الفصل الأول

لوثر وحركة الإصلاح الديني

في الرابعة من عصر الأربعاء، الموافق ١٧ من أبريل عام ١٥٢١، مَثَلَ مارتن لوثر الراهب المحروم كنسيًّا والأستاذ الجامعي البالغ من العمر ٣٧ عامًا أمام أعيان «الإمبراطورية الرومانية المقدسة»، الذين اجتمعوا لعقْدِ مجلسهم التشريعي، وهو مجلس مكلَّف ومطوَّل يناقِش الشئون المالية والعسكرية المُلِحَّة والهرطقة، كما في هذه الحالة. قبل انعقاد هذا المجلس بيوم واحد، كان لوثر قد بلغ مدينة فورمس الألمانية على نهر الراين، بعد رحلة دامت لأسبوعين، كانت أشبه بموكب للنصر منها إلى مسيرة مَهيبة شعائرية قد تُفضي إلى مقتله. كان الإمبراطور شارل الخامس، الذي كان عمره آنذاك ٢١ عامًا فقط، ولم يَمضِ على تقلُّده عرش الإمبراطورية الرومانية سوى عامين، قد استدعى لوثر إلى مدينة فورمس ليعترف علنًا بخطأ الكتب التي كان قد كتبها؛ الكتب التي كانت آنذاك مكدَّسة على الطاولة أمامه في قصر ضيافة الأسقف الفخم بجوار الكاتدرائية. وعلى الرغم من أن لوثر أَمَلَ في جلسة استماعٍ عادلةٍ بمدينة فورمس، فقد وجد كلَّ العوامل ضده؛ إذ أخبره المسئول عن الجلسة أنه مسموح له بالإجابة عن سؤالين فقط، هما: هل هو مؤلِّف الكتب التي نُشِرت باسمه؟ وإن كان الجواب نعم، فهل يؤيِّد ما كتبه أم أنه يرغب في التراجع عن أي شيء قاله؟

قد تكون قصة مارتن لوثر مألوفة إلى هذا الحد، لا سيما إن اعتبرنا أن جوابه هو رفض إنكار ما قاله أو التراجع عنه، وأنه قال كلماته الأخيرة الشهيرة: «هأنذا أقف، ولا يسعني أن أفعل غير ذلك، فَلْيساعدْني الرب. آمين.» على مدار نصف القرن الماضي، تشكَّكَ الدارسون في أن لوثر نطق حقًّا بعبارة: «هأنذا أقف، ولا يسعني أن أفعل غير ذلك.» التي أوحت لرولاند باينتون بعنوان سيرة شهيرة. ومع ذلك، فتلك العبارة هي سبب شهرته بأنه بادئ «حركة الإصلاح البروتستانتي» الشجاع المقدام، وهي شهرة عزَّزها على مدار السنين الكُتَّاب ومنتجو الأفلام والفنانون الذين صوَّروا هذا المشهد، وتثبيت لوثر «الأطروحات الخمس والتسعين» على جدار الكنيسة عام ١٥١٧ كأعمال صدرت عن متمرد على السلطة ومدافع عن الحرية الفردية. غير أن ذلك التصوير مضلل؛ فلو كانت «الأطروحات» قد عُلِّقت فعلًا، فقد كان لوثر يهدف فقط إلى لفت الانتباه إلى مناقشةٍ أكاديميةٍ، وقد طلب في مدينة فورمس مُهلة يوم لصياغة ردِّه على الأسئلة المتعلقة بكتبه، وتبيَّن أن الرد الذي تلاه على مجلس فورمس في ١٨ من أبريل عام ١٥٢١ أقلَّ حدة وأكثر تعقيدًا من خِطاب تقريع مضاد للسلطة. وقد أقرَّ بأن بعض كتاباته تضمنت نقدًا لخصومه أشدَّ مما يَليق براهب، لكنه أضاف أن قوانين البابوية وتعليمات الكنيسة عذَّبت ضمائر سَوَادِ الناس، إلى حد أنه إذا تبرأ من كتاباته، فسوف «يدعم الطغيان ويفتح ليس فقط النوافذ، بل الأبواب أيضًا على مصاريعها أمام شَقاء عظيم». كان لوثر أيضًا منتبهًا إلى ما يُمليه عليه ضميره الذي لجأ إليه في الاستنتاج الذي كثيرًا ما يستشهد به، والذي أسماه إجابةً بسيطة مطلَقة: «ما لم أقتنع بأدلة من نصوص الكتب المقدسة أو حجة لا جدال فيها، فأنا مصمِّم على النصوص المقدسة التي استشهدت بها وبما يمليه عليَّ ضميري الذي هو أسير لكلمة الله.»

لم يؤسِّسْ مارتن لوثر تراثًا غربيًّا للحرية الدينية، أو يَسْعَ لتحدي بابا الكنيسة الرومانية والإمبراطور للدفاع عن المفاهيم الحديثة للديمقراطية. ومن الواضح أن لوثر لم يكن يقصد نشر أفكاره إلى هذا المدى، وما كان في وسعه ذلك، مع أن نضاله من أجل الحرية المسيحية على حدِّ وصفه لها في عام ١٥٢٠ مهَّد بالفعل لصراعات تالية من أجل الحرية الدينية. كما أنه لم يحطِّم القيود عمدًا، بل أكد على أن «حركة الإصلاح الديني» لم تكن حملة مبيتة، لكن جاءت كرَدِّ فعلٍ لكتاباته. فما إن شكَّك لوثر علنًا في العقائد التي تعلَّمها والمعتقدات الدينية التي كانت سائدة تلك الأيام، شعرَت السلطات الدينية — التي كانت مستفيدة من ممارسات كصكوك الغفران — بالخطر. وفي روما، فتح مستشارو البابا تحقيقًا أدى إلى عزل مارتن لوثر من الكنيسة، بعدما لم يجد دليلًا تاريخيًّا أو إنجيليًّا مقنِعًا يؤيِّد ادعاءاتهم بالسلطة المطلَقة للبابا. قال لوثر إنه لا يوجد دليل على أن الحواريَّ بطرس، الذي زعم البابوات أنهم خلفاؤه، قد وطئت أقدامه روما، وكلمات المسيح عن بناء كنيسته على صخرة تحمل اسم بطرس لا علاقة لها بالبابوات أو بسلطتهم، لكن اقتراحات مارتن لوثر بتغيير ممارسات المسيحية لتتفق على نحوٍ أوثق مع الكِتَاب المقدَّس أكسبته تأييدَ المثقفين والعامة على حد سواء. وبحلول الوقت الذي وصل فيه لوثر إلى مدينة فورمس عام ١٥٢١، كان في طريقه إلى أن يصبح أشهر كتَّاب ألمانيا والقائدَ الناجح، بعكس أسلافه، لحركة إصلاحٍ دينيٍّ انتشرت على مستوى العالم، وظلت باقية حتى القرن الحادي والعشرين.

اقتبس باينتون في كتابه العبارة الأخيرة من خطاب لوثر، كما سُجِّل في محضر مجلس فورمس، حيث لا يقول لوثر إلا العبارة التالية: «فَلْيساعدني الرب. آمين.» أما الجزء الأول من عبارته «هأنذا أقف …» فلم يظهر إلا في الرواية اللاتينية المتعاطفة لجلسة الاستماع لأقوال لوثر، التي طُبِعت لأول مرة في مدينة فيتنبرج، ويمكن قراءتها في المجلد السابع من طبعة فايمار. كان رَأْي باينتون في الجزء الأول من العبارة كما يلي: «قد تكون كلماتها مع أنها لم تُسجَّل على التوِّ صادقة؛ ذلك لأن المستمعين في تلك اللحظة ربما يكونون قد تأثروا إلى حد أعجزهم عن الكتابة.»

(هأنذا أقف، ص١٨٥)

بعد أن غادر لوثر وأغلب نوابه مدينة فورمس، أصدر الإمبراطور شارل الخامس مرسومًا يعلن أن لوثر ومؤيديه خارجون على القانون. ولما كان الناخب فريدريك (يُطلَق عليه هذا اللقبُ؛ لأنه من الأمراء المُخَوَّلِ لهم انتخاب الإمبراطور الروماني المقدَّس) المؤيِّد للوثر والملقَّب بحكيم ساكسونيا قد توقَّع هذا المرسوم، فقد أمر باعتراض طريق جماعة لوثر في طريق عودتهم إلى الوطن، ومَكَثَ لوثر في بقعة سرية، تَبيَّن أنها قلعة «فارتبورج» القريبة من مدينة إيزيناخ على بُعْد ما يزيد عن ١٠٠ ميل جنوب غرب فيتنبرج؛ البلدة الصغيرة التي أقام فيها لوثر وألقى دروسه بها. كان الأمير فريدريك يقدِّر الشهرة التي أكسبها لوثر لجامعته الناشئة، لكنه في ذلك التوقيت كانت تواجِهُهُ مشكلةٌ متمثِّلة في النحو الذي ينبغي أن يتعامل في ضوئه مع أستاذ جامعته المحروم كنسيًّا والخارج عن القانون. فما إن أُذِيع مرسوم الإمبراطور شارل الخامس حتى أصبح الأمير وأراضيه الساكسونية معرَّضين للخطر، ومن ثَمَّ قرَّر أن يُبْقِي لوثر بمعزل عن الناس. وفي الوقت الذي توارى فيه لوثر عن الأنظار، لم يهدر زملاؤه في فيتنبرج بقيادة آندرو كارلشتادت وقتًا، بل استغلوا الرأي العام لإحداث أول تغييرات ظاهرة في العبادة والحياة الدينية حوَّلت الأفكار إلى أفعال، غير أن هذه التغييرات أثارت القلاقل وأزعجت مجلس بلدية فيتنبرج الذي حثَّ لوثر على العودة، وعليه غادر لوثر فارتبورج مخالفًا رغبة الناخب فريدريك في مارس عام ١٥٢٢ ليستأنف قيادة «جماعته» في فيتنبرج، ولم يَمْضِ وقت طويل قبل أن يُنَحَّى كارلشتادت عن منصبه، ليتولى لوثر قيادة حركة الإصلاح الديني التي غيَّرت الثقافة الأوروبية، وجعلته إحدى الشخصيات العامة التي لا تُنسَى.

على مدى أعوام، عُرِض على زوَّار مقر لوثر في قلعة فارتبورج بقعة في الحائط، اصطدمت عندها محبرة ألقاها لوثر على الشيطان. يعود تاريخ أولى القصص التي تدور حول محبرة إلى نهاية القرن السادس عشر، عندما زعم أحد طلبة فيتنبرج أنه سمع أن الشيطان، مرتديًا زي راهب، قد ألقى محبرة على لوثر. وظهر أول كِتاب يشير إلى بقعة الحبر على الحائط عام ١٦٥٠، وفيما بعد صوَّرت القصة التقليدية لوثر وهو يلقي المحبرة على الشيطان. وشيئًا فشيئًا ظهرت نقطة حبر بجميع المباني التي كان لوثر قد أقام فيها، وأضحت هذه القصة أسطورة ممتعة للكثيرين. بالمثل، ثمة قصص كاذبة تذهب إلى أن لوثر، حال مكوثه بقلعة فارتبورج، قد زاره الشيطان في صورة ذبابة تطن حول رأسه، وكلب أسود كبير يرقد في فراشه.

لم يكن مارتن لوثر كمفكر سياسي أو فلسفي أول مَن امتلك أفكارًا عصرية، لكنه كان آخِر مُصلِح ديني شهدته العصور الوسطى؛ لأن الإصلاحات التي أجراها نجحت، بينما عجز الآخَرون عن تغيير الموقف العام داخل أوروبا. فلولا قيام «حركة الإصلاح الديني» التي فاقت شخص لوثر وأتباعه الأوائل، لظل لوثر مجرد ناقد آخَر عاثر الحظ للكنيسة الرومانية في العصور الوسطى، وربما كان سيُعدَم شأن غيره من المصلحين المخلصين الذين خلَّفوا ميراثًا متواضعًا على أفضل تقدير. ففي مدينة فورمس، يُحيي النصب التذكاري الذي يخلِّد ذكراه، كذلك أربعة مصلحين سابقين له تَمَّ إقصاؤهم أيضًا عن الكنيسة الرومانية، أحدهم من منطقة بوهيميا، وآخَر من إيطاليا، وثالث من فرنسا، ورابع من إنجلترا. ويقف نصب لوثر منتصبًا في المنتصف بما أنه الوحيد الذي صمد في وجه الحرمان من الكنيسة وخطر الإعدام، ليصبح بطلًا في أعين بروتستانتيِّي القرن التاسع عشر الذين شيَّدوا النصب. وستوضح إشارة بسيطة إلى السابقين لمارتن لوثر السببَ الذي يجعل نجاته من الإعدام ليست سوى سبب واحد من الأسباب التي جعلته الأكثر تأثيرًا من بينهم جميعًا؛ فلم يُطلِق مُصلِح آخَر في العصور الوسطى حركة دينية بلغت المدى الجغرافي وحظيت بالتأييد السياسي الذي استأثرت به «حركة الإصلاح الديني البروتستانتي» في القرن السادس عشر.

كان أقدم أسلاف لوثر الذي احتلَّ اسمُه ركنًا من النصب التذكاري هو بيتر والدو؛ وهو تاجر ثري عاش في القرن الثاني عشر من مدينة ليون الفرنسية، وتصرَّف والدو بناءً على وازعٍ شاع في العصور الوسطى، فتخلَّى عن ثرواته وأملاكه ليحذو حذو المسيح وحوارييه الأوائل كالقديس فرنسيس الأسيزي، لكنه بعكس الأخير لم يتلقَّ قَطُّ هو وأتباعه غير الإكليريكيين (العلمانيون) إذْنًا بابويًّا بإلقاء الدروس الدينية أو تشكيل الجماعات الدينية، ومِن ثَمَّ فقد استهانوا بالسلطة الكنسية، وألقوا الدروس الدينية بدون موافقتها، مستخدمين تراجم جزئية للإنجيل باللهجات المحلية، وفي غضون وقت قصير اكتسبوا أتباعًا في جنوب فرنسا وإيطاليا. وأُعلِنَ أن هؤلاء الولدينيسيين — أو مساكين ليون كما لُقِّبوا — مهرطقين بعد أن انتقدوا بذخ الكنيسة وممارساتها؛ كالدعاء للموتى وتقديم صكوك الغفران، ونُبِذوا من الكنيسة في عام ١١٨٤. لكن على الرغم من هذه الوصمة نجا الولدينيسيون من محاكم التفتيش التي كانت مهمتها معاقبة الهراطقة بالهجرة إلى أجزاء أخرى من أوروبا، مختبئين في وحدات صغيرة بين جبال الألب، وبتأسيس كنيسة متواضعة. وانضم أغلب الولدينيسيين فيما بعدُ إلى الجناح الكالفيني من حركة الإصلاح الديني البروتستانتي، لكن هذا لم يحصِّنْهم من النفي والاضطهاد. واندلعت مذبحة غير مبرَّرة لأتباع الحركة الولدينيسية الإيطاليين في عام ١٦٥٥، امتدح على أثرها الشاعر جون ميلتون مبادئ أتباع الحركة ومعاناتهم في سونيتته الثامنة عشرة بعنوان «سونيتة مذبحة بيدمونت الأخيرة».

ثاني مَن احتلَّ اسمه أحد أركان النصب التذكاري من أسلاف لوثر هو جون ويكليف، محاضر جامعة أكسفورد (الذي توفي عام ١٣٨٤). كان ويكليف، الذي عُدَّ لزمن طويل أولَ مترجم للإنجيل إلى الإنجليزية، أقربَ إلى الفلاسفة منه إلى فقهاء الإنجيل أو الناشطين الدينيين، لكنَّ اسمه ارتبط بثورة الفلاحين التي قامت عام ١٣٨١، وبجماعات اللولارد السرية التي نشرت تراجم غير مصرَّحة للكتاب المقدَّس لم يكتبها ويكليف بقلمه. شكَّك ويكليف في أحقية الكنيسة في السيطرة على أملاك المواطنين، ورأى أن القس الفاسق يفقد حقه في ممارسة مهامه ويُحتمل أن يُقصَى عن عضوية الكنيسة بمفهومها الحقيقي؛ بمفهومها كمجتمع من المؤمنين الصالحين الذين قدَّر لهم الرب سلفًا الخلاص. واتُّهِم لكل هذه الأسباب ولغيرها بالهرطقة، وأدان البابا وجامعةُ أكسفورد ومجلسٌ كنسي عامَّ معتقداته. ويُرجَّح أن ويكليف أثناء عزلته في مدينة لوتروورث في العامين الأخيرين من حياته عانَى من سكتة دماغية قبل أن توافيه المنيَّة في عام ١٣٨٤، ودُفِن في فناء الكنيسة، لكن نُبِش قبره وأُخرِجت عظامه عام ١٤٢٨، بأمر من البابا مارتن الخامس، وأُحرقت وأُلقِي رمادها في نهر السويفت.

صمدَت الكثير من كتابات ويكليف بعد وفاته، ويعود هذا بالأخص إلى الشعبية التي تمتعت بها أفكاره في أوساط الدارسين التشيكيين، الذين درس بعضهم في أكسفورد ونسخوا أعماله وعادوا بها إلى مدينة براج، حيث اطَّلَع عليها جون هَس ثالث أعلام حركة الإصلاح الديني الذين تظهر أسماؤهم على نصب مدينة فورمس التذكاري. كان هس دارسًا وناطقًا شهيرًا باسم أفكار حركة الإصلاح الديني، واختير عام ١٤٠٢ رئيسًا لجامعة براج، ونُصِّبَ الواعظ الرئيس لكنيسة بيت لحم المموَّلة بتمويل خاص، والتي أُسِّست عام ١٣٩١ لخدمة الجامعة وشعب براج. ومن منبرها هاجم هس صكوك الغفران وشراء المناصب الكهنوتية والانتهاكات الأخلاقية البابوية، ورأى — شأنه شأن ويكليف — أن الكنيسة الحقة تتألف من مجتمع من المؤمنين المختارين، وتضمنت أطروحته في هذا الصدد فقراتٍ من كتاب ويكليف، لكن لمَّا عارضَه بقوة أساتذةُ الجامعة الألمان، الذين شجبوا أطروحات ويكليف الخمس والأربعين، خسر في نهاية المطاف تأييدَ رئيس أساقفة مدينته، وأصدر البابا مرسومًا بحرمانه كنسيًّا (طرده من المجتمع الكنسي). وفي عام ١٤١٤ استُدعيَ للمثول أمام مجلسٍ عامٍّ للكنيسة في مدينة كونستانس بجنوب ألمانيا، وفشل الملك سيجسموند في حمايته كما وعد، وسُجِن لعامٍ بتهمة اعتناق آراء ويكليف الهرطقية التي أدانها المجلس الكنسي، وحوكم محاكمة غير منصِفة أُدِين على إثرها، وغُضَّ الطرف عن احتجاجاته. وبعد أن تعرض للسخرية والإذلال لكونه مهرطق، أُحرق على وتد في السادس من يوليو عام ١٤١٥، ونُثِر رماده على نهر الراين.

غير أن هس خَلَّف زملاءَ مؤيِّدين وحركة إصلاح حقيقية في مسقط رأسه بوهيميا؛ إذ هبَّ أتباعه التشيكيون وقد ثارت ثائرتهم لإعدامه، وألهبت نيران سخطهم مشاعر قومية ليقفوا في مجابهة ملك تشيكوسلوفاكيا والكنيسة الرومانية، واختاروا كأس العشاء الرباني شعارًا يرمز لمطالبتهم بالخمر الذي حُرِموا منه في قداس العشاء الرباني، والذي اقتصر تقديمه على القسيسين. وأُطلِق على المعتدلين من أتباع هذه الحركة «الأتراكوست» (وهو اسم مشتَّق من اللاتينية يعني «كلا»)؛ لأن أتباعها احتفلوا بقداس العشاء الرباني بتقديم الخبز والخمر كليهما لجميع المتناولين، واستجاب مجلس بازل عام ١٤٣١ لمطالبهم، بعد سلسلة من المعارك التي فشلت في قمع ثورتهم، وصمدت جماعتهم تحت اسم الإخوان البوهيميين، مع بقاء عدد قليل من الكاثوليكيين المخلصين للكنيسة الرومانية حتى حرب الثلاثين عامًا (التي امتدت من عام ١٦١٨ إلى عام ١٦٤٨). اندلعت تلك الحرب بعد أن قذف بعض البروتستانتيين الساخطين مسئولَيْن من الكنيسة الكاثوليكية ومساعدَهما من نوافذ قلعة براج، متهمين إياهم بتقويض حريتهم الدينية، وعلى الرغم من أن الرجال الثلاثة هبطوا على كومة من الروث ونجوا من الموت، قادت تلك الواقعة إلى هزيمة البروتستانتيين ونهاية حركة الإصلاح الديني الهسية.

آخِر أسلاف لوثر الذين صُوِّروا على نصب فورمس التذكاري هو جيرولامو سافونارولا (١٤٥٢–١٤٩٨) وهو راهب دومينيكي حرمه البابا أليكساندر السادس كنسيًّا، ثم أُعدِم بعدما ارتدت عليه محاولاته لقلب فلورنسا إلى جمهورية مسيحية ملتزمة، فبعد أن طَردت القوات الفرنسية أسرة ميديشي الحاكمة من إيطاليا، ليخلفها هو كحاكم فلورنسا الفعلي، بذل مع مؤيديه قصارى جهده لقمع الخطيئة والقضاء على صور العبث بالمدينة؛ فأَصدر قوانين تُحرِّم الميسر والإسراف في الملبس للاقتصاد في الإنفاق، حتى إن نساء المدينة تَدفقنَ على ميدانها العامِّ سنة ١٤٩٧ لإلقاء أدوات الزينة والمرايا والملابس الفاخرة والحلي الباهظة الخاصة بهن في محرقة هائلة أُضرمت في الخلاء، عُرِفت باسم حادثة «حرق الباطل». وبرَّر سافونارولا هذه الإجراءات في عظات حماسية، تستند إلى رؤًى خاصة به، تنبأت بميلاد عصر روحاني جديد، بعد أن تطهَّر العالم من آثامه من خلال المحن الهائلة التي تعرَّض لها. ولما رفض سافونارولا الامتثال لأوامر استدعائه إلى روما، هدَّد بابا الكنيسة الرومانية بحرمان فلورنسا بأسرها من تلقِّي القرابين المقدَّسة. ونظرًا لحرمان شعب فلورنسا من التأييد الفرنسي، انقلب على سافونارولا، واقتحم بعض الغوغاء دير سان ماركو وأسروه مع اثنين من مساعديه، وسلَّموا الثلاثة إلى السلطات المدنية، حيث خضعوا للاستجواب وعُذِّبوا وشُنِقوا جميعًا في ٢٣ من مايو عام ١٤٩٨ في وسط المدينة، وأُحرِقت جثامينهم.

كان لمصمِّمي نصب مدينة فورمس أسبابٌ قوية لتصوير الولدينيسيون وويكليف وهس وسافونارولا كأسلاف للوثر، فقد اشتركوا معه في الكثير من السمات؛ فكان الإنجيل هو أصل دعواهم لإصلاح الحياة الدينية، وقد أيَّدوا ترجمة أجزاء منه إلى اللغة العامية؛ ليتسنى لعامة الناس قراءة الكتاب المقدس بأنفسهم، وشجَّعوا أتباعهم على أن يجعلوا تعاليم المسيح والمسيحيين الأوائل في العهد الجديد مَثَلَهم الأعلى، وكان الوعظ الديني أداة قوية لنشر أفكارهم، وواصلوه حتى بعد أن أُثْنُوا عنه وحُرِموا كنسيًّا. علاوة على ذلك، فقد انتقدوا سلوك رجال الدين بالكنيسة الرومانية وتحدوا السلطات البابوية، وتمتعت حركة إصلاحهم بتسامح سياسي وتأييد جعلها تصمد لفترة في فرنسا وإيطاليا وإنجلترا وبوهيميا؛ فالإصلاح من المبادئ القديمة في المسيحية، وأغلب محاولات التغيير على مر تاريخها بما في ذلك التجديدات الرهبانية اتَّسَمت بسِمَة أو أكثر من تلك السمات.

ما الذي ميَّز لوثر إذن عن الإصلاحيين الآخَرين الذين يحمل نصب فورمس أسماءهم؟ فيما يتصل بجون هس — وهو أكثر مَن ألمَّ لوثر به من أسلافه في الإصلاح — فقد أجاب لوثر عن هذا السؤال أكثر من مرة؛ ففي مناظرة في مدينة لايبزيج عام ١٥١٩ اتَّهم رجل الدين الكاثوليكي جون إيك لوثرَ بأنه اعتنق ثلاثًا من هرطقات هس، فكان ردُّ الأخير هو اتهام أتباع هس بأنهم بوهيميون منشقون، غير أنه أعلن أيضًا أن بعضًا من تصريحات هس التي أُدِينت في كنيسة كونستانس؛ استَمدت إلى حد كبير مصدرها من الإنجيل وتعاليم الدين المسيحي. وقد أرسل له اثنان من جماعة الأتراكوست في براج نسخةً من كتاب هس عن الكنيسة في وقت لاحق من هذا العام، والراجح أنه قرأ الكتاب قراءة سريعة، ففي أوائل عام ١٥٢٠ قال لوثر واصفًا تأثير الكتاب:

آمنتُ واعتنقتُ إلى الآن جميع تعاليم جون هس دون أن أعرف ذلك … باختصار، جميعنا نتبع هس دون أن ندري … وتذهلني هذه الأحكام الإلهية المُريعة التي تصدر بحقنا. أبرز حقائق الكتاب المقدس — التي أُحرِقت علانيةً قبل أكثر من مائة عام — تُدان اليوم ولا يُسمَح لأحد بأن يُقرَّ بها.

هذه الكلمات التي تقر بأن هناك فارقًا ضئيلًا فقط، أو فارقًا لا يُذكَر، بين هس ولوثر بدا كأنها تُحقِّق نبوءة شهيرة، عزاها لوثر بعد ١١ عامًا إلى هس الحبيس الذي قال: «سيحرقون هذه الإوزة (فاسم هس يعني إوزة)، لكن بعد ١٠٠ عام سيضطرون رغمًا عنهم إلى تحمُّل الاستماع إلى أغنية بجعة.» لا يوجد ما يدل على أن هس قد أدلى بهذه النبوءة، لكن أتباع لوثر في كتاباتهم ورسوماتهم التي صوَّروا فيها بجعة إلى جانب لوثر آمَنوا بأنها تحقَّقت بالأخير.

غير أن لوثر لم يتوحَّد مع هس على الدوام، ففي عام ١٥٢٠ زعم أن نقد هس للبابوية لم يَبلغ الحد الكافي، وأن نقْدَه هو لها بلغ خمسة أضعاف ما حقَّقه هس. وفي كتاب «أحاديث المائدة» — وهو عبارة عن نُسَخ منقَّحة لمحادثاته على الموائد — ينتقد تشبُّث هس بخرافات العامة واهتمامه بانتهاج السلوكيات السليمة أكثر من اهتمامه بالتعاليم الصحيحة، فقال:

لا بد من التمييز بين العقيدة والسلوك. نحن نسيء السلوك كما يسيء البابويون، لكننا لا نحارب البابويين أو نشجُبهم لهذا. لم يَعِ ويكليف وهس هذا وهاجما البابوات لسلوكهم … (أما مهاجمة العقائد) فهي ما أدعو إليه.

يَرْجَح أن لوثر كان يشير إلى كتابات ويكليف وهس التي تُهاجم السيمونية (شراء المناصب الكهنوتية) والفساد الأخلاقي بين رجال الدين، لكن الفارق البيِّن الذي وضعه للفصل بين العقيدة والسلوك مُغالًى فيه، فمع أنه أكَّد على أن عقيدة المسيحية الأساسية لا تتمحور حول الفضيلة، بل حول الإيمان، فقد ذكر أيضًا أن الإيمان الحق لا يتجزأ عن المحبة والرأفة، ففي عظة أدلى بها بعد عودته من مدينة فيتنبرج عام ١٥٢٢ وبَّخَ مستمعيه قائلًا:

أنتم على استعداد للتمتُّع بكل الأطياب التي وهبها لنا الرب في القرابين المقدَّسة، لكنكم لا تُبدون استعدادًا لمنحها ثانية في صورة محبة … وا أسفاه! لقد استمعتم إلى الكثير من الخطب الدينية عن هذا، وكتبي مليئة بالموضوعات التي تتناول هذا الشأن، والتي كُتِبت لهذا الغرض؛ لحثِّكم على الإيمان والمحبة.

اقترب لوثر من تفسير السبب الذي جعله — بعكس أسلافه — يُطلق حركة الإصلاح الديني عندما قال إن كتابات هس هاجمت صكوك الغفران قبل أن يحين الأوان لذلك. ويشير نصب مدينة فورمس التذكاري إلى السبب الذي جعل الأوان مناسبًا لذلك عام ١٥١٧، عندما أطلقت أطروحات لوثر الخمس والتسعون عن قوة صكوك الغفران — وهي نص لاتيني أُعِدَّ للمناظرة الأكاديمية — حركةً دينيةً مدعومةً سياسيًّا لا يمكن احتواؤها. حَملت الأركان الأمامية لقاعدة النصب اسمَيْ أبرز زعيمين سياسيين للحركة البروتستانتية الألمانية، وهما: فيليب حاكم هيسي، وفريدريك الثالث الأمير المختار لساكسونيا الملقَّب بالحكيم؛ فدُونَ حماية الأمير فريدريك وورثته، لما أمكن للوثر أن يُفلت من المرسوم الذي صدر ضده وضد أتباعه في فورمس، ودُونَ النفوذ العسكري والسياسي الذي تمتَّع به فيليب — المناصِر للحركة البروتستانتية من بدايتها — لما أمكن للبروتستانتيين صَد محاولات الإمبراطور شارل الخامس لعرقلة حركة الإصلاح الديني. يحمل النصب أيضًا رموزًا لثلاث مدن ألمانية، هي: ماجديبورج، وشباير، وأوجسبورج. ليرمز للدور الحاسم الذي لعبته مدن الإمبراطورية الألمانية الحرة التي تبَنَّتْ حركة الإصلاح الديني ودعمتها بثبات. ففي أوجسبورج عام ١٥٣٠ نشر اللوثريون دفاعًا عن عقيدتهم فيما صار يُعرَف باسم «إقرار أوجسبورج»، لكن الإمبراطور شارل الخامس رفض قبول الإقرار. مع ذلك، في عام ١٥٥٥، مُنِح البروتستانتيون الألمان الذين وَالَوا الإقرار وضعًا شرعيًّا في الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وتخلَّى شارل الخامس عن حملته ضدهم.

أما الأركان الخلفية لنصب مدينة فورمس فتضم تمثالًا لفيليب ملانكتون — وهو زميل أصغر سنًّا للوثر، وعالِم لغة إغريقية شارك في قيادة الحركة اللوثرية — وتمثالًا ليوهانز ريوكلين، وهو معلم فيليب ملانكتون وعالِم عبرية شهير، ويمثل الرجلان معًا أثر الحركة الإنسانية الألمانية على حركة الإصلاح الديني. كان هس وويكليف بدورهما عالِمَيْن، لكنهما لم ينتفعا من حركة دراسة اللغات المكثَّفة والارتفاع المفاجئ في عدد المواد المطبوعة اللذين أعقبا ابتكار طباعة جوتنبرج في خمسينيات القرن الخامس عشر. درس أغلب مُصْلِحِي القرن السادس عشر العلوم الإنسانية، وأمكنهم قراءة الإنجيل باللغة العبرية والإغريقية، وبفضل علماء كإراموس من مدينة روتردام أُتِيحت للوثر طبعات منقَّحة من الإنجيل لكتَّابٍ كلاسيكيين ولرجال الدين الأوائل التابعين للكنيسة الرومانية مثل أوغسطين.

كما كانت أعمال زملائه وغيره من المصلحين ضروريةً لنشر حركة الإصلاح الديني. فتصوِّر رسومٌ على ميداليات على نصب مدينة فورمس التذكاري أربعةً من زملاء لوثر. جون بوجنهاجن — الذي كان راعي أبرشية وأستاذًا في فيتنبرج — نَقَلَ الحركة البروتستانتية إلى شمال ألمانيا والدنمارك؛ لأنه انحدر من مدينة بوميرانيا، وألَمَّ باللهجة الألمانية السفلى التي كانت مستخدَمة في الشمال، واستطاع أن يضع دساتير للكنائس اللوثرية الجديدة في هذه المناطق. أما يوستوس يوناس، الذي كان زميل وصديق لوثر في فيتنبرج، فقد نقل حركة الإصلاح إلى بلدات أخرى عبر خُطَب الوعظ الديني التي ألقاها، وبقدرته على ترجمة اللاتينية التي كتب بها لوثر إلى الألمانية لجمهور أكبر من القراء. فيما ألقى أولريخ زفينجلي عالم الإنسانيات السويسري خطب الوعظ الديني، مستندًا مباشَرةً إلى الإنجيل باللغة الإغريقية، وأتى إلى مدينة زيوريخ بحركة إصلاح ديني منفصلة عن الحركة اللوثرية الألمانية، اتَّحَدت فيما بعدُ بحركة جون كالفن المصلح الفرنسي الأصل من جنيفا، الذي تأثرت به الكثير من أنحاء أوروبا. كانت الحركة الكالفينية أكثر تأثيرًا من الحركة اللوثرية على حركة الإصلاح الديني في إنجلترا؛ إذ حوَّلتها إلى دولة بروتستانتية بعد عام ١٥٥٩.

لا ترجع جميع أسباب نجاح حركة الإصلاح الديني التي شهدها القرن السادس عشر إلى لوثر أو فيتنبرج مباشرة، مع أن من المستحيل الجزم بما إن كان الإصلاح الديني ليتحقق على مدى واسع دون لوثر. لكن لا شك أن مارتن لوثر لم يكن ليظهر في هذه السلسلة لولا الثورة الدينية التي تجاوزت أي حركة إصلاح تخيلها، وكان لها آثار أكبر على العالم الحديث من مبادرات أسلافه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤