الرجل الذي صمد

قصة تمثيلية في فصل واحد

(حجرة مكتب نظيفة بسيطة لا أثر فيها للترف ولا للبذخ، في منزل الشيخ المحترم «صالح بك زهدي» … وهو جالس إلى مكتبه … مكبٌّ على أوراق وفي يده قلم … تدخل عليه زوجته «فاطمة هانم» فلا يفطن، ولا يرفع رأسه عن عمله المنهمك فيه …)

فاطمة هانم : أتدري كم الساعة الآن؟ … نحن الآن الظهر … وأنت مكبٌّ على عملك هكذا منذ الصباح؟! … قلت لنا بعد نصف ساعة تفرغ لنا … وها قد مضت ساعات … علوية بنتنا كانت تظن أنك تتهرَّب عمدًا من الحديث في مسألة جهازها! …
صالح بك : إني الآن مشغول بجهاز آخر أهم من جهاز علوية!
فاطمة هانم : جهاز آخر أهم؟!
صالح بك : جهاز الدولة … هذا المساء تُعرض على مجلس الشيوخ مذكرة اللجنة المالية عن الميزانية الهامة … أليس من واجبي وأنا رئيس هذه اللجنة أن ألقي نظرة أخيرة على التقرير؟!
فاطمة هانم : نعم … ميزانية الدولة! … تحسن تدبير ميزانية الدولة … ولا تحسن تدبير ميزانية بيتك! … على رأي المثل «باب النجار مخلع!» …
صالح بك : ثقي أني سأحسن تدبير المبلغ اللازم لجهاز علوية …
فاطمة هانم : ستقترض؟!
صالح بك : عندي فكرة أخرى سأخبركِ عنها فيما بعد …
فاطمة هانم : أخبرني الآن … ليطمئن قلبي.
صالح بك : سأستبدل جزءًا من معاشي …
فاطمة هانم (صائحة) : معاشك! … معاشنا؟ … تمسُّ معاشنا؟ … هذه الثمانون من الجنيهات التي خرجت بها بعد خدمتك القضائية طول العمر! … هذه الجنيهات الثمانون التي بها نعيش طول الشهر ونربي أولادنا ونحافظ على مظهرنا …
صالح بك : مهلًا … مهلًا … لا تنسي أني أتقاضى فوق ذلك أربعين جنيهًا مكافأتي البرلمانية …
فاطمة هانم : هذا مبلغ ليس بالدائم … ولا يمكننا الاعتماد عليه في المستقبل … وليس عندنا كما تعلم مدخر … وقد حاولت كثيرًا الاقتصاد والتوفير فلم أفلح … فمنذ تزوجتك من ثلاثين عامًا مضت، ومرتبك يزيد ببطء، وأعباؤنا تثقل بسرعة … فلنحمد الله أننا استطعنا أن نعيش حتى الآن مستورين … لكن لا تنسَ أن المعيشة اليوم مرتفعة التكاليف … وأن مركزك الاجتماعي الآن لا يسمح مطلقًا بالهبوط عن هذا المستوى … وهو مستوًى متواضع بالنسبة إلى مكانتك … لا تنسَ كل ذلك وأنت تفكِّر في استبدال معاشك الذي نعتمد عليه جميعًا …
صالح بك : مهلًا … لا تنسي أنتِ أيضًا أن أعباءنا ستخفُّ في المستقبل القريب إن شاء الله … فعلوية ستتزوج … وعادل سيتخرَّج في كلية الهندسة هذا العام …
فاطمة هانم : كم المبلغ الذي سيُستقطع من المعاش؟
صالح بك : هذا يتوقَّف على المبلغ الذي نحتاج إليه …
فاطمة هانم : ليس أقل من خمسمائة جنيه … عريسها لم يدفع غير ثلاثمائة جنيه مقدم صداق … وهي لا تكفي اليوم لتأثيث حجرة نوم محترمة … ألا تلزمها حجرة أخرى أو حجرتان … ليكون لها من ذلك مسكن … هذا فضلًا عن الملابس الضرورية! … أأنا مغالية في هذا التقدير؟
صالح بك : لا …
فاطمة هانم : إذن يجب تدبير هذه الجنيهات الخمسمائة … حتى نستر البنت … ولا ننفضح أمام أهل العريس … ولو أردت رأيي لقلت إني كنت أفضِّل أن تقترض هذا المبلغ، ولا تمسَّ المعاش …
صالح بك : أقترض هذا المبلغ؟ ممن …
فاطمة هانم : من أي بنك؟
صالح بك : والضمان! … أعندنا عقار! … أو منقول ذو قيمة نقدمه ضمانًا لهذا المبلغ! … أنسيتِ أن «البنوك» لا بد لها من ضمان مالي أو شخصي …
فاطمة هانم : أو شخصي! …
صالح بك (ينظر إليها محدقًا) : نعم … ماذا تقصدين؟!
فاطمة هانم : أيوجد شخص له رصيد يرفض أن يضمنك لدى أي بنك في مثل هذا المبلغ الزهيد؟ …
صالح بك (بخشونة) : فاطمة … فاطمة … ألي أنا تقولين هذا الكلام؟ …
فاطمة هانم : لا تؤاخذني يا صالح! … حقًّا ليس لك أنت … إني أعرفك … أعرفك جيدًا … أنت هو أنت … لم تتغير … أعرفك … (تتنهد طويلًا) أعرفك …

(يسمع جرس الباب الخارجي.)

صالح بك : من هذا؟ … (ينظر في ساعته.)
فاطمة هانم : أتنتظر أحدًا؟

(يظهر خادم وفي يده بطاقة … فتتناولها فاطمة هانم من يده وتنظر فيها.)

صالح بك (متسائلًا) : من؟ … عبد البر باشا؟!
فاطمة هانم (وهي تناوله البطاقة) : نعم … هو بعينه …
صالح بك (للخادم) : قل له يتفضل … (الخادم يخرج بسرعة.)
فاطمة هانم : أليس هو المالي المعروف؟ أتعرفه إذن جيدًا؟!
صالح بك : زميل قديم … ولكني لم أقابله منذ مدة … ولا أدري لماذا طلب مني هذا الموعد اليوم؟!
فاطمة هانم (وهي منصرفة) : أنصرف أنا إذن … لأعد لكما القهوة … (كالمخاطبة لنفسها) خيرًا يا رب … خيرًا … خيرًا …

(تخرج … ولا يمضي قليل حتى يظهر الخادم من باب آخر، وخلفه عبد البر باشا، ويتركه وينصرف.)

صالح بك (ناهضًا لاستقبال ضيفه) : أهلًا عبد البر باشا … أهلًا وسهلًا …
عبد البر باشا : أرجو ألَّا تكون زيارتي معطلة … إني أعرف مشاغلك في المجلس … خصوصًا هذه الأيام … لذلك سأكون مختصرًا على قدر الإمكان …
صالح بك (يشير إليه بالجلوس) : خذ مطلق حريتك … نحن لم نتقابل منذ زمن طويل …
عبد البر باشا : حقًّا … منذ أن كنا قاضيَين في دائرة واحدة بمحكمة مصر تحت رياسة زميلنا المرحوم …
صالح بك : راغب بك …
عبد البر باشا : مضبوط … راغب بك حمدي …
صالح بك : الله يرحمه … كان مثال الاستقامة … وكانت له كلمات لا تزال منقوشة في ذهني …
عبد البر باشا : أيام …
صالح بك : ولكني أذكر أننا تقابلنا أيضًا بعد ذلك العهد … أظن عقب استقالتك من القضاء واشتغالك فترة بالمحاماة.
عبد البر باشا : بالضرورة … تقابلنا في فترة اشتغالي بالمحاماة … وقد ترافعت أمامك وأنت رئيس الدائرة المدنية … ولا أريد أن أذكرك بأنك كنت في غاية الدقة والشدة، ولم تكسبني قضية واحدة …
صالح بك : على الرغم مني ولا شك …
عبد البر باشا : طبعًا …
صالح بك : بعد ذلك انصرفت أنت فيما أعلم إلى الأعمال المالية نهائيًّا …
عبد البر باشا : ووفقني الله فيها كل التوفيق …
صالح بك : الحمد لله …
عبد البر باشا : منذ ذلك الوقت لم يسعدني الحظ بمقابلتك … وإن كنت أتتبع أخبارك في الصحف …
صالح بك : أنا أيضًا أعرف أخبارك من الصحف … لقد قرأت حديثًا أنك عدت من رحلة خارج القطر …
عبد البر باشا : نعم … سافرت إلى إيطاليا وفرنسا وإنجلترا … رحلة أعمال … وعُدت فوجدت صديقنا وزير المالية قد استقال لأسباب صحية … وعين خلفًا له صديقك الوزير الحالي …
صالح بك : هذا صحيح …
عبد البر باشا : الوزير الحالي رجل طيب، فيما علمت، ولكن صلتي الشخصية به في حكم المعدومة …
صالح بك : هو حقًّا رجل طيب …
عبد البر باشا : قيل لي إنه صديق حميم لك …
صالح بك : نحن أبناء قرية واحدة …
عبد البر باشا : عظيم … عظيم جدًّا … عظيم … هذا من فضل الله وتوفيقه … لا أطيل عليك … هل عندك مانع … نذهب معًا لمقابلته في مسألة بسيطة؟!
صالح بك : مسألة من أي نوع؟
عبد البر باشا : أولًا لتوكيد المعرفة وتقديم الهدية الصغيرة التي أحضرتها له من إيطاليا … انظر … (يخرج من جيبه علبة) علبة سجاير من الذهب … منقوشًا عليها الحرف الأول من اسمه … حرف الميم …
صالح بك : أكنت قد أحضرتها له هو خصِّيصى؟!
عبد البر باشا (باسمًا) : بيني وبينك كانت لصديقي الوزير السابق … ولكن من فضل الله وتوفيقه أن الوزير الحالي يبدأ اسمه هو الآخر بحرف الميم …
صالح بك : وما هو الغرض بالاختصار؟
عبد البر باشا : الغرض باختصار أن هناك طلبًا سيُعرض على هذا الوزير لتصدير كمية كبيرة من الزيت والأرز إلى بعض الأقطار …
صالح بك : فهمت.
عبد البر باشا : الصفقة فيها عمولة … قد تصل إلى عشرة آلاف جنيه.
صالح بك : مبلغ جسيم!
عبد البر باشا : لعملٍ لن يستغرق منك أكثر من ربع ساعة … نذهب خلالها معًا إلى صديقك وزير المالية؛ ليعجل بإعطائنا إذن التصدير …
صالح بك : تطلب مني أنا ذلك؟!
عبد البر باشا : وسأحرِّر لك الآن شيكًا بمبلغ خمسة آلاف جنيه … دفعة أولى …

(يضع يده في جيبه ويخرج دفتر الشيكات.)

صالح بك : مهلًا يا باشا … مهلًا … لقد كانت بيننا علاقة زمالة قديمة … وكنت أعتقد أنك تعرفني وتفهمني وتقدرني …
عبد البر باشا : آسف يا صالح بك … آسف … لعلي أسأت معك التصرف أو التعبير … ولكن ثق أن هذا صادر عن حسن نية … فأنا أول من يعرف ويفهم أن قدرك أرفع بكثير من مثل هذا المبلغ الزهيد، ولكني قلت إنه دفعة أولى معجَّلة … ومع ذلك فأنا على أتم استعداد، إثباتًا لحسن قصدي وعظيم تقديري، أن أرفع قيمة الدفعة الأولى وأحرِّر لك منذ الآن الشيك بمبلغ عشرة آلاف جنيه!
صالح بك (كالمخاطب نفسه) : «يا له من تقدير!»
عبد البر باشا : أنا تحت أمرك يا صالح بك … مُر بما تشاء … هذه أول مرة نشترك فيها معًا في عملية مالية … ومن واجبي بحكم الزمالة القديمة أن أرضيك كل الرضا.
صالح بك : أشكرك …
عبد البر باشا : ما الذي يرضيك؟!
صالح بك : أتريد أن تعرف ما الذي يرضيني؟
عبد البر باشا : يهمني ذلك جدًّا … لأن صلتنا المالية قد لا تقف عند حد هذه العملية … إني أؤمل أن يكون لنا معًا بإذن الله نشاط أوسع وأكبر في مجال الأعمال … إن بُعدك يا صالح بك عن هذا المجال حتى الآن، ليس له ما يبرره على الإطلاق … على كل حال الفرص المقبلة كثيرة … وكل ما أرجوه أن نتعاون، وأن تفضي إليَّ بكل صراحة بما يرضيك.
صالح بك : ما يُرضيني بكل صراحة هو أن تردَّ إلى جيبك دفتر شيكاتك … وأن تنسى كل ما قلته لي الآن …
عبد البر باشا (مصدومًا) : ماذا تقول؟
صالح بك (مستمرًّا) : وأن تذكر ما كنا نقوله في حجرة المداولة يوم كنا نجتمع فيها مع زميلنا راغب بك حمدي رحمة الله عليه!
عبد البر باشا : ما مناسبة ذلك الآن؟!
صالح بك : إني أذكر الآن كل حرف مما كنا نقوله بالأمس … كنا نذهب في الصباح إلى المحكمة بالترام أو مشيًا على الأقدام … بينما المحامون وموكلوهم يذهبون بالسيارات الفخمة … وكنا نسائل أنفسنا قائلين: ألنا أن نخجل من ذلك أو نفخر؟ … فكان راغب حمدي يقول: نخجل؟ … ولماذا نخجل؟ … هل قيمتنا في شخصيتنا أو في السيارة؟ … وهل فضلنا في خلقنا أو في المحفظة؟ … إذا انحطَّ مجتمع إلى هذا الدرك الذي يجعل فيه «للجماد» سلطة الحكم على قيمة «الإنسان»، فلا خير لحياة البشر …
عبد البر باشا (مطرقًا) : رحمة الله عليه!
صالح بك : نعم رحمة الله عليه ورضوانه … كان هذا القول الجميل يرفع قيمتنا الذاتية في نظر أنفسنا … حتى كدنا نعتقد أن لنا رسالةً فوق رسالة العدالة … هي أن نثبت للناس أن في المجتمع طائفةً محترمة لفضيلتها المجردة … في الوقت الذي أصبحت فيه المراتب والقيم تسعَّر بقدر الألوف … وأصبح فيه لفظ الكبراء والعظماء مرادفًا لعدد الأسهم والسندات وكراسي مجالس الشركات … كان راغب بك حمدي يقول: «إذا استطعنا يا إخواني أن نحافظ على احترامنا، ونحتفظ بجلالنا وسط بحر الأوراق المالية الهائج المائج حولنا، دون أن تغرق فيه رءوسنا، فقد أثبتنا أن المثل العليا في البلد لم تمُت …»
عبد البر باشا : وهل ثبت ذلك حقًّا؟! … أو أن الذي ثبت أنه هو الذي مات … دون أن يذكره بعدئذٍ أحد!
صالح بك : وا أسفاه!
عبد البر باشا : حتى أهله نسوا نزاهته، وأنكروا استقامته، وفضَّلوا لو أنه ترك لهم بدل مثله العليا بيتًا … وليكن غير عالٍ … من طابقَين فقط، يدرُّ عليهم من بعده رزقًا …
صالح بك : كل عظيم غريب بين أهله!
عبد البر باشا : وقد جاءني ابنه الأكبر بعد وفاته يسألني الوساطة في إيجاد وظيفة له … فوفَّقني الله في إلحاقه بعمل في إحدى الشركات …
صالح بك : واجب … واجب …
عبد البر باشا : هذا كل ما بقي من خبره!
صالح بك : ذكرى عاطرة … ماذا كان يمكن أن يبقى خيرًا من ذلك؟!
عبد البر باشا : كلماته قد ذهبت معه … ولم يسمع بها الناس … ولم تحتفظ بها حتى جدران حجرة المداولة!
صالح بك : أنت الذي لم تحتفظ بها يا عبد البر باشا! … لا تدعني أذكِّرك … ألست أنت الذي كنت تؤيدها بتحمس … ألست أنت الذي كنت تقول: إن الفضيلة الصادقة هي التي تنتصر على الإغراء الشديد! … ألست أنت الذي كنت تردِّد أن عيون النفوس الرفيعة لا تبهرها أضواء الثراء؟ … ألست أنت الذي كنت تؤكد أن أبواب الغنى لو فُتحت لك على مصراعيها لما دخلت؟ حتى لا تلتقي في الداخل بأناسٍ يعاقب قربهم الضمير النقي، ويأنف منهم الخلق السوي؟ …
عبد البر باشا : الزمن قد تغير يا صالح بك … الزمن قد تغير …
صالح بك : الزمن لا يتغير … نحن الذين نتغير.
عبد البر باشا : ألا تعترف معي أن المجتمع اليوم قد تطوَّر … وأن المادة هي الآن كل شيء؟!
صالح بك : ومن الذي جعل المادة كل شيء؟ … أليسوا هم أولئك الذين قلت عنهم بالأمس إن الضمير النقي يعافهم وإن الخلق السوي يأنف منهم؟! … أليسوا هم أيضًا هؤلاء الذين خانوا فكرتهم وتبعوهم واندمجوا في زمرتهم؟!
عبد البر باشا : لا تبالغ يا صالح بك … لا تبالغ … ليست هناك خيانة لفكرة أو تنكُّر لمبدأ … ولكنه فهم لمطالب العيش في المجتمع الحديث …
صالح بك : مطالب العيش تقتضيك أن تحصر كل فكرك ونشاطك وإيمانك واهتمامك في تكديس مئات الألوف فوق مئات الألوف؟! … لا تؤاخذني إذا أشرت إلى شئونك الخاصة … كم يقدرون ثروتك الآن …؟ قرأت مرة في الصحف أنها لا تقل عن ستمائة ألف جنيه …
عبد البر باشا : وما ستمائة ألف جنيه؟! … هل تعدُّ هذا المبلغ في وقتنا الحاضر ثروة كبيرة؟!
صالح بك : أرأيت؟ … لقد ولجت الباب الذي لا تدخله القناعة!
عبد البر باشا : إذا عرفت دنيا المال والأعمال، فإنك ستحكم من الفور أني رجل فقير …
صالح بك : فقير بالنسبة إلى مَن جمع المليون … فإذا صرت إلى المليون فأنت فقير بالنسبة إلى صاحب المليونَين … فإذا نلت في يدك المليونَين فأنت فقير بالنسبة إلى من في يده ثلاثة ملايين، وهلمَّ جرًّا … صعدًا في الدرج … بل خفضًا في السلم المؤدي إلى جحيم الجشع!
عبد البر باشا : الجشع؟! اسمح لي يا صالح بك أن أقول لك إنك تتكلم كلامًا ساذجًا في موضوع لا تدري عنه شيئًا …
صالح بك : لست في حاجة إلى علم كثير لأرى الآن هدفك في الحياة … قرأت في الصحف أخيرًا أنك احتفلت بزواج ابنك من كريمة أحد كبار المقاولين وأصحاب المال والأعمال الذين يملكون نحو مليونَين من الجنيهات! تريد أن تدعم ثراءً بثراء! أهذا كله من مقتضيات مطالب العيش؟! لو كان رغيف خبزك اليومي من الذهب الإبريز لما لزمك كل هذا المال … لا … ليست هي مطالب العيش … ولكنه إيمان جديد. إيمان جنوني بقوة هي عندك اليوم وعند أمثالك فوق كل القوى.
عبد البر باشا : وهذا هو الواقع … الواقع الذي لا تنكره إلا إذا أردت المكابرة … أهناك قوة في مجتمعنا اليوم غير قوة المال تستطيع بها أن تسمع صوتك وترفع قدرك، وتبقي أثرك؟!
صالح بك : رحمة الله عليك يا راغب حمدي! أين أنت الآن لتسمع هذا الكلام؟! أين أنت لترى زميلنا القديم قد لجأ هو أيضًا آخِر الأمر إلى «الجماد» ليرفع له قدره!
عبد البر باشا : أوَلم يرفع لي قدري بالفعل؟!
صالح بك (مطرقًا) : حقًّا. مع الأسف الشديد!
عبد البر باشا : هذا هو مجتمعنا الحديث! … ومن سوء التدبير وقلة العقل أن يتجاهلَ الإنسان الوسط الذي يعيش فيه، واللغة التي يفهمها أهله … إن من يسبح ضد التيار يتعب …
صالح بك : خلا أصحاب العضلات القوية!
عبد البر باشا : ربما استطاعوا المقاومة قليلًا … ولكنهم في آخر الأمر يهلكون …
صالح بك : ولكن التيار يتحوَّل …
عبد البر باشا : أين رأيت هذه المعجزة؟!
صالح بك : في البلاد التي يظهر فيها الأنبياء والمصلحون والمخلصون …
عبد البر باشا : ليس هذا في مصر على كل حال!
صالح بك : ما أشد إيمانك ببلدك!
عبد البر باشا : لأني فهمت البلد تمام الفهم!
صالح بك : بالضبط … الفهم الذي لا يعرف غيره كل أولئك الذين دخلوا من ذلك الباب … وصعدوا أو هبطوا سلم الألوف ودرج الملايين!

(يدخل خادم يحمل صينية القهوة … ويتقدَّم بها إلى عبد البر باشا، فيتناول فنجانًا … ثم يتناول صالح بك فنجانًا … وينصرف الخادم.)

عبد البر باشا (يأخذ رشفة من فنجانه) : لو كنت أعتقد يا صالح بك أنك جادٌّ في كلامك هذا، لما كنت أضعت وقتك ووقتي حتى الساعة!
صالح بك : أوَتشك في أني جاد؟!
عبد البر باشا : بالطبع جاد، كما نحن جادون جميعًا، كلما تكلمنا فيما ينبغي أن يكون … ولكن الأماني شيء والكائن شيء آخر … ورجل مثلك وثيق الصلة بالحياة السياسية والبرلمانية والاجتماعية والاقتصادية، بحكم رياستك للجنة المالية لا يمكن أن تفوته حقائق الأمور … كل ما في الموضوع أنك لا تثق بي … وأنك تعتقد أن العملية أضخم مما عرضته عليك، وأن عمولتها لا بد أن تكون أهم … وغلطتي أني لم أحضر معي المستندات التي تثبت لك صحة ما عرضت!
صالح بك : أهذا كل تعليلك للموقف؟!
عبد البر باشا : هو التعليل الوحيد … ولا أصدِّق غيره … أوَيوجد اليوم من له الشجاعة أن يرفض مبلغًا كهذا في عمل بسيط بريء كهذا؟! … ولكن الإنصاف يدعوني إلى عذرك … فإن وضعك الأخير يحتم علينا أن ننظر إليه بعين الاعتبار … وإني أعدك وعدًا أكيدًا أن هذا سيكون له وزنه وثمنه …
صالح بك : وضعي الأخير؟! … ماذا تقصد؟!
عبد البر باشا : مسألة تعيينك … الأمر لم يزل محاطًا بالكتمان … ولكني علمت من أوثق المصادر أن الحكومة رشحتك لعضوية مجلس إدارة شركة كبرى … مكافأتها السنوية لا تقل عن ثمانية آلاف جنيه! … ألم يحدث هذا؟
صالح بك (بهدوءٍ) : حدث فعلًا …
عبد البر باشا : هذا الخبر هو الذي جرأني على زيارتك والتفكير في العمل معك؛ فلدينا شركات أخرى تحتاج إلى عونك وخبرتك … صديقك وزير المالية هو الذي خدمك طبعًا هذه الخدمة؟! … وإن كان بعض الخبثاء يهمسون بأن الحكومة أرادت بذلك أن تتخلَّص من شدتك المعروفة في مجلس الشيوخ واللجنة المالية …
صالح بك : لا أعرف الدوافع إلى هذا الترشيح … ولكن الذي حدث هو أني رشحت حقًّا …
عبد البر باشا : وقدَّمت استقالتك من المجلس بالضرورة …
صالح بك : لا …
عبد البر باشا : ومتى تقدمها؟
صالح بك : لن أقدمها … ولن أستقيل من المجلس … لسبب بسيط وهو أني رفضت الترشيح.
عبد البر باشا (بدهشة) : ما هذا الكلام؟
صالح بك : الكلام الذي قلته لك منذ قليل … ولم تأخذه مأخذ الجد.
عبد البر باشا : ترفض عضوية هذه الشركة الكبيرة؟! … ما من شك في أنك ترمي إلى مطمح أكبر من ذلك …
صالح بك (بهدوء) : بالتأكيد … أداء واجبي الحالي في المجلس … لا أكثر ولا أقل.
عبد البر باشا : أيمكن تصديق هذا؟!
صالح بك : المسألة بسيطة جدًّا … انتظر وراقب وتربَّص … فإذا وجدتني تحولت عن موقفي وقبلت عرضًا أو استسلمت لإغراء … فاحضر إليَّ سريعًا وأنا أقبل منك في الحال ربع ما تعرض عليَّ الآن … هذا كل ما لك عندي الساعة من قول في هذا الموضوع …
عبد البر باشا (يضع فنجان القهوة فوق المكتب وينهض) : متأسف لإزعاجك اليوم … وأرجو أن تراجع نفسك قليلًا في أمر خطتك هذه … فإن لأسرتك وأولادك عليك حقًّا … هذا بلد لا يستحق التضحية … لا تجعل مصيرك مثل مصير راغب حمدي … لقد عاش في الحرمان وذهب في النسيان …
صالح بك : لم يذهب في النسيان … لأني أذكر قوله، وأحتذي مثله.
عبد البر باشا : وما نفع فرد واحد في أمة؟!
صالح بك : البذرة الواحدة تنبت الغابة! … سأذهب أنا أيضًا … ولكن شخصًا … قد لا أعرفه … سيتلقَّى البذرة، وتعيش فيه الفكرة … ويقع في يده المشعل … وهكذا دواليك … إن المثل الحي لا يموت … إنه يعيش في أشخاص جدد، وحيوات متجددة …
عبد البر باشا (مادًّا يده مصافحًا) : إني على كل حال سعيد بلقياك!
صالح بك (يشيعه إلى الباب) : أشكر لك الزيارة.

(يخرجان … ولا تلبث أن تطلَّ فاطمة هانم برأسها من الباب الذي كانت قد خرجت منه … فلما وجدت المكان خاليًا دخلت …)

فاطمة هانم : الضيف خرج … تعالَي يا علوية!
علوية (تظهر خلفها) : أقال لكِ يا ماما متى يحضر المبلغ؟
فاطمة هانم : لا … لم يقُل متى … ولكنه قال إنه سيستبدل جزءًا من معاشه …
علوية : هذا إجراء طويل … سيستغرق وقتًا …
فاطمة هانم : كلِّميه أنتِ في ذلك بنفسكِ … لقد تكلمت أنا بما فيه الكفاية … ها هو ذا قد أقبل.

(يظهر صالح بك عائدًا … ويتجه توًّا إلى مكتبه … شأن من ينوي استئناف عمله.)

علوية : بابا …
صالح بك (دون أن يحول نظره من مكتبه) : نعم يا ابنتي!
علوية : لقد وعدتني هذا الصباح أن تصغي إليَّ لحظة …
صالح بك : أصغيت إلى أمكِ وتباحثنا في مسألتك … ودبرنا الحل اللازم …
علوية : استبدال المعاش؟!
صالح بك : بمقدار المبلغ المطلوب.
علوية : ولكن هذا يستوجب إجراءات طويلة … ولا بد لنا من أن نفرش سريعًا …
صالح بك : أظن أن الاستبدال النقدي لمثل هذه الظروف العائلية يتم عادة في وقت قصير … على أي حال سأقدم الطلب غدًا إن شاء الله، إلى الإدارة المختصة … فلا تقلقي.
فاطمة هانم : ألا تكلم في ذلك الوزير … وهو صديقك؟!
صالح بك : لا …
فاطمة هانم : لمجرد التسهيل … ليس إلا …
صالح بك (حاسمًا) : لا.
علوية : ألا يمكن استدانة المبلغ بكمبيالة؟
فاطمة هانم : اقترحت هذا على أبيك، ولكنه لم يقبل.
علوية : ولمَ لا؟ … هذه أسرع وسيلة.
فاطمة هانم : ورجل مالي مثل عبد البر باشا الذي كان هنا الآن، ما كان يتردَّد …
صالح بك : صه … صه …
فاطمة هانم : صمتنا … وتركنا لك الأمر.
صالح بك : نعم … اتركا لي الأمر.
فاطمة هانم : أسمعت يا علوية؟! … صدقت الآن أنَّ أباكِ في سبيل تدبير أمر جهازك … وأنه مهتم بذلك … وأننا بحثنا المسألة في غيبتك، وانتهينا إلى هذا الحل الوحيد … هلمي بنا إذن! … دعي والدكِ لعمله … لا ينبغي أن نأخذ من وقته أكثر من ذلك …
علوية : بابا … أأنت تحبني حقًّا؟
صالح بك : ماذا تقولين؟!
علوية : هل تحبني؟ … وهل تهمك سعادتي؟
صالح بك : أجننت يا علوية؟! أهذا سؤال تلقينه على أبيك؟
علوية : أريد أن أسمع من فمك الجواب.
صالح بك : أوَلا تعرفين الجواب أنت؟!
علوية : أعرف أني عزيزة عليك … أثيرة عندك منذ أن كنت طفلة، وابتسامتي تشرق في قلبك كأنها شمس … ولطالما قلت لي إن متاعبك اليومية تختفي عندما تقع عينك على وجهي … وإن الطمأنينة تقر في نفسك عندما تسمع صوتي … إني إذن شيء له قيمته عندك … أليس كذلك؟
صالح بك : أتشكِّين في ذلك؟
علوية : قيمتي تساوي كم في حسابك؟
صالح بك : عيب يا علوية؟
علوية : ألا تقدرها على الأقل بثمن فرش حجرتَين أو ثلاث؟!
صالح بك : ألا تخجلين من هذا الكلام؟!
فاطمة هانم : ثقي يا علوية أن أباكِ لا يضنُّ عليكِ بمال … إني أعرفه أكثر منك. لو كان في يده شيء لأغدقه في الحال عليك … لكن رزقه محدود كما تعلمين … لا يكاد يكفي لفتح هذا البيت البسيط … اعذريه يا علوية اعذريه … لو هبط على أبيكِ من المال ما يهبط على الآخرين لكان لنا شأن آخر.

(يظهر فجأةً شابٌّ في مقتبل العمر هو «عادل» يحمل في يده صحيفة.)

عادل (ملوحًا بالصحيفة) : أقرأتم هذا الخبر المنشور في هذه الجريدة؟
علوية (بلهفة) : أي خبر؟!
عادل : خبر ترشيح بابا لعضوية شركة كبيرة!
علوية (تخطف منه الجريدة) : أرني … أرني.
عادل : مكافأتها السنوية ثمانية آلاف جنيه!
فاطمة هانم (هاتفة) : ربك كريم!
علوية (والجريدة في يدها دون أن تقرأها أو تنظر فيها) : وا فرحتاه! … وا فرحتاه! … جاءنا الفرج … سيكون لي أجمل جهاز!
فاطمة هانم : يا للمفاجأة السارة! … لن نعيش في ضيق بعد اليوم.
علوية : أول كل شيء لا بد لي من أثواب جديدة … لقد خجلت من كثرة لبسي لأثواب الأعوام الماضية التي كنت أقلبها وأرتقها وأصبغها …
فاطمة هانم : وأنا يا بنتي سأخلع هذا الثوب الأسود، الذي أرتديه منذ عامَين بحجة الحداد على عمتي … والحقيقة أني عاجزة عن تفصيل الجديد!
علوية : إني لم أُرد أن أخبركِ وأكدركِ يا ماما بكلمات صديقاتي اللاذعة كلما رأينني بثوبي القديم … كن يقلْنَ لي: نرجوكِ يا علوية … عيوننا تعبت وسئمت من شكل «فستانك» الذي لا يتغيَّر! … الفصول تتغيَّر، والأفكار تتغيَّر، والدنيا تتغيَّر … ولبسكِ ثابت على المبدأ … لا يتحوَّل ولا يتغيَّر! …
فاطمة هانم : الحمد لله انتهى كل هذا … وكل شيءٍ عندنا الآن سيتغير!
علوية (تلتفت إلى أبيها المطرق) : لماذا تطرق هكذا يا بابا؟! … لماذا لا تفرح مثلنا؟!
فاطمة هانم : بل قولي له لماذا أخفى علينا هذا الخبر؟ … أكان يجهله؟ … أم كان يريد أن تفاجئنا به الصحف؟!
علوية : تكلم يا بابا … أيصحُّ أن تكتم مثل هذا الخبر السعيد عن أحبِّ الناس إليك وأنت تعلم كم سيثير في قلوبهم من ابتهاج، وكم سيحدث في حياتهم من انقلاب؟!
عادل : اقرئي يا علوية تفصيل الخبر أولًا في الجريدة التي في يدك … قبل أن تسترسلي في الحماسة …
علوية (تقرأ بسرعة متمتمة) : «رشحت الحكومة حضرة الشيخ المحترم صالح بك زهدي لعضوية مجلس إدارة شركة كبيرة معروفة، مكافأتها السنوية تبلغ حوالي ثمانية آلاف جنيه … وقد علمنا أن حضرته اعتذر من عدم قبول هذا المنصب …» اعتذر! … (تلتفت إلى أبيها بلهفة) اعتذرت يا بابا؟
فاطمة هانم (مصدومة) : اعتذر؟!
علوية : بابا … اعتذرت؟! … أحقٌّ هذا المنشور هنا؟ … أصحيح هذا؟!
صالح بك (وهو مطرق) : صحيح.
علوية : ولماذا تفعل ذلك؟!
صالح بك : فعلت وانتهى الأمر …
فاطمة هانم : أغلقت بيدَيك في وجهنا باب الرحمة، الذي كان قد فُتح …
صالح بك (كالمخاطب نفسه) : بل أغلقت باب الجحيم!
فاطمة هانم (صائحة ثائرة) : لماذا؟ … لماذا يا صالح تفعل ذلك بنا؟! … نحن الذين سرنا معك هذا الشوط من الحياة في عيش ضيق شاق … تطرد عنا هذه النعمة المواتية، وقد أتت في حينها؟! … ثمانية آلاف جنيه في العام! … تصور ماذا كنا نستطيع أن نفعل بهذا المبلغ؟ … أي حياة كنا نحياها … وأي متعة كنا نظفر بها؟! … وأعزاؤك … عادل وعلوية … أي بهجةٍ كنت تدخلها على شبابهما الذي لم يعرف غير الشدَّة والشظف والحرمان … إنها لقسوة منك على أهلك فائقة الحد … لماذا كل هذا؟ … في نظير أي ثمن؟ … من أجل أن يقول الناس إنك مترفع عن المناصب، متعفف عن المال! تسومنا العذاب وتحملنا ما لا نطيق في سبيل أن تظفر بكلمات!
صالح بك (كالمخاطب نفسه) : كلمات؟
عادل : حتى هذه الكلمات لا يقولها الناس … اقرءوا تعليق الجريدة!
علوية (تنشر الجريدة) : ماذا فيها أيضًا؟
عادل : طالعي يا علوية الأسطر الأخيرة من الخبر.
علوية (تطالع بسرعة متمتمة) : «اعتذر من عدم قبول المنصب … والمفهوم أن ذلك من قبيل المناورات والمساومات التي لا يفوت مرماها المطلعين على بواطن الأمور، وعلى ما يجري وراء الستار …»
صالح بك (مصدومًا) : مساومات ومناورات؟! … أقالوا ذلك؟!
علوية (وهي تمدُّ بالجريدة يدها) : بالحرف الواحد … ها هي الجريدة يا بابا … خذ واقرأ.
فاطمة هانم : أرأيت يا صالح؟!
صالح بك (مطرقًا بلا حراك) : كان يجب أن أتوقَّع هذا! … كل مجتمع يصل إلى الانحلال يرى الانحطاط هو التعليل الطبيعي لكل التصرفات!
فاطمة هانم : والنتيجة يا صالح؟! … ماذا جنيت من هذا الموقف؟! … أنت الآن كالراقص وسط السلم … لم يرَك من في الأعلى ولم يلمحك من في الأسفل … ما صدق الناس أنك ترفعت وتعففت … وما قبضت المال ونفعت به وانتفعت!
صالح بك : إذا كنت أرتدي العفَّة طمعًا في تصفيق الناس فأنا دجال … وإذا كنت أطرحها عند جحود الناس فأنا مزعزع العقيدة!
علوية : اسمح لي يا بابا أن أقول لك إنك تصنع شيئًا لم يسمع به أحدٌ في زمننا … كل الناس من حولنا يسعون إلى رغد العيش، ولا يفكرون إلا في التنعم والترف … كل صديقاتي يتحدَّثْنَ عما أصاب أهلهن من أرباح وغنائم … وأنا أسمع في حسرة … وأقول عسى أن يصادف الحظ والدي ولو مرة. إني لا أصدق أن رفضك نهائي! … لعل الجريدة صادقة … وأنت تخفي عنا ما يجري معك الآن من مفاوضات لتفاجئنا بالمغنم الأكبر والخبر الأهم … أليس كذلك يا أبي؟! … قل … لا تكتم عني شيئًا … أدخل الفرح على قلبي! … اهمس في أذني أنا … إن تعليق الجريدة صحيح … وإن خلف الستار الآن عرضًا مغريًا لن يلبث حتى يصبح في يدك.
صالح بك (في مرارة) : أنتِ التي تتحدثين يا علوية؟!
فاطمة هانم : اسكتي يا علوية لا تؤلمي أباك … ليس هو الذي يساوم ويفاوض … إني أعرفه جيدًا … أعرفه … أعرفه …
علوية (متوسلة) : بابا … انظر إلى الدنيا من حولك … انظر إلى الناس من حولك … هذا هو تيار المجتمع اليوم …
صالح بك (كالمخاطب نفسه) : لن يجرفني هذا التيار!
علوية : سنعيش إذن هكذا دائمًا … لا أمل لنا في غدٍ بهيج … ولا في أيام ترف.
فاطمة هانم : لا تتعبي نفسك يا علوية … لن يتغيَّر من أمرنا شيء!
صالح بك (كالمخاطب نفسه) : لن أغير عقيدتي … كي تتغير أثواب أسرتي!
عادل : انتظروا إلى آخر العام الدراسي … وأنا أغير كل ما بكم … ما إن أظفر بدبلوم الهندسة حتى تجدوني قد شققت طريقي إلى الثروة في بضعة أعوام … إني أفهم بلدي وأعرف كيف أنجح … عليكِ قبل كل شيء يا أمي أن تبحثي لي من الآن عن عروس بنت رجل ذي نفوذ أو ذي نقود … وعليَّ أنا بعدئذٍ الباقي … سأسدد بصري إلى كبير أو عظيم ممن لا يأفل نجمهم في السياسة أو الحكم، فألتصق به … أضع له تصميم عزبته … أو أشرف له على ترميم «فلته» أو تشييد عمارته … وأكون دائمًا في خدمته شاء أو أبى … بمناسبة وبغير مناسبة … سيجدني دائمًا تحت تصرفه ورهن إشارته وعند مرمى نظره … وفي كل وقت … وفي كل ساعة … في المنزل وفي المكتب وفي النادي وفي الديوان … فإن لم أقفز بسرعة البرق في سلم الدرجات والعلاوات والترقيات، ويمتلئ جيبي بالجنيهات، فقولوا إن عادل لا خير فيه ولا نفع …
صالح بك (مصدومًا) : ابني يفعل هذا؟!
عادل (بحماسة) : نعم … وأقسم!
صالح بك (ينهض خارجًا من المكان وهو يهمس) : اللهم رفقًا بي … اللهم رفقًا! … رفقًا! … رفقًا …
فاطمة هانم : إلى أين يا صالح؟! … تهرب منا؟!
عادل : تهرب منا يا أبي لأننا لسنا من رأيك؟!
علوية : كلنا يا بابا نخالفك في الرأي … لن تجد أحدًا من الناس يوافقك في هذا … أو يتابعك …
صالح بك (يخرج من أحد الأبواب ويغلقه في وجوههم وهو يصيح بقوة) : سأصمد وحدي … سأصمد … سأصمد!
(ستار)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥