الفصل السادس

ثيودوسيوس الكبير

٣٧٩–٣٩٥

خلفاء يوليانوس

وتشاور رؤساء الجند في من يكون خلفًا ليوليانوس، فأجمعوا على مدبر برايفكتورة الشرق سلوتيوس سكندوس،١ ولكنه اعتذر عن القبول بداعي المرض والتقدم في السن، فنادى قسمٌ من الجند بيوفيانوس٢ إمبراطورًا، وكان هذا رئيس الخَدَم في القصر مسيحيًّا نيقاويًّا من بانونية بين الشرق والغرب، فأيَّده الجنود المسيحيون، ورضي عنه رؤساؤهم الشرقيون والغربيون معًا، فوقَّع صلحًا مع الفُرس تنازل فيه عن جميع ما وقع شرقي دجلة، وعن نصيبين وسنجار ونصف أرمينية، وعاد إلى أنطاكية فوصل إليها في خريف السنة ٣٦٣، وكان لا يزال في الثلاثين من عمره، ضئيل الحظ من الثقافة، يحب الخمر والنساء، وعلى الرغم من اتصال أثناسيوس الكبير به وإلحاحه عليه، فإنه لم يخرج في سياسته الدينية عن الخطة التي رسمها قسطنطين الكبير؛ ولذا نراه يقول بطريرك الإسكندرية أثناسيوس نفسه: «إني أكره الشقاق وأحب من يعمل في سبيل الوئام.»٣ وأصدر براءةً أوجب فيها عبادةَ «الكائن الأعلى»، وحرَّم «الخرافات»،٤ ثم ما لبث أن وُجد ميتًا بخيمته في آسية الصغرى، بعد أن قضى ليلة بين الكئوس والأباريق، وذلك في أوائل السنة ٣٦٤.
واجتمع رؤساءُ الجُند في نيقية وتداولوا في أمر الخلافة، وكانوا لا يزالون هم الذين رفعوا يوفيانوس إلى منصة الحُكم، فطلبوا إلى سلوتيوس سكندوس أن يكون ابنه خلفًا ليوفيانوس، فأبى؛ نظرًا لصغر سنه، فأجمعوا على ولنتنيانوس٥ أحد قادة الحرس، وكان هذا أيضًا من بانونية بين الشرق والغرب، وما إن أطل على الجند ليخطب فيهم حتى قاطعه عددٌ منهم بدق التروس طالبين إمبراطورًا آخرَ يُشاركه في الحكم، فاستمهلهم وشاور الرؤساء، فقال أحد هؤلاء: «إن كنت تحب أسرتك فإن لك أخًا، وإن كنت تحب الدولة فانتقِ الأليق.» وفي الثامن والعشرين من آذار من السنة ٣٦٤ قدَّم أخاه والنس٦ أوغوسطسًا وشريكًا له في الحكم، وتشاطر الاثنان المُلك فحكم والنس الشرق (٣٦٤–٣٧٨)، وتولى ولنتنيانوس الغرب (٣٦٤–٣٧٥)، واتفق الاثنان على أُمُور معينة أهمها حرية المعتقد، ومنع إعفاء أحد من الضرائب، وإقامة جباة من الموظفين لجمعها، واقتسام الملك اقتسامًا تامًّا كاملًا، بحيث تُصبح الإمبراطورية دولتين: شرقية وغربية.
وعبر الهون الفولكة في السنة ٣٧٢ بعد الميلاد — أو قُبيلها — متدفقين كالسيل الجارف في سهول روسية الجنوبية، فاحتلوا مراعي قبائل الآلاني ثم أراضي القوط الشرقيين حتى نهر الدنيستر، ولم يبق حائلًا بينهم وبين مصب الدانوب سوى القوط الغربيين، وكان قسمٌ كبيرٌ منهم قد قبل النصرانية على يد أولفيلاس القبدوقي (٣١٠–٣٨١) الذي نقل الإنجيل إلى لُغتهم، فهَبَّ أثناريكوس٧ ملِك هؤلاء القوط الغربيين يستعد للدفاع، فأنشأ خطًّا يصمد وراءَه من منبع البروت حتى مصب الدانوب، وعبر الهون الدنيستر وجازوه عند مصبه، ففرَّ جماعةٌ من القوط الغربيين وخذلوا قومهم واتجهوا غربًا وجاءوا يفاوضون والنس في الانتقال إلى داخل الحُدُود الرومانية والإقامة في تراقية، وكان على رأس هؤلاء فريتيغرن وألافيف،٨ وأما أثناريكوس فمضى بجماعته واحتل جبال البنات في المجر.

وقد رأى والنس الإمبراطور في مَنْ انحاز إليه من القُوط عُنصرًا طيبًا وأداةً فعَّالة لتقوية الجيش ولا سيما فرقة الخيالة؛ فقبل مطلبهم أن يدخلوا الحدود، فعبروا الدانوب خمسين ألفا، وما إن فعلوا وألقوا سلاحهم حتى شعروا بالفاقة وقلة المأكل، فاستعادوا سلاحهم بالرشوة وجالوا في البلقان ينالون قُوتَهُم بالقوة، ووقعت اصطداماتٌ عنيفةٌ هنا وهنالك، فأضمر الرومان السوء ودعوا الزعيمين القوطيين في مطلع السنة ٣٧٧ إلى مأدبة فاخرة في ماركيانوبوليس وحاولوا اغتيالهما، فنجا فريتيغرن بخدعة محكمة واندلعت نيرانُ الحرب بين الفريقين في كل مكان، ولم يقوَ الجيش الروماني المرابط في البلقان على ضبط الموقف، فاستقدم والنس نجداتٍ من الشرق القريب، وأمده غراتيانوس ابن أخيه ببعض الكتائب، ثم قام هو بنفسه على رأس الجيش الغربي لإعانة عمه، ولكن والنس تَسَرَّعَ فنازل فريتيغرن قبل وُصُول غراتيانوس، وذلك في الثامن من آب سنة ٣٧٨، وعلى مقربة من أدريانوبوليس، فاكتسحت الموقف خيالة القوط، وخَرَّ والنس في ساحة القتال صريعًا، وقيل إنه أُحرق حرقًا، وغشي القوط الريف كله ولكنهم لم يتمكنوا مِنْ إخضاع المُدُن المحصنة لنقصٍ في العتاد.

ثيودوسيوس الكبير

وعظُم الأمر على غراتيانوس وهاله، فاستدعى إليه ثيودوسيوس أَشْهَرَ القادة وأَمْهَرَهم في الحرب، وفاوضه في أمر القوط وطلب إليه أَنْ يتناسى ما كان قد لحق به وبوالده قبله من شرٍّ وضيم، ورفعه إلى منصة الحكم ونادى به إمبراطورًا على الشرق، وكان ثيودوسيوس حسن القد، رشيقًا، أشقر الشعر، أزرق العينين، أشرف الأنف، يشبه تريانوس ويدَّعي الانتساب إليه، وكان أيضًا عالي النفس، رفيع الأهواء، يُكثر من مطالعة التاريخ الروماني، ويحس الواجب القومي أيما إحساس،٩ فتقبل التاج في سرميوم في التاسع عشر من كانون الثاني سنة ٣٧٩، وهبَّ للقتال فأوقع بالقوط — فيما يظهر — ضرباتٍ أوليةً متتالية، ثم رأى أَنْ لا بد من الاستيلاء على ثيسالونيكية لتأمين الزاد والعتاد الورادَين من مصر والشرق، فاشتق طريقه إليها ووصلها في أوائل حزيران واستقرَّ بها. وكان في أثناء هذا كله يَتَشَاطَرُ جنودَه المشقة كأنه واحدٌ منهم، ويعنى بتنشيطهم وتشجيعهم، ويؤمِّن راحتهم، فأحبوه واندفعوا في سبيله وازدادوا قوةً ومناعةً.

ورأى الإمبراطور أيضًا أن يقوم بحملة عسكرية يصل بها إلى الدانوب، فيهوِّل على أعدائه ويفاوضهم في الوقت نفسه، إذا وافقت الظروف، فوصل إلى أسكوب في السادس مِنْ تموز، وإلى فيقوس أوغوسطة في الثاني من آب، ولكنه عاد إلى ثيسالونيكية لتمضية فصل الشتاء، وفي شباط السنة ٣٨٠، انتابه مرضٌ عضالٌ أَشْرَفَ به على الموت، فطلب الاعتماد ليغسل جميع ذنوبه قبل ملاقاة ربه، وتعمد على يد أخوليوس أسقف ثيسالونيكية عمادة نيقاوية أرثوذكسية، ثم تماثل وتعافى، فعاد يعالج مشكلة الجيش، فأمر بتجنيد الفلاحين والعمال، وبملاحقة أبناء الجنود المختبئين في مكاتب الدولة، وبإنزال أشد العقاب بمن يقطع إبهامه للتخلص من خدمة العلم. وأمر كذلك بمن كان قد دخل في الجيش من القوط أن يُنقل من البلقان إلى الشرق، وباستبدال هؤلاء بجنود شرقيين يحلون محلهم في البلقان.

وقامت فرقة من الجنود القُوط إلى الشرق، فعبرت المضايقَ ووصلت إلى ليدية، ولكنها اشتبكت فيها مع فرقة شرقية كانت قد قامت من مصر لتحل محل الفرقة القوطية أو غيرها في البلقان، وفيما كان ثيودوسيوس يعدُّ العدة على هذا النحو، تنافر القوط في البلقان وتنازعوا، واشتد الخصام بين جماعة أثناريكوس وجماعة فريتغرن، وتُوُفي فريتغرن في صيف السنة ٣٨٠، فخف القتال في جنوبي البلقان، وجاء غراتيانوس إمبراطور الغرب في الوقت نفسه إلى سرميوم وفاوض القوط في الشمال وهادنهم على أن ينتظم أبناؤهم في خدمة الجيش الروماني في مقابل تقديم الزاد اللازم للعشائر، فهدأت الحال وقام ثيودوسيوس من ثيسالونيكية إلى القسطنطينية فدخلها دخول المنتصر في الرابع والعشرين من تشرين الثاني سنة ٣٨٠ وجعلها مقره الرسمي.

وفي الحادي عشر من كانون الثاني ٣٨١ أَطَلَّ عليه في القسطنطينية أثناريكوس نفسه مقصوص الجناح أَشَلَّ الساعد لما كان قد حل بجماعته من الشقاق والخصام، فرَحَّبَ به ثيودوسيوس وبجَّله وعظَّم قدره، ولكنه تُوُفِّيَ في الخامس والعشرين من الشهر نفسه، فأمر الإمبراطور بدفه دفنًا ملوكيًّا، وفي هذه السنة نفسها وصلت طلائعُ الهون إلى الدانوب فردها القوط ببسالة ورباطة جأش. وشعر الطرفان — القوط والرومان — بخطر الهون، فباتا أكثر استعدادًا للوصول إلى تفاهُم دائم بينهما، فأرسل ثيودوسيوس في صيف السنة ٣٨٢ القائد ساتورنينوس إلى القوط في الشمال ليفاوضهم في أمر الصلح، وكان ساتورنينوس من طراز ليبانيوس وغريغوريوس النازيانزي دمث الأخلاق وديعًا معتدلًا رزينًا، فأقره القوط على مطالبه ووقَّع الطرفان في الثالث من تشرين الأول مُعاهدة صُلح دائمة، وأهم شروط هذه المعاهدة أن الإمبراطور الروماني أذن بإقامة دولة قوطية بين الدانوب وجبال البلقان، شرط أن تبقى حُصُون هذه المنطقة رومانية. وتعهد بتقديم معونة مادية في مقابل انخراط القُوط في الجيش الروماني، والواقع الذي لا مَفَرَّ من الاعتراف به هو أن ثيودوسيوس آثر، بعد هذا، العنصرَ القوطي الألماني على غيره من العناصر في تعبئة جيشه، فغدا الجيشُ ألمانيًّا مع مرور الزمن بَعْدَ أَنْ كان رومانيًّا صرفًا في أيام الفُتُوحات.

المجمع المسكوني الثاني

وكان والنس قَدْ أَظْهَرَ تحيزًا شديدًا لآريوس والآريوسيين، فنفى جميعَ الأساقفة النيقيين وقَهَرَ رهبانهم على اللحاق بالجيش وقتل وأحرق، فلما سقط في أدريانوبوليس في السنة ٣٧٨ ورضي ثيودوسيوس أن يتسلم الحكم (٣٧٩)، اشتد التنافُرُ بين الآريوسيين وبين النيقيين وعمَّ جميع الأوساط الشعبية رجالًا ونساءً. ومن ألطف ما جاء في المراجع في وصف تَدَخُّل «العوام في علم الكلام» قول غريغوريوس أسقف نيسة اليونانية: «والجميع في الشوارع والأسواق وفي الساحات وعند مفترق الطرق يتكلمون فيما لا يفقهون، فإذا سألت أحدًا من الباعة: ماذا أدفع؟ أجابك: هو مولود أو هو غير مولود، وإذا أنت حاولتَ أن تعرفَ ثمن الخُبز أجابوك أن الآب أعظم من الابن، وإن سألت هل الحمَّام جاهز سمعت جوابًا أن الابن جاء من العدم.»١٠
ويرى رجالُ الاختصاص أن ثيودوسيوس عَزَمَ منذ أن تسلم أَزِمَّة الحكم على أن يجعل العقيدة الكاثوليكية الأرثوذكسية عقيدةَ الدولة،١١ فإنه منذ السابع عشر من حزيران سنة ٣٧٩ عندما أَصْدَرَ براءَته الأُولى وحدد فيها واجبات كبير الكهنة الوثنيين في أنطاكية؛ امتنع عن أن يشير إلى نفسه باللقب الوثني: الحبر الأعظم، ولعل السبب في هذا أنه وُلد مِنْ أَبَوَيْنِ مسيحيين إسبانيين وأن حبر رومة دماسوس الكبير استغلَّ نُفُوذ الحاشية الإسبانية المسيحية لحمل الإمبراطور على مراعاة الكنيسة، وعاد ثيودوسيوس في الثامن والعشرين من شهر شباط من السنة ٣٨٠ فأصدر براءَةً خاصة جَعَلَ بها العقيدة النيقاوية عقيدةَ الدولة، فقال ما معناه: «وعلى جميع شعوبنا أن تجتمع حول العقيدة التي نقلها بطرس الرسول إلى الرومان، العقيدة التي يقول بها أسقف رومة دماسوس وأسقف الإسكندرية بطرس؛ أي أن يعترفوا بالثالوث الأقدس: الآب والابن والروح القدس، وللذين يقولون بهذه العقيدة وحدهم حق التلقب بالمسيحيين الكاثوليكيين،١٢ أما الآخرون فإنهم هراطقةٌ موصومون بالعار لا يحق لهم أَنْ يَدَّعُوا الأبنية التي يجتمعون فيها كنائس، وسينتقم الله منهم ونحن أيضًا بعده.»١٣ وما كاد الإمبراطور يدخل العاصمة القسطنطينية في الرابع والعشرين من تشرين الثاني سنة ٣٨٠ حتى أخرج منها أسقفها الآريوسي وأدخل إليها (٢٦ تشرين الثاني سنة ٣٨٠) «بلبل قبدوقية الأزرق» غريغوريوس الثاولوغوس النازيانزي بجميع مظاهر الأبهة والإجلال. وغريغوريوس هذا العظيم وُلد بالقرب من نازيانزة في قبدوقية في السنة ٣٣٠، ودرس في الإسكندرية وقيصرية وآثينة — كما مرَّ بنا — وكان قد اشتهر بعِلْمِهِ وفلسفته وفصاحته، وسيم أسقفًا على ساسمة فنازيانزة، وأراده ثيودوسيوس أسقفًا على العاصمة. وفي العاشر مِن كانون الثاني سنة ٣٨١ أردف ثيودوسيوس براءَته هذه الأُولى ببراءةٍ ثانية فصَّل فيها العقيدة الأرثوذكسية الكاثوليكية كما كان قد أَقَرَّهَا المجمع المسكونيُّ الأول في نيقية، وأبان أن الهرطقة١٤ في نظر دولته شملتْ أقوالَ فوتيانوس وآريوس وأفنوميانوس. وفي الثاني من أيار من السنة نفسها حرم جميع المسيحيين المرتدين إلى الوثنية من حق الوصية الوصاية، وفي الثامن منه ضرب المنيكيين ضربة قاضية.

وكان ثيودوسيوس قد أعلن رغبته — وهو لا يزال في ثيسالونيكية — في عقد مجمعٍ مسكونيٍّ عامٍّ؛ للنظر في أُمُور الكنيسة جمعاء، فنفذ أمنيته هذه في ربيع السنة ٣٨١، وأمَّ القسطنطينية عددٌ مِنْ أعاظم رجال الكنيسة، بينهم: ملاتيوس بطريرك أنطاكية، وغريغوريوس النازيانزي بطريرك القسطنطينية — فيما بعد — وتيموثاوس بطريرك الإسكندرية، وكيرلس أسقف أوروشليم، وأمفيلوشيوس أسقف إيقونية، وبيلاجيوس أسقف اللاذقية، وذيذوروس أسقف طرسوس، وأكاكيوس أسقف حلب، وكثيرون غيرهم بلغ مجموعهم مائة وخمسين.

وكان دماسوس بابا رومة قد ألح بوجوب انعقاد هذا المجمع المسكوني في رومة نفسها، ولكن ثيودوسيوس الإمبراطور أَبَى وأَصَرَّ على عَقْدِهِ في القسطنطينية، فلم تشترك رومة في أعمال هذا المجمع ولم يكن هنالك مَنْ يُمثلها، ولكنها وافقت على جميع قراراته فيما بعد واعتبرتْه مجمعًا مسكونيًّا قانونيًّا.

وكان ملانيوس البطريرك الأنطاكي قد اشتهر بجِهَاده ضد الآريوسية وبعلمه وفضله وتَقْوَاه، فأجمع الأعضاء عليه رئيسًا، فسام غريغوريوس النازيانزي أسقفًا على القسطنطينية، وتُوُفي في أواخر أيار، فانتخب المجمع غريغوريوس النازيانزي رئيسًا، ولكنه كان عصبيَّ المزاج سريع الغضب فاستعفى، وعندئذٍ انتَخب المجمع — بإشارة من الإمبراطور — نكتاريوس القاضي رئيسًا، وهو الذي أصبح فيما بعد بطريركًا على القسطنطينية بعد غريغوريوس.

ونظر المجمعُ في بدعة مقدونيوس أسقف القسطنطينية الذي كان يقول بخَلْق الروح القدس من الله الآب بواسطة الابن، فنبذ المجمع هذا القولَ وأقرَّ مَرَاسِيمَ المجمع النيقاوي، وأضاف إلى دستور الإيمان النيقاوي بعض إيضاحاتٍ، وخصوصًا فيما كان يتعلق بأمر تَجَسُّد ابن الله وأُلُوهية الروح القدس، فجاء في اثني عشر بابًا — كما يلي — وهو لا يزال دستور المسيحيين حتى يومنا هذا:
  • (١)

    أؤمن بإلهٍ واحدٍ آب ضابط الكل، صانع السماء والأرض، كل ما يُرى، وما لا يرى.

  • (٢)

    وبربٍّ واحدٍ يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور، نور من نور، إلهٌ حقٌّ من إلهٍ حقٍّ، مولود غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر، الذي به كان كل شيء.

  • (٣)

    الذي من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاصنا، نزل من السماوات، وتجسَّد من الروح القدس ومن مريم العذراء، وتأنس.

  • (٤)

    وصُلب عنا على عهد بيلاطس البنطي، وتألم وقُبر.

  • (٥)

    وقام في اليوم الثالث على ما في الكتب.

  • (٦)

    وصعد إلى السماوات، وجلس عن يمين الآب.

  • (٧)
    وأيضًا يأتي بمجدٍ، ليدين الأحياء والأموات، الذي لا فناء لملكه.١٥
  • (٨)
    وبالروح القدس، الرب المحيي، المنبثق من الآب،١٦ الذي هو مع الآب والابن، مسجود له وممجد، الناطق بالأنبياء.١٧
  • (٩)

    وبكنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية.

  • (١٠)

    وأعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا.

  • (١١)

    وأَتَرَجَّى قيامة الموتى.

  • (١٢)

    والحياة في الدهر العتيد، آمين.

وكان المجمعُ المسكونيُّ الأولُ قد شرع في تنظيم الكنيسة على غِرار نظام الدولة الرومانية، فأعطى أَسقُف عاصمة الولاية حَقَّ التقدُّم على أساقفة مُدُنها الأخرى، وجعله متروبوليتًا عليها كلها، وكانت الولاياتُ الرومانية المائة والعشرون قد انتظمت ذيقوسيات اثنتي عشرة، فجاء المجمع المسكوني الثاني يُعطي متروبوليت عاصمة الذيقوسية حَقَّ التقدُّم على جميعِ المطارنة فيها، وأصبح — بموجب هذا الترتيب — بطريرك أنطاكية عاصمة ذيقوسية الشرق متقدِّمًا على جميعِ مطارنة هذه الذيقوسية، ومثله بطريرك الإسكندرية في ذيقوسية مصر، ومتروبوليت قيصرية قبدوقية في ذيقوسية البونط، ومتروبوليت إفسس في ذيقوسية آسية، ومتروبوليت هرقلية في ذيقوسية تراقية.

ويُرجِّح بعضُ رجال الاختصاص أن أساقفة هذه الذيقوسيات كانوا يتمتعون بلقب إكسارخوس أو الأسقف الأول، وأنه كان لبعضهم ألقابٌ خاصة احتفظوا بها، فكان أسقف رومة يدعى أسقف المدينة أو حبرًا أو بابا أو بطريركًا، وكان أسقف الإسكندرية يدعى بابا وبطريركًا ولا يزال «بابا وبطريرك الإسكندرية»، كما كان أسقف أنطاكية يدعى بطريركًا أيضًا، واللفظ بابا يونانيٌّ في الأرجح مأخوذٌ من الكلمة باباس ومعناها الأب، واللفظ بطريرك يونانيٌّ أيضًا، وهو مركبٌّ من كلمة باتريا ومعناها العشيرة، وكلمة أرشيس ومعناها الرئيس.

ولَمَّا كان بروقنصل القسطنطينية وحاكمها لا يخضع لنائب الذيقوسية التي فيها هذه المدينة، ولما كانت القسطنطينية هي عاصمة الإمبراطورية الثانية «رومة الجديدة»، فإن المجمع رأى أن يعطي أسقفها حق التقدم على جميع الأساقفة بعد أسقف رومة، وأن يُصار إلى تسميتِهِ في مجمعٍ خاصٍّ، يشترك فيه جميع أساقفة الذيقوسيات الشرقية.١٨
ودعا دماسوس حبرُ رومة الأساقفةَ إلى مجمع في رومة في السنة ٣٧٢، ولكن ثيودوسيوس طلب إليهم متابعة العمل في القسطنطينية في الوقت نفسه، وسمح بأن يسافر وفدٌ منهم إلى رومة؛ يراقب أعمالَ مجمعها ولا يشترك فيها، وتدخل غراتيانوس إمبراطور الغرب وحضَّ الآباءَ المجتمعين في القسطنطينية على الاشتراك في مجمع رومة ولكن على غير جدوى، فاضطرب دماسوس ورأى في هذا إهانةً له ونذيرَ انشقاق بين الشرق والغرب.١٩

العلاقات الرومانية الفارسية

وتُوُفي ذو الأكتاف شابور الثاني في السنة ٣٧٩، وتولى العرشَ الفارسيَّ بعده أردشير الثاني (٣٧٩–٣٨٣)، ثم شابور الثالث ابن ذي الأكتاف، فأرسل هذا في السنة ٣٨٤ وفدًا إلى القسطنطينية؛ يفاوض في توطيد السلم وتحسين العلاقات، وشفع ذلك بأن أرسل الهدايا الحرير والحجارة الكريمة والفيلة، ولكن حدث بعد هذا بقليل أن زحفت جيوش شابور الثالث على أرمينية ففر ملكها أَرشاك الرابع إلى ثيودوسيوس مستجيرًا، ولكن ثيودوسيوس كان في أمسِّ الحاجة إلى السلم؛ نظرًا لاضطراب الموقف في الغرب واغتيال غراتيانوس، ففاوض شابور في اقتسام أرمينية بينهما، فتَمَّ ذلك في السنة ٣٨٦ بموجب خطٍّ فاصلٍ امتد من ديار بكر «آمد» حتى أرضروم «ثيودوسيوبوليس»، وهكذا ضم ثيودوسيوس ما قارب من خمُس أرمينية إلى ملكه، وفي بعض المراجع أنه جرى مثل هذا الاقتسام في ما بين النهرين ولكنه قول ضعيف.٢٠

ضجة في أنطاكية وبيروت

وتلطخت إدارة ثيودوسيوس بالرشوة، وكتب ليبانيوس الفيلسوف الأنطاكي إلى الإمبراطور يقول: «حكامك الذين تبعثُهُم إلى الولايات ليسوا سوى قتلة.» وتفاقمتْ أزمة مجالس الشيوخ في المُدُن، وفَرَّ الشيوخ واختبئوا، واضطر الإمبراطور أن يحدَّ من نفوذ بعض الشخصيات الإقليمية، ثم جاءت السنة ٣٨٧ فشرعت الحكومة المركزية تتهيأ للاحتفال بمرور عشر سنوات على حُكم الإمبراطور،٢١ فزادت الضرائب المفروضة، لكنها ما كادت تعلن عزمها على الجباية حتى لجأ الأنطاكيون إلى العنف، فاقتلعوا تماثيلَ الأباطرة وجَرُّوها في شوارع المدينة، وأحرقوا بعضَ الأبنية، وعلى الرغم من إعادة النظام في اليوم نفسه فإن عددًا كبيرًا من الأغنياء فَرُّوا واستتروا، وخشي الناس سطوةَ ثيودوسيوس وقسوته وظَنُّوا أنه سيخرب المدينة، وتحركتْ بيروت فأعلنت ولاءها لمكسيموس في الغرب، وحذت حذوها الإسكندرية، وانبرى يوحنا الذهبي الفم تلميذ ليبانيوس، وكان لا يزال كاهنًا في مسقط رأسه أنطاكية، يستغل الذعر لمصلحة الإيمان، فألَّف ميامرَه العشرين وحفظ لنا شيئًا من تفاصيل تلك الحوادث،٢٢ وأمر ثيودوسيوس بتأليف مجلسٍ عدليٍّ للنظر في هذه الحوادث، واتخذ هذا المجلس مركزَه في أنطاكية وحكم وقسا على الرغم من احتجاج الرهبان والأتقياء، ونزع ثيودوسيوس لقب متروبوليت عن أنطاكية وأنعم به على اللاذقية، ثم أصدر عفوًا عامًّا قُبيل عيد الفصح من السنة نفسها.

توحيد الإمبراطورية

وأَحَبَّ غراتيانوس الإمبراطور القبائل الآلانية التي كانت قد فرَّت من سواحل بحر آزوف والتجأتْ إلى داخل حدود الإمبراطورية؛ خوفًا من الهون البرابرة، فألحق أبناء هذه القبائل في الجيش وعطف عليهم عطفًا مستمرًّا، فأثار بذلك حَسَدَ العناصر الأُخرى في الجيش، فتمردتِ الكتائب الرومانية في بريطانية ونادت في السنة ٣٨٣ بمكسيموس أحد النبلاء الأسبان إمبراطورًا، وحذت حذوها كتائبُ الجيش في ألمانيا، ونزل مكسيموس بجُنُوده عند مصب الرين، فنهض غراتيانوس إليه وتَلَاقَى الجيشان في منطقة باريز، ولكن عساكر الإمبراطور خانت سيدها، ففر غراتيانوس في ثلاثمائة فارس، ولحق به فرسانُ مكسيموس فأدركوه في ليون وقتلوه في الخامس عشر من آب سنة ٣٨٣.

ثم أرسل مكسيموس يستدعي إليه والنتنيانوس الثاني أخا غراتيانوس الأصغر، معترفًا بحقه بالملك مدعيًا الحكم بحق الوصاية على الأمير القاصر، فأما ثيودوسيوس فحين أَتَتْهُ هذه الأنباءُ أَسْرَعَ في السنة ٣٨٤ إلى إيطالية لينظر في الأمر، وظن الناس أنه إنما قام ليحارب مكسيموس وليعيد الحق إلى نصابه، ولكنه أبرم مع المغتصب صلحًا أعرج، فجعل مكسيموس أوغوسطًا ثالثًا مشترطًا عليه إبقاءَ إيطالية بيد الإمبراطور القاصر ووالدته يوستينة، ولكن مكسيموس نكث بالشرط وزحف على إيطالية في السنة ٣٨٧، ففرَّ والنتنيانوس الثاني إلى الشرق واستقرَّ في ثيسالونيكية، فزحف ثيودوسيوس في صيف السنة ٣٨٨ بجيشه إلى حدود إيطالية وحارب مكسيموس وانتصر عليه، فاستسلم مكسيموس في أكويلية ولكن ثيودوسيوس أحاله إلى الجند فقتلوه، وقام هو إلى ميلان وأقام فيها سنتين، وسيَّر والنتنيانوس الثاني إلى غالية ليدبر أمورها.

فلما كانت السنة ٣٩٢ قام والنتنيانوس هذا إلى فيينة ليصد هجومًا بربريًّا قويًّا، فقُتل فيها — على قول إحدى الروايات — وانتحر — على قول غيرها — فاختار قائد العساكر خطيبًا غاليًّا اسمه أوجانيوس وأعلنه إمبراطورًا في ليون، وانتقل هذا الإمبراطور في ربيع السنة ٣٩٣ إلى إيطالية فأقام فيها، فألحت غلَّة زوجة ثيودوسيوس الثانية وأخت ولنتنيانوس بوجوب الاقتصاص من أوجانيوس؛ لأنها اتهمتْه بمقتل أخيها، فنهض ثيودوسيوس إليه في صيف السنة ٣٩٤، وانتصر عليه في مداخل إيطالية الشمالية وأمر بقتله فقتل في جواقيلان، وهكذا أصبح ثيودوسيوس هو الحاكمَ الفرد في الإمبراطورية.

الوثنية تُشرِف على التلف

وفي الوقت الذي كان فيه ثيودوسيوس يضطهد الهرطقة والخروجَ على العقيدة الأرثوذكسية الكاثوليكية؛ كان يضيِّق الخناق على الوثنية ليخمد أنفاسها، فأبطل زيارة الهياكل وذبح الذبائح والعيافة بأكباد الحيوانات وأحشائها، وأَدَّى هذا — بطبيعة الحال — إلى إغلاق الكثير من الهياكل وإلى اقتحام الجماهير بعضها؛ لنهبها وتدميرها.

ثم عاد فمنع في السنة ٣٩١ الذبائح وزيارة الهياكل وتكريم التماثيل، وفرض غراماتٍ ثقيلةً على الحكام والموظفين الذين يقترفون مثل هذه الذنوب، وأمر بإخراج مذبح آلهة النصر من بهو مجلس الشيوخ في رومة، وكان يوليانوس قد أعاده إلى هذا البهو بعد إخراجه منه في عهد قسطنطين، فاضطرب الشيوخُ الوثنيون، ورأوا في ذلك تمثيلًا وتنكيلًا بمجد رومة وعظمتها، وأوفدوا سيماخوس الخطيب إلى ميلان؛ ليلتمس إعادةَ النظر في هذا التدبير وإرجاع المذبح إلى مكانه.

وعلم أمبروسيوس أسقف ميلان بمهمة سيماخوس، فكتب إلى البلاط يرجو المحافظةَ على حرية المعتقد المسيحي ويبين أنه ليس من هذه الحرية في شيءٍ إكراهُ الشيوخ المسيحيين على الاجتماع والتشاوُر في قربٍ من مذبحٍ وثنيٍّ.

ووصل سيماخوس إلى ميلان وتكلم باسم الشيوخ الوثنيين، فطالب باحترام جميع الأديان وقال: يُمكن الوصولُ إلى الحقيقة الدينية بطُرُق متعددة، ثم أشار إلى يَمين الولاء المفروضة على جميع الأعضاء وأبان أنه إذا لم يكن ثمة مذبحٌ في بهو المجلس فعلى أَي شيء يقسم الأعضاء اليمين؟ ولكن ثيودوسيوس كان شديد التمسك بالنصرانية فأحال عريضة الشيوخ إلى المجلس الإمبراطوري الأعلى مع الإيعاز برفضها، وفي السنة ٣٩٢ أصدر الإمبراطور أمرًا خاصًّا إلى نائبه في مصر يُوجب تطهيرَ هذا البلد مِن أدران الوثنية، فأقفل السيرابيوم في الإسكندرية، واتفق أن أراد ثيوفيلوس أسقف الإسكندرية أن يحوِّل هيكلًا وثنيًّا إلى كنيسة مسيحية فثارتْ ثائرةُ الوثنيين في الإسكندرية والتجئوا إلى السيرابيوم واعتصموا فيه.

وحَضَّهُم الفيلسوفُ أوليمبيوس الوثني على الاستماتة في سبيل دينهم، فأمر ثيودوسيوس بهدم الهيكل وتدميره، وألح ثيوفيلوس بوجوب تقطيع تمثال سيرابيس بالفئوس، وكان الناسُ يَعتقدون أن سيرابيس يقابل مثل هذا العمل بالزلزال، لكن ما إن سقط التمثالُ وهُدمت قاعدتُهُ حتى خرج منها جيشٌ من الجراذين! ثم أُضرمت النار في أمتعة الهيكل الكبير فاحترق معها عددٌ غيرُ قليلٍ من نفائس المخطوطات اليونانية، وضاعت بضياعها صفحةٌ من تاريخ العلم والمدنية.

الوفاة

وكان ثيودوسيوس قد أدمن شُرب الخمر وما يتبعها من مَلَذَّات، فأسرف على صحته، وتُوُفي في ميلان في السابع عشر من كانون الثاني سنة ٣٩٥، وأبَّنه أمبروسيوس في الخامس والعشرين من شهر شباط، مؤكدًا هلاك مكسيموس وأوجانيوس وخلاص ثيودوسيوس.

١  Salutius Secundus.
٢  Jovianus وقد ورد «يونيانوس» في المقريزي وغيره.
٣  Socrates, Hist. Ecc., III, 25.
٤  Sozomenus, Hist. Ecc., VI, 3.
٥  Valentinianus.
٦  Valens وفي تاريخ ابن العميد: ولنطنيان ووالنش.
٧  Athanaricus.
٨  Fritigern, Alaviv.
٩  Piganiol, A., Emp. Chrétien, 210.
١٠  Patrologia Graeca, XLVI, 557.
١١  Piganiol, A., Emp. Chrétien, 216.
١٢  Christiani Catholici.
١٣  Cod. XVI, 2, 25.
١٤  وكانت قد جرت العادة منذ عهد قسطنطين الكبير أن يفرِّق بين الكثلكة النيقية ecclesia catholica وبين الهرطقة Haeretici.
١٥  وكان النص النيقاوي: «نزل من السماء، وتجسد، وصار إنسانًا، وتألم وقام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماوات، وسيأتي ليدين الأحياء والأموات.»
١٦  Lagier, C., Orient Chrétien, II, 282.
خلاصة تاريخ الكنيسة، ترجمة الخوري يوسف البستاني، مطبعة الآباء اليسوعيين، الجزء الأول، ص٢٢٥.
١٧  وفي النص النيقاوي: «نؤمن بالروح القدس.»
١٨  المجمع الثاني: القانون الثالث، اطلب أيضًا مقال لوران V. Laurent، في المجلة Byzantion في سنتها السابعة، ص٥١٢.
١٩  Piganiol, A., Emp. Chrét. 220.
٢٠  Procopius, Aed. III, I, 245-246; Chapot, Frontière de l’Euph., 347–361.
٢١  decennalia.
٢٢  Goebel, R., De Ioannis Chrysostomi et Libanu Orationibis, Gottingen, 1910.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤