الفصل الثامن

ملائكة وشياطين

لم تكن وفاة طفلين في أسرة لوثر أمرًا غير معتاد في أوروبا القرن السادس عشر؛ إذ ساد مناخ قاسٍ وظروف صحية عامة سيئة وانتشرت الأوبئة. وعلى الرغم من أن المؤرخين عدُّوا هذا القرن على مشارف حقبة مبكرة من العصر الحديث من حيث الظروف المعيشية والوعي الثقافي، فإنه لا يزال يندرج تحت أواخر العصور الوسطى، ومارتن لوثر كان ينتمي للعصور الوسطى. كانت الأمريكتان قد اكتُشِفَتَا، وجمع الأوروبيون على مدى قرون بعض المعارف عن آسيا وشمال أفريقيا، لكن لوثر كغالبية معاصريه ظلَّ يحيا في حدود إطار المسيحية الأوروبية الضيق، كما أنه لم ينظر إلى القرن الذي عاش فيه على أنه من العصور الحديثة أو الوسطى، ولم يقسِّم المسيحية إلى طوائف كاثوليكية وبروتستانتية كما صُنِّفت فيما بعدُ. فبالنسبة له، كانت حركة الإصلاح الديني نقطة تحول فاصلة؛ لأنها نقلت المسيحية الغربية من فترة طويلة، ظلت بها رهينة لسيطرة البابا، إلى عهد جديد تحرَّر من هذه السيطرة. وقد آمن لوثر منذ عام ١٥٢٠ بأن الكنيسة الغربية يجب أن تتحرر من بابوية روما، التي أصرَّتْ على أنها هي الكنيسة الوحيدة، واتسع مفهوم الكنيسة على يد لوثر ليشمل كلَّ تجمُّعٍ من المؤمنين الذين يحيون في «الإيمان الحق والأمل والحب».

لكن للأسف استثنى تصوره المهيب لكنيسة عالمية ومسيحية محررة، جميعَ غير المؤمنين والمسيحيين بالاسم الذين لم يتفقوا مع تعريفه «الإيمان الحق والأمل والحب». ورأى أن مسيحية أوروبا كانت مهدَّدة من الداخل والخارج من قِبَلِ «البابويين» أو «الكاثوليكيين»، الذين ظلوا رعايا مخلصين للبابا، ومن قِبَل جماعات الإصلاح الديني غير الكاثوليكي — الذين وصفهم لوثر بالمتحمسين والدعاة إلى مجازية القرابين (القائلين بتجديد العماد والإصلاحيين السويسريين) — ومن قِبَلِ أتباع اليهودية والإسلام. وكان كلٌّ من اليهود والأتراك — كما كان لوثر يطلق عليهم — يُنظَر إليهم بالفعل على أنهم تهديدات للمسيحية في العصور الوسطى، لكن الشعور بحدة خطر هذه التهديدات تزايَد مع طرد اليهود من العديد من البلدان، وإطباق الجيوش التركية على أوروبا الوسطى. وقد نظر لوثر إلى هذه التهديدات على أنها محاولات من الشيطان لعرقلة حركة الإصلاح الديني والقضاء على الكتاب المقدس قَبل أن ينقذ ألمانيا من يوم الحساب الذي اقترب بلا شك، بل رأى لوثر أنه كلما زادت معارضة الإصلاح الديني، ازداد يوم الحساب قُرْبًا، وازدادت الحاجة إلى المزيد من المقاومة والصلاة؛ لإنقاذ عدد قليل على الأقل من الأرواح. من هنا كان إيمان لوثر بالشيطان أقوى مما آمنت به الخرافات الشائعة؛ لأن الكثير كان على المحك؛ لا ثروات الدنيا وحسب، بل أيضًا الخلاص الأبدي وبقاء المسيحية.

آمن لوثر كذلك بالملائكة، وتحدَّث عنها في ٢٩ من سبتمبر عند الاحتفال بعيد القديس ميخائيل وجميع الملائكة، فأشار في عظته في هذا اليوم من عام ١٥٣٠ إلى أن هذا الاحتفال — كغيره من أيام أعياد القديسين الأخرى — احتُفِلَ به بطقوس وثنية، اختلقت الأكاذيب والخرافات عن الملاك ميخائيل، بدلًا من تعليم الناس تقدير حماية الملائكة جميعًا لهم. وأيَّد لوثر الاعتقاد الشائع بأن الشيطان — شأنه شأن ميخائيل — خُلِق ملاكًا، لكنه تحوَّل إلى طاغية، استخدم قواه في الإضرار بالبشر، بعكس رئيس الملائكة ميخائيل، الذي لم تخدم قواه الخارقة إلا في خير البشر. فالناس الذين اعتقدوا أن الشيطان بمنأى عنهم، ولا يشكِّل تهديدًا شخصيًّا عليهم؛ عجزوا عن تقدير أهمية الملائكة، ومن ثَمَّ حذَّرهم لوثر بأن عليهم أن يدركوا أن «الشيطان أقرب إليهم من لباسهم أو قميصهم، وأنه يحيط بهم بإحكام أكثر من جلودهم»، وواجب الملائكة هو حماية المؤمن من الشيطان الدائم الحضور والدمار، الذي قد يجلبه على منزله وزوجته وأطفاله. ومن حُسْنِ الحظ أن كل مؤمن عُيِّن له ملاك حارس وفقًا لنصوص الكتاب المقدس التقليدية (إنجيل متى، الإصحاح ١٨: الآية ١٠) وجميع الملائكة ترغب في سلام البشر. إلا أن المؤمن البروتستانتي لا يعبد الملائكة أو يصلي لهم، ولكنه يشكر الله ويحمده؛ لأنه بفضل الملائكة، يرى الخير أكثر مما يرى الشر، والنهار أكثر إضاءة من الليل، وعدد الأحياء يربو على عدد الأموات، والأمن يعم المنازل والمجتمعات.

لكن رغم أهمية الملائكة كرَّس لوثر أغلب خُطَبه لتكون عن الشيطان، وهو فارق كاشف؛ فلأنه شعر على الدوام بأنه محاصر من الشيطان، طغى قلقُه منه على اطمئنانه إلى حماية الملائكة، فرأى أن الشيطان قد صنع مملكة له، وقيَّد البشرية بالخطايا ليملأ العالم بالظلم وإراقة الدماء، فلا يبرأ شخص من الإثم ويفر من الحساب. وآمَن أن البشرية محكومة بثالوث الشر المقيت: الخطيئة والموت والشيطان، وسيستمر هذا الحكم ساريًا حتى يُضعِف الإنجيل قبضته ويحرِّر الإيمان البشر. لكن حتى عندئذٍ يبقى المؤمن مهدَّدًا بالإغواء وفقًا لتفسير لوثر للدعوة السادسة في الصلاة الربانية («ولا تُدخِلنا في تجربة»)، فيقول:

مع أننا نِلْنَا المغفرة وسلام الضمير وتحررنا تمامًا من خطايانا، لكن هكذا هي الحياة أن ينهض المرء على قدميه اليوم ويتعثر غدًا؛ لذا حتى إنْ كنَّا نقف اليوم أمام الله على أقدامنا بضمير سليم، فعلينا أن نطلب منه مجدَّدًا ألا يتركنا نسقط وننهار تحت وطأة هجمات الشيطان والإغواءات.

ولما نظر لوثر إلى كيان المسيحية على أنه هش للغاية، ومعرَّض على الدوام لقوى الشر، رأى الخطر محدقًا من كل جانب، وعزا تأثير الشيطان الخبيث إلى كلِّ مَن عارضه، وبدا أنه يهدِّد أهدافه. فوق ذلك كان العالم مشارفًا على نهايته، ولم يَعُدْ أمام ألمانيا إلا اللحظة الراهنة للتشبُّث بالإنجيل الذي كان أملها الوحيد. بعبارة أخرى عدَّ لوثر كل ما هدَّد أهدافه رفضًا للسماح لله بأن ينقذ ما تبقى من المؤمنين؛ من ثَمَّ سيطرت النزاعات بينه وبين خصومه على حياته، وصارت مرتبطة بفكرة قُرْب نهاية العالم. فلما تأمَّل لوثر حياته قبل وفاته بعام، وجدها في الأساس عبارة عن سلسلة من الخلافات والمناظرات؛ ففي البداية جاءت مسألة صكوك الغفران التي ذكرها في مقدمة كتاباته اللاتينية، ثم تلتها — حسبما كان لوثر يذكر — مسألة مجازية الأسرار المقدسة والدعوة إلى تجديد العماد. فبدا أن عدوًّا تلو الآخَر يهبُّ ليتصدى له، وأن يد الشيطان تحرك الجميع، وفي مواجهتهم جميعًا أطلق لوثر بعضًا من أشرس المجادلات التي سُجِّلت في القرن السادس عشر.

استخدم لوثر في كتاباته الأخيرة بالأخص لهجةً شرسةً وفظةً في بعض الأحيان في مواجهة خصومه، سواء خصومه الفعليين أو مَن تَصوَّر فيهم الخصومة، ولا سيما في مواجهة البابوية واليهود. وتتجلى لهجته الاستفزازية في العنوان نفسه في اثنين من أعماله الأخيرة هما: «ضد اليهود وأكاذيبهم» (١٥٤٣)، و«ضد بابوية روما التي أسَّسها الشيطان» (١٥٤٥). حتى إن صديقه الأقرب ومُعينه فيليب ميلانشتون — الذي كان رثاؤه للُوثر مفعمًا بالثناء على فضائله — شعر بضرورة تبرير لهجة لوثر المقذعة، فاستعان ردًّا على مَن أشاروا إلى أن لوثر كان أكثر حدة مما دعت الحاجة بمقولة إراسموس، التي يزعم أنه قال فيها: «منح الله هذا العصر الحديث طبيبًا قاسيًا؛ نظرًا لعظم حجم أمراض هذا العصر.» إلا أن لوثر برع في استخدام البلطة لا المبضع، وقد وصف نفسه بدقة بأنه حطَّاب خشن، مهمته هي اقتلاع جذور الأشجار المجتثة وجذوعها واستئصال الأشواك وردم البرك الموحلة وتمهيد الطرق. ومن الواضح أن المحاولات الأخيرة لتبرير قسوة لوثر قد ازدادت تعقيدًا؛ بفعل الأحداث التي شهدها القرن العشرين. فبعد أن حثَّ البابا يوحنا الثالث والعشرون ومجلس الفاتيكان الثاني على إظهار النوايا الطيبة، بدت اتهامات لوثر العنيدة للبابوية غير مبرَّرة، رغم أن العقائد والممارسات التي احتجَّ عليها ظلت في أغلبها كما هي دون تغيير. وعلى الرغم من نقده للأمراء المستبدين، جَعلت الحركات الشعبية الداعية إلى التحرر والعدالة الاجتماعية إيعاز لوثر بذبح الفلاحين المتمردين يبدو انحرافًا عن رسالة المسيح. أما أكثر ما أضر بِلُوثر فهو الهولوكوست واستخدام آلة الدعاية النازية لتصريحاته المناهضة لليهود، مما جعل ثوراته المعادية للسامية تكاد تكون ممنوعة الذكر.

لم يكن لوثر يعيش في القرن العشرين، وإنما في القرن السادس عشر، وربما يمكن تبرير مغالاته إلى حدٍّ كبير في ضوء التوجهات والصراعات التي أحاطت به. على سبيل المثال، تذكرنا العلاقة المهتزة بين المسيحيين واليهود ببداية المسيحية نفسها، وقد تدهورت هذه العلاقة على نحوٍ منتظمٍ مع انتشار المسيحية في أوروبا. واشتد العداء العام للمجتمعات اليهودية الصغيرة في أواخر العصور الوسطى، فوُجِّهت إلى اليهود اتهاماتٌ غريبة، كتدنيس خبز القربان المقدس وقتل الأطفال المسيحيين، ونُفوا من أغلب بلدان غرب أوروبا، إلا أن المجتمعات اليهودية ظلت موجودة في ألمانيا، واستمر التواصل بين الحاخامات وعلماء اللاهوت المسيحيين في بداية حركة الإصلاح الديني. كان أغلب أنصار حركة الإصلاح الديني من جماعات الإنسانيين، وقد اشتركوا جميعًا في رغبة متجددة بتدريس اللغة الإغريقية والعبرية وتعلمهما، كما آمنوا أن المسيحية المنقحة ستكون مقبولة في المجتمعات اليهودية، ومن ثَمَّ علَّقوا آمالًا غير واقعية على تحوُّل الكثير من اليهود إلى المسيحية أو إلى «دينهم الحق» بتعبير لوثر عام ١٥٢٣. وقد ذكر لوثر في أولى محاضراته عن سِفْر المزامير أن عظماء بني إسرائيل، الذين صدقوا وعود الله كإبراهيم وداود، كانوا مثالًا للإيمان المسيحي، وامتدح المجتمعات المسيحية اليهودية الأولى، واصفًا إياها بأنها «الكنيسة الحقة»، غير أن أسلاف لوثر حشروا اليهود غير المؤمنين بالمسيح مع المهرطقين والآثمين، وعزى لوثر إلى اليهود وصفًا مشابهًا عندما يئس من تحويلهم إلى المسيحية، فكتب عام ١٥٤٣:

يكثر اليهود والأتراك والبابويون في كل مكان، ويزعمون جميعًا بغرورهم أنهم يشكلون الكنيسة الحقة، وأنهم شعب الله المختار، بصرف النظر عن الدين الوحيد الحق [المسيحية] … الذي يصبح به وحده الإنسان من أبناء الله ويظل كذلك.

تحوَّل يهود ألمانيا في غضون عقدين من الزمان من قومٍ يؤمل في تحولهم إلى المسيحية في منظور الإصلاحيين الكاثوليكيين والبروتستانت إلى تهديد خطر، وقد تبنَّى لوثر الرأي نفسه رغم سخافته، مما أدى إلى توبيخه القاسي لهم في كتابه «ضد اليهود وأكاذيبهم»، وقد أشارت لفظة «أكاذيبهم» إلى معتقدات قديمة تستند إلى كتابهم المقدَّس، وتزعم أن اليهود هم شعب الله المختار، الذين مُيِّزوا بنعمٍ معيَّنة كالعهد والقانون والأرض الموعودة. وقد وصف لوثر رفضهم الاعتراف أن يسوع هو المسيح المخلِّص بالكفر الذي أغضب الله وتسبب في أن تُمنَع نِعَمه عن ألمانيا. ولعل هذا الخوف من أن يقوِّض كفر اليهود جهود الإصلاح، يفسِّر دفاع بعض أنصار حركة الإصلاح، كأوربانوش ريجيوس ومارتن لوثر، عن التفسير المسيحي للفقرات التي تتحدث عن المسيح في الكتاب العبري؛ فأقام ريجيوس حوارًا مطوَّلًا مع زوجته آنا يبيِّن فيه ما فعله المسيح في عيد الفصح الأول عندما «أَخَذَ يُفَسِّرُ لَهُمَا، مُنْطَلِقًا مِنْ مُوسَى وَمِنَ الأَنْبِيَاءِ جَمِيعًا، مَا وَرَدَ عَنْهُ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ» (لوقا ٢٧:٢٤) في الطريق إلى عمواس، ومن هنا أيضًا كرس لوثر ٨٥٪ من كتابه «عن اليهود وأكاذيبهم» للبرهنة على أن يسوع هو المسيح المخلِّص، الذي تنبَّأ به سِفْر العهد القديم، وكرَّس سائر المقال للوصايا المشينة التي اقتُبِست عنه كثيرًا: احرقوا معابد اليهود ومدارسهم، ودمِّروا منازلهم كليًّا، وصادروا تلمودهم وغيره من كتبهم المقدَّسة، وامنعوا حاخاماتهم من التدريس، وارفضوا منحهم حق المرور في الطرق العامة، وامنعوهم من العمل بأي حرفة عدا الفلاحة والغزل. وقد أوصى الإصلاحي البروتستانتي مارتن بوسر والكاثوليكي جون إيك بالعديد من الوصايا نفسها، فدلَّ تكريس كل هذا الجهد للبرهنة على أن يسوع هو المسيح المخلِّص، ولقمع الأقلية اليهودية في مجتمع أغلبيته الساحقة مسيحية؛ على ضعف كيان المسيحية آنذاك في منظور زعمائها.

لكن عزو المحرقة اليهودية مباشَرةً إلى لوثر — كما بدا أن ويليام شايرار يرمي في كتابه «صعود وسقوط الرايخ الثالث» — لا يُنبِئ عن الدقة من الناحية التاريخية. فبالفعل لزم الكثير من المسيحيين الألمان الصمت عندما أردى النظام النازي ستة ملايين قتيل من اليهود (وغيرهم)، واستخدمت بالفعل آلة الدعاية النازية كتابات لوثر، لكن من الثابت أيضًا أن المسيحيين الألمان (سواء الكاثوليك أو الإصلاحيين أو اللوثريين) لا سيما الموجودين في كنيسة الاعتراف؛ احتجوا على هذه الفظائع، وبعض مَن احتجُّوا عليها كديتريش بونهوفر قُتِل أو سُجِن أو نُفِي لذلك. ومَن تغاضى عن هذا القتل منهم لم يفعل ذلك بالدرجة الأولى لما قاله لوثر، فوفقًا ليوهانز وولمان الذي تتبع اتجاه استيعاب كتابات لوثر المناهِضة لليهودية في ألمانيا:

لم تنبع إساءة استغلال كتابات لوثر … بغرض معاداة السامية العنصرية بعد الحرب العالمية الأولى من العقيدة اللوثرية، بل من عقيدة مخالفة [الحركة القومية الألمانية الخالصة]، وقد تأسَّست هذه الحركة على أوهام القرن التاسع عشر بتفوُّق الألمان العرقي والثقافي، الذي دعم أوهام ألمانيا الرايخ الثالث العنصرية النازية التي حادت عن الدين.

كان نقْد لوثر للإسلام أقل حدة من نقده لليهودية، رغم أن جيوش المسلمين العثمانية مثَّلت تهديدًا حقيقيًّا لأوروبا الوسطى، بعكس التهديد الوهمي الذي مثَّلته اليهودية، وقد غالى مؤلفو المنشورات السياسية في هذا العصر في تقدير حجم هذا التهديد، بتصوير الحرب السياسية على أنها حرب بين المسيحية والإسلام، أو بين المسيح وأعداء المسيح. كان أغلب ما عرفه لوثر عن الإسلام مستقًى من كُتَّاب العصور الوسطى، لكنه كتب هو وميلانشتون مقدمة لترجمة لاتينية منقَّحة للقرآن نُشِرت في مدينة بازل عام ١٥٤٢. وناقشت كتاباته الأخرى ردة الفعل المسيحية الملائمة للتهديد التركي، وعقدت مقارنات بين الإسلام والمسيحية، لكن القليل فقط من كتابات لوثر اتَّسَم بالأصالة — إنْ وُجِد بينها ما اتَّسَم بذلك من الأساس — ولو أنها اكتسبت أهمية جديدة في ظل التهديد العثماني وأجندة حركة الإصلاح التنصيرية.

رأى لوثر أن الإسلام دين يؤلِّف بين أديان مختلفة؛ إذ يؤلِّف بين العقيدة الوثنية والعقيدة اليهودية والعقيدة المسيحية، لكن «ليس به مخلِّص أو غفران للخطايا أو عفو أو روح قدس»؛ لذا رأى أن الموت أقل هونًا للمسيحي من الحياة في ظل حكومة لا يستطيع أن يعترف فيها بإيمانه بالكامل. ولا شك أنه لم يقبل وجود الإسلام في أوروبا بعد إعادة تنصيرها، ولكنه مع ذلك لم يؤيِّد شن حرب صليبية ضد الأتراك، فزعم ساخرًا أنه إذا شرع الإمبراطور في تدمير الكافرين وغير المسيحيين، إذًا:

عليه أن يبدأ بالبابا، والأساقفة ورجال الدين، بل ولعل عليه أيضًا ألا يستثنيَنا أو يستثنيَ نفسه، فإمبراطوريته تنطوي على ما يكفي من مظاهر الوثنية الفظيعة، إلى الحد الذي يجعل محاربة المسلمين لهذا السبب غير واجبة. فثمة الكثير جدًّا من المسلمين واليهود والوثنيين وغير المسيحيين بيننا، يظاهرون باعتناق عقائد زائفة ويحيَون حياة مشينة مخزية.

انطبقت معايير لوثر المبسَّطة لديانة «الصلاح بالأعمال» على الإسلام شأنه شأن اليهودية؛ إذ يجب أن يكتسب أتباعه الخلاص بالأعمال التي تستأهل الثواب، إلا أن لوثر انبهر بما سمعه عن تقوى المسلمين، ورأى أنها تقوى قد يندى أمامها جبين القساوسة المسيحيين خجلًا. وقد يتعلم الكاثوليك من ممارسة الأتراك لشعائر الإسلام ولضبط الذات — نظرًا لأنهم «كانوا يتفوقون على المسيحيين بشدة في هذا الصدد» — أن الديانة المسيحية يجب أن تتجاوز الطقوس والأخلاقيات.

مع ذلك، عزف لوثر عن إغداق المديح على الإسلام خشية أن يقود هذا بعض البروتستانت إلى إنكار المسيح واتِّبَاع محمد. ولم يمثِّل تحوُّل المسيحيين إلى الإسلام تهديدًا حقيقيًّا، لكن احترام المسلمين لشعائر ديانتهم خدم أهداف حركة الإصلاح الديني من ناحيتين؛ إذ أظهر — بمقارنته مع مسيحية العصور الوسطى — هذه المسيحية بمظهر سيئ، وذكر قرَّاء لوثر أن جوهر المسيحية ليس الشعائر بل الإيمان والحب. وقد شارك لوثر أيضًا إصلاحيين آخَرين تفاؤلَهم غير الواقعي بتحوُّل المسلمين إلى المسيحية، فحسب على سبيل المثال أن المسيحيين الذين يؤسَرون على يد قوات الأتراك سيُبهِرون بعض آسِريهم المسلمين بإيمانهم وإخلاصهم وصبرهم، إلى الحد الذي يدفع ببعض المسلمين إلى التحول إلى المسيحية. فحثَّ عام ١٥٤١ في مناشدته للدعاء على المسلمين على أن يُعلِّم الأطفال جوهر العقيدة المسيحية حتى «يحملوا على الأقل شيئًا من الإيمان المسيحي معهم» إنْ وقعوا أسرى. غير أنه لم يذهب إلى الحد الذي ذهب إليه تيودور بيبلياندر رجل الدين بمدينة زيوريخ، الذي بادر بنشر نسخة لاتينية منقَّحة من القرآن. فوفقًا لبيبلياندر، إن الله أراد تخليص جميع البشر، بما في ذلك المسلمين، وسرعان ما ستصدر نسخة عربية من الإنجيل، بل وأبدى استعداده للسفر كمبشِّر إلى بلاد المسلمين.

«جرأة لوثر كانت لا تُصدَّق … إذ كان أول الكتَّاب الذين امتلكوا القدرة على انتقاد الانتهاكات حيثما نبعت، ولعله آخِرهم»، لكن كاتِبَ سِيَرِ الأعلام إتش جي هايلي خفَّف نبرة إعجابه بصراحة لوثر؛ بالإشارة إلى أن لهجتَه الهجومية البذيئة في سنواته الأخيرة استحثَّتها جزئيًّا كراهيتُه للتقيُّد بالقانون، وأسفُه وندمه وإحباطه كمحارب قديم. كما سِيق العديد من الأمراض تبريرًا لسلوك لوثر غير اللائق في كبره؛ كتَبَوْلُن الدم والانسداد التاجي والاكتئاب. ولعل جميع العوامل آنفة الذكر لعبت دورًا في ذلك، غير أن استخفاف لوثر بالضوابط الاجتماعية والأدبية المعتادة يشير إلى عواملَ أخرى. فبوصفه محرومًا كنسيًّا وخارجًا على القانون بمرسوم إمبراطوري؛ أحرز لوثر مكانته كقائد للحركة البروتستانتية بخسارة كبيرة — على المستوى الشخصي — أكسبته شعورًا قويًّا بأحقيته في تصرفاته، ولعل هذا كان مدمِّرًا، ولعله دفعه إلى ازدراء خصومه وإقصائهم، ككارلشتادت وتوماس منتسر وزفينجلي؛ حيث كان لوثر يشكو من أن هؤلاء تمتعوا بثمار معاركه دون الاضطرار إلى المجازفة بأي شيء لبلوغ النصر. ولما هدَّد الغزوُ الإسلامي العثماني ألمانيا مجدَّدًا عام ١٥٤١، ألقى لوثر باللوم على الألمان الجاحدين؛ لأنهم لم ينتبهوا إلى كلمة الله، بل انقسموا بدلًا من ذلك إلى طوائف وبدع تَصرخ بما لم تكن لتهمسَ به عندما كان البابا صاحبَ اليد العليا. المعنى الضمني هنا واضح: بدلًا من رفض ما نادى به لوثر، دان له خصومُه بالفضل؛ لأنه حرَّرهم من هيمنة البابا، وكان عليهم أن يجعلوه القائد. حتى إن لوثر في مرحلةٍ ما، ساورته الشكوك حيال كل قراراته، فقال في ذلك:

إن كان عليَّ أن أُطلِق حركةَ الكتَاب المقدَّس اليوم، كنتُ سأفعل ذلك على نحوٍ مختلف؛ كنت سأترك السَّواد الأعظم من الناس تحت سلطة البابا، وأحاول بصورةٍ غير مُلْفِتة أن أُنقذ أصحاب الضمائر اليائسة المؤرقة.

طُلِب من الكنائس في جميع أنحاء العالم — كدليل على الأمل والتصالح — أن تدعم مشروعًا لزراعة الأشجار في حديقة خاصة للوثر بفيتنبرج؛ احتفالًا بالذكرى الخمسمائة لحركة الإصلاح الديني في عام ٢٠١٧. خُطِّط لإنشاء الحديقة على قطعة أرض تشبه ختم لوثر؛ إذ يعتقد الكثيرون أنه قال: «إنْ علمتُ أن نهاية العالم ستقع غدًا، كنتُ سأزرع رغم ذلك شجرة تفاح اليوم.» لكن لم يُعثَر على هذه المقولة حتى الآن بين كتاباته، ويعتقد الباحثون أنها أتت من كنيسة الاعتراف الألمانية، التي استخدمتها لبث الأمل والمثابرة في القلوب إبَّان معارضتها للدكتاتورية النازية.

شكا لوثر لدن مشارفته على الموت من النبلاء الجشعين والعمال اللصوص والمحامين المحتالين ورجال المصارف المرابين، قبل أن يخلص إلى مقولته التالية:

تنضح ألمانيا بالآثام التي تُرتكَب في حق الله، ويبلغ بها الحد تبرير هذه الآثام متجاسرة على الله، وهو ما يجعلني مع الأسف أَشْبَه بنبيٍّ حقيقيٍّ، فقد قلتُ مرارًا وتكرارًا إننا إنْ لم نعاقِب أنفسنا، فسيفعل ذلك الأتراك نيابةً عنا.

كان من الممكن أن تزداد الأحوال سوءًا؛ حيث قال لوثر محذِّرًا من الاستخفاف بالكلمة [كلمة الله] التي دعتهم إلى التوبة:

لا عجب إنْ أطْلَقَ الله على ألمانيا ليس فقط الأتراك بل والشياطين أنفسهم، أو لو كان قد أغرقها من زمن بطوفان.

كتب لوثر إلى صديقه لينك، قبل أقل من عامين على وفاته، بعد أن خارت قُواه مطمئنًّا إلى ما آلَتْ إليه حركة الإصلاح الديني، ومتفائلًا بها:

أنا عن نفسي أتمنى أن تكون ساعة انتقالي إلى الله ساعة طيبة. أشعر بالرضا والتعب، وليس لديَّ شيء آخَر. لكن احْرص على الدعاء لي بإخلاص بأن يقبض الله روحي إليه في سلام. لا أترك كنيستنا في وضع هزيل، بل إنها تزدهر بالتعاليم النقية الصحيحة، وتنمو يومًا بعد يوم بفضل [جهود] العديد من القساوسة الممتازين المخلصين.

آمَنَ لوثر بأن ما قاله كان صحيحًا، وقد كان إلى حدٍّ ما كذلك، ليس بسبب أنه غيَّر العالم، لكن بغض الطرف عن أن العالم استمر على حاله. وفي نهاية حياته، كان لوثر أقلَّ مثالية وأكثر حكمة مما كان عندما تصوَّر تحرُّر ألمانيا بأسرها من استبداد البابا. فقال:

على الواعظ أن يعرف العالم، ليس بالطريقة التي عرفتُه بها كقس، عندما تصوَّرت أنه شديد السمو والاستقامة حتى إنه سيعتنق الإنجيل المقدس ما إن يسمع به الناس، لكن العكس حدث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤