الفصل الخامس عشر

تشيلمسفورد

عادوا بمانفريد إلى سجن واندزورث ليلة المحاكمة. واستقبله بجدية شديدة مديرُ السجن، الذي كان واقفًا في فناء السجن الدامس وشاحنة نقل السجناء تدخل مع موكبها الذي يُصدر صوت قعقعة.

سأله حين زار الزنزانة في تلك الليلة: «هل تُريد أي شيء؟»

قال مانفريد: «سيجارًا.» فأعطاه مدير السجن علبة السيجار. انتقى مانفريد واحدًا منها بعناية، وأخذ مدير السجن يُراقبه في تعجب.

قال: «أنت رجل غير عادي.»

أجابه: «وعليَّ أن أكون كذلك؛ لأن أمامي محنةً لا يُخفف من شناعتها إلا تفردُها.»

قال مدير السجن: «سيكون ثمة التماسٌ لإيقاف التنفيذ، بالطبع.»

قال مانفريد ضاحكًا: «أوه، لقد أوقفت ذلك، أوقفته بسخرية لاذعة، ومع ذلك فأنا على ثقة من أنني لم أُثبط عزم «المؤمنين العقلانيين» الذين جعلت لهم بعد وفاتي مخصصات كبيرة.»

من جديد قال مدير السجن في تأمل: «أنت رجل غير عادي. بالمناسبة يا مانفريد، ما الدور الذي تلعبه السيدة في هروبك؟»

تساءل مانفريد بذهول حقيقي: «السيدة؟» «أجل، المرأة التي تتردد كثيرًا على هذا السجن من الخارج؛ سيدة متشحة بالسواد، وكبير الحرس يقول لي إن جمالها لا مثيل له.»

قال مانفريد بوجه مكفهر: «آه، السيدة. كنت آمُل أن تكون قد ذهبت.»

جلس يُفكر.

قال مدير السجن: «إن كانت صديقة لك، فلن يكون من الصعب أن تحصل على إذنٍ بمقابلتك.»

قال مانفريد بسرعة: «لا، لا، لا، يجب ألا تكون ثمة مقابلة، هنا على الأقل.»

قال مدير السجن لنفسه إن احتمال المقابلة «هنا» مستبعَد؛ لأن الحكومة كانت قد وضعت خططًا تقضي بنقل سجينهم، الأمر الذي شعر بأن واجبه نحو الدولة لا يسمح له بأن يُبلِغه بشأنه. لم يكن بحاجة، لو كان يعرف، إلى أن يجعل المخطط سرًّا.

خلع مانفريد الحذاء غير الملائم الذي كانت إدارة السجن قد منحته له — كان قد استبدل بملابسه ملابس المدانين لدى عودته إلى السجن — واستلقى في سريره بملابسه دون أن يخلعها، وتغطى ببطانية.

اقترح عليه أحد الحراس المراقبين باقتضاب أن يخلع ملابسه.

قال: «الأمر لا يستحق العناء، من أجل مدة وجيزة جدًّا.»

ظنوا أنه يُشير مجددًا إلى الهرب، وتعجبوا قليلًا من جنونه. بعد ثلاث ساعات عندما جاء مدير السجن إلى الزنزانة، أذهلتهم درايته.

قال مدير السجن: «آسف على إزعاجك، ولكنك ستُنقَل إلى سجن آخر، عجبًا، أنت لم تخلع ملابسك!»

قال مانفريد، وهو يُزيح عنه الغطاء بكسل: «لا، ولكني ظننت أن النقل سيكون في وقت أسبق.»

«كيف عرَفت؟»

قال السجين، وهو يتمطى: «بشأن النقل، أوه، عصفورٌ صغير أخبرَني.» «إلى أين؟ بينتونفيل؟»

نظر إليه مدير السجن بغرابة بعض الشيء.

قال: «لا.»

«ريدينج؟»

قال مدير السجن باقتضاب: «لا.»

عبس مانفريد.

قال: «أينما كان، أنا مستعد.»

أومأ برأسه محييًا الحارس المرافق وهو يُغادر وودع مدير السجن وداعًا غير رسمي ولكن بابتهاج على محطة السكك الحديدية الخالية حيث كانت قاطرة، تجر مقطورة ذات فرامل يدوية، تقف وحيدة منتظرة.

قال: «باعتقادي أنها حالة خاصة.»

مد مدير السجن يده له ليُصافحه وهو يقول: «وداعًا، يا مانفريد.»

لم يمد مانفريد له يده، واحمرَّ وجه مدير السجن خجلًا في الظلام.

قال مانفريد: «لا أستطيع أن أُصافحك، لسببين؛ الأول أن كبير الحرس الرائع قد وضع الأصفاد في يديَّ، من الخلف …»

قال مدير السجن وهو يضحك قليلًا: «لا يُهم السبب الآخر.» ثم أضاف وهو يضغط على ذراع السجين: «لا أتمنى للرجل الآخر أي أذًى، ولكن لو تصادف أن تحقق ذلك الهروب العجيب الذي تحدثتَ عنه، فإنني أعرف ضابطًا محترمًا في مصلحة السجون لن يستاء لذلك كثيرًا.»

أومأ له مانفريد برأسه، وبينما كان يصعد إلى القطار قال:

«تلك السيدة، إن رأيتها، قل لها إنني ذهبت.»

«سأفعل، ولكن يُؤسفني القول إنني قد لا أُخبرها إلى أين.»

قال مانفريد والقطار يتحرك: «هذا يرجع إلى تقديرك.» أنزل الحراس الستائر، واستغرق مانفريد في النوم.

استيقظ ويد كبير الحرس على ذراعه وخرج إلى الرصيف وضوء النهار يبزغ. فتش بعينه السريعة الملاحظة في لوحة الإعلانات في محطة القطار. كان سيفعل هذا عمومًا؛ لأن من شأنهم أن يُطلِعوه على المكان الذي كان فيه، بافتراض أنه لسببٍ ما كانت السلطات ترغب في إخفاء وجهته عنه. لكن كان لديه اهتمام خاص بالإعلانات في هذه اللحظة. كانت محطة القطار مغطاة بملصقات لبائع متجول لبضائع رخيصة؛ وهو نوع غير معتاد من الإعلانات على لوحات الإعلانات الصارمة لمحطة قطار. ملصقات ضخمة حماسية كُتِب عليها «كل شيء على ما يُرام»، وبخط أصغر تحته كُتِب «حتى الآن». وكان مكتوبًا على الملصقات الصغيرة «اكتب إلى قريبتك في لندن، وأخبرها بصفقة جيبسي جاك تلك»، إلى آخره. وكُتِب على ملصق آخر «اتبع القواعد!» وبينما كان ينزل على السلالم لاحظ في الجهة المقابلة للمحطة دليلًا آخر على هذه النزعة المبالغ فيها للبضائع الرخيصة؛ إذ كانت توجد لافتتان كبيرتان مضيئتان واضحتان للعيان، وكلتاهما في الشأن نفسه. في ظلمة العربة المقفلة المغطاة بالستائر، ابتسم مانفريد ابتسامة عريضة. حقًّا لم يكن ثمة حدٌّ لبراعة ليون جونزاليس. في صباح اليوم التالي عندما زاره مدير سجن تشيلمسفورد، أعرب مانفريد عن عزمه كتابةَ خطاب إلى قريبه، في لندن.

تساءل بويكارت: «هل رأيته؟»

قال ليون: «مجرد لمحة.» وسار إلى نافذة الغرفة ونظر إلى الخارج. أمامه مباشرة وقفت الواجهة القاتمة للسجن. سار عائدًا إلى الطاولة وصب لنفسه فنجانًا من الشاي. لم تكن الساعة السادسة قد حانت بعد، لكنه كان مستيقظًا معظم الليل.

قال وهو يرتشف السائل الشديد السخونة: «إن وزير الداخلية غير متحفِّظ في مراسلاته، وهو عمومًا رجل غير حريص للغاية.» كان ذلك فيما يتعلق بمجيء مانفريد.

«لقد زرت منزل فخامته مرتَين الليلة الماضية، وحصلت على الكثير من المعلومات المذهلة. أتعرف أن ويلينجتون، رئيس الغرفة التجارية، كان قد أقام «علاقة غرامية»، وأن لوردًا صغيرًا في البحرية الملكية يُعاقر الخمر كالإسفنجة، وأن مستشار الخِزانة يكره وزير الحربية، الذي سيُثرثر كثيرًا، وأن …»

سأله بويكارت: «هل يحتفظ بمفكرة يومية؟» فأومأ الآخر بالإيجاب.

«مفكرة يومية مليئة بشائعات تُساوي آلاف الجنيهات، مقفلة بقفل رخيص. إن منزله مجهز بنظام ماجنو سيلي لأجهزة الإنذار ضد السرقة، ولديه ثلاثة من الخدم.»

قال بويكارت: «لقد أُحِطتَ علمًا بكل شيء تقريبًا.»

قال ليون بامتعاض: «عزيزي بويكارت، إن لديك طريقةً في الحصول على أروع المعلومات مني دون أن تُكافئني بمواقف الإطراء التالية؛ أولًا: الاندهاش الميال للشك. ثانيًا: التعجب المنتشي. ثالثًا: الإعجاب الممزوج بالإكبار.»

ضحك بويكارت بغير تحفظ؛ وكان ذلك حالًا غير معتاد.

«لقد توقفت عن التعجب من براعتك المتميزة.» قال ذلك متكلمًا بالإسبانية، اللغة التي كان هذان الرجلان يستخدمانها دائمًا عندما يكونان بمفردهما.

تابع بويكارت: «كل هذه الأمور تفوق قدراتي، ومع ذلك لا يستطيع أحد أن يقول، مع ما أتسم به من بطء في التفكير، إنني كسول في الفعل.»

ابتسم ليون.

كان العمل الملقى على كاهل كلٍّ منهما في الأسابيع القليلة الأخيرة ثقيلًا. لم يكن تحضير كتاب «ثلاثة أشهر في المغرب» مهمةً سهلة. شكلَت الكلمة الأولى من كل فقرة سابعةٍ الرسالةَ التي كان عليه أن ينقلها إلى مانفريد؛ وكانت رسالة طويلة. بعد ذلك جاءت مهمة طباعته، وترتيب مسألة نشره الفوري، ووضع الكتاب في قائمة الكتب الأكثر مبيعًا، والدفع به عمومًا ليُصبِح على مرأًى ومسمعٍ من جمهور غيرِ مقدِّر. وكما يختزن البحارة أحزمة النجاة للطوارئ المحتملة، كذلك كان رجال العدالة الأربعة قد خزنوا، في كل بلد، أغراضَ الإنقاذ التي يحتاجون إليها. كان بويكارت، الذي قام بزيارات كثيرة بالطائرة إلى ميدلاندز، يجلب معه من وقت إلى آخر أجزاءً غريبة من آلة. كان حمله الأخف هو حقائبه، أما الحمل الأثقل فكان يُهَرِّبه إلى تشيلمسفورد في سيارة ذات هيكل قوي.

لحسن الحظ كان المنزل المواجه للسجن معروضًا للبيع، وكان الوكيل، الذي أدار عمليات التفاوض السريعة التي أسفرت عن نقل ملكيته، قد ذكر سهوًا في حديثه عن معلومة أن الزبائن كانوا يأمُلون في إقامة جراج على طريق كولشيستر يكفل لهم نسبة معقولة من حركة السيارات في إسيكس. وعزز وصول هيكلَين مطليَّين غير مصقولَين هذه النظرة لمشروع الملاك الجدد. كان هؤلاء القادمون الجدد أناسًا مُغامرين، وأُذيع سر «على الطريق» مفاده أن جيبسي جاك، الذي كانت قافلته تمر بضائقة، وعلى وشك الحجز عليها، قد وجدت دعمًا ماليًّا على أيديهم. على الرغم من ذلك احتج جاك بشدة على الاقتراح السخيف بأنه يجب أن يُفتَح في تشيلمسفورد في موسم غير مُواتٍ، وأعرب عن ازدرائه الشديد للدعاية المبالغ فيها للمدينة. وكذلك لم يُوافق على صياغة الملصقات، التي فُوجِئ بأنها أخفُّ مما تدعو إليه الطبيعة الصاخبة لمشروعه الترفيهي.

قال السيد بيتر سويني وسط عائلته: «إن آل هيكفورد هؤلاء سيُمنَون بالفشل.» كان مقيمًا فيما يُعرَف باسم «فيث هوم» (أو «بيت الإيمان») وهي فيلا مزخرفة على طريق كولشيستر. وبالمناسبة، قبل استحداثه العظيم الأهمية لحركة «المؤمنين العقلانيين»، كانت الفيلا تحمل الاسم الأكثر فخامة «بالاس لودج».

«إنهم لا يمتلكون أي قدرة تِجارية، ويُفرِطون في تناول الكحوليات.» لم تكن لغة بيتر خالصة ولا مهذبة بالنسبة إلى الكاهن الأكبر لمذهب ديني جديد. وأضاف بغموض: «وليس لديهم التهذيبُ المعتاد للخنازير.» وتابع بسخط: «لقد ذهبت بالعريضة إلى هناك اليوم، والرجل الذي فتح الباب! يا إلهي! يا له من منظر! لقد بدا وكأنه كان مستيقظًا طوال الليل، فقد كانت عيناه حمراوَين، ووجهه شاحبًا، وكان جسده كله يهتز.»

قلت له: «صباح الخير، يا سيد هيكفورد. لقد جئت بشأن العريضة.»

قال: «أي عريضة؟»

قلت: «العريضة المقدمة من أجل الرجل المسكين القابع في سجن تشيلمسفورد، المحكوم عليه بالإعدام، وهو قتل شرعي.»

قال لي: «اذهب إلى الجحيم.» كان هذا ما تلفَّظ به حرفيًّا، «اذهب إلى الجحيم.» كنت أشعر بالاستياء لدرجة أني سرتُ على الفور مبتعدًا عن الباب، لم يعرض عليَّ حتى الدخول، وما إن وصلت إلى آخر الحديقة الأمامية، صاح قائلًا: «لماذا تُريدون إيقاف تنفيذ الحكم عليه؟ لم يترك لكم قدرًا ضخمًا من المال؟»

كان السيد بيتر سويني ثائرًا للغاية وهو يُكرر هذا المقطع من السخرية القاسية.

قال بيتر بوقار وبطريقة مثيرة للإعجاب: «يجب ألا يُسمَح لتلك الفكرة بأن تكبر.»

كان يُقصَد بذلك دحض التلميح الخبيث بأن بيتر رتب مظاهرته اليومية، من الساعة الثانية عشرة وحتى الثانية. كانت توجد قبل ذلك فعاليات كتلك، اجتماعات «حاشدة» تضم فرقًا نُحاسية عند بوابات السجن نفسه، لكنها كانت اجتماعات تافهة عديمة الجدوى مقارنةً بهذه المظاهرات باسم مانفريد.

إن ذكرى «القداس» اليومي ماثلة للغاية في أذهان العامة، وبخاصة العامة في تشيلمسفورد، بحيث لا تحتاج إلى أي وصف هنا. كانت القاعدة المعتادة هي وجودَ حشود يصل عددها إلى ثلاثة آلاف شخص، وأبواق فرقة بيتر تصدح بلا انقطاع، بينما كان صوت بيتر نفسه يزداد غِلظة بتأثير ارتفاع صوته بالتنديد بالوسائل البربرية لنظام من العصور الوسطى.

اعترضت شركة «هيكفورد براذرز»، شركة السيارات الجديدة، على الضرر التي ألحقته هذه المسيرات اليومية على عملهم. وقام ذلك الرجل السكِّير نفسه، والذي كان يبدو في حالة من السُّكر أكثر من ذي قبل، والذي كان وقحًا معه، باستدعاء بيتر وهدده موجهًا له تعليمات وإنذارت. ولم يكن لهذا تأثير على بيتر سوى أنه جعله أكثر صلابة، وفي اليوم التالي استمر الاجتماع ثلاث ساعات.

في السجن، اخترقت الجلبة، التي جرت بالخارج، عزلة زنزانة مانفريد نفسها، وشعر بالرضا عن ذلك.

أبت الشرطة المحلية أن تتدخل وأعادت فتح ذلك الجدل الميئوس منه الذي كان قد تمحور في السابق حول تلك المظاهرات.

وهكذا انتصر بيتر، وازدادت أعداد حشد المتعطلين الذين توافدوا على تجمُّع الظهيرة مع ازدياد الاهتمام بمصير الرجل المدان.

وصدحت الفرقة المُعزَّزة بأفراد آخرين وازداد صوت الطبلة الضخمة علوًّا، وانضم إلى حركة الإيمان العقلاني الكثير من المهتدين الجدد.

في أحد الأيام كان ثمة متفرجٌ اجتذبه الفضول واقفًا عند طرف الحشد. لم يستطع أن يرى الفرقة من الموضع الذي كان واقفًا فيه، لكنه أبدى ملاحظة رائعة؛ لم تكن سوى رأي إجمالي في عضو مهم في الأوركسترا.

قال المنتقِد المجهول: «إما أن طرق ذلك الرجل على الطبلة غير متناغم مع الباقين، أو أنه توجد طبلتان.»

استمع الرجل الذي وجَّه إليه تعليقاته بإنصات، ووافقه عليها.

كان الحشد قد استدار عائدًا إلى السور الذي كان أمام البناية التي تضم مصنعَي السيارات، ومع تفرق الحشد — «تقدمت» جماعة بيتر بشكل رائع إلى المدينة قبل أن تتفرق — جاء واحد من المستأجرين الجدد إلى الباب ووقف، مراقبًا الحشد الذي كان آخذًا في التبدد. سمع هذه الملاحظة المتعلقة بتوقيت قارع الطبل الضخم وأحنقته. وعندما عاد إلى غرفة الجلوس، حيث كان بويكارت الشاحب الوجه يرقد مستلقيًا على أريكة، قال:

«يجب أن نكون حذرين.» وأعاد على مسامعه الحديث.

خلد هذان الرجلان إلى الراحة حتى الساعة السادسة — إذ يجب أن ينال الرجلان اللذان كانا يعملان تحت ضغط هائل قسطًا من الراحة — ثم أخذا يتخلصان من آثار عملهما.

عند منتصف الليل توقفا عن ذلك، واغتسلا ليُزيلا عنهما بقع أعمالهما.

قال بويكارت: «لحسن الحظ، ما زال لدينا غرف كثيرة لنملأها؛ يُمكن لغرفة الجلوس أن تحتمل المزيد، ونحتاج إلى غرفة الطعام، وغرفة الصباح ممتلئة عن آخرها. يجب أن نبدأ بالغرف العلوية غدًا.»

مع متابعتهما للعمل، باتت الحاجة إلى الحذر أوضح أكثر فأكثر؛ لكن لم يُعطل أي حدث تقدمَهما، وفي الأيام الثلاثة السابقة على التاريخ المحدد للإعدام، بينما كان الرجلان يدخلان غرفة المعيشة التي كان بها القليل من الأثاث، نظر أحدهما إلى الآخر عبر المائدة غير المغطاة التي كانت تفصل بينهما، وتنفَّسا الصعداء شاكرين الرب؛ لأن العمل أوشك على الانتهاء.

قال السيد بيتر سويني: «أولئك الأشخاص ليسوا بالسوء الذي تصورته. لقد جاءني أحدهم اليوم وأبدى اعتذاره. كان يبدو في حال أفضل أيضًا، وعرض أن يُوقِّع على العريضة.» كان بيتر يُعطيك دومًا الانطباعَ أثناء كلامه أنه يستخدم كلمات تبدأ بحروف كبيرة.

قال ابنه، الذي كان يتمتع بعقل يتعامل مع الأمور المادية: «أبي، ماذا ستفعل بأموال مانفريد؟»

نظر إليه والده بصرامة.

قال باقتضاب: «سأُكرسه للقضية.»

قال الابن البريء مؤكدًا كلامه: «ذلك قرارك أنت، أليس كذلك؟»

ترفَّع بيتر عن الإجابة في ازدراء.

تابع يقول: «هؤلاء الشبان قد يفعلون أسوأ مما فعلوا. إنهم أكثر احترافية مما ظننت؛ فقد أخبرني كهربائي المدينة أنهم قد حصلوا على تيار كهربائي في أعمالهم، وأن لديهم محركًا غازيًّا صغيرًا أيضًا، ومن الطريقة التي كان أحدهم يتعامل بها مع سيارة كبيرة اليوم على طريق لندن، يدهشني أن لديهم بعضَ المعرفة بمجال تشغيل السيارات.»

اضطُرَّ جونزاليس، لدى عودته من رحلة تجريبية لسيارته الصاخبة، إلى نقل خبر يتعلق بشيء مقلق.

قال وهو يغسل الوسخ الملتصق عن يدَيه: «إنها هنا.»

رفع بويكارت رأسه وتولى ببصره عن العمل الذي كان يقوم به؛ كان يُسَخِّن شيئًا في بوتقة فوق موقد كهربي.

سأله: «امرأة جراتس؟»

أومأ ليون برأسه إيجابًا.

قال بويكارت: «أمر طبيعي.» وتابع القيام بتجرِبته.

قال ليون بهدوء: «لقد رأتني.»

قال الآخر، بلا اهتمام: «أوه! قال مانفريد …»

«إنها لن تُعاود الخيانة، أُصدق ذلك، كما أن جورج طلب منا أن نُحسن معاملتها، وهذا أمر.»

(احتوى خطاب مانفريد إلى «قريبه في لندن» على أمور أكثر بكثير مما وقعَت عليه عينا مدير السجن.)

قال جونزاليس بجدية: «إنها امرأة تعيسة؛ كان محزنًا أن أراها عند سجن واندزورث، حيث كانت تقف يومًا بعد يوم أمام البوابة القبيحة وعلى وجهها تلك النظرة المأساوية؛ لا بد أنها تُعاني من عذاب نفسي لا مثيل له وهي ترى أمام عينها نتيجة ما اقترفته يداها.»

قال بويكارت: «إذن أخبرها.»

«بأن …»

«بأن جورج سيهرب.»

«لقد فكرت في ذلك. أعتقد أن جورج سيرغب في هذا.»

تابع ليون قائلًا: «لقد تبرأت منظمة المائة الحمر منها. لقد أُخْطِرنا بذلك أمس؛ لست متأكدًا من أنها لم تُدَن. أتذكر السيد شميدت، الرجل ذا الوجه المستدير. كان هو من وشى بها.»

هز بويكارت رأسه ونظر إلى أعلى مفكرًا.

قال متحيرًا: «شميدت، شميدت. آه أجل، ثمة شيء ضده، جريمة قتل بدمٍ بارد، أليس كذلك؟»

أجاب ليون بسرعة كبيرة: «أجل.» ولم يتحدثا مجددًا بشأن السيد شميدت القادم من براغ. كان بويكارت يغمس قضبانًا زجاجية رفيعة في المحتويات المتأججة المبقبقة للبوتقة، وراقبه ليون بكسل.

بعد فترة صمت طويلة سأله بويكارت: «هل تحدثت إليك؟»

«أجل.»

ساد الصمت مرة أخرى، ثم تابع ليون:

«لم تكن متأكدة من هويتي، لكنني أعطيتها إشارة المائة الحمر. لم يكن بوسعي أن أتحدث إليها في الشارع أمام المارة. فأغلب الظن أن رجال فالموث كانوا يُراقبونها ليلَ نهار. أنت تعرف حيلة القفاز القديمة للإشارة إلى ساعة الاغتيال. أمسكت بالقفاز ببطء وتوقفت لأنظر بإعجاب إلى ملاءمة إصبع، أو اثنَين، أو ثلاثة أصابع، وهكذا أشرت إليها بأن نلتقيَ في الساعة الثالثة.»

«أين؟»

«في بلدة ويفنهو، كان ذلك سهلًا نوعًا ما أيضًا، يُمكنك أن تتخيلني مستندًا على جانب السيارة أسأل المارة، الذين أبدَوا استعدادهم لمساعدتي، عن الوقت الذي سأستغرقه للوصول إلى ويفنهو، وأنا ألفظ بالكلمة الأخيرة بصوتٍ عالٍ، هل سيستغرق ذلك مني ثلاث ساعات؟ وبينما كانوا يتطوعون بتقديم نصحهم، رأيتها تُشير بعلامة الموافقة.»

همهم بويكارت وهو يعمل.

سأله: «حسنًا، هل ستذهب؟»

قال الآخر، وهو ينظر إلى ساعته: «أجل، سأذهب.»

بعد منتصف الليل، سمع بويكارت، بينما كان في غفوة على كرسيِّه، صوت دمدمة السيارة وفرقعاتها الشبيهة بمدفع جاتلينج الرشاش وهي تدخل المرأب الذي بُني على عجل.

سأل ليون وهو يدخل: «ماذا حدث؟»

قال جونزاليس وهو يتنهد تنهيدة ارتياح: «لقد ذهبت. لقد كانت مهمة صعبة، واضطُرِرت لأن أكذب عليها، ليس بوُسعنا تحملُ تبعة خطر الخيانة. إنها مثل بقية أعضاء منظمة المائة الحمر، تتشبَث بفكرة أن لدينا آلافَ الأشخاص في تنظيمنا؛ وتقبَّلَت قصتي عن اجتياح السجن بالقوة الغاشمة وحدها. كانت تُريد أن تبقى، لكنني قلت لها إنها ستُفسد كل شيء، وستُغادر متوجهة إلى القارة الأوروبية غدًا.»

قال بويكارت بتثاؤب: «لا تملك مالًا، بالتأكيد.»

«لا تملك أي مال، لقد أوقفت منظمة المائة الحمر التمويلات، لكنني أعطيتها …»

قال بويكارت: «بالطبع.»

«كان من الصعب إقناعُها بأخذه؛ كانت كالمجنونة بين خوفها على جورج، وسعادتها بالأنباء التي أطلعتها عليها، وتأنيب الضمير.»

تابع بجدِّية: «أظن أنها كانت تُكِنُّ مشاعرَ نحو جورج.»

نظر بويكارت إليه.

وقال له بسخرية: «لقد فاجأتني.» وذهب إلى النوم.

عندما أشرق نور الصباح كانا يعملان. كانت توجد آلة يتعيَّن تفكيكها، وباب ثقيل مفتوح يجب إصلاحه، وإطارات جديدة يجب تركيبها في السيارة الكبيرة. بعد ساعة من مظاهرة الظهيرة، سُمِع صوت طرقات على الباب الخارجي. أجاب ليون الطارق ووجد سائقًا مهذبًا. في الطريق المُعَبَّد وقفت سيارة بداخلها راكب واحد.

أراد السائق الحصول على بنزين؛ إذ كان قد نفد من السيارة. ترجل سيده من السيارة وتقدم ليُجري تفاوضًا بسيطًا. وصرف الميكانيكي بكلمة واحدة.

قال بوضوح: «ثمة سؤال أو سؤالان أود أن أطرحهما بشأن سيارتي.»

قال ليون: «تعالَ إلى الداخل، يا سيدي.» وأرشد الرجل إلى غرفة الجلوس.

أغلق الباب واستدار إلى الزائر الذي كان يرتدي معطفًا من الفراء.

سأله بسرعة: «لماذا أتيت؟ إنه خطر رهيب، عليك.»

قال الآخر ببساطة: «أعرف ذلك، لكن ربما يكون ثمة شيء أستطيع فعله، ما الخطة؟»

أطلعه ليون عليها بكلمات قليلة، وسرت في جسد الشاب رعدة.

قال: «إنها تجرِبة رهيبة على جورج.»

أجاب ليون: «إنه السبيل الوحيد، وجورج يمتلك أعصابًا باردةً كالثلج.»

«وبعد أن، أتتركون ذلك للصدفة؟»

«تعني وجهتنا، البحر، بالطبع. يوجد طريق جيد بين هنا وكلاكتون، والقارب مخبَّأ في مكان آمن بين هناك ووالتون.»

قال الشاب: «فهمت.» وأبدى اقتراحًا.

قال ليون: «ممتاز، ولكن ماذا عنك؟»

قال الزائر البشوش: «سأكون على ما يُرام. أليس كذلك؟»

«بالمناسبة، ألديك خريطة لخطوط التلغراف في هذا الجزء من العالم؟»

فتح ليون درجًا وأخرج ورقة مطوية.

قال: «إن رتبت ذلك الأمر، فسأكون شاكرًا.»

وضع الرجل، الذي كان يُسمِّي نفسه كورتلاندر، علامات بقلم رصاص على الخطة.

«لديَّ رجال يُمكن الوثوق بهم حتى النهاية مهما كانت صعوبة الأمر. سوف تُقْطَع أسلاك التلغراف في الساعة الثامنة، وستُعزَل تشيلمسفورد عن العالم.»

ثم، سار عائدًا إلى سيارته، وهو يحمل صفيحة بنزين في يده.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤