يبدأ بالعبارة: «في عهد عمانوئيل، ولما كان أموري ملك أورشيلم.»٣٥ وتعاون الاثنان في حملة على دمياط في السنتين ١١٦٧ و١١٦٩ ولكن دون جَدْوَى، ثم تحالفا لهذه الغاية،٣٦ ولكن وجه صلاح الدين كان بدأ يتألق في سماء مصر؛ إذ أصبح وزير الخليفة الفاطمي في السنة ١١٦٩، ثم خلفه على العرش في السنة ١١٧١، ولما تُوُفي نور الدين في السنة ١١٧٤ جمع صلاح الدين في شخصه إمارة الموصل ومصر، وعلى الرغم من وُصُول أسطولٍ روميٍّ إلى مياه عكة في السنة ١١٧٧ فإن موقعة عسقلان كانت آخر نصر أحرزه الصليبيون على صلاح الدين.٣٧

المشكلة الإيطالية

وعظم سلطان هذا الفسيلفس في الشرق، وكاد أن يكون صاحبَ القول الفصل في جميع أرجائه، ولكن مطامعه في أوروبة أضاعت عليه النفوذَ والعز والمجد، وأتاحت لصلاح الدين فرصةً عسكريةً ثمينةً، ظهرت نتائجُها بعد وفاة عمانوئيل بمدة وجيزة.

وطمع عمانوئيل في إيطالية ونزعت نفسه إلى مجد الأباطرة المؤسسين واعتبر كارلوس الكبير وخلفاءَه في الغرب مغتصبين،٣٨ فنشب نزاع بين عمانوئيل وبين فريديريكوس دام عشرين عامًا (١١٥٨–١١٧٨)، ففي السنة ١١٥٥ فاتح عمانوئيل البابا أدريانوس الرابع بأمر اتحاد الكنيستين فوَطَّدَ بذلك علاقتَه مع رومة، وأصبح الفسيلفس والبابا حليفَين متحابَّين ضد فريديريكوس الإمبراطور.

وتُوُفي أدريانوس الرابع في السنة ١١٥٩، فرقي السدة الباباوية ألكسندروس الثالث، فخشي فريديريكوس متابعةَ التعاوُن بين رومة والقسطنطينية، فأقام رأسًا للكنيسة مناوئًا: فيكتوريوس الرابع، فانقسمتْ كنائسُ أُوروبة الغربية شطرين بين هذين الرأسين، ووقفت كنيسةُ فرنسة وإنكلترة والمجر والبندقية إلى جانب ألكسندروس الثالث.

وراسل هذا الحبر عمانوئيل ووافقه — فيما يظهر — في نظرية الاغتصاب، فأكرم الفسيلفس الوفد الباباوي ووعده خيرًا، وفي السنة ١١٦٣ أرسل عمانوئيل وفدًا مفاوضًا إلى عاصمة الفرنسيس ولكن لويس السابع آثر التريُّث، ولم تظهر البندقية اهتمامًا مشجعًا ولكن عمانوئيل لم ييأسْ؛ فإنه عندما نزل فريديريكوس إلى إيطالية في السنة ١١٦٦ واضطر ألكسندورس الثالث إلى أَنْ يخرج مِن رومة (١١٦٧) فاوض عمانوئيل هذا البابا في أَمْرِ التاج الغربيِّ وأَظْهَرَ استعدادًا كبيرًا لإزالة الحواجز التي تفصل بين فرعي الكنيسة الأُم في حقل العقيدة شرط أن يضع هذا البابا التاج الغربي على رأس الفسيلفس، ورضي البابا بذلك ولكن الإكليروس الشرقي عارض معارضةً شديدةً فتَرَدَّدَ البابا ثم امتنع.٣٩

عمانوئيل والكنيسة

وفي السنة ١١٥١ استعفى البطريرك المسكوني نيقولاووس الرابع، فخلفه البطريرك ثيوذيتوس، ثم استعفى هذا أيضًا في السنة ١١٥٣ فانتخب بعده نيوفيطوس الأول، وتوفي هذا في السنة ١١٥٤، فرقي السدة المسكونية البطريرك قسطنطين الرابع الملقب بليخوذاس، وتُوُفي قسطنطين الرابع في السنة ١١٥٦ فخلفه البطريرك لوقا، وتُوُفي هذا في السنة ١١٦٩ فخلفه «مقدام الفلاسفة» البطريرك ميخائيل الثالث، ثم جاء بعده البطريرك خاريطون في السنة ١١٧٧، فالبطريرك ثيوذوسيوس الثاني سنة ١١٧٨.

وكان لعمانوئيل مواقفُ تَشهد له باندفاعه في سبيل العقيدة الأرثوذكسية؛ فإنه ضايق البوليسيين كُلَّ المضايقة وأمر بمحاكمة زعيمهم نيفون الراهب (١١٤٧)، ثم اهتم لشُذُوذ ديمتريوس لامبه (١١٦٦) وعاقب الأساقفة الثلاثة الذين كانوا لا يزالون يقولون قول يوحنا الإيطالي (١١٤٦–١١٥٧) وحاول محاولة جِدِّيَّةً للتوفيق بين كنيستَي الأرمن والسريان من الجهة الواحدة والكنيسة الأرثوذكسية من الجهة الأُخرى، ورأى قسوةً جارحةً في النص الذي كان يُفرض على المسلمين لقبولهم في الكنيسة فأمر بتعديله ضنًّا بحسن العلاقة بين المسلمين والنصارى.٤٠

سلطنة قونية

وكان يوحنا الثاني قد استفاد من انقسام الأتراك السلاجقة ومن مناظراتهم ومشاحناتهم، وكان هذا الانقسامُ قد دفع مسعودًا سلطان قونية إلى الالتجاء إلى القسطنطينية، وبعد السنة ١١٤٢ استفاد مسعود نفسُهُ من الانقسامات التي نشبت في إمارة سيواس، فاضطر عمانوئيل إلى أن يقوم بنفسه إلى قونية في حملةٍ حربيةٍ سنة ١١٤٦، وفَرَّ مسعود من وجهه واتجه شرقًا يستنفرُ عشائر التركمان، فخشي عمانوئيل إطالة الحرب، وعلم بتجمُّع الصليبيين في حملةٍ ثانيةٍ فعاد إلى القسطنطينية قبل أن يستولي على قونية، وأراد عمانوئيل أن يدفع الصليبيين إلى إخضاع قونية وصاحبها، ولكن المشادة التي نشأتْ بينه بين كونراد الثاني جعلتْه يستعين بقونية على الصليبيين (كانون الثاني ١١٤٨).

واستتب الأمر بعد مسعود لابنه قلج أرسلان الثاني (١١٥٥–١١٩٢)، وهو أول سلجوقي أناضولي اتخذ لنفسه لقب سلطان في المسكوكات. والمراجعُ العربية المعاصرة تحتفظُ بهذا اللقب لأمراء السلاجقة الكبار في فارس ولا تَذْكُرُ لأمراء الأناضول سوى لقب ملك، وإذا أَخَذْنَا بشهادة المؤرخين النصارى كان قلج أرسلان الأول أولَ سلطان سلجوقيٍّ في الأناضول.٤١
وعاون عمانوئيل أمراء سيواس على قلج أرسلان الثاني، وحرَّك ضده نور الدين أمير حلب (١١٥٩-١١٦٠) فاضطر سلطان قونية في السنة ١١٦١ إلى أن يرتمي في حضن عمانوئيل، واعدًا بتقديم المعونة العسكرية كلما طلبها الفسيلفس، وبمحاربة أعدائه، وبإعادة المُدُن اليونانية التي كانت قد وقعتْ في يد المسلمين، وأمَّ قلج أرسلان القسطنطينية في السنة ١١٦٢، فاستُقبل فيها بحفاوةٍ فأَكَّدَ ولاءَه وإخلاصه للفسيلفس، وجعل رجالَ البلاط يعتقدون أَنَّ قونية أصبحتْ في عهده محميةً من محميات الروم.٤٢

وعاد قلج أرسلان إلى قونية يُوطِّد دعائمَ مُلكه، وينتظر انحلال الحِلْف الذي كان عمانوئيل قد أحاطه به. وبين السنة ١١٧٠ والسنة ١٧٧٧ تمكن قلج أرسلان بشَتَّى الوسائل من القضاء على إمارة سيواس وضم معظهما إلى سلطنته، واضطر صاحبها ذو النون إلى أن يَلْجَأَ بدوره إلى القسطنطينية. وأحس عمانوئيل بقِصَر نظره وتقصيره في حقل سياسة الأناضول؛ إذ إنه أتاح لصاحب قونية أن يُوَحِّدَ الأتراك السلاجقة بعد أن تفرَّقوا وتخاصموا، وبدأتْ عصاباتُ الترك تهاجم تُخُومَ الروم، ولا سيما وادي الميندر فتُنزل بأهل الريف خساراتٍ متتاليةً، وطالب عمانوئيل سلطان قونية بذلك فأجاب متأسفًا مؤكدًا أَنْ لا علم له بما جرى!

فعمد عمانوئيل إلى القوة، وفي ربيع السنة ١١٧٦ أنفذ أحد كبار القادة بثلاثين ألفًا إلى شرقي الأناضول إلى قيصرية الجديدة؛ لإعادة ذي النون إلى ملكه، وقام هو بمعظم الجيش إلى قونية ليحطمها تحطيمًا، وجاءها من الغرب متبعًا أعالي نهر الميندر، واستصغر مقدرة خصمه ولم يتخذ الاحتياطات العسكرية اللازمة من حيث الاستكشاف وغيره، فدخل ممرًا جبليًّا ضيقًا بعد حصن ميريو كيفالون Myriokephalon، وما إن تم دخول الجيش بأكمله في هذا المضيق حتى انقض الأتراكُ مِنْ أعالي التلال على مؤخرته فأبادوها، ولم تتمكن طلائعُ الجيش من إعانة المؤخرة لازدحام الطريق الضيق بالمركبات الحربية وببغال النقل، ولم يكن عمانوئيل ممن يصبر عند الشدة فضاقت حيلتُهُ وضاق خُلُقُه أيضًا وصاح الفرار الفرار، وطلب النجاة بنفسه فقُدِّر له ذلك فاخترق صفوف الأعداء وخرج مثقَّب الترس، مكسَّر الخوذة، لا يطن في أذنه سوى صوت سنابك خيل الأتراك،٤٣ وصباح اليوم التالي فوجئ عمانوئيل بالمفاوضة بصلح دائم بين الدولتين وبشروط مشرِّفة، فاشترط قلج أرسلان الثاني لقاء تراجع منظم وعودة سالمة إلى الحدود أن يرضى الفسيلفس بدك حصني دوريلة وسوبليون.٤٤

ومما جاء في تاريخ نيقيتاس أن عمانوئيل لم يضحك بعد ذاك أبدًا، وأنه عاش أربع سنوات، وأنه إذ رأى قواه تنحط لبس ثوب الرهبنة الخشن إلى أن وافته مَنِيَّتُهُ سنة ١١٨٠، وقبل وفاته خطب لابنه أليكسيوس وهو في الثانية عشرة من عمره آغني ابنة لويس السابع ملك فرنسة وهي ابنة ثماني سنين، وأحضرها لتتربى في قصره وسماها حنة، ولم يكن له من امرأته الأولى سوى بنتٌ واحدةٌ اسمها مريم أزوجها سنة ١١٧٨.

وصاية مريم الأنطاكية (أيلول ١١٨٠/نيسان ١١٨٢)

وبعد وفاة عمانوئيل نفَّذت زوجته مريم الأنطاكية الفرنسية وصيته فتردَّت بثوبِ الرهبنة وتولَّت الوصايةَ على ابنها القاصر، وطلبت إلى أليكسيوس ابن أخي زوجها أن يُساعدها في الحكم؛ نظرًا لِمَا كان قد عُرِفَ عنه مِنْ عطفٍ على الإفرنج وتأييدٍ لسياسة التعاوُن معهم، وطمعتْ مريمُ أُخت الفسيلفس الصغير وزوجها رينه دي مونتي فرات Renier de Montferrat في الحكم، ولم يرضَ جمهور من الأشراف ومن رجال القصر عن إدارة أليكسيوس المساعد، واتهموا الفسيلسة الجميلة بأشياء وأشياء، فتآمروا جميعًا على نزع السلطة من يد الفسيلسة الوالدة، واندلعتْ ثورة داخلية في الثاني من أيار سنة ١١٨١، ولجأت الفسيلسة إلى كنيسة الحكمة الإلهية، وتَدَخَّلَ البطريرك المسكوني ثيودوسيوس وصالح الحزبين المتنازعين ووَبَّخَ مريمَ الفسيلسة وأليكسيوس مساعدها على سُلُوكهما، فاتهمه أليكسيوس بالخيانة والاشتراك مع الثائرين ونفاه، ولكنه اضطر إلى أن يُرجعه؛ نظرًا لِتَعَلُّق الشعب به.٤٥

أندرونيكوس الأول (١١٨٢–١١٨٥)

وكان لعمانوئيل الأول ابن عمٍّ اسمُهُ أندرونيكوس، وكان هذا الأميرُ طويلَ القامة جميلَ الطلعة قويًّا، وقد اشتهر بأنه فارسٌ مجربٌ مغوار، وكان أيضًا ذكيًّا معلِّمًا فصيحًا، يجيد المناظرة، ويحسن الدفاع عن جميع وجهات النظر في المشاكل القائمة، فعُرف «بالحرباء»، وقد عرف بكثرة المغامرات، وبالإسراف في العشق والفسق. وكان قد طمع في المُلك وتآمر على سلامة ابن عمه الفسيلفس، فاضطر إلى أن يفر من وجهه وأن يلتجئ إلى حماية أحد أمراء الروس، ثم عاد إلى القسطنطينية فأودع السجن في القصر، ثم فرَّ فجاء أنطاكية والقدس فكانت له مغامرات مع ثيودورة أرملة بودوان الثالث، ولم يجرؤ أحدٌ في الشرق على إيوائه وحمايته، فعاد إلى القسطنطينية تائبًا متراميًا على قدمَي الفسيلفس، فنفاه إلى آينايون في البحر الأسود، وظلَّ يحلم بالحكم على الرغم من تَقَدُّمه في السن.٤٦

وإذ رأى أندرونيكوس الأمور على ما كانت عليه في القسطنطينية بعد وفاة عمانوئيل؛ أعلن عصيانه فالتفَّ حوله الجيشُ من المحاربين القدماء، وقام بهم إلى العاصمة، فطلب طرد مريم الفسيلسة وعشيقها وبقاء المُلك في يد ابنها أليكسيوس، فساعده الشعبُ على ذلك وقبضوا على أليكسيوس المساعد وأرسلوه إلى أندرونيكوس فسمل عينيه، وأَيَّدَ الإفرنجُ الساكنون في العاصمة مريم الفسيلسة فأعلنها أندرونيكوس حربًا قوميةً دينيةً باسم الروم والأرثوذكسية وأنفذ قوة برية بحرية فقتل معظم الإفرنج في العاصمة ونهب بيوتهم ومتاجرهم وأحرقها، ودخل العاصمة وسجن الفسيلسة مريم وصلى على ضريح عمانوئيل.

ثم أمر بتتويج أليكسيوس الصغير وشاركه في الملك، وادعى على مريم بأشياء وأشياء، وسعى بالحكم عليها بالموت، وأجبر ابنها الصبي أن يُوَقِّعَ على الحكم بشنق والدته، ثم سعى في أوساط القصر بألا يكون فسيلفسان في وقت واحد، وشنق أليكسيوس الصغير وتزوج من خطيبته حنة ابنة لويس السابع، وقتل كثيرين من أنصار مريم وابنها وسمل عيون كثيرين منهم، ثم كلف البطريرك المسكوني بإقامة إكليل غير مسموح به، فأجابه البطريرك: «كنت أسمع عنك وأما الآن فقد رأيتك بعيني»، واستعفى.٤٧

وازداد أندرونيكوس طغيانًا وتَجَبُّرًا، ففَرَّ مِنْ وجهه عددٌ كبيرٌ من كبار رجال العاصمة والتجئوا إلى الأمراء الصليبيين في أنطاكية وغيرها ولا سيما القدس، وقام بعضهم إلى صقلية وإيطالية والبعض الآخر إلى قونية، وكان أندرونيكوس قد نفى أليكسيوس كومنينوس آخر إلى بلاد روسية، فهرب منها واحتمى بملك صقلية وليم الثاني وطلب مساعدته ضد أندرونيكوس، فأجاب وليم الثاني التماسَهُ وجرَّد حملةً في السنة ١١٨٥ واستولى على بعض الجُزُر وعلى قلعة ديراشيون.

ثم قام إلى ثيسالونيكية فدخلها بعد حصار قصير فقتل ونهب وأحرق، ودخل رجالُهُ الكنائس في وقت الخدمة بسيوفهم يشوشون ويطئون حيث لا يجوز، ويكسرون ويسلبون، وفي أواسط أيلول زحفوا إلى القسطنطينية، وكان أندرونيكوس في جزائر الأمراء يَتَنَعَّمُ ويتلذذ، فقام إسحاق أنجليوس وضم الشعب إليه واستولى على القصر المقدس، ورجع أندرونيكوس إلى العاصمة فدفع إسحاق به إلى الجُمهور ليميته كما يشاء، وهبَّ إسحاق يسعى في قتال النورمنديين.٤٨

العاصمة في القرن الثاني عشر

وبقيت القسطنطينية بمجموعها كما كانت في القرنين العاشر والحادي عشر مدينةً كبيرةً شرقيةً تجمع بين العظمة والفقر؛ فهنالك شوارعُ رئيسةٌ تحيط بها الأبنيةُ الفخمةُ والقصور العظيمة والكنائس الجميلة، وهنالك أيضًا أحياءٌ فقيرة مظلمةٌ قذرةٌ، وكانت لا تزال أمَّ المدن المتمدنة وأغناها وأرقاها ذوقًا وفنًّا وعلمًا، وهو أمر تُجمع على صحته جميعُ المراجع المعاصرة؛ فقد جاء في أخبار رحلة بنيامين تودله المعاصر أن دَخْلَ الخزينة اليومي من مخازن العاصمة وأسواقها وكماركها لم يقل عن العشرين ألف فلس ذهبًا،٤٩ وأن مظاهر البذخ في الشوارع كانت مدهشة تأخذ بلُبِّ الزائر؛ فالخيولُ المطهمة وثيابُ فرسانها الحريرية المزركشة المذهبة؛ كانت تبهر الزائر فيخالهم أبناء ملوك.
ومما جاء في هذه الرحلة أيضًا أن القسطنطينية كانت تجتذب رجال الأعمال من كل حدب وصوب، فأضحت تَفُوقُ جميعَ المُدُن تَقَدُّمًا وازدهارًا ما عدا بغداد، والواقعُ أَنَّ ازدهارَ التجارة في البندقية وبيزو وجنوى وظروف الحروب الصليبية ومطامع عمانوئيل في إيطالية والغرب؛ استدرجتْ عددًا كبيرًا مِنْ رِجَال الإفرنجة إلى القسطنطينية، فأقاموا فيها وأنشئوا المتاجر والأرصفة عند القرن الذهبي، كما أقاموا المنازلَ والكنائس، فجعلوا من أحيائهم الخاصة — بفضل امتيازاتهم — مستعمراتٍ لاتينيةً بكل معنى الكلمة.٥٠
وابتنى مؤسسُ الأسرة الكومنينية أليكسيوس الأول قصرًا جديدًا في محلة القرن الذهبي هيمن على هذا القرن وعلى المدينة وضواحيها، وأنفق عليه بسخاءٍ فجاء فخمًا عظيمًا رائعًا. ومما قاله أحدُ الزائرين المعاصرين: «ولست أدري ما الذي جعله ثمينًا جميلًا! أَشِدَّة الإتقان في فن بنائه، أم قيمة المواد الداخلة في تشييده!»٥١
وكان سلفاءُ أليكسيوس من قبل قد أقاموا في قصرٍ على شاطئ بحر مرمرة، فرأى هو أَنْ يَنْتَقِلَ إلى الهضبة المطلة على القرن الذهبي، وأنشأت حنة دلسانة كنيسة المخلص بالقُرب من هذا القصر، وحَذَتْ حذوها حماة أليكسيوس مريم دوقاس فأنشأتْ بجوار القصر الجديد أيضًا كنيسةً ثانيةً باسم المخلص، وقامت في هذا الحي أيضًا كنيسةٌ للعذراء «الكلية القداسة» وكنيسة البانتوكراتور الجميلة، وأنشأ يوحنا الثاني كنيسة لِضَمِّ رُفَاتِ أُسرته بين هذه الكنائس، وعلى الرغم مِنْ صِغَرِ حجم هذه الكنائس فإنها جاءتْ جميعُها رائعةً بتناسُب مقاييسها وجمال رخامها وإتقان فسيفسائها.٥٢

ولا يزال بعض هذه الكنائس قائمًا حتى يومنا هذا، وقد حُوِّلَ إلى جوامعَ في أثناء الفتح العثماني.

وأدى اهتمام أليكسيوس الأول بالرهبانية وبالأعمال الخيرية إلى إنشاء ديرَين في هذا الحي الجديد، أحدهما للرجال والآخر للنساء، وكرست الفسيلسة دير الراهبات للعذراء «الممتلئة نعمة»، ولا تزال البراءة التي صدرت لتشييد هذا الدير محفوظةً حتى يومنا هذا،٥٣ وهي تنبئ بالغاية التي من أجلها أنشئ هذا الدير، فتنص على أنه ديرٌ نموذجيٌّ يهدف إلى إصلاح الرهبانيات، مثل الدير الذي أنشأه الفسيلفس في جزيرة باتموس وقد سبقت الإشارة إليه، وتحض الفسيلسة إيرينة الراهبات على عمل الخير وترشدهن إلى كل ما من شأنه أن يطهر حياتهن وترجوهن ألا يدعن «الحية» توسوس في أذن راهبة فتجعل منها حواء ثانية.

ومن آثار الفن في القرن الثاني عشر: المخطوطات المزوقة كمزامير بربريني ومواعظ الراهب يعقوب وأسفار القصر الثمانية الأولى، وقد حوتْ هذه ما لا يقل عن ثلاثمائة واثنتين وخمسين منمنمة، ولعلَّ بعض هذه الرسوم من صنع يد إسحاق أخي الفسيلفس يوحنا الثاني، ومِنْ أَثْمَنِ ما تحفظُهُ المخطوطاتُ المزوقة التي تعود إلى هذا القرن منمنمات غير دينية، فمخطوطتا غريغوريوس النزيانزي في القدس وفي جبل آثوس تحمل منمنمات لمشاهد هلينية وكلاسيكية.

وفي هذه دليلٌ آخرُ على أَنَّ عَصْرَ النهضة الغربية الذي تَمَيَّزَ بالعودة إلى العُصُور الكلاسيكية بدأ في القسطنطينية، ثم انتقل منها إلى إيطالية.٥٤

العلم والأدب

وقامت في هذا القرن نفسه في جوار كنيسة الرسل مدرسة كبيرة لتدريس العلوم الابتدائية والمتوسطة والعالية، فغنَّى الصغار في أروقتها وحوالي حديقتها كما مشى الأحداث متأبطين دفاترهم مسمعين دروسهم في النحو واللغة عن ظهر قلب، وانعزل البعض الآخر من الطلبة الكبار ليحلوا بعض المسائل العويصة، وقام الأساتذة في الداخل يحاضرون في خواص الأعداد وفي الهندسة والطب، كما قام كبار الموسيقيين يشرحون فنهم لمن حولهم من الطلبة، وكان بعضُهُم يتباهى فيؤكد أن علماء العاصمة آنئذٍ فاقوا ديموستانيس في الفصاحة، وأرسطو وأفلاطون في الفلسفة، وإقليدس في الهندسة، وفيثاغوروس في الفيزياء،٥٥ وخصت البطريركية المسكونية العلوم الدينية العالية برعايتها، فقبلت الطلاب الإكليريكيين في مدرستها ولقنتهم اللاهوت وسواه، وكانت جامعة القسطنطينية لا تزال زاهرة بفرعيها الأدبي والفلسفي، وتولى إدارة التعليم الفلسفي فيها «قنصل الفلاسفة» يوحنا الإيطالي، فذاع صيتُهُ وكثُر طلابه ومريدوه وفاخر التلامذة والأصدقاء بأنهم من «محبي أفلاطون».
وممن اشتهر بعده في الفلسفة في هذه الجامعة نفسها أفستاثيوس الثيسالونيكي الذي أظهر مقدرةً كبيرةً في تدريس هوميروس وبيندار، ومما قيل فيه آنئذٍ: إن محاضراته جمعت بين علم أرسطو ووَحْيِ الشعراء، والواقعُ الذي يَعترفُ به رجالُ الاختصاص من علماء هذا العصر أَنَّ قسطنطينية القرن الثاني عشر أَيَّدَتْ الثقافة الكلاسيكية وجعلتْ منها أساس التهذيب والتثقيف لأبنائها.٥٦
وظل التاريخُ واللاهوتُ يَحْتَلَّان المكانةَ الأُولى في النتاج الأدبي، فقامت حنَّة ابنة أليكسيوس الأول تؤرخ حياةَ والدها، فصنفت ملحمتها الشهيرة الأليكسياذة، وقد سبقت الإشارةُ إليها، وكتب زوجها نيقيفوروس بريانوس في وُصُول الأسرة الكومنينية إلى العرش فأرَّخ السنوات ١٠٧٠ إلى ١٠٧٩، وكتب أليكسيوس الأول نفسه في اللاهوت ضد الهراطقة فصنَّف تأملاته Muses ووجهها إلى ابنه وولي عهده يوحنا،٥٧ ولا نعلم ما إذا كان يوحنا مِمَّنْ تَذَوَّقَ الأدب، ولكننا نعلم جيدًا أَنَّ أخاه إسحاق كتب في تَطَوُّر ملحمة هوميروس في العصور الوسطى، وكتب عمانوئيل الفسيلفس في التنجيم فدافع عن هذا «العلم» ضد تَهَجُّمَات الإكليروس، وأرسل مصنَّف بطليموس المجسطي إلى ملك صقلية النورمندي فنقل حوالي السنة ١١٦٠ إلى اللاتينية.٥٨
ومن أشهر مؤرخي هذا القرن يوحنا كنَّاموس Cinnamus؛ فإنه دوَّن أخبار الفسيلفسين يوحنا وعمانوئيل فأكمل أليكسياذة حنَّة، واتبع هذا المؤرخ هيرودوتوس وبروكوبيوس في طريقة التأريخ ودافع دفاعًا شديدًا عن حُقُوق الإمبراطورية الشرقية والكنيسة الأرثوذكسية ضد مطامع الإمبراطورية الغربية ومطالب الكنيسة الباباوية، وأشهر من كنَّاموس بكثير نيقيتاس الخونياتي Nicetas Choniates، ولد في خونة من أعمال الأناضول في منتصف القرن الثاني عشر، وتَلَقَّى علومه في القسطنطينية ثم استوظف في أواخر عهد عمانوئيل، ولمع في عهد الأسرة الأنجيلوسية، ولدى استيلاء الصليبيين على القسطنطينية التجأ إلى الفسيلفس ثيودوروس النيقاوي، وأشهر مؤلفاته تاريخُهُ الكبير الذي جاء في عشرين مجلدًا، وفيه تاريخ الروم منذ أن تبوأ العرش يوحنا كومنينوس حتى سقوط العاصمة في يد الصليبيين (١١١٨–١٢٠٤)، ويرى ثيودور أوسبنسكي العلامة الروسي أن نيقيتاس فاق جميع زملائه — في الشرق والغرب معًا — أمانةً وتدقيقًا.٥٩
واشتد الإقبال على مطالعة التاريخ في هذه الآونة، فنشط للتأليف فيه عددٌ آخر من الرجال أمثال: كدرينوس Cedrenus وزوناراس Zonaras ومناسيس Manases وغليقاس Glykas، الذين أخرجوا موجزات للتاريخ العالمي على الطريقة الخريقونية القديمة، ويُستدل من أسلوبهم في الكتابة ومِن بعض ألفاظهم أنهم لم يكونوا أَقَلَّ اطلاعًا مِن سواهم مِن علماء ذلك العصر على نِتاجِ العهد الكلاسيكي القديم، فساهموا بعملهم هذا في بدء النهضة العلمية الحديثة في أوروبة جمعاء.
وقضت ظروف الكنيسة، من حيث المشادة التي كانت ناشبةً آنئذٍ بين رومة والقسطنطينية ومن حيث ظهور بعض البدع، بأن تهب للدفاع عن الأرثوذكسية الحقة، فقام أفتيموس زيغابينوس Zigabenos بانوبليته الشهيرة (الدرع الكاملة العدة) لدحض هرطقات ذلك العصر ونقضها بالحجة،٦٠ وممن اشتهر في هذا الجدل الديني في القرن الثاني عشر نيقولاووس ميثونيوس Methonius ونيقيتاس الخونياتي المؤرخ الذي ورد ذكره آنفًا.
وقضتْ ظُروفُ التشريفات في القصر وفي المقر البطريركي المسكوني بأن يجتهد عددٌ من الأدباء في فَنِّ الخطابة والفصاحة، فعَادَ هؤلاء أيضًا إلى مخلفات العصر الكلاسيكي؛ لاستيحائها والإفادة منها، وبين هؤلاء أفسيتاسيوس الثيسالونيكي وميخائيل الخونياتي أخو نيقيتاس المؤرخ ورئيس أساقفة آثينة وميخائيل الإيطالي ونيقيفوروس باسيلاكس Basilakes وباسيليوس رئيس أساقفة أوخريدة، وفي مكتبة الإسكوريال مجموعةٌ من هذا النوع من التصنيف، تعودُ إلى القرن الذي نحن بصدده.٦١

ويرى العلامةُ الإفرنسي شارل ديل المتخصص في تاريخ الروم وفنونهم؛ أَنَّ أُدَباء الروم في القرن الثاني عشر وعلماءهم إذا ما قُورِنُوا بزملائهم في الغرب في هذا القرن نفسه ظهروا أساتذةً معلمين لا مُناظرين، ومِنْ أَلْطَفِ ما جاء في تأييد هذا القول تلك المناظرة العلنية التي جَرَتْ في عهد يوحنا الثاني في القسطنطينية في السنة ١١٣٥ بين أَنسيلموس أسقف إبلبرج اللاتيني ونيقيتاس رئيس أساقفة نيقوميذية؛ فإن أنسيلموس بعد أن جادل نيقيتاس جدالًا طويلًا في انبثاق الروح القدس وفي استعمال الفطير، استند في تأييد آرائه على أن الكنيسة اللاتينية كانت دائمًا مستقيمة الرأي، وطعن في الكنيسة الأرثوذكسية واتهمها بأن كل الهرطقات قامت فيها، فأجابه نيقيتاس بأنه لا ينكر ذلك وإنما يعزو هذه الظاهرة لانكباب رجال كنائس الشرق على العلوم والفلسفة، ثم قال: وافهم يا صاح أنه وإن تكن جميع الهرطقات خرجت من اليونان فإن هدمها أيضًا تمَّ على أيدي طائفةٍ من أبناء اليونان. وخلص إلى القول بأنه لم يكن ممكنًا أن تولد هرطقات في رومة؛ لأن العلم وتوقُّد الذهن وقوة العقل في رجالها؛ كانت أمورًا نادرةً.

ثم قال: إننا لا ننكر على كنيسة رومة تقدمها على إخوانها الكنائس البطريركية الأربع الأخرى، ونوافق على أن تَرْأَسَ المجامع المسكونية، ولكنها خرجت عن حدود سلطانها وقسمت بين مملكة الشرق والغرب وبين الكنائس، ونحن وإن لم يكن بيننا وبين الكنيسة الرومانية انقسامٌ في الإيمان البتة، فكيف يُمكننا أن نقبل قوانينَ مسنونةً دون معرفتنا!٦٢
١  Nicetas Choniates, Historia, 45, 63, 64; Anne Comnène, Alexiade, II, 63; Vasiliev, A. A., Byz. Emp., 375-376.
٢  Diehl, C., Europe Orientale, 40-41.
٣  Regel, W., Fontes Rerum Byzantinarum, II, 334.
٤  Nicetas Choniates, Historia, 25; Dolger, F., Regesten, 1304.
٥  Chalandon, F., Les Comnènes, II, 45–47.
٦  Cinnamus, J., Historia, I, 2.
٧  Historiens des Croisades, (Arm.), I, 142.
٨  Michel le Syrien, III, 223-224.
٩  Michel le Syrien, III, 227, 232–237.
١٠  Nicetas, Choniates, Historia, 6-7; Chalandon, F., Les Comnènes, II, 107–118.
١١  Dolger, F., Regesten, 1314.
١٢  Cinnamus, J., Historia, I, 8; Grousset, R., Hist. des Crois, II, 100–111.
١٣  Chalandon, F., Op. Cit., II, 151-152; Grousset, R., Op. Cit., II, 121–123.
١٤  Cinnamus, J., Historia, I, 10; Chalandon, F., Op. Cit., II, 184.
١٥  Dolger, F., Regesten, 1324; Grousset, R., Op. Cit., II, 150–152.
١٦  Cinnamus, J., Hist. I, 10; Grousset, R., Op. Cit., II, 152–154.
١٧  Chalandon, F., Les Comnènes, II, 19.
١٨  Cinnamus, J., Hist., I, 125.
١٩  Diehl, C., Europe Orientale, 51-52.
٢٠  Nicetas Chaniates, Hist., 151.
٢١  Nicetas, Op. Cit., 286.
٢٢  Cinnamus, J., Hist., 190, 291.
٢٣  Cinnemus, J., Hist. II, 3; Grousset, R., Croisades, II, 172-173.
٢٤  Cinnemus, J., Op. Cit., II, 4–10; Dolger, F., Regesten, 1343–1346, 1352.
٢٥  Chalandon, F., Comnènes, II, 271–281; Grousset, Croisades, II, 230–232.
٢٦  Etudes de Deuil, Ludovici VII, 1220–1227.
٢٧  Grousset, R., Croisades, II, 250–268.
٢٨  Dolger, F., Regesten, 1365, 1373.
٢٩  Schlumberger, G., Renaud de Chatillon, Prince d’Antioche.
٣٠  Chalandon, F., Les Comnènes, II, 435–439.
٣١  Dolger, F., Regesten, 1430-1431.
٣٢  Dolger, F., Regesten, 1428-1429.
٣٣  Dolger, F., Regesten, 1432.
٣٤  Chalandon, F., Op. Cit., II, 517–524; Grousset, R., Croisades, II, 428–433.
٣٥  Corpus Inscript. Graecarum, 8736; Vincent et Abel, Bethlehem, 156–161.
٣٦  Dolger, F., Regesten, 1481; Bréhier, L., Byzance, 338–340.
٣٧  Grousset, R., Croisades, II, 636ff.
٣٨  Cinnamus, J., Hist., 218–220.
٣٩  Norden, W., Papstum und Byzanz, 92-93.
٤٠  Diehl, C., Europe Orientale, 82-83.
٤١  Kramers, art. “Sultan”, Enc. of Islam.
٤٢  Chalandon, F., Les Comnènes, II, 460–465.
٤٣  Nicetas Chaniates, Hist. 231–245; Chalandon, F., Op. Cit., II, 507–513.
٤٤  Nicetas Chaniates, Hist. 246; Dolger, F., Regesten, 1522, 1524.
٤٥  Bréhier, L., Byzance, 342-343.
٤٦  Diehl, C., Europe Orientale, 84-85.
٤٧  Nicetas Chaniates, Hist., 320–323, 347–349.
٤٨  Nicetas Choniates, Hist., 453–460; Cognasso, F., Polotici, 299–316.
٤٩  وكانت البيزة Bezant عملة البيزنطيين الذهبية تساوي حوالي أربعة عشر فرنكًا ذهبيًّا، وكانت تقسم إلى اثني عشر ميلياريسية، كلٌّ منها يقسم بدوره إلى اثني عشر فلسًا Pholles.
٥٠  Diehl, C., Europe Orientale, 92-93.
٥١  Eude de Deuil, De Ludovici VII, P. L., 185, Col. 1221.
٥٢  Stewart, C., Early Christian Architecture, 73-74.
٥٣  Miklosich et Muller, Acta et Diplomata Graeca, V, 327–391.
٥٤  Diehl, C., Art Byzantin, II, 595–632.
٥٥  Heisenberg, A., Apostelkirche in Konstantinopel, Leipzig, 1908.
٥٦  Diehl, C., Europe Orientale, 106.
٥٧  Maas, Die Museu des Kaisers Alexios, Byz. Zeit., 1913, 348–367.
٥٨  Diehl, C., La Société Byz. à l’Epoque des Comnènes, Rev. Hist. du S. E., Européen, 1929, 198–280.
٥٩  Uspensky, Th., A Byzantine Writer, See Vasilieve, A. A., Byz. Emp. p. 495.
٦٠  Patrologia Graeca, CXXX, 9–1362.
٦١  Diehl, C., Europe Orientale, 107; Vasiliev, A. A., Byz. Emp., 492–494.
٦٢  ولا بد من القول بأن ما أورده الأب هنري موسه في المجلد الأول من تاريخه للكنيسة في هذا الموضوع هو ناقص، فلتراجعْ مراجعُهُ في مَحلاتها: Musset, H., Hist. du Christianisme Sp. en Orient, I, 467–469.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤