الفصل الخامس

المسيحية الجديدة

لم يجد لوثر — شأنه شأن غيره من المصلحين الدينيين — الكثيرَ من مظاهر الصلاح الديني التي مارسها المسيحيون من حوله في الإنجيل. وكانت إحدى هذه الممارسات — وهي الحصول على صكوك الغفران لتجنُّب دفع كفارة الخطايا واختصار الإقامة في منطقة المطهر — موضعَ انتقاده في أطروحاته الخمس والتسعين التي أشعلت فتيل حركة الإصلاح الديني. بحلول الوقت الذي حُرِم فيه كنسيًّا بعد أربعة أعوام، اقترح لوثر طريقة بديلة لممارسة شعائر المسيحية، وهي طريقة اعتمدت على ما آمَن أن مسيحية أواخر العصور الوسطى أهملته وحرفته، لكن لم تكن المسيحية التي أتى بها جديدة تمامًا بالطبع، فعندما انبرى له الإصلاحيون الأكثر تطرُّفًا عام ١٥٤٠ قال مُقِرًّا:

نُقِرُّ من جانبنا أن الكثير من ملامح المسيحية ومما هو خير قائم تحت النظام البابوي؛ فنجد بالفعل كل شأن من شئون المسيحية والخير قائمًا في ظل النظام البابوي ونَبَعَ منه. على سبيل المثال … النصوص المقدسة الحقيقية، والتعميد الحق، وقرابين المذابح الحقة، ومفاتيح غفران الخطايا الحقيقية، ودور الدير الصحيح، وخلاصة العقيدة الحقيقية متمثلة في الصلاة الربية، والوصايا العشر، وقوانين الإيمان.

لماذا إذن انتقد لوثر الكنيسة الرومانية، وعَدَّ البابا المسيح الدجال؟

لأن [البابا] لا يتشبث بكنوز المسيحية التي ورثها عن الحواريين، بل هو يُلحِق بها إضافات من الشيطان، ولا ينتفع بهذه الكنوز لإصلاح الكنيسة، بل يسعى لخرابها بإعلاء أوامره فوق أوامر المسيح. إلا أن المسيح حفظ مسيحيته حتى في غمرة هذا الخراب … كلاهما يبقى في الواقع؛ فالمسيح الدجال يجلس في هيكل الله (الإصحاح الثاني من رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل تسالونيكي، الآيتان ٣ و٤)، بينما يظل الهيكل إلى الأبد معبد الرب بقوة المسيح.

لم يعتزم لوثر تأسيس كنيسة جديدة، بل تمثلت خطته، التي تبلورت بعد أن قرَّر أن يصبح إصلاحيًّا دينيًّا، في استعادة المسيحية الحقة التي فُقِدت، ومع ذلك انطوت خطته على تغييرات ثورية في مظاهر وطقوس العبادة إلى حدٍّ دفع ببعض رجال الدين والعامة إلى مقاومة هذه التغييرات. فهؤلاء الذين اعتنقوا المذهب البروتستانتي قد مارسوا شعائر مسيحية مختلفة تمامًا عمَّا عهدوه؛ لأنها لم تكن مذهب أجدادهم.

كان منظور لوثر إلى مظاهر صلاح العذراء مريم في أواخر العصور الوسطى من النماذج التقليدية المعبِّرة عن خطته؛ فرفض أن تستخدم أي طقوس أو ألقاب تعبِّر عن حب مريم إذا كانت تنتهك دور ابنها؛ فهي لم تكن شريكًا للمسيح في منح الخلاص، ولم تكن الأمَّ الرحيمة التي تقي المؤمنين من قسوة الحساب. كان لقبها «ملكة السماء» مناسِبًا لها من ناحية، إلا أنه «لا يجعلها إلهة تَمنح الهبات وتقدِّم يد العون كما يفترض البعض عندما يتضرعون ويفرون إليها بدلًا من اللجوء إلى الله»؛ فأعظم لقب يمكن أن يدعوَها المؤمن به هو لقبها القديم «أم الله»، ومن ثَمَّ حذَّر لوثر أن مَن يَوَدُّ إجلال السيدة مريم عليه ألا يفردها بذلك:

بل عليه أن يتأملها في وجود الله، وفي منزلة أدنى بكثير منه، وأن يجردها من كل مراتب الشرف، وأن يعُدَّها في مرتبة «متواضعة» (سِفْر لوقا، الإصحاح الأول، الآية الثامنة والأربعون)، ثم عليه أن يتعجَّب من فيض نعمة الله الذي نظر إلى هذه الفانية المزدراة واحتضنها وباركها … إنها لا تريدكم أن تلجئوا إليها، بل تريدكم أن تلجئوا من خلالها إلى الله.

لم يعترض لوثر على مكانة مريم كقديسة شافعة في كنيسة بلدة فيتنبرج، أو يَسْعَ إلى إزالة صورتين لها من بوابة الكنيسة الغربية؛ فوفقًا لأحد المصادر زَيَّنَتْ صورةٌ للعذراء أحدَ جدران مكتبه، وألهمته بقول العبارة التالية: «ينام الطفل يسوع على ذراع مريم ليستيقظ يومًا ما ويسألَنا كيف أَدَرْنا حياتنا.» وقد قبل بتقاليد مقبولة في إجلال السيدة مريم في المسيحية، تقاليد وجب أن تتطهر من صور المغالاة التي أُضْفِيت إليها.

استهدف لوثر كثيرًا صورَ المغالاة تلك وغيرها من ملحقات العصور الوسطى، ففي عظة ألقاها في أوائل ثلاثينيات القرن السادس عشر عرَّف «فاعلي الإثم» والرسل الكاذبين الذين يشير إليهم سِفْر متى (في الإصحاح السابع، في الآيتين الثانية والعشرين والثالثة والعشرين) بأنهم خصومه في الكنيسة الرومانية، وعلَّل استنكاره لهم قائلًا:

تعرضون عليَّ تعاليمكم وبراهينكم التي ترشدني إلى تسابيح ورحلات حج وعبادة قديسين وصلوات قداس ورهبنة وغيرها من الأعمال الخاصة التي اخترتم بأنفسكم القيام بها، لكنني لا أجد فيها شيئًا عن المسيح، عن الإيمان، عن المعمودية، أو عن القرابين [المذابح] المقدسة أو الأعمال الصالحة التي علَّمني المسيح أن أمارسها في موقفي تجاه الآخَر.

لا يحدد هذا الاتهام الذي وجَّهه لوثر «الإضافات» التي رفضها وحسب، لكنه يوضح من جديد «كنوز» المسيحية التي أراد أن يطهِّرها ويحفظها، أَلَا وهي تمجيد المسيح وحده فوق كل شيء، والإيمان الحق والأعمال الصالحة الحقيقية، والاستخدام السليم للقرابين المقدسة، وسيوضح تناوُل كل هذه الموضوعات على الترتيبِ المسيحيةَ المجدَّدة التي أراد لوثر إعادتها لألمانيا.

أول هذه الموضوعات — وهو تمجيد المسيح وحده — شكَّل المبدأ الرئيس لحركة الإصلاح الديني؛ لأنه كان المعيار الذي أصدر به لوثر حكمه على عقائد الكنيسة الرومانية ومظاهر العبادة بها في أواخر العصور الوسطى، ووظيفة هذا المعيار هي حماية تفرُّد المسيحية بمنع أي فرد كان من انتزاع مكانة المسيح كالمخلص الأوحد للعالم. وقد كان التهديد الأقرب لمكانته هو رفع مكانة السيدة مريم إلى مكانة شريكه في منح الخلاص، لكن عبادة القديسين بوجه عامٍّ كانت مرفوضة بسبب بعض الشعائر المتَّصلة بها كالتضرُّع إلى القديسين بدلًا من الرَّب، وإسناد معجزات وقوى حارسة خاصة بالقديسين الشافعين — كالقديسة أورسولا والقديس كريستوفر — وكجمع الآثار المقدَّسة وإيداعها في الأضرحة المحلية، وتقديم الوعود بحصول المعجزات وبالغفران للمسيحيين الذين يحجون إلى تلك الأضرحة، وإضافة مذابح لأضرحة بعض القديسين التي تجذب نُسَّاكًا مخلصين أكثر من المذبح الرئيس الذي يُحتفَل فيه بالقداس، وتسمية الأخويات وكنائسها الصغيرة بأسماء القديسين، وتأجير القساوسة لتلاوة صلوات خاصة لأنفسهم ولأقاربهم. رغم هذا تمتعت عبادة القديسين بشعبية؛ لأنها أتاحت للمؤمن منفذًا مباشرًا ومحدَّدًا وشخصيًّا إلى عالم القوى المقدَّسة بدلًا من الثالوث المهيب المنفصل عنه، ومن هنا لم يتقبل العامة على الدوام فكرة تمجيد المسيح وحده أو يتفهموها حتى، فلِمَ يُضْطَرون إلى ترك منفذهم المباشر المادي إلى العون الإلهي لآخَر لا يلمسونه بالقدر نفسه؟ بل لَمْ يتخلوا عن قناة الوصل تلك حتى عندما تحولوا إلى البروتستانتية، وعليه أتاح لوثر والإصلاحيون الآخرون اللجوء إلى ملائكة حارسة بدلًا من القديسين (ولو ببهرجة أقل وقوى أضعف)، فتقبَّلَها المسيحيون البروتستانتيون بسرور.

واجه لوثر والإصلاحيون الآخرون التحدي نفسه لدى تدريس تعاليم الإيمان الحق والأعمال الصالحة؛ ففهْم الفروق الدقيقة التي ميَّزت مبدأ «الإيمان وحده» كان أصعب على العامة من فهم مبدأ «تمجيد المسيح وحده»، فكان مبدأ «الإيمان وحده» في مسيحية لوثر الجديدة يعني أن الرب يتقبل المؤمن لإيمانه بالمسيح وحسب، وليس لتمام إيمانه وتفعيله بالأعمال الصالحة التي تستأهل الثواب. ومع ذلك، يُتوقَّع من المؤمن عمل الصالحات؛ لأن الأعمال الصالحة تترتب دائمًا على الإيمان الحقيقي. كَتَبَ لوثر في مقدمته عن سِفْر أهل رومية في الإنجيل الألماني أن الإيمان «شيء نابض بالحياة مفعم بالحركة والنشاط والقوة»، ينجز على الدوام الأعمال بدون أن يسأل عما إذا كان إنجازها ضروريًّا أم لا. فهو يقول: «الفصل بين الأعمال والإيمان مستحيل بقدر ما يستحيل الفصل بين الحرارة والنور اللذين ينبعثان من النار.» فكان مُفاد رسالته التي وصلت إلى سامعيه وقراء كتاباته أن: «الإيمان وحده يخلصكم، لا الأعمال الصالحة، لكن مع ذلك عليكم بعمل الصالحات؛ فهي لا تمنحكم الخلاص، لكن لا غنى عنها للعيش كمسيحيين.» كان هذا هو أول الفروق الدقيقة التي ميَّزت مبدأ «الإيمان وحده»؛ الأعمال الصالحة ضرورية، ولكنها ليست ضرورية للفوز بالخلاص.

ثاني الفروق الدقيقة التي ميَّزت هذا المبدأ هو تعريف الأعمال الصالحة. كانت الأعمال الصالحة في عرف العصور الوسطى هي بالأساس أنشطة دينية تستأهل الثواب كالأنشطة الدينية التي عدَّدَها لوثر أعلاه. وكانت هذه الأعمال موجَّهة للرب؛ لأن فاعليها حسبوا أنها تُكسبهم الخلاص. وبالنسبة للوثر، كان هذا هو النوع الخاطئ من الأعمال الصالحة التي يختارها المسيحي بنفسه؛ ولكن كان ثمة نوع صائب فسَّره في رسالة رائعة (نُشِرت عام ١٥٢٠) تطرح مقدِّمة مباشِرة لعقيدة لوثر ومنطقه لحركة الإصلاح الديني. يتألف النوع الصائب من الأعمال الصالحة في منظوره من الالتزام بالوصايا العشر، التي توصي أولاها بالإيمان نفسه الذي يفي بوصية عدم إشراك إله مع الله، وقد فسَّر ببساطةٍ متناهيةٍ في ملخصه القصير للعقيدة المسيحية كيف يفي الإيمان بهذه الوصية قائلًا: «علينا أن نتقي الرب ونحبَّه، ونثق به فوق كل شيء.» نقيض الإيمان هو الشرك، وهو الثقة في آلهة أخرى من أي نوع، سواء الأوثان التي تُصنَع بالأيدي، أو غيرنا من البشر، أو المثل العليا أو السلع المادية. فكان الإيمان كأول الأعمال الصالحة الحقة موجَّهًا للرب، وكذلك كان إجلال اسم الرب في (الوصية الثانية)، وتذكر يوم السبت (في الوصية الثالثة) ولكن ليس لأن اتباع هذه الوصايا الثلاث الأولى يمنح الخلاص، بل الإيمان بالله هو مصدر جميع الأعمال الصالحة الحقة التي تُوجه للخارج نحو إخواننا في الإنسانية في طاعة سائر الوصايا، فهذه الأعمال ليست من تعاليم الدين، ولكنها تكريس من المرء لحياته العامة والخاصة للأعمال الخيرية والصدق والتعاطف، وتقديم التشجيع والدعم والعون والإنصاف. ويوجز لوثر الاختلاف بين الأعمال الصالحة حقًّا وغير الصالحة كالآتي:

أي عمل لا يُمارَس فقط لإخضاع الجسد للسيطرة أو لخدمة إخواننا في الإنسانية (ما داموا لا يطالبون بما يخالف مشيئة الرب)؛ غيرُ مُجْدٍ وليس من تعاليم المسيحية؛ لذا أخشى أن القليل فقط من الجمعيات الكهنوتية والأديرة والمذابح والطقوس الكنسية القائمة اليوم، إذا وُجِدت، تُعَدُّ حقًّا من تعاليم المسيحية، ويدخل في ذلك الصيام والصلوات الخاصة التي تُتلَى في بعض أيام أعياد القديسين؛ لذا أكرِّر أنني أخشى أننا في جميع هذه الأعمال لا نهدف إلا إلى صالحنا؛ اعتقادًا مِنَّا بأننا عبرها نتطهر من آثامنا وننال الخلاص.

لكن يرجح أن الكثيرين حسبوا رغم هذه التحذيرات المتكررة بعدم إهمال إخواننا في الإنسانية أن «الأعمال الصالحة لا تستأهل الثواب، ومن ثَمَّ لا داعيَ لعمل الصالحات من أي نوع».

لا شك أن لوثر والوعَّاظ الذين حاولوا إقناع عوام الناس بغير ذلك لم يهدفوا إلى دفعهم لإهمال الكنيسة أو الأعمال الخيرية، فمع أن الأنشطة الدينية لم تَعُدْ تستأهل الثواب وانتقصت أهميتها، احتاج البروتستانتيون لتغذية الإيمان في القلوب إلى مصادر دينية، كالعظات والترانيم والقرابين المقدسة وملخصات العقيدة والصلوات الموجَّهة لله، والإلمام بالكتاب المقدس، ومن هنا شرع لوثر وزملاؤه في توفير ذلك، فأصبحت العظات الطويلة حول النص المقدس — عوضًا عن العظات القصيرة — هي محور العبادة البروتستانتية، حتى في الكنائس اللوثرية والأنجليكانية التي تبنَّتْ نُسَخًا معدَّلة من طقوس العبادة التاريخية. فاستخدمت جميع المذاهب البروتستانتية المزامير والترانيم لإثراء عبادتها وللتعبير عن تقواها. ووفقًا لكريستوفر براون كان أكثر المظاهر إفصاحًا عن نجاح حركة الإصلاح الديني في بلدة يوخيمستال الألمانية هو إنشاد الترانيم اللوثرية في المنازل. وبعض الترانيم كانت أدوات لتلخيص العقيدة، فكانت ترنيمة الإصلاحي بول شبيراتوس «أتانا الخلاص» ملخصًا للتعاليم البروتستانتية. وقد عبَّرت كاثارينا شوتس زيل عام ١٥٣٤ عن أهمية الموسيقى في مقدمة طبعتها عن كتاب أناشيد استخدمته الأخوية البوهيمية قائلة: «عليَّ بشدة أن أصف هذا الكتاب بأنه كتاب تعاليم وصلوات وتسابيح، لا كتاب أناشيد، رغم أن كلمة «أناشيد» البسيطة جيدة ومناسبة، فأعظم مديح للرب عُبِّرَ عنه في الأناشيد.» لتعليم الناس المسيحية الجديدة، نشر لوثر عام ١٥٢٩ ملخصات عقائدية صغيرة وكبيرة استُخدِمَت في النهاية للإرشاد في أغلب الأبرشيات البروتستانتية، مع أنه شجَّع رعاة تلك الأبرشيات على كتابة الملخصات العقائدية لأبرشياتهم بأنفسهم، وشملت ملخصاته شروحًا لثلاثة نصوص موروثة؛ هي الوصايا العشر وقوانين الإيمان والصلاة الربية، غير أن هذه النصوص أوضحت أيضًا الشكل الجديد الذي اتخذته شعائر القرابين المقدَّسة التي أُدخِلت على الكنائس البروتستانتية.

أوضح لوثر في رسالة كتبها عام ١٥٢٠ بعنوان «السبي البابلي للكنيسة» أن الأسرار المقدسة السبعة لكنيسة أواخر العصور الوسطى، يجب أن ينخفض عددها إلى ثلاثة؛ هي العماد، والعشاء الرباني، والكفارة. وأسمى السر الأخير من هذه الأسرار بسر الاعتراف والإبراء؛ فالأسرار المقدَّسة في عُرْفه يجب أن يأمر بها الكتاب المقدس، وأن تتصل بوعد روحاني وعنصر مادي يُرَى ويُسمَع بوضوح عند أدائها. كما رأى لوثر أن العماد والعشاء الرباني وحدهما يفيان بلا شك بهذه الشروط؛ فالماء يُستخدَم في العماد، ويتم تناول الخمر والخبز في العشاء الرباني، أما الاعتراف والإبراء فلم يدخل فيه عنصر مادي؛ ومن ثَمَّ في غضون وقت قصير لم يَعُدْ من أسرار الكنيسة — لا سيما أنه لم يكن له دور سوى تجديد وعد الغفران والخلاص الأبدي الذي يُمنَح في العماد. كان طقس الكفارة قد أصبح في العصور الوسطى أهم طقوس الأسرار المقدسة؛ لأن العماد لم يمثِّل إلا بداية حياة المسيحي، وما أن تُرتكَب الخطيئة بعد العماد يجب أن يعترف بها المؤمن وأن تُغتفَر وأن يُعوَّض عنها بكفارة يحدِّدها القس. أبقى لوثر في مذهبه على الاعترافات العلنية ولم يرفض الاعترافات الخاصة، لكنه منع الكفارة لأنها دعمت طقس استحقاق الثواب؛ فالآثمون التائبون لا يُغفَر لهم تمامًا إلا بدفع ما يدينون به لخطيئتهم عبر الكفارة التي يحدِّدها القس، أو بالحصول على صكوك الغفران التي تبرئهم من الإثم، في حين رأى لوثر أن الإبراء من الخطايا سواء سرًّا أو علنًا يسري فورًا؛ لأن الغفران غير المشروط كفله العماد؛ إذ إن الوعد بالغفران والخلاص الذي يُمنَح في العماد يسري إلى الأبد، ويصبح عمادَ حياة المسيحي أيًّا كان عُمْرُ مَن يُعمد، ولهذا السبب أبقى لوثر على عماد الأطفال وعَدَّه أهم الأسرار المقدسة.

رفض لوثر تفسير العصور الوسطى للعشاء الرباني، بكل ما ينطوي عليه من تداعيات، على أنه شبه تجديد لتضحية المسيح على الصليب لغفران الخطايا، وكان يبغض الممارسات التي تُسِيء إلى هذه المناسبة، كالإكثار من صلوات القداس التي أباحها هذا التفسير. كان من السهل عدُّ صلاة القداس — بوصفها قربانًا مقدَّسًا يَتوجَّه به القس إلى الرب — عملًا صالحًا إعجازيًّا، يمكنه أن يثيب العامة الذين يشاهدون أداء القداس أو يدفعون المال للقساوسة لتلاوة صلاة القداس بانتظام لهم ولأحبائهم بعد موتهم، فالبعض حسب أنه سيجمع ثوابًا أكبر كلما حضر المزيد من صلوات القداس في يوم محدَّد، وقيل لآخرين إن العُمْر لا يتقدَّم بهم في الوقت الذي يمضونه في صلوات القداس.

أما لوثر فرأى أن العشاء الرباني (الذي يُدعَى أيضًا بالقداس والقربان المقدس والعشاء الإلهي) ليس قربانيًّا بل مقدَّسًا؛ أيْ إنه ليس طقسًا لتقديم القرابين إلى الله، بل هو هبة الله إلى متلقِّي هبته، وقد أسَّسه المسيح في العشاء الأخير، وعفا فيه باستمرار عن الخطايا بتجديد وعد المعمودية بالخلاص وتعزيز الإيمان. وللتأكيد على أنه هبة من الله أدخل لوثر وغيره من البروتستانتيين تغييرات جذرية على أسلوب الاحتفال به؛ فأولًا: كانت الصلاة تُتلَى باللغة العامية لا اللغة اللاتينية. وثانيًا: حلَّت كلمات المسيح البسيطة (كلمات التأسيس) في العشاء الأخير محل الصلوات الطويلة التي صاحبت تقديم القرابين، عندما قال: «هذا الخبز هو جسدي الذي يبذل عنكم، وهذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يُسفَك عن الناس أجمعين لمغفرة الخطايا.» وثالثًا: بناءً على هذه الكلمات لم يقتصر تقديم الخمر على القسيسين فقط، ولكنه قُدِّمَ بعد الخبز للحاضرين من العامة، وكان منح الخبز والخمر (كليهما) هو أكثر التغييرات تحريكًا لمشاعر بعض العامة الذين تناولوا كأس الخمر التي لم يلمسوها من قبلُ بأيدٍ مرتعشة، ولم يَعُدْ القداس عَرْضًا يُشاهَد، بل وجبة تتلقاها الأرواح المشتاقة لها بالتوبة والشكر والسرور؛ ومن ثَمَّ لم يكن من المتوقع أن يحصل الجميع المشاركون في القداس على الأسرار المقدسة، ليس في الكنائس اللوثرية على الأقل. فكان طقس الاعتراف والإبراء — سواء العلني أو السري — يسبق في العادة العشاء الرباني، ولا يشارك في وجبة الأسرار المقدسة إلا مَن يَودُّون الحصول عليها. ولم يَعُدْ تلقِّي الأسرار المقدسة فَرْضًا كما كان منذ مجمع اللاتيران الرابع (الذي عُقِد عام ١٢١٥)، بل صار عَطية إلهية تُسكن الضمائر ولا تثقلها بعبء، كما لم يَعُدْ طقسًا رسميًّا. كتب لوثر هذا قائلًا: «إن كان المرء يصبح مسيحيًّا لمجرد أنه تلقَّى الأسرار المقدسة (الخمر والخبز معًا)، فلن يكون هناك ما هو أبسط من التحوُّل إلى المسيحية، فيصبح حتى ممكنًا أن يوسم خنزير بأنه مسيحي.» أَكْل الخبز وشُرْب الخمر لا يكفيان لذلك، بل يجب أن يستمع متلقُّو الخمر والخبز بعناية إلى وعد الغفران، وأن يؤمنوا به بقلب يملؤه الامتنان.

كانت رسالة «طقس القداس والعشاء الرباني» التي صدرت عام ١٥٢٣ هي أولى مراجعات لوثر لطقوس القداس، ومثلت نقلة في سياساته. كان قد استعان إلى تلك النقطة بالكتب والعظات فقط للدعوة للعدول عن «الآراء المشينة للدين» فيما يتصل بالعبادات، أما سياسته الجديدة فلم تهدف إلى التأثير في القلوب بالكلمات وحسب، بل إلى إعمال الأيدي وتحقيق نتائح ملموسة، فنشر عام ١٥٢٦ طقوسًا أخرى للقداس — بالألمانية تمامًا هذه المرة — وأَعَدَّ طقوسًا دينية أخرى للعماد والزواج ولمناسبات أخرى، كما ترجم وألَّف أكثر من ٣٥ ترنيمة، أشهرها هي ترنيمة «الرب قلعتُنا الحصينة».

ظهرت أولى النسخ التي ما تزال قائمة إلى اليوم لترنيمة «الرب قلعتنا الحصينة» مطبوعة في عام ١٥٣١، إلا أن تاريخ كتابتها قد يرجع إلى عام ١٥٢٨. قامت هذه الترنيمة على المزمور السادس والأربعين من سِفْر المزامير، واقتُرِحت العديد من المناسبات في تفسير الدافع إلى تأليفها؛ كالتهديد التركي، وبناء الحصون في أرجاء فيتنبرج المختلفة، وتفشِّي وباء في هذا الإقليم، ووفاة ابنة لوثر إليزابيث. ونشر ترنيمة جديدة في عام ١٥٢٩، وتوفرت لهذه الترنيمة بحلول عام ١٩٠٠ ما يزيد عن ٨٠ ترجمة ﺑ ٥٣ لغة، ويمكن اليوم إنشادها بمائتي لغة، أما ترنيمة «بعيدًا في الإسطبل» الخاصة بعيد الميلاد، والتي تُنسَب كثيرًا إلى لوثر، فقد ظهرت للمرة الأولى في أمريكا في القرن التاسع عشر.

غير أن لوثر رفض أن تكون طقوس العبادة التي وضعها مُلزِمة، فمع أن الطقوس الشكلية الصحيحة — كتلقي الخمر والخبز معًا — كانت مهمة، إلا أن انتهاجها لم يكن ملزمًا، فكانا يتبعان الإيمان والحب في المنزلة. يقول لوثر:

قدَّمت تعاليمي بحيث تقود أولًا وآخِرًا إلى معرفة المسيح؛ إلى الإيمان الخالص الصحيح والحب الصادق، ومن ثَمَّ إلى الحرية في جميع السلوكيات الظاهرة، كالمأكل والمشرب والملبس والصلاة والصوم، وفي شئون الأديرة والقرابين المقدسة، وجميع السلوكيات الظاهرة أيًّا كانت، ويستخدم هذه الحرية مَن يحمل في قلبه الإيمان والحب؛ أي المسيحي الحق، ولا يمكننا ولا ينبغي لنا أن نفرض على هذا المسيحي أيَّ قانون بشري يقيِّد ضميره أو أن نسمح لأي شخص آخَر بذلك.

كانت صورة المسيحية الجديدة كما تراءت للوثر صورة لمدينة فاضلة، وذكَّرته الخلافات التي أثارتها تلك الرؤيا بذلك كل يوم، فلم ينتقده خصومه في الكنيسة الرومانية وحسب، بل انتقده أيضًا زملاء سابقون له وآخَرون ممَّن حسبوا أنه تمادى في التغييرات التي أدخلها إلى المسيحية أو لم يحدث تغييرات كافية فيها. لقد أجمع أغلب البروتستانتيين — من حيث المبدأ — على وجوب تغيير صورة القداس، ولكنهم لم يتمكنوا من الإجماع على طبيعة العشاء الرباني، فنظر إليه لوثر على أنه قربان مقدَّس بجسد المسيح ودمه الحقيقيين، فيما رأى إصلاحيون آخَرون — أشهرهم كارلشتادت وأولريش زفينجلي وجون كالفن — أن الإيمان بتمثُّل المسيح بجسده ودمه فعليًّا في الخمر والخبز يشبه عقيدة استحالة الشكلين التي سادت العصور الوسطى، والتي تعني تحوُّل مادة الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه. رفض لوثر تلك العقيدة، لكنه آمَن بأن المسيح يتمثَّل حقًّا في الخبز والخمر؛ لأنه قال إن الخبز هو جسده، والخمر هو العهد الجديد الذي يكتبه بدمه. أما زفينجلي بالأخص فرأى أن لوثر يتبنَّى منظورًا ماديًّا قد يشجِّع الخرافات الشائعة، كسرقة خبز القربان المقدس، وعَزْوِ قدرات خارقة إليه؛ فرأى كارلشتادت وزفينجلي أن المسيح عنَى أن يرمز الخبز والخمر إلى جسده، وأن يلفتا المؤمن إلى الصليب الذي ضحى عليه المسيح لخلاصه، في حينِ أصرَّ لوثر على أن العشاء الرباني لا يُذكِّر وحسب بموت يسوع تضحية، بل يُعبِّر في الواقع عن الغفران الذي فازت به تضحية المسيح. لم ينتهِ هذا الخلاف بين لوثر وزفينجلي قَطُّ، وانقسم أتباعهما تدريجيًّا بين الكنائس اللوثرية وكنائس حركة الإصلاح الديني، التي سيطر نفوذها على أجزاء مختلفة من أوروبا.

لم يختلف البروتستانتيون إلا نادرًا بشأن الصلوات، لكن تعديلاتهم على أساليبها السائدة في أواخر العصور الوسطى اتَّسَمَتْ بالصرامة وبأنها مثيرة للجدل؛ فقد تضرَّع مسيحيو أواخر العصور الوسطى كثيرًا مستعينين بالتسابيح والوسائل التذكيرية إلى السيدة مريم والقديسين، وأُثيبت صلوات بعينها بصكوك الغفران، كما جاء في بعض كُتَيِّبَات العبادة ككتاب صلوات «حديقة الروح الصغيرة» الذي طُبِع للمرة الأولى عام ١٤٩٨ في مدينة ستراسبورج، وتوفَّر بعدها بوقت قصير بالنسخة الألمانية، التي زُيِّنَتْ بصور توضيحية جميلة، واحتوى على العديد من الصلوات المناجِيَة لكثيرٍ من الشخصيات المقدَّسة من أجل الكثير من المناسبات الشخصية والشعائرية. وانتقد لوثر هذا الكُتَيِّب وغيرَه من الكُتَيِّبَات المشابِهة في مقدمته لكتابه «كتاب الصلوات الشخصي» الذي صدر عام ١٥٢٢ قائلًا:

أرى أن كتب الصلوات الشخصية ليست بلا شك أقلَّ الكتب إثارةً للاستهجان بين الكتب والعقائد العديدة الضارة والخادعة التي تضلِّل المسيحي، وتؤسِّس عددًا لا حصر له من الاعتقادات الخاطئة. تُرسِّخ هذه الكتب في رءوس البسطاء إحصاء الخطايا التعس والذهاب للاعتراف، وسخافات أخرى ليست من المسيحية في شيء عن الصلوات إلى الله وقديسيه! بالإضافة إلى ذلك، فهذه الكتب تمتلئ بوعود بالغفران، وتُصدَّر بزخارف بالحبر الأحمر وعناوين جميلة. يجب إدخال تعديلات أساسية شاملة على هذه الكتب ما لم يجب محوُها تمامًا.

طرح لوثر كُتَيِّبَه عن الصلوات معلِّلًا ذلك بأنه لا يملك الوقت لإجراء مثل هذه التعديلات، ومؤكِّدًا على أن الصلاة الربية تكفي في جميع الأوقات، وعلى أن التوجه بصدق على الدوام إلى الله أكثر أهمية من الاسترسال في كلمات الدعاء. إلا أنه — وهو نفسه يشتهر بالاسترسال في الحديث — تطرَّفَ في حثِّه على ذلك إلى حدٍّ قد يؤذي أسماع المتقين، حتى إنه طلب من أحد النبلاء النمساويين توفيت زوجته، في خطاب عزاء أن يتوقف عن دفع المال نظير جميع صلوات المساء والقداس والصلوات اليومية من أجل زوجته، ونصحه بدلًا من ذلك قائلًا:

يكفي لسموِّك أن تتضرع بإخلاص مرة أو مرتين من أجلها، فقدْ وعد الرب أنَّ كل ما تطلبه منه وتؤمن بأنك ستناله فستناله حتمًا (سِفْر لوقا الإصحاح الحادي عشر، الآية التاسعة والعاشرة). أما إن كررت الدعاء مرة بعد أخرى من أجل الشيء نفسه، فهذا ينمُّ عن عدم تصديق الله، فلا تزيد الرب بصلاتك التي يعوزها الإيمان إلا سخطًا. لا شك أن علينا أن نتضرع على الدوام إلى الله، ولكن علينا أن نفعل ذلك موقنين ومؤمنين بأنه يسمع دعاءنا، وإلا كان دعاؤنا غير مُجدٍ.

أعرب لوثر في الأعوام الأخيرة من حياته عن رضاه عن المسيحية الجديدة الناشئة بفضل جهوده، وإحباطه منها. لكن كان من المحتم أن يولِّد مشروعٌ هائل بحجم حركة الإصلاح الديني كِلَا الشعورين. فعلى الرغم من إصرار لوثر على أن المؤمن الذي يتبرر بإيمانه فقط وبإخلاصه في حب الرب، يظل مذنبًا بحاجة إلى الغفران، فقد تصوَّر عالمًا مسيحيًّا مليئًا بقديسين أكثر من المذنبين، لكن — كما أثبتت الأجيالُ اللاحقة — تَبَيَّن أن تلك غاية متعذرة التحقيق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤