الفصل السادس عشر

الإعدام

إذا عبرت الباب الصغير الذي يُؤدي إلى مقر الحمال (سيُغْلَق الباب ويُوصَد بالمزلاج من الداخل من خلفك) سيقودك دليلك عبر باب آخر إلى ساحة تحرسها أبوابُ السجن الضخمة في ناحية وبوابة كبيرة من الصُّلب في الناحية الأخرى. عبر هذه البوابة تصل إلى ساحة أخرى، وبالانحراف يمينًا، تبلغ سُلَّمًا درجاته حجرية يقودك إلى المكتب الصغير لمدير السجن. إذا اتجهت مباشرة عبر ممرٍّ ضيق يُطِل عليه المكتب من ناحية، وهبطت درجات سلَّم في الناحية الأخرى، عبر مدخل تحت حراسة جيدة، ستصل فجأة إلى قاعة السجن الكبيرة. في هذا المكان تُوجَد أروقة تمتد على جانِبَي الفِناء، وممرات من الصلب وقناطرُ تمتد بعرضه على مسافات متباعدة. هنا، أيضًا، سلالم مصقولة متقاطعة، والواجهة البيضاء لحائطَي القاعة فيها تجاويفُ لأبواب سوداء صغيرة.

في الطابق الأرضي، كانت الزنزانة الأولى التي عن اليمين وأنت تدخل القاعة من مكتب مدير السجن أكبر وأرحب من الزنازين الأخرى. ثَمة، أيضًا، مَسْحَة من الراحة في شريط الحصير الذي يُغطي الأرضية، وفي مصباح الغاز المكشوف الذي يشتعل في قفصه السلكي ليلَ نهارَ، وفي الطاولة والكرسي، وفي السرير البسيط المريح. هذه هي زنزانة السجين المدان. على بعد اثنتَي عشْرة خطوة من عتبتها يوجد باب يؤدي إلى جزء آخر من الساحة، واثنتا عشرة خطوة أخرى في الممر المُعَبَّد تقودك إلى مبنى بسيط من طابق واحد دون نوافذ، ومدخل واسع بما يكفي ليسمح بمرور رجلَين جنبًا إلى جنب. توجد عارضة يُمكن أن يُربَط فيها حبل، وباب مسحور في الأرضية، وحفرة مبطنة بالطوب، وملونة بطِلاء بلون وردي سلموني.

من زنزانته، كان مانفريد يستمع باهتمام؛ إذ كان صخب التظاهر أمام البوابات يزداد.

وجد مانفريد في الطبيب الذي كان يزوره يوميًّا سيدًا لديه بعض النباهة. إلى حد ما، يُمكننا القول إنه استعاض عن مدير سجن واندزورث برفيق فكري، إذ كان مدير سجن تشيلمسفورد رجلًا متحفظًا، مُشَبَّعًا بتقاليد النظام. أَسَرَّ مانفريد إلى الطبيب برأيه الخاص في «المؤمنين العقلانيين».

سأله الطبيب بدهشة: «لماذا بحق الرب تركت لهم هذا القدر الكبير من المال؟»

أجابه إجابةً مبهمة قائلًا: «لأنني أكره غريبي الأطوار والأشخاص الحمقى المحدودي الرؤية كراهيةً شديدة.»

تابع يقول: «إن سويني هذا …»

سأله الطبيب: «كيف سمعت عن سويني؟»

قال مانفريد بلا مبالاة: «أوه، إن المرء ليتناهى إلى سمعه الكثير. كان لسويني سمعة دولية؛ إلى جانب أنني …» وأضاف، دون أن يُحرك عضلة من وجهه: «لديَّ معلومات عن الجميع.»

قال الطبيب بتحدٍّ: «أنا، مثلًا؟»

كرر مانفريد بحِكمة: «أنت. منذ يوم غادرت كليفتون وحتى يوم تزوجت من الآنسة آرباكل من تشيرتسي.»

شهق الطبيب وقال: «يا إلهي الرحيم!»

أوضح له مانفريد قائلًا: «ليس في هذا ما يدعو إلى المفاجأة؛ وقد كنتُ لوقت طويل جدًّا مهتمًّا بموظفي السجون المختلفين في نطاق قريب من لندن، أليس كذلك؟»

قال الآخر: «أظن ذلك.» ومع ذلك فقد كان منبهرًا.

اختلفت حياة مانفريد في تشيلمسفورد بدرجة قليلة جدًّا عن حياته في واندزورث.

ظل روتين حياة السجن هو نفسه؛ التمارين اليومية، الزيارات الشكلية لمدير السجن، والطبيب، والكاهن.

كان مانفريد حازمًا في نقطة واحدة. لم يكن يُريد تلقِّيَ أي خدمات روحانية، ولا حضور أي قُداس. وأوضح موقفه هذا للكاهن المصدوم.

قال: «أنت لا تعلم إلى أي طائفة أنتمي؛ لأنني رفضت أن أُعطي أي معلومات عن تلك النقطة. أنا متأكد من أنك ليس لديك أي نية لتبشيري أو تحويلي عن معتقداتي الراسخة.»

سأله الكاهن: «ما هي معتقداتك؟»

قال مانفريد: «ذلك هو أدقُّ أسراري، ولا أنوي أن أُطْلِع عليه أي أحد.»

قال رجل الدين مرتعبًا: «ولكن لا يُمكن أن تموت كافرًا.»

أجابه بهدوء: «وجهة النظر هي كل شيء، وأنا راضٍ تمامًا عن نفع وسلامة وجهة نظري.» وأضاف: «بالإضافة إلى ذلك، لن ألقى حتفي بعد، ولأني أُدرك ذلك، أُحْجِم عن قَبول المواساة التي لست أستحقها من الرجال الصالحين.»

كان يُمثل للطبيب مصدرًا دائمًا للعجب، بإتيانه على ذِكر أخبار مفاجئة عَلِم بها بطريقة غامضة.

قال الطبيب معترفًا لمدير السجن: «ما يُحيرني، يا سيدي، هو من أين يحصل على معلوماته. الرجال الذين يحرسونه …»

قال مدير السجن على الفور: «فوق مستوى الشبهات.»

«هل يحصل على أي صحف؟»

«لا، فقط الكتب التي يطلبها. لقد عبَّر منذ بضعة أيام عن رغبته في الحصول على كتاب «ثلاثة أشهر في المغرب»، وقال إنه كان قد انتهى من قراءة نصفه عندما كان في سجن واندزورث، وأراد أن يقرأه من جديد من أجل أن «يتثبت»، لذا حصلت عليه.»

قبل التاريخ المحدد لتنفيذ حكم الإعدام بثلاثة أيام، كان مدير السجن قد أخبر مانفريد بأنه، على الرغم من تقديم التماس، فإن وزير الداخلية لم يرَ سببًا يدعو إلى التوصية بإسقاط الحكم.

أجاب دون انفعال: «لم أتوقع مطلقًا إيقافًا لتنفيذ الحكم.»

أمضى جُلَّ وقته في تبادل الحديث مع الحارسَين. أجبرهما إحساس صارم بالواجب على أن يُجيباه بكلمات أحادية المقطع، لكنه أثار اهتمامهما بشدة بحديثه عن أماكنَ غريبة في العالم. ساعداه قدر استطاعتهما على تمضية الوقت، وقَدَّر هو التضييق الصارم المفروض عليهما.

ذات يوم قال لأحدهما: «أنت تُدعى بيركينز.»

قال الحارس: «أجل.»

وقال للآخر: «وأنت فرانكلين.» ورد عليه الرجل بالإيجاب. هز مانفريد رأسه.

قال: «عندما أنال حريتي، سأُقدم لكما بعض التعويض عن صبركما الذي يُحتذى به.»

أثناء الرياضة الصباحية في يوم الاثنَين — كان يوم الثلاثاء هو اليوم المحتوم الذي حدده كبير مأموري تنفيذ الأحكام — رأى شخصًا مَدنيًّا يسير في الفِناء وتعرَّف عليه، وعند عودته إلى زنزانته طلب رؤية مدير السجن.

قال عندما جاء مدير السجن: «أود مقابلة السيد جيسين.» فتردد في الرد.

سأله مانفريد: «أتتكرم بإحالة طلبي إلى وزير الداخلية تلغرافيًّا؟» ووعده مدير السجن بأنه سيفعل.

وفُوجِئ برد فوري يمنحه الإذن اللازم.

دخل جيسين إلى الزنزانة وأشار برأسه بلطفٍ مُحييًا الرجل الذي جلس على طرف الأريكة.

قال مانفريد: «أردتُ أن أتحدثَ إليك، يا جيسين.» وأشار إليه بالجلوس على مقعد. «أردتُ أن أضع مسألة ستارك في نصابها الصحيح، بصورة نهائية.» ابتسم جيسين.

قال: «لم يكن ثمة بأس في ذلك، كان أمرًا موقعًا من القيصر وموجهًا شخصيًّا لي، لم يكن بوُسعي فعلُ شيء أقلَّ من شنقه.»

تابع مانفريد: «ولكن قد تظن أننا وجَّهناك إلى هذه المهمة لأن …»

قال جيسين بهدوء: «أعرف لماذا وُجِّهتُ. لقد كان ستارك وفرانسوا تحت طائلة القانون، مُدانَين حسب القانون، وأنتم تُوجهون ضرباتكم فقط لأولئك الذين تغافل عنهم القانون.»

ثم سأله مانفريد عن حال الرابطة، فتهللَت أساريرُ جيسين.

قال بابتهاج: «الرابطة في ازدهار. أنا الآن أُحوِّل لصوص حقائب السفر، كما تعرف، الرجال الذين يُلازمون محطات السكك الحديدية.»

سأله الآخر: «تُحولهم إلى؟»

قال بحماس: «إلى العمل الصحيح، إلى الحمالين الذين كانوا أحيانًا ينتحلون شخصيتهم.» وأضاف بأسًى: «لكنه عمل شاق للغاية، أن تجد صفة للرجال الذين يُريدون أن يسلكوا الطريق القويم وليس لديهم ما يُثبت هُويتهم إلا بطاقة تسريح مشروط.» وبينما كان يقوم من مجلسه ليُغادر، صافحه مانفريد.

وقال له: «لا تفقد حماسك.»

قال جيسين: «سأراك مجددًا.» فابتسم مانفريد.

مجددًا، إن أصابك السأم من تَكرار عبارة «ابتسم مانفريد»، فتذكر أن هاتَين الكلمتَين هما أفضل وصف لمسلكه في تلك الأيام المريعة في تشيلمسفورد.

لم يكن ثمة استخفافٌ في أسلوب معالجته للموقف القاهر. كان سلوكه في المناسبات التي التقى فيها بالكاهن هو سلوك لا يستطيع أكثر الناس حساسيةً أن يستاء منه، لكن حزمه كان لا يُقْهَر.

قال الكاهن بيأس: «من المستحيل فعلُ أي شيء معه. أنا بمثابة طفل حقًّا بين يدَيه. إنه يجعلني أشعر مثل واعظ علماني يُجري حديثًا مع سقراط.»

لم يكن ثمة سابقة للظرف غير العادي، وأخيرًا، بناءً على طلب مانفريد، تقرَّر حذف طقس القداس الديني تمامًا.

فيما بعد الظهيرة، بينما كان يتريَّض، رفع عينَيه إلى السماء، ورأى الحراس، الذين تتبعوا نظره، في الهواء طائرة ورقية صفراء ضخمة، تحمل لافتة إعلانيةً لنوع من إطارات السيارات.

قال بارتجال: «طائرة ورقية صفراء، حسنًا.» وهمهم بلحن ما وهو يسير حول الدائرة الحجرية.

في تلك الليلة، بعد أن خلد إلى الراحة، خلع ملابس السجن الخاصة به وعاد إلى ارتداء البذلة التي قُبِض عليه مرتديًا إياها. ظن أنه سمع وقع أقدام محسوبًا وهو ينعس، وتساءل إن كانت إدارة السجن قد زادت من الحراسة. تحت نافذته بدا صوت أقدام الحرس أنشط وأثقل.

قال في نفسه مخمنًا: «جنود.» وغلبه النوم.

كان دقيقًا في تخمينه. في الساعة الحادية عشرة كان قد نشأ خوفٌ من تحريره، وكانت نصف كتيبة من الحرس قد وصلت بالقطار ليلًا وسيطرت على السجن.

قام الكاهن بمحاولته الأخيرة، وتلقى صدًّا غير متوقع، نظرًا إلى الحرارة المفاجئة التي استُقْبِلت بها محاولته.

قال مانفريد حانقًا: «أرفض أن أراك.» كان أول إبداء يُظهره لنفاد صبره.

«ألم أقل لك إنني لن أُشارك في الحط من شأن قداس مقدس بتحويله إلى مهزلة؟ ألا يُمكنك أن تفهم أنه لا بد أن لديَّ سببًا خاصًّا جدًّا للتصرف بالطريقة التي أتصرف بها؟ أم أنك تظن أنني شخص فظٌّ متجهم يرفض معروفك بداعٍ من ضلال محض؟»

قال الكاهن بحزن: «لم أكن أعرف ما ينبغي أن أظن.» وخفف مانفريد من نبرته وهو يُجيب:

«احتفظ بحُكمك للساعات الأخيرة؛ وعندئذٍ ستعرف.»

تُشير الرواية المنشورة لذلك الصباح الذي لا يُنسى إلى أن مانفريد تناول طعامًا قليلًا جدًّا، ولكن الحقيقة هي أنه تناول إفطارًا مغذيًا، قائلًا لنفسه: «أمامي رحلة طويلة، وأحتاج إلى عافيتي.»

في الساعة الثامنة إلا خمس دقائق احتشدت مجموعة من الصحفيين والحراس خارج باب الزنزانة، وتشكل صف مزدوج من الحراس عبر الفِناء، ووقف الصف الممتد من الجنود الذي أحاط بمبنى السجن في انتباه. في الساعة الثامنة إلا دقيقة أتى جيسين وهو يحمل في يده السيور الجلدية الرسمية. ثم عندما دقت الساعة معلنةً تمام الثامنة، دخل مدير السجن الزنزانة مشيرًا إلى جيسين.

في الوقت نفسه وفي عشرات البقاع المختلفة من البلاد، قُطِعَت أسلاك التلغراف التي تربط تشيلمسفورد ببقية العالم.

كان موكبًا حزينًا، خفف غياب الكاهن قليلًا من هوله، لكنه كان رهيبًا بما يكفي. تَبِعَ مانفريد، المكبَّلةَ يداه بالسيور الجلدية، مديرُ السجن، وعن يمينه ويساره حارسان، وجيسين يسير في الخلف. قادوه إلى المبنى الصغير الذي لم يكن له نوافذُ وأوقفوه فوق باب مسحور في الأرضية وتراجعوا، تاركين البقية لجيسين. ثم، عندما كان جيسين يضع يده في جيبه، تكلم مانفريد.

قال: «تراجع لحظة؛ فقبل أن يُوضَع حبل المشنقة في عنقي لدي شيء أريد قوله.» فتراجع جيسين إلى الوراء. قال مانفريد ببطء: «إنه، الوداع!»

رفع صوته وهو يتكلم، وانحنى جيسين ليلتقط لفة الحبل التي كانت تُجَرْجِر على الأرض. ثم دونما سابق إنذار، وقبل أن يُرفَع الحبل، أو أن يلمسه أي رجل، فُتِح الباب المسحور في الأرضية محدثًا ضجيجًا، واختفى مانفريد عن الأنظار.

اختفى عن الأنظار بالفعل؛ إذ انطلق من الحفرة إلى أعلى دخانٌ كثيف، جعل الرجال الذين كانوا واقفين في الجوار يتراجعون إلى الهواء الطلق وهم يترنَّحون ويسعلون.

«ما الأمر؟ ما الأمر؟» شق أحد المسئولين طريقه في هياج بين الصحفيين الواقفين على الباب وصاح مُصدِرًا أمرًا.

«بسرعة! خرطوم إطفاء الحريق!»

ما إن سمع الرجال رنين جرس حتى انطلقوا إلى مواقعهم. صاح أحدٌ ما: «إنه في الحفرة.» لكن رجلًا جاء بقناع واقٍ من الغاز ونزل في الحفرة من الجانب. غاب وقتًا طويلًا، وعندما عاد روى ما رآه بطريقة غير مترابطة.

«لقد حُفِر قاع الحفرة، يُوجَد ممر بالأسفل وباب، الدخان، لقد أوقفته، إنها خرطوشة دخان!»

سحب كبير الحرس مسدسًا من جرابه.

صاح: «من هذا الطريق.» ونزل ممسكًا بالحبل المتدلي بيد فوق الأخرى.

كان المكان مظلمًا، لكنه تحسس طريقه، وانزلق إلى أسفل المنحدر الحاد حيث انخفض النفق أسفل سور السجن ومن ورائه انتشر الرجال الذين كانوا خلفه. ثم دونما سابق إنذار اصطدم بعائق وسقط مصابًا بكدمات ومصدومًا.

كان أحد الرجال الأخيرين قد جلب معه مصباحًا، وسرى ضوءُه مرتعشًا في الممر غير الممهد. صاح كبير الحراس في الرجل طالبًا منه أن يُسرع الخطى.

على الضوء رأى أن ما اصطدم به كان بابًا ضخمًا مصنوعًا من رافدة خشبية غير مطلية ومثبتًا بحديد. اجتذبت ورقةٌ اهتمامَه. كانت مثبتة في الباب، ورفع المصباح ليقرأ ما كان مكتوبًا فيها:

النفق بعد هذه النقطة مُلَغَّم.

كان ذلك هو كل ما كان مكتوبًا فيها.

أصدر أمرًا إلى الحارس بحدة قائلًا: «عد إلى السجن.» بوجود ألغام أو من دونها، كان سيُتابع المضي، لكنه لاحظ أن الباب كان شبه منيع.

عاد إلى النور ملطخًا بالطين والعرق يسيل منه جراء ما بذله من جهد.

أعلن باقتضاب: «لقد ذهب! إذا ما استطعنا أن نُخْرِج الرجال إلى الطرق ونضرب طوقًا حول المدينة.»

قال مدير السجن: «لقد تم ذلك بالفعل، لكن يوجد حشد أمام السجن، ولقد فقدنا ثلاث دقائق للمرور عبره.»

كان هذا الرجل المسن الصامت العنيف يمتلك روح دعابة قاتمة، واستدار مخاطبًا الكاهن المضطرب.

«أتصور الآن أنك تعرف لماذا لم يرغب في القداس؟»

قال الكاهن ببساطة: «أعرف، وإذ أعرف، فأنا ممتن.»

شعر مانفريد بنفسه واقعًا في شبكة، وبيدَين تفكَّان السيور عن رسغَيه وتُوقِفانه على قدَمَيه. كان المكان ممتلئًا بأبخرة دخان ذات رائحة نفاذة.

«من هذا الطريق.»

أومض بويكارت، الذي كان ماضيًا في المقدمة، أشعَّات مصباحه الكهربي على الأرض. نزلوا المنحدر بقفزة سريعة واحدة، وساروا مضطربين للأمام عندما حطوا على الأرض؛ وعندما وصلوا إلى الباب المفتوح، توقفوا بينما كان ليون يُغلقه بقوة محدثًا ضجةً وأنزل الأقفال المصنوعة من الصلب في مواضعها.

أظهر مصباح بويكارت جوانب النفق المنحوتة بانسيابية، وعند طرفه الآخر كان عليهم أن يتسلقوا أنقاض آلة مفككة.

قال مانفريد، وهو يُراقب العمل بانتقاد: «ليس سيئًا.» وأضاف: «لقد كان «المؤمنون العقلانيون» مفيدين.» أومأ ليون برأسه.

قال بأنفاس لاهثة: «لولا فرقتهم لكان من الممكن أن تسمع صوت عمل المثاقيب في السجن.»

صعدوا بسرعة على سلم في نهاية النفق، وعبر الممر وصلوا إلى «غرفة الطعام» المبعثرة أرضيتها، والمغطاة بطين مدعوس سُمْكه بوصات.

أمسك له ليون المعطف السميك، فأدخل يدَيه فيه مرتديًا إياه. وشَغَّل بويكارت المحرك.

«حسنًا!» انطلقوا يتخبطون ويرتجون عبر زقاق خلفي وصل بهم إلى الطريق الرئيسي على بعد خمسمائة ياردة جنوب السجن.

عندما نظر ليون إلى الوراء، رأى نقاطًا قرمزية تُجاهد للمرور عبر الحشود السوداء عند البوابات. قال: «الجنود سيُغلقون الطرق؛ إننا على الطريق في الوقت المناسب. انطلِق بأقصى سرعة، يا بويكارت.»

لم يُطِعه بويكارت إلا حين وصلوا إلى الأراضي غير المأهولة، وعندئذٍ انطلق المتسابق العظيم إلى الأمام، وأخذ اندفاع الريح يلطم وجوه الرجال بضربات ناعمة عظيمة.

حالما صاروا في أكثر الأجزاء قفرًا من الطريق، مروا بأسلاك تلغراف كانت متدلية على السياج الشجري.

تراقصت عينا ليون فرحًا عندما رأى هذا المشهد.

قال: «إن كانوا قد قطعوا الأسلاك الأخرى، فقد انتهت المطاردة. ستخرج سياراتهم على الطرق في خلال نصف الساعة وستُلاحقنا؛ ومن المؤكد أننا سنلفت الانتباه، وسيتمكنون من اقتفاء أثرنا.»

وقد لفتوا الانتباه بالتأكيد؛ إذ بينما كانوا يتجاوزون كولشيستر، صادفوا كمينًا للشرطة، وأشار لهم شرطي بالتوقف.

تجاوزوه مخلفين سحابة كثيفة من التراب. بقوا على طريق كلاكتون، وظل طريقهم بلا عوائق حتى وصلوا إلى قطاع غير مأهول حيث كانت عربة مزرعة قد تعطلت وأعاقت التقدم تمامًا.

بابتسامة عريضة، لاحظ سائق العربة ارتباكهم.

قال بابتهاج: «لا يُمكنكم المرور من هنا، ولا يوجد طريق آخر لمسافة ميلين إلى الوراء.»

سأله ليون بسرعة: «أين خيولك؟»

قال الرجل مبتسمًا: «عادت إلى المزرعة.»

قال ليون: «جيد.» نظر فيما حوله، ولم يكن هناك أي أحد على مرمى البصر.

قال: «ارجع إلى الخلف بجانب السيارة.» وأشار إلى بويكارت ليعكس دوران المحرك.

«لماذا؟»

ترجَّل ليون من السيارة، وسار بخطوات سريعة إلى الحطام الثقيل الذي كان يعترض الطريق.

انحنى إلى الأسفل، وتفحص الحطام سريعًا، وأقحم شيئًا تحت الكتلة الضخمة. وأشعل عود ثقاب، وثَبَّت الشعلة، وركض إلى الوراء، ممسكًا بالقروي البطيء الحركة وساحبًا إياه معه.

تساءل الرجل: «اللعنة! ما هذا؟» لكن قبل أن يتمكن من الإجابة صدر صوت تحطم يُصِم الآذان، مثل دوي الرعد، وامتلأ الهواء بالحطام.

تفحص ليون الحطام مرةً ثانيةً وأشار إلى السيارة بالتقدم إلى الأمام.

وهو يثب إلى مقعده التفت إلى الريفي المذهول مخاطبًا إياه.

قال: «قل لسيدك إنني سمحت لنفسي بأن أُفجر عربته بالديناميت.» ثم عندما أتى الرجل بحركة كما لو كان يُريد أن يُمسك بذراعه، دفعه ليون دفعةً جعلته يطير في الهواء، وتحركت السيارة مرتجةً فوق المتبقي من حطام العربة.

توجهت السيارة حينئذٍ صوب والتون، وبعد مسيرة قصيرة، انحرفت بحدة في اتجاه البحر.

بعد عشرين دقيقةً انطلقت سيارتان بسرعة مُحدِثتَين ضجيجًا على نفس الطريق، وتوقفتا هنا وهناك من أجل أن يسأل كبيرُ الحرس أحد المشاة العابرين.

وانعطفت السيارتان، أيضًا، في اتجاه البحر وسلكتا الطريق المنحدر.

قال أحد الرجال: «انظر!»

أمامهم مباشرةً، كانت توجد، على جانب الطريق، سيارة. وكانت خالية.

ما إن بلغتها السيارتان حتى وثب ستة حراس من كل واحدة منهما. وتسابقوا عبر المرجة الخضراء حتى وصلوا إلى حافة الجرف الشديدة الانحدار.

لم يكن ثمة أثر للهارب.

لم يكن هناك ما يقطع زرقة البحر الصافية، إلا، على بعد ثلاثة أميال، حيث كان يخت بخاري أبيض جميل ينطلق إلى عُرْضِ البحر.

التفَّ حشد صغير من الناس حول الحراس، يجتذبه مظهرهم.

قال صياد سمك بتعجب: «نعم، لقد رأيتهم، غادر ثلاثة منهم في واحد من هذه القوارب المزودة بمحركات التي تنطلق بسرعة كالبرق. لقد توارَوُا الآن عن الأنظار.»

سارع كبير الحرس يتساءل: «ما تلك السفينة؟» وأشار إلى اليخت المغادِر.

أخرج صياد السمك غليونه من فمه وأجاب: «ذاك هو اليخت الملكي.»

«أي يخت ملكي؟»

قال صياد السمك بطريقة مؤثرة: «يخت أمير الإسكوريال.»

تنهَّد كبير الحرس.

قال: «حسنًا، لا يُمكن أن يكونوا على متنه!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤