الفصل الثاني عشر

في سجن واندزورث

كان تشارلز جاريت، الصحفي الرائع، قد كتب السطر الأخير من وصف طريف لحفل موسيقي غنى فيه أحد وزراء الحكومة أغانيَ شعبية رديئة. كتب تشارلز بصعوبة؛ لأن الموقف نفسه كان مضحكًا جدًّا، حتى إن استخراج الفكاهة الخفية فيه كان أمرًا يدعو إلى الأسى أكثر من المعتاد. لكنه كان قد انتهى من الكتابة ووضع رزمة الأوراق المنسوخة على مكتب محرر الطباعة؛ كتب تشارلز في المتوسط ستَّ كلمات في الصفحة، وكانت قصة تشغل نصف عمود بقلمه تُعادل رواية من ثلاثة أجزاء.

توقَّف تشارلز ليُهدد ساعيًا كان قد أخطأ في إرسال خطاب، وسار على مهل ليدخل مكاتبَ هادئة مختلفة لكي «يرى من كان هناك»، واضعًا معطف المطر الخاصَّ به على ذراعه، وعصاه في يده، حتى توقف في نهاية تجواله أمام آلة شريط الأخبار التي لا تتوقف عن الطقطقة. نظر عبر الصندوق الزجاجي الذي كان يحمي الآلة، وكان مهتمًّا برسالة من طهران يجري استقبالها.

«… في وقت مبكر. أبلغ الصدر الأعظم مراسل التبادل أنْ سيجري الدفع قُدمًا في إنشاء الخط …»

توقف الشريط عن تلعثمه وتحرك بسرعة في حماس، ثم تبع ذلك سلسلة من الهزات السريعة التي أزالت الرسالة غير المكتملة.

بعد ذلك، ورد في الشريط: «قُبِض على زعيم تنظيم رجال العدالة الأربعة في لندن الليلة.» فركض تشارلز مقتحمًا غرفة التحرير.

فتح الباب على مِصراعَيه دون مقدمات، وأعاد على الأسماع القصة التي أوردتها الآلة الصغيرة.

تلقَّى رئيس التحرير الأشيب الخبر بهدوء، وتسببت الأوامر التي أصدرها في الساعات الخمس التالية في إزعاج نحو عشرين أو ثلاثين شخصًا مسالمًا.

بدأ بناء «قصة» رجال العدالة الأربعة من أدنى درجات السُّلم الفكري.

«يا فتى! أحضر ست سيارات أجرة إلى هنا بسرعة، بوينتر، هاتف المراسلين في، اتصل بنادي لامبس وتحقق من كون أوماهوني أو أي أحد آخر من شبابنا البارعين هناك، توجد خمسة أعمدة عن رجال العدالة الأربعة في القبو، أحضرها، يا سيد شورت، الصور، أرسل برقية إلى ماسوني ليذهب إلى مركز الشرطة ويرى إن كان بوسعه أن يعثر على شرطي على استعداد لأن يُعطيَه مادةً لرسم تقريبي، هيا اذهب يا تشارلز، واحصل على القصة.»

لم يكن ثَمة اضطراب، ولا تزاحم؛ كان الأمر يشبه بالضبط المشهد على سفينة حربية عندما ينطلق أمر «أخلوا السطح السفلي للسفينة للعمل.» كانت مدة ساعتَين للحصول على القصة ووضعِها على الورق فسحةً كافية، ولم يكن ثمة حاجةٌ إلى التحفيز.

لاحقًا، مع تحرك عقارب الساعة التي لا ترحم، جاءت سيارة أجرة تلو أخرى مسرعةً إلى مكتب الصحيفة الكبيرة، وخرج منها شبان متأهبون وثبوا حرفيًّا داخل المبنى. فيما بعد، بينما كان ثمة موظَّفو تشغيل منتظرون، يجلسون في توتر أمام لوحات مفاتيح آلات اللاينوتايب، جاء تشارلز جاريت وهو يقوم بأمور جديرة بالملاحظة ببقية قلم رصاص ورزمة من ورقة طباعة رفيع.

كانت صحيفة «ميجافون» هي الصحيفة التي تألقت على نحو رائع وسط الصحف المنافسة الأخرى، بصفحات — وأنا هنا أقتبس وجهة النظر المليئة بالحقد لمحرِّر الأخبار بصحيفة «ميركوري» — «برزت مثل صدرية وكيل مراهنات سباقات خيل مبهرجة بمربعات صارخة الألوان».

كانت صحيفة «ميجافون» هي التي ألهبت شغف العامة، وكانت المسئولة في المقام الأول عن الحشد الضخم الذي تجمَّع خارج محكمة شرطة جرينيتش، وتدفق بأعداد غفيرة إلى سفح تلة بلاكهيث، بينما كان مانفريد يخضع للتحقيقات الأولية.

«جورج مانفريد، في التاسعة والثلاثين من عمره، بلا عمل، يقطن في هيل كريست لودج، بسان جون.» بهذه الطريقة العادية قُدِّم إلى العالم.

ظهر بمظهر مذهل في قفص اتهام بقضبان من الصلب. وُضِع له كرسي، وعُيِّنت له حراسة لم تُعَيَّن إلا لقلة من السجناء من قبل. أُعِدَّت زنزانة خاصة لاستقباله، وخروجًا عن العرف المعمول به، اختِيرَ عدد إضافي من الحراس لمراقبته. لم يُرِد فالموث أن يُخاطر.

لم يكن للتهمة التي كانت قد لُفِّقَت له علاقة بأي قضية معروفة. فقبل أعوام عديدة، عُثِر على رجل يُدعى صامويل ليبسكي — وهو صاحب عمل سيئ السمعة من إيست إند، كان يبخس العاملين لديه أجورهم ويُكلفهم ما لا يُطيقون — قتيلًا مع الإعلان النمطي المعتاد بأنه سقط تحت مقصلة عدالة رجال العدالة الأربعة. بناءً على هذا أسست وزارة الخِزانة قضيتها وأحالتها إلى القضاء؛ وكانت قضية أُعِدَّت بدقة شديدة وعلى نحو مقنع جدًّا، وتم حفظها في الأدراج إلى حين القبض على واحد أو آخر من رجال العدالة الأربعة.

بتصفح الآلاف من قصاصات الصحف التي تناولت التحقيق الأَوَّلي مع مانفريد ومحاكمته، صُعِقْتُ من غياب أي عنصر قوي أو مروع، مثلما يُمكن للمرء أن يتوقع أن يجد في محاكمة تحظى باهتمام على مستوى الدولة بهذا الوصف. بتلخيص الأدلة التي قُدِّمَت إلى محكمة الشرطة، يُمكن للمرء أن يُرتب «شهادات» عشَرة أو نحو ذلك من الشهود العاديين الذين كانت أقوالهم كما يلي:
  • شرطي: «لقد عثرت على الجثة.»
  • محقق: «لقد قرأت البطاقة.»
  • طبيب: «لقد أعلنتُ وفاته.»

رجل واحد فقط، لديه حَوَل بسيط ويتكلم بإنجليزية ركيكة، قال: «أعرف هذا الرجل المدعو ليبسكي، لقد كان رجلًا صالحًا وكان يستخدم عقله في ممارسة عمله.»

وأقوال من هذا القبيل.

رفض مانفريد أن يدفع بأنه «مذنب» أو «غير مذنب». تكلم مرة واحدة فقط أثناء إجراءات سير دعوى محكمة الشرطة، وذلك فقط عندما وُجِّه إليه السؤال الرسمي.

قال بوضوح: «أنا مستعدٌّ للامتثال لنتيجة محاكمتي، ولا يُهِم كثيرًا على أي حال إن قلت إنني «مذنب» أو «غير مذنب».»

قال القاضي: «سأُدوِّن دفاعك على أنه «غير مذنب».»

فانحنى له مانفريد.

وقال: «ذلك حسب تقدير نيافتكم.»

في السابع من يونيو أُحيل رسميًّا إلى المحاكمة. التقى في مقابلة قصيرة مع فالموث قبل أن يُؤخَذ من زنازين محكمة الشرطة.

ربما كان فالموث يجد صعوبة في تحليل مشاعره تجاه هذا الرجل. لم يكن هو نفسه يعرف إن كان مسرورًا أم آسفًا أن القدَر ألقى بالزعيم المهيب بين يدَيه.

كان مسلكه مع مانفريد مسلك شخص أدنى مكانةً مع شخص أعلى منه مكانة، وربما وجد ذلك صعبًا للغاية في تفسيره.

عندما فُتِح باب الزنزانة لإدخال المفتش، كان مانفريد يقرأ. قام من جلسته بابتسامة مبتهجة لتحية زائره.

قال بلطف: «حسنًا، يا سيد فالموث. ها نحن ندخل الفصل الثانيَ والأكثر جدية في المسرحية الدرامية.»

قال فالموث بصراحة: «لا أعرف إن كنتُ مسرورًا أم آسفًا.»

قال مانفريد بابتسامته الساخرة الغامضة: «ينبغي أن تكون مسرورًا؛ فقد برَّأت …»

قال فالموث بطريقة جافة: «نعم، أعرف ذلك كله، ولكن الجزء الآخر هو ما أكرهه.»

«تقصد؟»

لم يُكمل مانفريد السؤال.

«أجل، إنها مهمة غير سارة، يا سيد مانفريد، وذلك هو الأمر البغيض بعد العمل الرائع الذي قمت به من أجل البلاد.»

أرجع مانفريد رأسه إلى الوراء، وضحك في استمتاع جامح.

قال المفتش بصراحة: «أوه، لا يُوجَد ما يستحق الضحك، فأنت في موقف لا تُحسَد عليه، وزير الداخلية قريب لرامون، وهو يكره حتى اسم رجال العدالة الأربعة نفسه.»

قال مانفريد في هدوء: «ومع ذلك يُمكنني أن أضحك؛ لأنني سأهرب.»

لم يكن ثمة تفاخر في الحديث، وإنما ثقة هادئة كان تأثيرها أن غضب الآخر.

قال بتجهم: «أوه، ستفعل، أليس كذلك؟ حسنًا، سنرى.»

لم يكن ثمة مهرب لمانفريد في مسافة العشر الياردات أو نحو ذلك بين باب زنزانته وعربة السجن. كان مقيدًا مع حارسَين، وشكل صفٌّ مزدوج من رجال الشرطة ممرًّا سار عبره. ولم يكن ثمة مهرب أيضًا من عربة السجن نفسِها التي تحركت في حماية مجموعة قوية من الخيالة الذين كانوا يُشهِرون سيوفهم. ولم يكن ثمة مهرب كذلك من البوابات الكئيبة لسجن واندزورث، حيث أحاط به بإحكام رجالٌ صامتون لا يلبسون ملابسَ موحدة وأخذوه إلى زنزانة لها ثلاثة أقفال.

ذات مرة في الليل، بينما كان نائمًا، أيقظه صوت الحارس الذي جاء لتغيير المناوبة، وسرَّه هذا.

لو أُتيحَت للمرء مساحة للكتابة، لجُمِّع كتاب كامل عن حياة مانفريد خلال الأسابيع التي قبع فيها في السجن في انتظار المحاكمة. كان يأتيه زوار. وكان مسموحًا بتراخٍ غير عادي في هذا الشأن. كان فالموث يأمُل في أن يعثر على الرجلَين الآخرَين. واعترف لمانفريد بذلك برحابة صدر.

قال مانفريد: «يُمكنك أن تُريح نفسك من التفكير في تلك النقطة، فلن يأتيا.»

وصَدَّقَه مانفريد في قوله هذا.

قال مبتسمًا: «لو كنتَ مجرمًا عاديًّا، يا سيد مانفريد، كنت سأُلمح إليك باحتمالات أن تكون شاهد ملك إن أرشدت عن زميلَيك، لكنني لن أُسيء إليك بذلك.»

أذهلَته إجابة مانفريد.

فقد قال والبراءة على سيمائه: «بالطبع لن أفعل، فلو قُبِض عليهما، مَن بحق السماء الذي سيُرتب عملية هروبي؟»

لم تأتِ امرأة جراتس لرؤيته، وكان مسرورًا لذلك.

كان مدير السجن يزوره يوميًّا، ووجده لطيفًا على نحو ساحر. تكلما عن البلاد التي كان كلاهما يعرفها، وعن أشخاص كان كلاهما يعرفهم جيدًا بالدرجة نفسِها. وبطريقة تكتيكية تجنبا الحديث في الموضوعات الممنوعة. فقط …

قال مدير السجن، وهو يُنهي إحدى هذه الزيارات: «سمعت أنك ستهرب، أليس كذلك؟» كان رجلًا ضخم الجثة، كان في السابق رائدًا في المدفعية البحرية، وكان يأخذ أمور الحياة على محمل الجِد. لذلك لم يكن يُشارك فالموث في رؤيته للهروب المتوقع على أنه مزحة في توقيت سيِّئ.

أجاب مانفريد: «أجل.»

«من هنا؟»

بجدية هز مانفريد رأسه.

قال بجدية جديرة بالإعجاب: «لم تُوضَع ترتيبات للتفاصيل بعد.»

«لا أعتقد أنك تُحاول أن تستدرجني، فمن الخطورة الشديدة المزاحُ في هذا الأمر، ولكن سيكون أمرًا محرجًا لي إن هربت.» كان من الطبقة الاجتماعية نفسها التي ينتمي إليها السجين وكان يثق ثقة فائقة في كلمة الرجل الذي ناقش أمر الهروب من السجن بمرح كبير.

قال مانفريد، مظهرًا قليلًا من الاحترام: «أُدرك ذلك، وسأضع خططي وفقًا لذلك، بحيث يُوَزَّع اللوم بالتساوي.»

غادر مدير السجن الزنزانة، وهو لا يزال مقطبًا يُفكر. وعاد بعد بضع دقائق.

قال: «بالمناسبة، يا مانفريد. نسيت أن أُخبرك أن الكاهن سيزورك. إنه شاب مهذب جدًّا، وأعرف أنني لست بحاجة إلى أن أطلب منك أن تخذله بلطف.»

بهذا الافتراض الخفي بأن كليهما لا يُؤمن بأي دين، غادر أخيرًا.

فكر مانفريد في نفسه: «إن ذلك سيد ذو شأن.»

كان الكاهن متلهفًا بعصبية لأن يفتح مجالًا للحديث، وسعى، وسط الأحاديث المبتذلة التي أعقبت التبادل التقليدي للتحيات، إلى إيجاد ثغرة لإقحام سؤال لبق.

منحه مانفريد، الذي كان يُلاحظ خجله، الفرصة، وأصغى باحترام بينما كان الشاب يتحدث، بجدية، وإخلاص، ورجولة.

قال السجين بعد برهة: «لا، لا أظن، يا سيد سامرز، أن أنت وأنا لدينا آراء مختلفة تمامًا، إذا ما اختُصِرَت كلها في مسائل الإيمان والتقدير لصلاح الرب، لكنني وصلت إلى مرحلة أتجنب فيها وسم معتقداتي الخاصة بهذه العقيدة أو تلك، أو حصر الحدود غير المحدودة لإيماني في كلمات. أعرف أنك ستغفر لي وتُصدق أنني لا أقول هذا بدافع من أي رغبة في جرح مشاعرك، لكنني وصلت، أيضًا، إلى مرحلة من الإيمان الراسخ صرتُ فيها حرونًا أمام التأثير الخارجي. خيرًا كانت أم شرًّا، لا بد من أن أعتصم بالمفاهيم التي بنيتها من حياتي والدروس التي تعلمتها منها.

ثمة سبب آخر، وأكثر عملية لرفضي الإساءة إليك أو إلى أي كاهن آخر بإضاعة وقتكم، وهو أنني لا أنوي أن أموت.»

بهذا، كان الكاهن الشاب مجبرًا على أن يكون راضيًا. التقى بمانفريد مرارًا، وتكلما عن الكتب والناس والديانات الغريبة.

من منظور الحراس وأولئك المحيطين به، كان مانفريد مصدرًا للعجب باستمرار. لم يُرهقهم أبدًا بالحديث عن محاولته القادمة للهروب. ومع ذلك كان كل ما كان يقوله ويفعله يبدو قائمًا على قاعدة الإيمان الأساسية الوحيدة تلك: سوف أهرب.

اتخذ مدير السجن كل الاحتياطات للحيلولة دون تهريبه وإنقاذه من السجن. طلب تعزيزات من الحراس وحصل عليها، ولدى رؤية مانفريد لوجوه غريبة ضمن حراسه في صباح أحد الأيام أثناء التريُّض، مازح مديرَ السجن بعصبية مفرطة.

قال مدير السجن: «أجل، لقد ضاعفت عدد الطاقم. أنا أعتبر أنك صادق فيما قلته، هذا كل ما في الأمر، لا بد للمرء أن يتمسك بقوة بآخر فُتات باقية من إيمان المرء بالبشرية. أنت تقول إنك ستهرب، وأنا أُصدقك.» فكر لحظة ثم أضاف: «لقد درستك.»

«حقًّا؟»

قال مدير السجن، مشيرًا إلى السجن بحركة من يده: «ليس هنا، ولكن في الخارج، قرأت عنك وفكرت فيك وفهمتك على نحو غير واضح قليلًا، ذلك يجعلني متيقنًا من أن في جعبتك أمرًا ما عندما تتكلم بسهولة بالغة هكذا عن الهرب.»

أومأ مانفريد برأسه. أومأ برأسه مرات كثيرة مفكرًا، وشعر باهتمام جديد في الرجل الفظِّ المخادع.

«وبينما أنا أُضاعف الحراسة وأقوم بأمور من ذلك القبيل، أعرف في قرارة قلبي أن ذلك «الأمر» الذي في جعبتك ليس أمرًا متعلقًا بتفجير، ولا «أمرًا» ينطوي على قوة غاشمة، وإنما هو «أمر» عميق للغاية، تلك هي الطريقة التي فهمت بها الأمر.»

هز رأسه مودعًا، وأُغْلِق باب الزنزانة خلفه مع صوت خشخشة وطقطقة قوية للمفاتيح.

كان من الممكن أن يُحاكَم في الجلسات التالية لإحالته إلى الحبس المؤقت، لكن ممثل التاج طلب التأجيل، وبإبلاغه وسؤاله عما إذا كان يود إبداء أي اعتراض على ذلك المسار، أجاب بأنه ليس معترضًا على الإطلاق، بل كان ممتنًّا؛ لأن ترتيباته لم تكن قد تمت بعد، وعندما سألوه، مع علمهم بأنه كان قد رفض وجود محامٍ إجرائي ومستشار، عن ماهية الترتيبات التي أشار إليها، ابتسم بغموض وعرَفوا أنه كان يُفكِّر في خُطة الهرب الرائعة هذه. كان من المتوقع بالتأكيد أن تصل تلك التأكيدات المستمرة في نهاية المطاف إلى العامة عبر الصحف العامة، ومع أن عبارة «مانفريد يقول إنه سوف يهرب من سجن واندزورث» الواردة في العنوان الرئيسي لصحيفة «ميجافون» قد أصبحت «تصريحًا غريبًا لسجين» في صحيفة «التايمز»، فإن جوهر القصة كان متطابقًا، ولتكن على يقين من أنها لم تفقد أي شيء في السرد. استردت صحيفة أسبوعية تصدر يوم الأحد، ذات توزيع متراجع، عافيتها عندما زعمت أن مانفريد كان مجنونًا، ونشرت تقريرًا بطول عمود عن هذا «المجنون المسكين الذي يُثرثر بكلام غير مفهوم عن الحرية.»

وإذ كان مسموحًا لمانفريد أن يقرأ الصحف، رأى هذا الكلام، وأبقاه مستمتعًا طيلة يوم كامل.

كان الحراس الذين يُلازمونه يتغيرون يوميًّا، ولم يكن يُعين له الحارس نفسُه مرتَين حتى رأى مدير السجن عيبًا في الطريقة التي كانت تسمح بحارس على معرفة سطحية به فحسب، ولم يكن على علم بمدى نزاهته، أن يتصل اتصالًا وثيقًا بسجينه. جاء تهديد هذا الخطر تحديدًا من الضباط الجدد الذين كانوا قد أُلحِقوا بالخدمة في سجن واندزورث لتدعيم الطاقم، وتحول مدير السجن إلى النقيض، واختير رجلان موثوق بهما، كانا قد تقدم بهما العمر في الخدمة، ليُؤدِّيا دور المراقبة الدائمة.

ذات صباح قال مدير السجن: «لن تتمكن من الحصول على المزيد من الصحف. لقد تلقيت أوامرَ من مركز القيادة، كانت توجد بعض «الإعلانات في ركن الاجتماعيات» التي بدت مريبة في صحيفة «ميجافون» في عددها الأخير أو نحو ذلك.»

قال مانفريد مبتسمًا: «لست أنا من وضعها.»

قال مدير السجن بنبرة جافة: «لا، ولكن ربما تكون قد قرأتها.»

قال مانفريد اليقظ: «ربما أكون قد فعلت.»

«هل فعلت ذلك؟»

لم يُجب مانفريد.

قال مدير السجن بابتهاج: «أظن أن ذلك ليس سؤالًا عادلًا. على أي حال، لا مزيد من الصحف. يُمكنك الحصول على كتب، أي كتب تُريدها في نطاق الحدود المسموحة.»

وهكذا حُرِم مانفريد من متعة قراءة الفقرات الصغيرة التي كانت تصف تحركات وأفعال العالم العصري. كان عندئذٍ ما يُهمه أكثر من بقية الصحيفة بأكملها هو فقط هذه التحركات والأفعال. وكانت تلك الأخبار التي تُتاح له من نوع سلبي وعن طريق مدير السجن. سأله: «أما زالت الصحف تدَّعي أنني مجنون؟» فأجاب: «لا.»

«هل تزعم أنني وُلِدتُ في برتاني، وابن لأبوَين متواضِعَي الحال؟»

«لا، توجد نظرية أخرى الآن.»

«أما زالوا يقولون إن اسمي الحقيقي هو إيزادور ابن فلان أو علان؟»

قال مدير السجن محرجًا: «يقولون الآن إنك تنتمي إلى عائلة نبيلة، وإن أميرة من الأسرة الحاكمة خيَّبَت أملك في سنٍّ مبكرة.»

قال مانفريد بصوت خافت: «يا للرومانسية!» تراجعت الرزانة التي كان يُضفيها عليه عمره، والتي كانت تفوق عمره، في وقت الانتظار ذاك. كاد أن يعود صبيانيًّا من جديد. كان لديه مَعين لا ينضب من خفة الظل التي حولت حتى قضايا محاكمته الجسيمة إلى موضوع للتسلية.

جاء لويجي فريزيني، المدير الشاب لمعهد الأنثروبولوجيا بروما، مسلحًا بسلطة وزير الداخلية.

وافق مانفريد على مقابلته ورحب به بقدر ما سمحت الظروف. لم يكن فريزيني منبهرًا بأهميته الشخصية، وكان سلوكه العملي ساميًا جدًّا. كانت له طريقة مرحة ومفعمة بالحيوية يُميل فيها رأسه على أحد جانبَيه عندما كان يُبدي ملاحظات، وذَكَّر مانفريد بتاجر خيول رُزِق قدرًا قليلًا من المعرفة، لكنه توَّاق لاكتشاف «النقاط» التي توافقت مع نظرياته التي تكونت لديه مسبقًا، مهما كان ما سيُواجه من أخطار. قال: «أود أن أقيس حجم رأسك.»

قال مانفريد ببرود: «يُؤسفني أن أقول إنني لا يُمكنني أن أسمح لك بذلك؛ من ناحية لأنني أعترض على الإزعاج الذي يُسببه ذلك، ومن ناحية أخرى لأن قياس حجم الرأس في علم الأنثروبولوجيا هو أمر عفا عليه الزمن تمامًا كفصد الدم في الجراحة.»

كان رد فعل المدير متعاليًا.

ابتدأ يقول: «يُؤسفني القول إنني لا يُمكنني أن أتلقى دروسًا في العلم …»

قال مانفريد: «أوه، أجل يُمكنك، وستُصبح رجلًا أعظم إن فعلت. واقع الأمر أن أنطونيو دي كوستا وفيليكس هيديمان يتفوقان كلاهما عليك في مجالك، لقد كانت أفْرودتك عن «ديناميكيات الدماغ» محض هراء فظيع.»

عندئذٍ احمرَّ وجه فريزيني غضبًا وهمهم بعبارات غير مترابطة وغادر الزنزانة، وبعد ذلك في غمار طيشه أجرى مقابلة مع صحيفة مسائية، وصف أثناءها مانفريد بأنه قاتل نمطي لديه سمات تطور الفص الجداري تلك، والمقترنة دومًا بالقتلة عديمي الرحمة. فُرِضَت على الصحيفة غرامة باهظة، لنشرها ما شَكَّل احتقارًا كبيرًا للمحكمة، وبطلب من الحكومة البريطانية، تلقى فريزيني توبيخًا، وفي نهاية الأمر حل محله ذلك المدعو دي كوستا الذي أتى على ذكره مانفريد.

كل هذه الأحداث شكَّلَت كوميديا الانتظار الطويل، وأما فيما يتعلق بالتراجيديا، فلم يكن ثمة أحداث من هذا القبيل.

قبل أسبوع من المحاكمة عبَّر مانفريد، في أثناء حديث، عن رغبة في الحصول على المزيد من الكتب.

سأله مدير السجن وهو يستعد لتدوين ملاحظة: «ماذا تُريد من الكتب؟»

قال مانفريد بكسل: «أوه، أي شيء؛ كتب عن الأسفار، أو عن السِّيَر الذاتية، أو عن العلم، أو الرياضة، أي شيء جديد يجري.»

قال مدير السجن، الذي لم يكن من المهتمين بالكتب والقراءة: «سأُحضر لك قائمةً. كتب الأسفار الوحيدة التي أعرفها هي هذان الكتابان الجديدان، «ثلاثة أشهر في المغرب» و«عبر غابة إيتوري.» أحدهما بقلم مؤلف جديد، ثيودور ماكس، هل تعرفه؟»

هز مانفريد رأسه بالنفي.

وقال: «ولكن سأُجربهما.»

سأله مدير السجن بفظاظة: «ألم يحن الوقت لتبدأ في التحضير لدفاعك؟»

قال مانفريد: «ليس لديَّ دفاع لأُقدمه؛ لذا لا يُوجد دفاع لأُحضِّر له.»

بدا الغيظ على مدير السجن.

سأله بخشونة: «أليست الحياة حلوة كفايةً لك، ليستحثك ذلك على أن تبذل جهدًا لإنقاذها؟ أم أنك ستستسلم دون كفاح؟»

قال مانفريد مجددًا: «سأهرب؛ ألم تتعب من سماعي أُخبرك عن سبب عدم بذلي جهد لإنقاذ نفسي؟»

قال مسئول السجن ساخطًا: «عندما تبدأ الصحف مجددًا في الكتابة عن نظرية «الجنون»، سأشعر بأقصى ميل إلى خرق القواعد وكتابة خطاب يُؤيد هذا الافتراض.»

قال مانفريد بمرح: «فلتفعل ذلك، وسأُخبرهم بأني أركض في أنحاء الزنزانة على أربعٍ أعَضُّ أرجل الزوار.»

في اليوم التالي وصلت الكتب. ظلت ألغاز غابة إيتوري مجرد ألغاز، لكنه قرأ كتاب «ثلاثة أشهر في المغرب» (وكان مطبوعًا بأحرف كبيرة، وهوامش عريضة، وسعره ١٢ شلنًا، و٦ بنسات) بشغف من أوله إلى آخره، على الرغم من حقيقة أن النقاد بالإجماع شجبوه واصفين إياه بأنه أكثر كتاب ممل في هذا الموسم. وكان لذلك الأمر انعكاس غير لطيف على القيمة الأدبية لمؤلفه، ليون جونزاليس، الذي كان قد عمل صباح مساء لإعداد الكتاب للنشر، وكان يظل يكتب حتى وقت متأخر من الليل، بينما كان بويكارت، جالسًا على الطرف الآخر من المائدة، يُصحح المسودات التي لم يكن حبرها قد جف بعد عند وصولها من المطبعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤