أمام عرش الموت

إنما الزيجة في أيامنا هذه تجارة مضحكة مبكية يتولى أمورها الفتيان وآباء الصبايا، الفتيان يربحون في أكثر المواطن والآباء يخسرون دائمًا، أما الصبايا المنتقلات كالسلع من منزل إلى آخر فتزول بهجتهن، ونظير الأمتعة العتيقة يصير نصيبهن زوايا المنازل حيث الظلمة والفناء البطيء.

إن المدنية الحاضرة قد أنمت مدارك المرأة قليلًا، ولكنها أكثرت أوجاعها بتعميم مطامع الرجل، كانت المرأة بالأمس خادمة سعيدة فصارت اليوم سيدة تعسة. كانت بالأمس عمياء تسير في نور النهار، فأصبحت مبصرة تسير في ظلمة الليل، كانت جميلة بجهلها فاضلة ببساطتها قوية بضعفها، فصارت قبيحة بتفنُّنها سطحيّة بمداركها بعيدة عن القلب بمعارفها. فهل يجيء يوم يجتمع في المرأة الجمال بالمعرفة والتفنن بالفضيلة، وضعف الجسد بقوة النفس؟ أنا من القائلين إن الارتقاء الروحي سنَّة في البشر، والتقرب من الكمال شريعة بطيئة لكنها فعالة، فإذا كانت المرأة قد ارْتقت بشيء وتأخرت بشيء آخر؛ فلأن العقبات التي تُبلغنا قمة الجبل لا تخلو من مكامن اللصوص وكهوف الذئاب. ففي هذا الجبل الشبيه بالغيبوبة التي تتقدم اليقظة، في هذا الجبل القابض بكفيه على تراب الأجيال الغابرة وبزور الأجيال الآتية، في هذا الجبل الغريب بميوله وأمانيه لا تخلو مدينة من امرأة ترمز بوجودها عن ابنة المستقبل. وسلمى كرامة كانت في بيروت رمز المرأة الشرقية العتيدة، ولكنها كالكثيرين الذين يعيشون قبل زمانهم قد ذهبت ضحية الزمن الحاضر، ونظير زهرة اختطفها تيار النهر قد صارت قهرًا في موكب الحياة نحو الشقاء.

وتزوج منصور بك غالب من سلمى، فسكنا معًا في منزل فخم قائم على شاطئ البحر في رأس بيروت حيث يقطن وجهاء القوم والأغنياء، وبقي فارس كرامة وحده في ذلك البيت المنفرد بين الحدائق والبساتين انفراد الراعي بين أغنامه، ومضت أيام العرس وانقضت ليالي الأفراح، ومرّ الشهر الذي يدعوه الناس عسلًا، تاركًا وراءه شهور الخل والعلقم، مثلما تترك أمجاد الحروب جماجم القتلى في البرية البعيدة … إن بهرجة الأعراس الشرقية تصعد بنفوس الفتيان والصبايا صعود النسر إلى ما وراء الغيوم، ثم تهبط بهم هبوط حجر الرحى إلى أعماق اليمّ، بل هي مثل آثار الأقدام على رمال الشاطئ لا تلبث أن تمحوها الأمواج.

وذهب الربيع وتلاه الصيف وجاء الخريف، ومحبتي لسلمى تتدرج من شغف فتى في صباح العمر بامرأة حسناء إلى نوع من تلك العبادة الخرساء التي يشعر بها الصبي اليتيم نحو روح أمه الساكنة في الأبدية، فالصبابة التي كانت تمتلك كليتي قد تحوَّلت إلى كآبة عمياء لا ترى غير نفسها، والولع الذي كان يستدرّ الدموع من عيني قد انقلب وَلَهًا يستقطر الدم من قلبي، وأنَّة الحنين التي كانت تملأ ضلوعي أصبحت صلاة عميقة تقدّمها روحي في السكينة أمام السماء مستمدة السعادة لسلمى والغبطة لبعلها والطمأنينة لوالدها، ولكنْ باطلًا كنت أشفق وأبتهل وأصلي؛ لأن تعاسة سلمى كانت علة في داخل النفس لا يشفيها سوى الموت. أما بعلها فكان من أولئك الرجال الذين يحصلون بغير تعب على كل ما يجعل الحياة هنيئة ولا يقنعون، بل يطمحون دائمًا إلى ما ليس لهم، وهكذا يظلون معذَّبين بمطامعهم إلى نهاية أيامهم. وباطلًا كنت أرجو الطمأنينة لفارس كرامة؛ لأن صهره لم يستلم يد ابنته ويحصل على أموالها حتى نسيه وهجره، بل صار يطلب حتفه توصلًا إلى ما بقي من ثروته.

كان منصور بك شبيهًا بعمه المطران بولس غالب، وكانت أخلاقه كأخلاقه، ونفسه صورة مصغرة لنفسه، ولم يكن الفرق بينهما إلا بما يفرق الرياء عن الانحطاط. كان المطران يبلغ أمانيه مستترًا بأثوابه البنفسجية، ويشبع مطامعه محتميًا بالصليب الذهبي المعلق على صدره، أما ابن أخيه فكان يفعل كل ذلك جهارًا وعنوة. كان المطران يذهب إلى الكنيسة في الصباح، ويصرف ما بقي من النهار منتزعًا الأموال من الأرامل واليتامى وبسطاء القلب. أما منصور بك فكان يقضي النهار كله متَّبِعًا ملذاته ملاحقًا شهواته في تلك الأزِقَّة المظلمة حيث يختمر الهواء بأنفاس الفساد.

كان المطران يقف يوم الأحد أمام المذبح، ويعظ المؤمنين بما لا يتّعظ به، ويصرف أيام الأسبوع مشتغلًا بسياسة البلاد، أما ابن أخيه فكان يصرف جميع أيامه متاجرًا بنفوذ عمه بين طالبي الوظائف ومريدي الوجاهة. كان المطران لصًّا يسير مختبئًا بستائر الليل، أما منصور بك فكان محتالًا يمشي بشجاعة في نور النهار.

كذا تَبيد الشعوب بين اللصوص والمحتالين مثلما تفنى القطعان بين أنياب الذئاب وقواطع الجزّارين، وهكذا تستسلم الأمم إلى ذوي النفوس المعوجّة والأخلاق الفاسدة، فتتراجع إلى الوراء ثم تهبط إلى الحضيض، فيمر الدّهر ويسحقها بأقدامه مثلما تسحق مطارق الحديد آنية الفخّار.

وماذا يا ترى يجعلني الآن أشغل هذه الصفحات بالكلام عن أمم بائسة يائسة، وأنا قد خصصتها لتدوين حكاية امرأة تاعسة وتصوير خيالات قلب وجيع لم يلمسه الحب بأفراحه حتى صفعه بأحزانه؟! لماذا تراود الدموع أجفاني لذكر شعوب خاملة ومظلومة، وأنا قد وقفت دموعي على ذكرى أيام امرأة ضعيفة لم تعانق الحياة حتى احتضنها الموت؟ ولكن أليست المرأة الضعيفة هي رمز الأمة المظلومة؟ أليست المرأة المتوجِّعة بين ميول نفسها وقيود جسدها هي كالأُمَّة المتعذّبة بين حكامها وكهانها؟ أوليست العواطف الخفية التي تذهب بالصبيّة الجميلة إلى ظلمة القبر هي كالعواصف الشديدة التي تغمر حياة الشعوب بالتراب؟ إن المرأة من الأمة بمنزلة الشعاع من السراج، وهل يكون شعاع السراج ضئيلًا إذا لم يكن زيته شحيحًا؟

•••

مضت أيام الخريف وعرّت الرياح الأشجار متلاعبة بأوراقها الصفراء مثلما تداعب الأنواء زبد البحر، وجاء الشتاء باكيًا منتحبًا وأنا في بيروت ولا رفيق لي سوى أحلام تتصاعد بنفسي تارة فتبلغها الكواكب، وتنخفض بقلبي طورًا فتلحده بجوف الأرض.

إن النفس الكئيبة تجد راحة بالعزلة والانفراد فتهجر الناس مثلما يبتعد الغزال الجريح عن سربه ويتوارى في كهفه حتى يبرأ أو يموت.

فذات يوم سمعت باعتلال فارس كرامة، فتركت وحدتي وذهبت لعيادته ماشيًا على ممر منفرد بين أشجار الزيتون المتلمّعة أوراقها الرصاصية بقطرات المطر، متنحيًا عن الطريق العمومية حيث تزعج ضجة المركبات سكينة الفضاء.

بلغت منزل الشيخ ودخلت عليه، فوجدته مُلقى على فراشه مضنى الجسم، شاحب الوجه أصفر اللون، قد غرقت عيناه تحت حاجبيه فباتتا كهوَّتين عميقتين مظلمتين تجول فيهما أشباح السقم والألم، فالملامح التي كانت بالأمس عنوان البشاشة والانبساط قد تقلَّصت واكفهرَّت وأصبحت كصحيفة رمادية متجعدة تكتب عليها العلة سطورًا عريبة ملتبسة. واليدان اللتان كانتا مغلّفتين باللطف واللدانة قد نُحلتا حتى بدت عظام أصابعهما من تحت الجلد كقضبان عارية ترتعش أمام العاصفة.

ولما دنوت منه سائلًا عن حاله، حوّل وجهه المهزول نحوي وظهر على شفتيه المرتجفتين خيال ابتسامة محزنة، وبصوت ضعيف خافت خلته آتيًا من وراء الجدران قال: اذهب، اذهب يا ابني إلى تلك الغرفة وامسح دموع سلمى وسكِّن روعها ثم عدْ بها إليَّ لتجلس بجانب فراشي …

دخلتُ الغرفة المحاذية فوجدت سلمى منطرحة على مقعد وقد غمرت رأسها بزنديها وغرقت وجهها بالمساند، وأمسكت أنفاسها كيلا يسمع والدها نحيبها. فاقتربتُ منها ببطء ولفظت اسمها بصوت أقرب إلى التنهّد منه إلى الهمس، فتحركتْ مضطربة كنائم تراوده الأحلام المخيفة، ثم استوت على مقعدها ونظرت إليّ بعينين شاخصتين جامدتين كأنها ترى شبحًا في عالم الرؤيا، ولا تصدق حقيقة وجودي في ذلك المكان.

وبعد سكوت عميق أرجعنا بتأثيراته السحرية إلى تلك الساعات التي سكرنا فيها من خمرة الآلهة، مسحت سلمى دموعها بأطراف أناملها وقالت متحسِّرة: أرأيت كيف تبدَّلت الأيام؟ أرأيت كيف أضلَّنا الدهر فسرنا مسرعين إلى هذه الكهوف المفزعة؟ في هذا المكان جمعنا الربيع في قبضة الحب، وفي هذا المكان يجمعنا الآن الشتاء أمام عرش الموت، فما أبهى ذلك النهار! وما أشد ظلمة هذا الليل!

قالت هذه الكلمات وقد ابتلعت الغصّات أواخرها، ثم عادت فسترت وجهها بيديها كأن ذكرى الماضي قد تجسّدت، ووقفت أمامها فلم تشأ أن تراها. فوضعت يدي على شعرها قائلًا: تعالي يا سلمى، تعالي ننتصب كالأبراج أمام الزوبعة. هلمي نقف كالجنود أمام الأعداء متلقِّين شفار السيوف بصدورنا لا بظهورنا، فإن صُرعنا نموت كالشهداء وإن تغلَّبْنا نعشْ كالأبطال … إن عذاب النفس بثباتها أمام المصاعب والمتاعب لهو أشرف من تقهقرها إلى حيث الأمن والطمأنينة. فالفراشة التي تظلّ مرفرفة حول السراج حتى تحترق هي أسمى من الخلد الذي يعيش براحة وسلامة في نَفَقِهِ المظلم. والنواة التي لا تحتمل برد الشتاء وثورات العناصر لا تقوى على شق الأرض ولن تفرح بجمال نيسان … هلمي نَسِرْ يا سلمى بقدم ثابتة على هذه الطريق الوعرة رافعين أعيننا نحو الشمس كيلا نرى الجماجم المطروحة بين الصخور، والأفاعي المنسابة بين الأشواك، فإن أوقفنا الخوف في منتصف الطريق أسمعتنا أشباح الليل صراخ الاستهزاء والسخرية، وإن بلغنا قمة الجبل بشجاعة تترنم معنا أرواح الفضاء بأنشودة النصر والاستظهار … خففي عنك يا سلمى وجففي دموعك، وأخفي هذه الكآبة الظاهرة على محيّاك، وقومي نجلس بجانب فراش والدك لأن حياته من حياتك وشفاءه بابتسامتك.

فنظرت إليّ نظرة ملؤها الحنان والرأفة والانعطاف، ثم قالت: أتطلب مني الصبر والتجلد وفي عينيك معنى اليأس والقنوط؟ أيعطي الفقير الجائع خبزه للجائع الفقير؟ أَو يصف العليل دواءً لعليل آخر وهو أحرى بالدواء؟

ثم وقفت وسارت أمامي منحنية الرأس إلى غرفة والدها. جلسنا بقرب مضجع الشيخ العليل وسلمى تتكلف الابتسام وهدوء البال وهو يتكلف الراحة والقوة، وكل منهما شاعر بلوعة الآخر، عالم بضعفه، سامع غصات قلبه، فكانا مثل قوتين متصارعتين يفني بعضهما بعضًا في السكينة. والدٌ دنف يذوب ضنًى لتعاسة ابنته، وابنة محبة تذبل متوجعة بعلة والدها، نفس راحلة ونفس يائسة تتعانقان أمام الحب والموت، وأنا بينهما أتحمل ما بي وأقاسي ما بهما؛ ثلاثة جمعتهم يد القضاء ثم قبضت عليهم بشدة حتى سحقتهم؛ شيخ يمثل بيتًا قديمًا هدمه الطوفان، وصبيّة تحاكي زنبقة قطع عنقها حد المنجل، وفتى يشابه غرسة ضعيفة لوت قامتها الثلوج، وجميعنا مثل ألعوبة بين أصابع الدهر.

وتحرك الشيخ إذ ذاك بين اللحف ومد يده النحيلة نحو سلمى، وبصوت أودعه كل ما في قلب الأب من الرِّقَة والرأفة، وكل ما في الصدر العليل من السقم والألم قال: ضعي يدك في يدي يا سلمى.

فمدت يدها وألقتها بين أصابعه فضمّها بلطف ثم زاد قائلًا: لقد شبعت من السنين يا ولدي، قد عشت طويلًا وتلذذت بكل ما تثمره الفصول، وتمتعت بكل ما تبرزه الأيام والليالي، قد لاحقت الفراش صبيًّا وعانقت الحب فتى وجمعت المال كهلًا، وكنت في هذه الأدوار سعيدًا مغتبطًا … فقدت أمكِ يا سلمى قبل أن تبلغي الثالثة، ولكنها أبقتْكِ لي كنزًا ثمينًا، فكنت تَنْمِين بسرعة نموَّ الهلال، وتنعكس على وجهك ملامح أمك مثلما تنعكس أشعة النجوم في حوض ماء هادئ، وتظهر أخلاقها ومزاياها بأعمالك وأقوالك ظهور الحليّ الذهبية من وراء النقاب الرقيق، فتعزَّيْت بكِ يا ولدي لأنكِ كنتِ مثلَها جميلة وحكيمة … والآن قد صرت شيخًا طاعنًا وراحة الشيوخ بين أجنحة الموت الناعمة، فتعزيْ يا ولدي لأنني بقيت لأراك امرأة كاملة، وافرحي لأني سأبقى بك حيًّا بعد موتي. إن ذهابي الآن هو مثل ذهابي غدًا أو بعده، لأن أيامنا مثل أوراق الخريف، تتساقط وتتبدد أمام وجه الشمس، فإن أسرعت بي الساعات إلى الأبدية فلأنها علمت بأن روحي قد اشتاقت إلى لقاء أمك.

لفظ الكلمات الأخيرة بنغمة مفعمة بحلاوة الحنين والرجاء، ولاحت على وجهه المنقبض أشعة شبيهة بذلك النور الذي ينبثق من أجفان الأطفال، ثم مدَّ يده بين المساند المحيطة برأسه، وانتشل صورة صغيرة قديمة يمنطقها إطار من الذهب قد نعّمت حدودَه ملامس الأيدي ومحتْ نقوشَه قُبلُ الشفاه، ثم قال دون أن يحوِّل عينيه عن الرسم: اقتربي يا سلمى، اقتربي مني يا ولدي لأريك خيال أمك، تعاليْ وانظري ظلها على صفحة من الورق.

فدنت سلمى ماسحة الدموع من مقلتيها كيلا تحول بين ناظريها والرسم الضئيل، وبعد أن حدّقت إليه طويلًا كأنه مرآة تعكس معانيها وشكل وجهها، قربته من شفتيها وقبلته بلهفة مرارًا متوالية ثم صرخت قائلة: يا أماه، يا أماه، يا أماه! ولم تزد على هذه الكلمة، بل عادت فوضعت الرسم على شفتيها المرتعشتين كأنها تريد أن تبث فيه الحياة بأنفاسها الحارة …

إن أعذب ما تحدثه الشفاه البشرية هو لفظة «الأم»، وأجمل مناداة هي: يا أمي، كلمة صغيرة كبيرة مملوءة بالأمل والحب والانعطاف، وكل ما في القلب البشري من الرقة والحلاوة والعذوبة. الأم هي كل شيء في هذه الحياة، هي التعزية في الحزن، والرجاء في اليأس، والقوة في الضعف، هي ينبوع الحنو والرأفة والشفقة والغفران، فالذي يفقد أمه يفقد صدرًا يسند إليه رأسه ويدًا تباركه وعينًا تحرسه …

كل شيء في الطبيعة يرمز ويتكلم عن الأمومة، فالشمس هي أم هذه الأرض ترضعها حرارتها وتحتضنها بنورها، ولا تغادرها عند المساء إلا بعد أن تنوّمها على نغمة أمواج البحر وترنيمة العصافير والسواقي، وهذه الأرض هي أم للأشجار والأزهار تلِدُها وتُرضعها ثم تَفطمها. والأشجار والأزهار تصير بدورها أمهات حنونات للأثمار الشهية والبزور الحية. وأم كل شيء في الكيان هي الروح الكلية الأزلية الأبدية المملوءة بالجمال والمحبة.

وسلمى كرامة لم تكن تعرف أمها لأنها ماتت وهي طفلة، وقد شهقت متأثرة عندما رأت رسمها ونادتها: يا أماه، قَسْرَ إرادتِها؛ لأن لفظة الأم تختبئ في قلوبنا مثلما تختبئ النواة في قلب الأرض، وتنبثق من بين شفاهنا في ساعات الحزن والفرح، كما يتصاعد العطر من قلب الوردة في الفضاء الصافي والممطر.

كانت سلمى تحدِّق إلى رسم أمها ثم تقبِّله بلهفة ثم تلزه إلى صدرها الخفوق، ثم تتأوه متنهِّدة، ومع كل تنهّدة تفقد جزءًا من قواها، حتى إذا ما وهت الحياة في جسدها النحيل هوت وسقطت بجانب سرير أبيها، فوضع كلتا يديه على رأسها قائلًا: قد أريتُكِ يا ولدي شبح أمكِ على صفحة من الورق، فأصغي إليَّ لأسمعك أقوالها.

فرفعت سلمى رأسها مثلما تفعل الفراخ في العش عندما تسمع حفيف أجنحة العصفورة بين القضبان، ونظرت إليه مصغية صاغرة كأن ذاتها المعنوية قد استحالت إلى أعين محدِّقة وآذان واعية.

فقال والدها: كنت طفلة رضيعة عندما فقدت أمك والدها الشيخ، فحزنت لفقده وبكت بكاء حكيم متجلد، ولكنها لم تعد من جانب قبره حتى جلست بجانبي في هذه الغرفة وأخذت يدي براحتيها وقالت: قد مات والدي يا فارس وأنت باقٍ لي وهذه هي تعزيتي. إن القلب بعواطفه المتشعِّبة يماثل الأرزة بأغصانها المتفرقة، فإذا ما فقدت شجرة الأَرْز غصنًا قويًّا تتألم ولكنها لا تموت، بل تحوّل قواها الحيوية إلى الغصن المجاور لينمو ويتعالى ويملأ بفروعه الغضّة مكان الغصن المقطوع. هذا ما قالته والدتك يا سلمى عندما مات أبوها، وهذا ما يجب عليك أن تقوليه عندما يأخذ الموت جسدي إلى راحة القبر وروحي إلى ظل الله.

فأجابت سلمى متفجِّعة: فقدت أمي والدها فبقيت أنت لها، فمن يبقى لي إذا فقدتك يا والدي؟ مات والدها وهي في ظلال زوج محبّ فاضل أمين، مات والدها فبقي لها طفلة تغمر رأسها الصغير بثدييها وتطوق عنقها بذراعيها، فمن يبقى لي إذا فقدتك يا والدي؟ أنت أبي وأمي ورفيق حداثتي ومهذّب شبيبتي، فبمن أستعيض إذا ما ذهبت عني؟

قالت هذا وحوَّلت عينيها الدامعتين نحوي وأمسكت بيمينها طرف ثوبي ثم قالت: ليس لي غير هذا الصديق يا والدي، ولن يبقى لي سواه إذا ما تركتني. فهل أتعزى به وهو متعذِّب مثلي؟ هل يتعزى كسير القلب بالقلب الكسير؟ إن الحزينة لا تتصبر بحزن جارتها كما أن الحمامة لا تطير بأجنحة مكسورة. هو رفيق لنفسي ولكنني قد أثقلت عاتقه بأشجاني حتى لوَيْتُ ظهره وسملت عينيه بعبراتي، فلم يعد يرى غير الظلمة. هو أخ أحبه ويحبني مثل جميع الإخوة يشترك بالمصيبة ولا يخففها، ويساعد بالبكاء فيزيد الدمع مرارة والقلب احتراقًا.

كنت أسمع سلمى متكلمة وعواطفي تنمو وصدري يضيق حتى شعرت بأن أضلعي تكاد تتفجر حناجر وفوّهات. أما الشيخ فكان ينظر إليها وجسده المهزول يهبط ببطء بين الوسائد والمساند، ونفسه المتعبة ترتجف كشعلة السراج أمام الريح، ثم بسط ذراعيه وقال بهدوء: دعيني أذهب بسلام يا ولدي، لقد لمحت عيناي ما وراء الغيوم، فلن أحوّلهما نحو هذه الكهوف. دعيني أطير فقد كسرت بأجنحتي قضبان هذا القفص … لقد نادتني أمك يا سلمى فلا توقفيني … ها قد طابت الريح وتبدد الضباب عن وجه البحر فرفعت السفينة شراعها وتأهبت للمسير فلا توقيفها ولا تنزعي دفتها، دعي جسدي يرقد مع الذين رقدوا، ودعي روحي تستيقظ لأن الفجر قد لاح والحلم قد انتهى … قبِّلي روحي بروحك … قبليني قبلة رجاء وأمل ولا تسكبي قطرة من مرارة الحزن على جسدي لئلا تمتنع الأعشاب والأزهار عن امتصاص عناصره، ولا تذرفي دموع اليأس على يدي لأنها تنبت شوكًا على قبري. ولا ترسمي بزفرات الأسى سطرًا على جبهتي؛ لأن نسيم السحر يمر ويقرأه فلا يحمل غبار عظامي إلى المروج الخضراء … قد أحببتك بالحياة يا ولدي وسوف أحبك بالموت، فتظل روحي قريبة منك لتحميك وترعاك.

والتفت الشيخ إليّ وقد انطبقت أجفانه قليلًا فلم أعد أرى سوى خطين رماديين مكان عينيه، ثم قال وسكينة الفناء تسترق ألفاظه: أما أنت يا ابني فكن أخًا لسلمى مثلما كان والدك لي. كن قريبًا منها في ساعات الشدة، وكن صديقًا لها حتى النهاية، ولا تدعها تحزن لأن الحزن على الأموات غلطة من أغلاط الأجيال الغابرة. بل اتْلُ على مسمعها أحاديث الفرح وأنشدها أغاني الحياة فتسلو وتتناسى … قل لأبيك أن يذكرني، سله فيخبرك عن مآتي أيامي عندما كان الشباب يحلِّق بنا إلى الغيوم … قل له إنني أحببته بشخص ابنه في آخر ساعة من حياتي …

وسكت دقيقة وظلت أشباح ألفاظه تدب على جدران الغرفة، ثم عاد فنظر إلي وإلى سلمى بوقت واحد وقال همسًا: لا تدعوا طبيبًا ليطيل بمساحيقه ساعات سجني، لأن أيام العبودية قد مضت، فطلبت روحي حرية الفضاء، ولا تدعوا كاهنًا إلى جانب فراشي، لأن تعازيمه لا تكفر عن ذنوبي إن كنت خاطئًا، ولا تسرع بي إلى الجنة إن كنت بارًّا. إن إرادة البشر لا تغير مشيئة الله، كما أن المنجّمين لا يحولون مسير النجوم. أما بعد موتي فليفعل الأطباء والكهان ما شاءوا، فاللجّة تنادي اللجة، أما السفينة فتظل سائرة حتى تبلغ الساحل …

•••

عندما انتصف ذلك الليل المخيف فتح فارس كرامة عينيه الغارقتين في ظلمة النزع، فتحهما لآخر مرة، وحولهما نحو ابنته الجاثية بجانب مضجعه، ثم حاول الكلام فلم يستطع، لأن الموت كان قد تشرب صوته فخرجت هذه الألفاظ لهاثًا عميقًا من بين شفتيه: ها قد ذهب الليل … وجاء الصباح … يا سلمى. يا. يا سلمى …

ثم نكس رأسه وابيضّ وجهه وابتسمت شفتاه وأسلم الروح.

ومدت سلمى يدها ولمست يد والدها فوجدتها باردة كالثلج، فرفعت رأسها ونظرت إليه فرأت وجهه مبرقعًا بنقاب الموت، فجمدت الحياة في جسدها وجفت الدموع في محاجرها، فلم تتحرك ولم تصرخ ولم تتأوّه، بل بقيت محدقة به بعينين جامدتين كعيني التمثال، ثم تراخت أعضاؤها مثلما تتراخى طيات الثوب البليل، وهبطت حتى لمست جبهتها الأرض ثم قالت بهدوء: أشفق يا رب وشدد جميع الأجنحة المتكسرة.

•••

مات فارس كرامة وعانقت الأبدية روحه واسترجع التراب جسده، واستولى منصور بك على أمواله، وظلت ابنته أسيرة تعاستها ترى الحياة مأساة هائلة تمثلها المخاوف أمام عينيها.

أما أنا فكنت ضائعًا بين أحلامي وهواجسي، تنتابني الأيام والليالي مثلما تنتاب النسور والعقبان لحمان الفريسة، فكم حاولت أن أفقد ذاتي بين صفحات الكتب لعلني أستأنس بأخيلة الذين طواهم الدهر، وكم جربت أن أنسى حاضري لأعود بقراءة الأسفار إلى مسارح الأجيال الغابرة، فلم يُجْدِني كل ذلك نفعًا، بل كنت كمن يحاول إخماد النار بالزيت، لأنني لم أكن أرى من مواكب الأجيال سوى أشباحها السوداء، ولا أسمع من أنغام الأمم غير الندب والنواح، فسفر أيوب كان عندي أجمل من مزامير داود، ومراثي أرميا كان أحب لديّ من نشيد سليمان، ونكبة البرامكة أشد وقعًا في نفسي من عظمة العباسيين، وقصيدة ابن زريق أكثر تأثيرًا من رباعيات الخيام، ورواية هملت أقرب إلى قلبي من كل ما كتبه الإفرنج.

كذا يُضعف القنوط بصيرتنا، فلا نرى غير أشباحنا الرهيبة، وهكذا يصمّ اليأس آذاننا، فلا نسمع غير طرقات قلوبنا المضطربة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤