الفصل الثاني

التحوُّل إلى إصلاحي

بحلول الوقت الذي اختُطف فيه لوثر اختطافًا وديًّا بعد انعقاد مجلس فورمس كان — بسنوات عمره السبع والثلاثين — قد جاوز أواسط العمر، وقد أخذ — دون أن يعِيَ ذلك — يسلك مسارًا مهنيًّا جديدًا إلى جانب منصب الأستاذية الذي شغله، هذا إذا كان مسموحًا له أن يحتفظ به. ملأ لوثر وقته في العشرة شهور التي أمضاها في قلعة فارتبورج (من مايو ١٥٢١ إلى مارس ١٥٢٢) بالدراسة والكتابة والتأمل، مما أقنعه بأن يأخذ على عاتقه مهمة جديدة؛ فلم يَعُدْ راهبًا، وإنما خادمًا تقوده العناية الإلهية لإعادة صورة أصدق للمسيحية إلى ألمانيا، عوضًا عن مسيحية العصور الوسطى التي بدت له مليئة بالفساد والخرافات. فكيف استطاع ابن مقاول المناجم القادم من بلدة صغيرة في ألمانيا أن يجد مثل هذه الثورية في نفسه؟

وصف لوثر والديه بأنهما من الفقراء، ووصف نفسه بأنه ابن فلاح، لكن هذه الكلمات توحي بانطباع خاطئ عن طفولته. كان والده هانز ابن أحد المزارعين في قرية موهرا الصغيرة، التي لا تبعد بمسافة كبيرة عن بلدة آيزيناخ مسقط رأس والدته مارجريت ليندمان، لكن أقارب مارجريت ليندمان كانوا من أعيان البلدة، ومع أن هانز والدَ لوثر تزوَّج من طبقة اجتماعية رفيعة، إلا أنه شقَّ طريقه في صناعة المناجم ليصبح صاحب مصهر؛ أيْ وكيلًا لشركات النحاس، وهو ما تطلَّب منه استثمار أمواله الخاصة في العمل. وُلِد مارتن لوثر وتوفي في مدينة آيسلبن، لكنه أمضى طفولته في بلدة مانزفيلد الأصغر حجمًا، والتي انتقل إليها والداه عقب مولده بوقت قصير. ازدهرت أعمال هانز وجعلته أحد مواطني البلدة البارزين، وتشير الاكتشافات الحديثة إلى أن أسرة لوثر كان لديها زادٌ كافٍ من الطعام، وعاشت حياة موسرة في منزل كبير، شُيِّد حول فناء ربما لعب فيه مارتن في طفولته بِكُرات زجاجية صغيرة عُثر عليها هناك تعود إلى القرن السادس عشر. نَمَت ثروة هانز والد مارتن وتقلَّصَت مع تذبذب سعر النحاس، لكن مارتن وإخوته — الذين ضمُّوا على الأقل أخًا يُدعَى ياكوب وثلاث أخَوات — لم يعرفوا قطُّ الفقرَ بمعناه الحقيقي، وأصبح ياكوب — الذي جمعت بينه وبين لوثر علاقة وثيقة — صاحب مصهر بدوره، وعاش في منزل الأسرة بعد أن توفي والده.

ربما كان هانز ابن فلاح، لكن مارتن نفسه — على حد أقصى ما بلغه علمنا — أقام في المدينة ولم يجرب قطُّ الحياة الريفية، ورغم أنه شكا فيما بعدُ من أنه تلقَّى تعليمًا سيئًا للغاية، عانَى فيه الأَمَرَّيْن، فإن هذا المستوى التعليمي لم يُعِدَّه للالتحاق بالجامعة وحسب، بل للعمل أيضًا كمدرس وكاتب ومترجم وواعظ. ارتاد لوثر حتى الرابعة عشرة من العمر مدرسة لاتينية في مانزفيلد، لُقِّن فيها قواعد اللغة، وتعلم مبادئ المنطق والخطابة. وفي عام ١٤٩٧ تقريبًا أُرسِل مع صديقه هانز راينيكي إلى مدينة ماجديبورج الكبيرة — مقر إقامة رئيس الأساقفة — حيث يُرجَّح أنهما التحقا بمدرسة كاتدرائية البلدة، وأقام لدى جمعية إخوة الحياة المشتركة، وهي جمعية غير رهبانية، يشبه مقرها الدير، آوت الطلاب ودرَّست لهم في بعض الأحيان. واجهت مدينة ماجديبورج لوثر الشاب القادم من بلدة صغيرة ببيئة حضرية ودينية متشددة، لكننا لا نعرف الكثير عن أثرها فيه، فبعدها بعام أُرسل لوثر إلى مدينة آيزيناخ للالتحاق بمدرسة قريبة من أقارب والدته، وأقام هناك مع هاينز شالبي، وهو أحد مواطني البلدة البارزين وراعٍ لديرها الفرنسيسكاني، وارتاد مع ابن شالبي؛ كاسبار مدرسةَ أبرشية سان جورج، حيث نشأت صداقة وثيقة بينه وبين جون براون، وهو قسٌّ مسنٌّ دعاه لوثر فيما بعدُ إلى قُداسه الأول. غير أن لوثر لم يدرِ بالطبع أنه سيختبئ بعد عشرين عامًا في قلعة فارتبورج المطلة على البلدة.

كانت الخطوة التالية للوثر الطالب النابغة هي الجامعة، فاختار عام ١٥٠١ مدينة إيرفورت، وهي مدينة تجارية تقع على بُعْد ٦٠ ميلًا جنوب مدينة مانزفيلد، والتي كانت مزدهرة في عام ١٣٩٢ بما يكفي لتأسيس جامعة خاصة بها. أقام لوثر لعشر سنوات من الأحدَ عشَرَ عامًا التالية من حياته في إيرفورت، وأمضى هناك أربعة أعوام بالجامعة وستة أعوام بالدير، وقُيِّد شأنه شأن الطلاب المقبلين على الدراسة الجامعية في كلية الفنون الحرة؛ حيث اجتاز اختبار البكالوريا عام ١٥٠٢، لكنه استغرق وقتًا أطول للتأهُّل للتدريس، وتعيَّن عليه دراسة أعمال أرسطو دراسةً مكثَّفة، وأنهى الدراسة محتلًّا الترتيب الثاني على صفٍّ من سبعة عشر طالبًا في أوائل عام ١٥٠٥، وتسلَّم أوسمة المعلمين بالجامعة، وهي بريتة (قلنسوة مربعة الشكل) وخاتم إصبع، وهو ما أهَّله لإلقاء المحاضرات وعقد المناقشات، فضلًا على أنه صار مؤهَّلًا للدراسة في الكليات المهنية، ككليات القانون والطب وعلوم الدين، فعَكَفَ مباشَرةً على خوض المرحلة الأخيرة من تعليمه سيرًا على خطة أبيه، الذي ارتأى أن دراسة القانون هي أفضل الطرق للوصول إلى وظيفة مرموقة آمِنة، لكنه واصل الدراسة لأقلَّ من شهرين، وبعد العودة إلى دراسته من زيارةٍ إلى بلدته في يوليو عام ١٥٠٥، أقلع فجأةً عن دراسة القانون وجمع أصدقاءه — الذين ذُهِلوا من جرَّاء ذلك — لحفل وداع بهيج، والتحق بِدَير أوغسطينيان المجاور.

يبدو أن التقوى كانت دافعًا حاسمًا قاد لوثر إلى هذه النقلة المفاجئة؛ فعندما شارف على الوصول إلى مدينة إيرفورت عند عودته، أفزعته عاصفة عاتية إلى حد أنه أقسم على أن يصبح راهبًا إنْ نجا سالمًا. ولكن لكي يقطع على نفسه هذا العهد الذي قد يغيِّر حياته كلها — حتى في مواجهة الموت — لا بد أن لوثر كان له مآخِذ على الاشتغال بالقانون، وأنه درس احتمال أن يَهَبَ حياته للدِّين بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ أن يهبها للدير. كما أن الدين كان يحيط به في كل مكان عاش فيه وتعلَّم فيه، ولا سيما في مدينة ماجديبورج وآيزيناخ وفي مدينة إيرفورت التي امتلأت بالكنائس والأديرة ومجالس رجال الدين. وكان بمقدوره أن يدرُس علم اللاهوت دون أن يصبح راهبًا، لكنه لم يَسْعَ إلى تغيير مسار دراسته، بل إلى حياة مختلفة.

fig3
شكل ٢-١: لوثر كراهبٍ، بريشة لوكاس كراناش، ١٥٢٠.

عندما تأمَّل لوثر هذا القرار بعد أربعين عامًا، تذكَّر أنه عاش حياةَ راهبٍ مستقيمةً دون تأنيب، لكنه ظلَّ يَشعر أمام الرب بأنه «كان آثِمًا مؤرَّق الضمير إلى أقصى حد»، وقد كرَّر رأيه هذا عن الستَّةَ عشَرَ عامًا التي قضاها كراهب؛ فقد حاول أن يكون مثالًا للراهب، لكن ضميره لم يهدأ قَطُّ، رغم طمأنة معلمه يوهان فون شتاوبيتس له؛ النائب الأسقفي العام للمتشددين للمذهب الأوغسطيني في ألمانيا. لكن قلقه — رغم ذلك — لم يمنعه من الترقي في المناصب الكنسية؛ فبعد إتمامه فترة الإعداد للرهبنة وإعلان نذوره، درس ليصبح قسيسًا، ووُسِم قسًّا في ٣ من أبريل عام ١٥٠٧ بعد أقل من عامين من التحاقه بالدرجة الكهنوتية، وبعدها بشهر احتَفل بقداس العشاء الرباني للمرة الأولى في حياته؛ فقدَّم والده هانز لوثر إلى الحفل مع عشرين فردًا من أصدقائه وأقاربه، وقدَّم هدية سخية إلى الدير، رغم أنه لم يكن قد تناسى تمامًا الإحباط الذي سببه له قرار لوثر بأن يصبح راهبًا. أكد لوثر أثناء محادثته مع والده أنه لم يقسم طواعية على أن يصبح راهبًا، وإنما أجبرته على ذلك ظروف عصيبة؛ إذ تشكَّك والده في أنه يعاني وهمًا، وذكَّره بوصية طاعة الوالد، في هذا أشار لوثر عندما تذكَّر هذا اللقاء مع والده أن كلمات والده تلك كانت أكثر كلماتٍ آلَمَتْه ولازمته لوقت طويل.

بدأ لوثر بعد أن أصبح قسًّا في دراسته لعلوم الدين التي استمرت — بمقاطعات تخلَّلتها — حتى عام ١٥١٢، الذي مُنِح فيه لوثر درجة الدكتوراه، وخلف شتاوبيتس كأستاذ علم اللاهوت في جامعة فيتنبرج الجديدة. كان لأتباع المذهب الأوغسطيني في إيرفورت مدارس بمعلِّمين تابعين للجامعة، ومع أن لوثر كان قد أصبح بالفعل أستاذًا بالجامعة تعيَّن عليه الوفاءُ بمتطلبات منهج علم لاهوت تحكُمه الفلسفة المدرسية أو السكولاتية؛ التي أسميت بذلك الاسم لاستخدامها في المدارس والجامعات. أُطلِق على هذا المقرَّر الثابت للجامعة — الذي أعدَّه بيتر لومبارد في القرن الثاني عشر — «الأحكام»؛ لأنه بُنِي على التصريحات العقائدية التي استقى منها لومبارد حُججه من المراجع القديمة كمذهب أوغسطين، وقد تعيَّن على جميع حاملي درجة الدكتوراه في علم اللاهوت إلقاءُ المحاضرات عن هذه الأحكام التي خضع الكثير منها للمراجعة وتَمَّ تداولها كتفاسير. وفي القرن الثالث عشر، كان توما الإقويني قد ألقى في شبابه هذه المحاضرات، ودَرَس لوثر فيما بعدُ تفسيرَ الأحكام لجابريال بيل، وهو عضو بجمعية أخوة الحياة المشتركة، درَّس علم اللاهوت في جامعة توبنجن وعاصره لوثر في طفولته. أُسمِي مذهب بيل بالمذهب الإسماني أو الأوكامي نسبةً إلى الراهب الفرنسيسكاني الإنجليزي ويليام الأوكامي، الذي اعتنق لوثر مذهبه فيما بعدُ كما أقرَّ؛ أسوةً بمعلمه الأول في إيرفورت الذي تدرَّب على هذا المذهب.

أكد علماء اللاهوت من أتباع المذهب الأوكامي — بعكس توما الإقويني — أن الإيمان والعقيدة يعتمدان على إلهام الكتاب المقدس أكثر مما يعتمدان على المنطق والمعرفة الطبيعية. وعلى الرغم من أنهم فَصَلُوا فصلًا بيِّنًا بين الفلسفة وعلم اللاهوت، فقد أيَّدوا دراسة أعمال أرسطو التي أتمها لوثر في وقت سابق مع دراسة الإنجيل. ومن ثَمَّ، كان لوثر قادرًا وراغبًا في إلقاء محاضرات حول كتاب أرسطو «علم الأخلاق» والإنجيل وكتاب لومبارد «الأحكام». وألقيت في جامعة فيتنبرج المحاضرات عن أرسطو عام ١٥٠٨ و١٥٠٩؛ حيث عمل لوثر بأمر من شتاوبيتس كبديل مؤقت في أول منصبَيْن خُصِّصَا لأتباع المذهب الأوغسطيني؛ مُحاضر فلسفة وأستاذ في علم اللاهوت. وظل لوثر في فيتنبرج لعامٍ قبل أن يعود إلى الدير الأوغسطيني في إيرفورت ويلقي محاضراته عن «الأحكام». وفي أواخر عام ١٥١٠ قاطَع هذه المحاضرات بالقيام بالرحلة الأهمِّ في حياته؛ رحلته إلى روما التي قام بها ليقدِّم طلبًا نيابةً عن أتباع المذهب الأوغسطيني المتشدد.

رُفِض طلبه لكن روما خلَّفت انطباعًا عميقًا على هذا الراهب الشاب الجاد الذي لم يكن يعلم شيئًا عن أمور العالم — كما أقَرَّ هو فيما بعدُ. بثَّ فيه ما رآه في هذه المدينة المقدسة والبلدات الواقعة على الطريق إليها الرهبةَ والاستياءَ، حتى إنه وصف «زيارته إلى روما» بعد عشرين عامًا، كما بدت له من منظور إصلاحي، فأطلق على نفسه «القديس المتشدِّد الذي اندفع بين الكنائس وسراديبها مصدِّقًا كلَّ مظاهر الكذب والتزييف البغيضة بتلك الأماكن». فقد أسف في ذلك الوقت؛ لأن والديه كانا لا يزالان على قيد الحياة؛ إذ اعتُقِد أن صلوات القداس في روما — شأنها شأن صكوك الغفران التي تُقدَّم هناك — قادرة على تخليصهم من آثامهم. فقد شاع في روما مَثَلٌ قائل: «بُورِكَتِ الأم التي يقرأ ولدها القداس يوم السبت في سانت جونز.» عن ذلك قال لوثر: «كنت أوَدُّ أن أُبَارِك أمي، لكن المكان كان مزدحمًا للغاية فلم أستطع الدخول؛ فتناولت سمك الرنجة المدخن بدلًا من ذلك.» رغم هذه النبرة المتطاولة، تنُمُّ كلمات لوثر عن صدق تقوى الرهبان التي تَمَتَّع بها وإحساسِه بالواجب، وهو الصدق الذي تمتع به في وصفه لذاته قبل حركة الإصلاح الديني ﮐ «كاثوليكي متحمِّس» متشرِّب بأفكار الرهبنة.

في أواخر عام ١٥١١ نُقِل لوثر إلى الدير الأوغسطيني في فيتنبرج، حيث أقام لما تبقى من حياته كراهب في البداية ثم كزوج وأب، وعُيِّن في العام التالي أستاذ جامعة، وهو المنصب الوحيد الذي تقاضى فيه راتبًا ثابتًا، حيث أقنعه شتاوبيتس بالسعي للحصول على درجة الدكتوراه في علم اللاهوت، ووافق ناخب ساكسونيا على دفع المصروفات المتعلقة بذلك. كان الحصول على الدكتوراه إجراءً شكليًّا كلَّلَ دراسته لعلم اللاهوت، وضمن تمتعه في فيتنبرج بالمزايا التي يحصل عليها أستاذ الجامعة في إيرفورت. أشرف الأستاذ آندرو بودينشتاين — الذي لُقِّب بكارلشتادت؛ نسبةً إلى البلدة التي ينحدر منها — على القسم الذي تعهَّد فيه لوثر بألَّا يدرِّس أي شيء تدينه الكنيسة ويؤذي أسماع المتقين. وبالإضافة إلى بريتة أخرى وخاتم إصبع آخَر، مُنِح لوثر كتابَ إنجيل مفتوح وإنجيل مغلَق. وتخلَّى شتاوبيتس عن منصبه بالكلية، كما كان مخطَّطًا، ليخلُفه لوثر في منصب أستاذ علم اللاهوت. وكانت وتيرة الأحداث المتسارعة تلك هي أفضل دفاع للوثر أمام الاتهامات التي زعمت أنه لا يملك الحق لاعتناق الآراء التي آمَن بها، فقد رأى لوثر أنه مُلْزَم كأستاذ لعلم اللاهوت أدلَى بقَسَمه علانيةً بأن يدرِّس ما يجده في الإنجيل، حتى إنْ خالف تعاليم الكنيسة الكاثوليكية وممارساتها. وهكذا أعد شتاوبيتس، دون علم، لوثر لبدء حركة إصلاح لم يستطع أن يحمل نفسه على الانضمام إليها.

في أول مقرَّر درَّسه لوثر، اختار أحد أسفار الإنجيل التي كانت تُسمَع وتُنشَد يوميًّا بالدير، والتي حفظها عن ظهر قلب تقريبًا، أَلَا وهو سفر المزامير؛ لكن لأنه درَّسه آيةً آيةً — كما فعل أسلافه بالعصور الوسطى — لم يُنْهِ المقرر إلا بعد حلول عام ١٥١٥. وبعدها خَصَّص عامًا لتدريس كل رسالة من رسائل العهد الجديد؛ الرسالة إلى أهل رومية، والرسالة إلى أهل غلاطية، والرسالة الإنجيلية إلى العبرانيين، لتنتهي هذه المقررات عام ١٥١٨، الذي كان أول عام يشهد على مداره جدلًا حول صكوك الغفران؛ مما أضاف إلى مَهَامِّه المزيد من الرحلات والكتابات. ولعله قرَّر إلقاء المحاضرات عن كتاب المزامير مجدَّدًا لهذا السبب، أو لأنه كان أكثر استعدادًا لتدريسه هذه المرة، كما قال، غير أنه لم يتم المقرَّر قَطُّ، وبحلول الوقت الذي غادر فيه فيتنبرج متجهًا إلى مدينة فورمس في أبريل عام ١٥٢١، لم يكن قد وصل إلا إلى المزمور الثاني والعشرين، فقد تولَّى مسئولياتٍ أخرى في المجتمع الكَنَسي، بالإضافة إلى إلقاء المحاضرات في الجامعة، حتى إن لوثر شكا لصديقه وأخيه في المذهب الأوغسطيني جون لانج انشغالَه الشديد بكتابة الرسائل، وإلقاء العظات، والإشراف على دراسة الرهبان الآخَرين، وإلقاء المحاضرات عن الحواري بولس، وزيارة الدور الأوغسطينية، بصفته راعي الأبرشية المحلي لها.

وفوق ذلك، كان لوثر يعدُّ أطروحات للنقاش في الجامعة، تكوَّنت مجموعة منها من ثمانٍ وتسعين أطروحة انتقدت المذهب المدرسي أو السكولاتي، الذي انتقل إليه من معلميه من أتباع المذهب الإسماني وجابريال بيل. كان هذا النقاش العقائدي في منظور السواد الأعظم — بما في ذلك رجال الدين الأعلى مقامًا — أكاديميًّا ومن ثَمَّ محمودًا، وهذا على عكس مجموعة الأطروحات الثانية التي كتبها لوثر أيضًا باللاتينية، وعُلِّقت على الأرجح على باب كنيسة جميع القديسين في فيتنبرج في ٣١ من أكتوبر عام ١٥١٧. ولو أن هذه الأطروحات — المكوَّنة من خمس وتسعين أطروحة عن قدرة صكوك الغفران — قد نُشِرت ذاك اليوم، عشية يوم عيد جميع القديسين، لاستقبلت الحشود التي حضرت العرض المَهيب لآثار الأمير فريدريك الحكيم؛ أملًا في نيل صكوك الغفران التي ستختصر إقامتهم في المَطهَر.

رُوِّجَ أيضًا لصكوك الغفران على أنها ضمان بغفران الخطايا، رغم أنها كانت تغني وحسب عن العقوبات المفروضة على الخطايا (الكفارة) بعد الاعتراف بالخطايا للقس. أكَّد لوثر بعدها بأعوام أنه لم يحسب قَطُّ أنه سيمضي إلى الحد الذي ذهب إليه، فيقول: «لم أعقد العزم إلا على مهاجمة صكوك الغفران، ولو أُخْبِرتُ في مجلس فورمس بأنه سيكون لي في غضون بضعة أعوام زوجة ومنزل خاص بي، لما صدقت ذلك.» في الواقع، لم تهاجم أطروحات لوثر الخمس والتسعين الدعاةَ لصكوك الغفران وحسب، بل هاجمَت أيضًا بابا الكنيسة الرومانية لسماحه بمنح هذه الصكوك نظير أموال رُصِدت لتشييد كاتدرائية سانت بيتر الجديدة في روما، وقد اتسمت بعض هذه الأطروحات بالجرأة؛ فكتب لوثر أنه «من الغرور الثقةُ في نيل الخلاص بصكوك الغفران، حتى إنْ وهب البابا روحه ضمانة لذلك». وتساءل لِمَ لا يشيد البابا الكاتدرائية بأمواله الخاصة بدلًا من أموال المسيحيين الفقراء؟ فكان يجب أن يُعلَم المسيحي أن إخراج الصدقات للفقراء والمحتاجين خير من شراء صكوك الغفران.

صوَّرت العديد من الرسوم لوثر كراهب ثوري يُعلِّق أطروحاته الخمس والتسعين على باب كنيسة قلعة فيتنبرج في ٣١ من أكتوبر عام ١٥١٧، لكن لوثر نفسه لم يروِ أنه ارتكب هذا العمل المعارض … يعود وصفه وهو يعلق الرسائل على باب الكنيسة إلى فيليب ميلانكتون، الذي لم يشهد تلك الأحداث وسجَّل تلك الواقعة بعد وفاة لوثر، لكن في عام ١٩٦١، شكَّك المؤرخ الروماني الكاثوليكي إروين إيزرلوه في تعليق هذه الأطروحات. وقد أثار تحديه اعتراضات العلماء البروتستانتيين، وما تزال هناك محاولات لإثبات تعليق لوثر لتلك الأطروحات، حتى إنْ لم يكن قد فعل هذا إلا للدعوة إلى إعلان مناظرة. وقد اكتشف مارتن تروي عام ٢٠٠٦ كتابات (تعود إلى عام ١٥٤٤) خَطَّها جورج رورار مساعد لوثر على عجل، زعم فيها أن لوثر علَّق الأطروحات على أبواب كنائس فيتنبرج عشية يوم عيد جميع القديسين في عام ١٥١٧.

أثار نَقْدُ لوثر اللاذعُ مشاكلَ لم يكن يتوقعها؛ إذ أُرسلت أطروحاته إلى روما على يد رئيس الأساقفة ألبرت، مطران مدينة ماينتس، الذي كان يتربح أيضًا من صكوك الغفران التي خُصِّصت أموالها لكاتدرائية سانت بيتر في منطقة نفوذه. وسرعان ما غطَّت قضية السلطات البابوية على قضية صكوك الغفران، واستُدعي لوثر عام ١٥١٨ إلى روما، إلا أنه سافر بدلًا من ذلك — بناءً على طلب ناخب ساكسونيا فريدريك — إلى مدينة أوجسبورج؛ حيث أُمِر الكاردينال توماس كاييتان بأن يدفعه إلى إنكار آرائه، لكن لوثر رفض التراجع عنها، وعندما طالب كاييتان بتسليم لوثر إلى السلطات أو نفْيِه من ساكسونيا، رفض الناخب فريدريك ذلك، وحُسِمت المسألة؛ فأصدر البابا ليو العاشر أمرًا رسميًّا يدعم التعاليم البابوية عن صكوك الغفران، ودافع رجال الدين الذين يدينون بالولاء للبابا عن أصول السلطة البابوية السماوية. ونشأ جَدَلٌ حول هذا الصدد في مدينة لايبزيج في عام ١٥١٩ بَيْن لوثر وجون إيك، الذي استفَزَّ الأول للدفاع عن هس وصار أعْنَدَ خصومه. وفي بداية عام ١٥٢٠، أُعِيد فتح قضية لوثر مجدَّدًا في روما، وهُدِّد لوثر في يونيو بحرمانه كنسيًّا بأمر رسمي بابوي، أحرقه هو ومؤيدوه في ديسمبر، وأعقب ذلك مباشَرةً أَمْرٌ رسمي بحرمانه كنسيًّا في ٣ من يناير عام ١٥٢١.

كان لوثر قد حَشَدَ في غضون هذا الوقت قطاعًا عريضًا من المؤيدين، وألَّف الكثير من الكتابات باللغة الألمانية واللاتينية، فجعلته منشوراتُه باللغة الألمانية عن القرابين المقدَّسة والصلوات من الكتَّاب المشهورين في شئون الدين في وقت قصير. وحتى أطروحاته الخمس والتسعين، فقد نُشِرت في أرجاء ألمانيا وقرأتْها جماعات الإنسانيين، الذين عَدُّوا تجارة صكوك الغفران أداةً بغيضة استغلَّت بها روما أتقياء ألمانيا. وفي عام ١٥٢٠، عندما تناول لوثر هذا الاستغلال الذي تمارسه الكنيسة الرومانية وإساءاتها الأخرى في مقاله «خطاب إلى النبلاء المسيحيين»، زاد التأييد السياسي له. وبحلول ذلك الوقت كان يَلقى دعمًا وتأييدًا من زملائه في هيئة التدريس، وأيضًا من متَّبِعِي المذهب الأوغسطيني؛ فقد اشترى كارلشتادت جميع نُسَخ أعمال أوغسطين التي كانت قد نُشِرت لتوها في مدينة بازل، وأشعل الجدل الذي دار بين لوثر وإيك في مدينة لايبزيج بطرح ٣٨٠ نقطة تتحدى حجج الأخير. كما صحب نيكولاس فون آمسدورف — وهو من زملاء لوثر الأوائل الذين انضموا إلى الإصلاحيين — لوثر إلى مدنية لايبزيج، وحضر اجتماع المجلس الكنسي بفورمس. وقدِم فيليب ميلانشتون إلى فيتنبرج عام ١٥١٨ لتعليم اللغة الإغريقية، ولم يلبث أن انضم إلى مؤيدي لوثر. وكان ميلانشتون العالِم الأبرع بينهم جميعًا، وكان مناصِرًا للحركة الإنسانية من الأجيال الشابة التي أيَّدَت حركة الإصلاح الديني.

علاوةً على تمتُّع لوثر بالدعم من مصادر خارجية، صار أيضًا إصلاحيًّا بفعل تَجَلِّيَيْنِ تَبَيَّنَا له ونَبَعَا من حياته ودراساته. اتضح التجلي الأول له قبل مجلس فورمس، فيما تبَيَّنَ له الثاني فيما بعدُ في قلعة فارتبورج، وأصبح الأول الأساس العقائدي لحركة الإصلاح الديني، ويشار إليه في العموم باسم «تجلي حركة الإصلاح»، على الرغم من أن لوثر لم يتحدَّثْ عنه بالتفصيل حتى العام السابق على وفاته. ووفقًا لما رواه عندما تذكَّر هذا التجلي، أدرك أخيرًا بعد محاولات عديدة ما الذي عناه الرسول بولس عندما كتب إلى أهل رومية (١٧:١) أن برَّ الله أو عدلَه يتجلَّى في الكتاب المقدس وليس في الناموس. وبما أن الآية السابقة على هذه الآية عرفت البشارة — التي تعني حرفيًّا الخبر السار — بأنه قدرة الرب التي خلصت المؤمنين، فلم يستطع لوثر أن يتفهَّم كيف يكون عدل الرب خبرًا سيئًا؛ بمعنى كيف يكون معيار البر، الذي حاول تحقيقه دون طائل، مخيفًا. فلم تَكُن المشكلة عقائديةً وحسب بالنسبة للوثر، بل كانت شخصيةً أيضًا، وبَدَا حلُّها له وكأنه ميلاد جديد، فهو يقول:

بدأتُ أرى أن بر الرب يعني أن الأبرار يحيَوْن بهبةٍ مِنْه، وهي البر السلبي الذي يرانا الله من خلاله أبرارًا كما ورد: «أما البار فبالإيمان يحيا.» (حبقوق ٤:٢). شعرتُ بأنني وُلِدت من جديد، وبأنني دخلت الجنة من أوسع أبوابها.

الإيمان المقصود هنا هو الثقة في وعود الرب التي تحقَّقتْ بيسوع المسيح. ونظرًا لأنَّ الإيمان حلَّ محلَّ الصوم والحج والصلوات إلى القديسين والقداسات الخاصة، وغيرها من الطرق التي بر بها مسيحيُّو العصور الوسطى الرب وتقربوا إليه، لم تنتقِصْ رؤية لوثر من أهمية النظام اللاهوتي السائد وحسب، بل من أغلب مظاهر التقوى التي ميَّزَت المسيحية في العصور الوسطى.

أشارت السِّيَر القديمة للوثر إلى اكتشافه ما عناه الرسول بولس بالبشارة باسم «تجربة البرج» الخاصة بلوثر؛ لأن هذا الاكتشاف ربما يكون قد حدث في برج الدار الأوغسطينية في فيتنبرج. وفي كتاب «أحاديث المائدة»، ذُكِر أن لوثر قد حدَّد المكان الذي وصل فيه إلى هذا الاكتشاف في برج الدار وفي حمام الدير. ويفسِّر بعض العلماء، الذين يؤثرون إعطاء تفسير مرتبط بالتحليل النفسي، كلمةَ حمام بأنها تشير إلى دورة مياه الدير، وصوروا مشهدًا يربط اكتشاف لوثر بالتنفيس أو الراحة الجسمانية والعاطفية، لكن الأبحاث الأخيرة في هذا الصدد انصرفت عن فكرة تجربة البرج على وجه العموم. ويؤكد لوثر في نهاية روايته لمشهد الاكتشاف على الوقت الطويل والجهد الذي بذله لفهم الكتاب المقدس، وليس أنه وجد الإجابة فجأةً. ولعلَّ دورة المياه كانت رمزًا يحقر الحياة الدنيا بوجه عامٍّ، أو رمزًا لعذاب العيش دون أمل في إرضاء الرب.

ثاني تجلٍّ للوثر وُصِف في خطاب وضَّح به لوثر لأبيه أسباب رفضه للنذور الرهبانية. بدَّد هذا الخطاب، الذي كتبه لوثر في فارتبورج في نوفمبر من عام ١٥٢١، الندم الذي شعر به لوثر إزاء إفساد خطط والده له، فيما يتعلق بالزواج والعمل باتخاذه قرارًا بالرهبنة. كان لقاء لوثر الصعب بأبيه عقب القداس الأول له قد أثقل كاهله، ولكنه الآن، وفقًا لما كتبه، أدرك أن خيبة أمل أبيه لم تكن إلا تعبيرًا عن حرصه على ولده الذي أحبَّه، وأنه أدرك أن والده كان محقًّا؛ وكان يتعيَّن عليه أن يطيع الوصية الرابعة التي تنصُّ على أن يُكرِم والديه. لكن نظرًا لأن والده لم يستطع أن يستدرجَه إلى تَرْك الدير، تدخَّل الرب ليحرِّرَه ويجعلَه مخلوقًا جديدًا «لا يتبع البابا بل المسيح»، غير أن هذا ليس كل شيء، فقد آمَن لوثر أنه دُعِي لقيادة حركة ستجلب الحرية التي صار يتمتع بها لغيره من الأبناء؛ فكتب إلى والده معربًا عن ذلك قائلًا:

آمَلُ أن يكون المسيح قد انتزع منك أحد أبنائك ليأخذ بيَدِ العديد من أبنائه الآخرين، وأنا واثق أنك لن ترتضي هذا وحسب — كما ينبغي لك — بل ستُسرُّ بهذا سرورًا عظيمًا!

حثَّت هذه الدعوة لوثر على تحدي ناخب ساكسونيا فريدريك والعودة إلى فيتنبرج ليضطلع بقيادة حركةِ إصلاحٍ وليدةٍ، شكَّلتْ فيما بعدُ حركة الإصلاح الديني الأوروبية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤