بين عشتروت والمسيح

بين تلك البساتين والتلول التي تصل أطراف بيروت بأذيال لبنان يوجد معبد صغير قديم العهد محفور في قلب صخرة بيضاء قائمة بين أشجار الزيتون واللوز والصفصاف. ومع أن هذا المعبد لا يبعد أكثر من نصف ميل عن طريق المركبات، فقد قل من عرفه من محبي الآثار والخرائب القديمة، فهو مثل أشياء كثيرة خطيرة في سوريا مختبئ وراء ستائر الإهمال، فكأن الإهمال قد أبقاه محجوبًا عن عيون الأثريين ليجعله خلوة لنفوس المتعبين ومزارًا للمحبين المستوحشين.

والداخل إلى هذا المعبد العجيب يرى على الجدار الشرقي منه صورة فينيقية الشواهد والبينات، محفورة في الصخر، قد محت أصابع الدهر بعض خطوطها ولوّنت الفصول معالمها؛ وهي تمثل عشتروت ربة الحب والجمال جالسة على عرش فخم، ومن حولها سبع عذارى عاريات واقفات بهيئات مختلفة، فالواحدة منهن تحمل مشعلًا، والثانية قيثارة، والثالثة مبخرة، والرابعة جرة من الخمر، والخامسة غصنًا من الورد، والسادسة إكليلًا من الغار، والسابعة قوسًا وسهامًا، وجميعهن ناظرات إلى عشتروت، وعلى وجوههن سماء الخضوع والامتثال.

وعلى الجدار الثاني صورة أخرى أحدث عهدًا وأكثر ظهورًا، تمثِّل يسوع الناصري مصلوبًا، وإلى جانبه أمه الحزينة ومريم المجدلية وامرأتان ثانيتان تنتحبان. وهذه الصورة البيزنطية الأسلوب والقرائن تدل على كونها حُفرت في القرن الخامس أو السادس للمسيح.

وفي الجدار الغربي كوتان مستديرتان، يدخل منهما شعاع الشمس عند أصيل النهار، وينسكب على الصورتين فتظهران كأنهما طُليتا بماء الذهب.

وفي وسط المعبد حجر من الرخام مربع الشكل على جوانبه نقوش ووسامات قديمة الطراز، قد انحجب بعضها تحت كتلات متحجرة من الدماء، تدل على أن الأقدمين كانوا ينحرون ذبائحهم على هذا الحجر، ويصبون فوقه قرابين الخمر والعطر والزيت.

ولم يكن في هذا المعبد الصغير شيء آخر سوى سكينة عميقة تعانق النفس، وهيبة سحرية تبيح بتموجاتها أسرار الآلهة، وتتكلم بلا نطق عن مآتي الأجيال الغابرة ومسير الشعوب من حالة إلى حالة ومن دين إلى دين، وتستميل الشاعر إلى عالم بعيد عن هذا العالم، وتقنع الفيلسوف بأن الإنسان مخلوق ديِّن يشعر بما لا يراه، ويتخيل ما لا تقع عليه حواسه، فيرسم لشعوره رموزًا تدل بمعانيها على خفايا نفسه، ويجسم خياله بالكلام والأنغام والصور والتماثيل التي تظهر بأشكالها أقدس ميوله في الحياة وأجمل مشتهياته بعد الموت.

في هذا الهيكل المجهول كنتُ ألتقي سلمى كرامة مرة في الشهر، فنصرف الساعات الطوال ناظرين إلى الصورتين الغريبتين مفكرين بفتى الأجيال المصلوب فوق الجلجلة، مستحضرين إلى مخيلتينا أشباح الفتيان والصبايا الفينيقيين الذين عاشوا وعشقوا وعبدوا الجمال بشخص عشتروت، فحرقوا البخور أمام تماثيلها، وهرقوا الطيوب على مذابحها، ثم طوتهم الأرض فلم يبقَ منهم سوى اسم تردده الأيام أمام وجه الأبدية.

كم يصعب عليَّ الآن أن أدوّن بالكلام ذكرى تلك الساعات التي كانت تجمعني بسلمى، تلك الساعات العلوية المكتنفة باللذة والألم، والفرح والحزن، والأمل واليأس، وكل ما يجعل الإنسان إنسانًا والحياة لغزًا أبديًّا. ولكن كم يصعب عليّ أن أذكرها ولا أرسم بالكلام الضئيل خيالًا من أخيلتها ليبقى مثلًا لأبناء الحب والكآبة.

كنا نختلي في ذلك الهيكل القديم، فنجلس في بابه ساندين ظهرينا إلى جداره مردِّدين صدى ماضينا، مستقصين مآتي حاضرنا، خائفين مستقبلنا، ثم نتدرج إلى إظهار ما في أعماق نفسينا، فيشكو كل منا لَوْعته وحرقة قلبه وما يقاسيه من الجزع والحسرة، ثم يصبّر واحدنا الآخر، باسطًا أمامه كل ما في جيوب الأمل من الأوهام المفرحة والأحلام العذبة، فيهدأ روعنا وتجف دموعنا وتنفرج ملامحنا، ثم نبتسم متناسين كل شيء سوى الحب وأفراحه، منصرفين عن كل أمر إلا النفس وميولها. ثم نتعانق فنذوب شغفًا وهيامًا. ثم تقبِّل سلمى مفرق شعري بطهر وانعطاف، فتملأ قلبي شعاعًا، وأقبِّل أطراف أصابعها البيضاء، فتغمض عينيها، وتلوي عنقها العاجي، وتتورد وجنتاها باحمرار لطيف يشابه الأشعة الأولى التي يلقيها الفجر على جباه الروابي. ثم نسكت وننظر طويلًا نحو الشفق البعيد حيث الغيوم المتلوِّنة بأنوار المغرب البرتقالية.

ولم تكن اجتماعاتنا مقتصرة على مبادلة العواطف وبثّ الشكوى، بل كنا ننتقل على غير معرفة بنا إلى العموميات، فنتبادل الآراء والأفكار في شؤون هذا العالم الغريب، ونتباحث في مرامي الكتب التي كنا نقرأها ذاكرين حسناتها وسيئاتها، وما تنطوي عليه من الصور الخيالية والمبادئ الاجتماعية، فتتكلم سلمى عن منزلة المرأة في الجامعة البشرية وعن تأثير الأجيال الغابرة على أخلاقها وميولها، وعن العلاقة الزوجية في أيامنا هذه وما يحيط بها من الأمراض والمفاسد. وإني أذكر قولها مرة: إن الكتّاب والشعراء يحاولون إدراك حقيقة المرأة، ولكنهم للآن لم يفهموا أسرار قلبها ومخبّآت صدرها، لأنهم ينظرون إليها من وراء نقاب الشهوات، فلا يرون غير خطوط جسدها، أو يضعونها تحت مكبرات الكره، فلا يجدون فيها غير الضعف والاستسلام.

وقولها لي مرة أخرى وقد أشارت بيدها إلى الرسمين المحفورين على جدران الهيكل: في قلب هذه الصخرة قد نقشت الأجيال رمزين يُظهران خلاصة ميول المرأة ويستجليان غوامض نفسها المراوحة بين الحب والحزن، بين الانعطاف والتضحية، بين عشتروت الجالسة على العرش ومريم الواقفة أمام الصليب … إن الرجل يشتري المجد والعظمة والشهرة، ولكن هي المرأة التي تدفع الثمن.

ولم يدرِ باجتماعاتنا السرية أحد سوى الله وأسراب العصافير المتطايرة بين تلك البساتين، فسلمى كانت تجيء بمركبتها إلى المكان المدعوّ بحديقة الباشا، ثم تسير الهويناء على الممرات المنفردة حتى تبلغ المعبد الصغير، فتدخله مستندة إلى مظلتها، وعلى وجهها لوائح الأمن والطمأنينة، فتجدني منتظرًا مترقبًا مشتاقًا بكل ما في الشوق من الجوع والعطش.

ولم نخَف قط عين الرقيب ولا شعرنا بوخز الضمير؛ لأن النفس إذا تطهّرت بالنار واغتسلت بالدموع تترفع عما يدعوه الناس عيبًا وعارًا، وتتحرر من عبودية الشرائع والنواميس التي سنّتها التقاليد لعواطف القلب البشري، وتقف برأس مرفوع أمام عروش الآلهة.

إن الجامعة البشرية قد استسلمت سبعين قرنًا إلى الشرائع الفاسدة، فلم تعد قادرة على إدراك معاني النواميس العلوية الأولية الخالدة. وقد تعودت بصيرة الإنسان النظر إلى ضوء الشموع الضئيلة، فلم تعد تستطيع أن تحدق إلى نور الشمس. لقد توارثت الأجيال الأمراض والعاهات النفسية بعضها عن بعض حتى أصبحت عمومية، بل صارت من الصفات الملازمة للإنسان، فلم يعد الناس ينظرون إليها كعاهات وأمراض، بل يعتبرونها كخلال طبيعية نبيلة أنزلها الله على آدم، فإذا ما ظهر بينهم فرد خالٍ منها ظنوه ناقصًا محرومًا من الكمالات الروحية.

أما الذين سيعيبون سلمى كرامة محاولين تلويث اسمها، لأنها كانت تترك منزل زوجها الشرعي لتختلي برجل آخر، فهم السقماء الضعفاء الذين يحسبون الأصحاء مجرمين وكبار النفوس متمرِّدين، بل هم كالحشرات التي تدبّ في الظلمة وتخشى الخروج إلى نور النهار كيلا تدوسها أقدام العابرين.

إن السجين المظلوم الذي يستطيع أن يهدم جدران سجنه ولا يفعل يكون جبانًا. وسلمى كرامة كانت سجينة مظلومة، ولم تستطع الانعتاق، فهل تُلام لأنها كانت تنظر من وراء نافذة السجن إلى الحقول الخضراء والفضاء الواسع؟ هل يحسبها الناس خائنة لأنها كانت تجيء من منزل منصور بك غالب لتجلس بجانبي بين عشتروت المقدسة والجبار المصلوب؟ ليقل الناس ما شاؤوا؛ فسلمى قد اجتازت المستنقعات التي تغمر أرواحهم، وبلغت ذلك العالم الذي لا يبلغه عواء الذئاب وفحيح الأفاعي. وليقل الناس ما أرادوا عني؛ فالنفس التي شاهدت وجه الموت لا تذعرها وجوه اللصوص، والجندي الذي رأى السيوف محتبكة فوق رأسه وسواقي الدماء تجري تحت قدميه لا يحفل بالحجارة التي يرشقه بها صبيان الأَزِقَّة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤