مقدمة بقلم بول دافيز (١٩٨٩م)

ليست الثورات الحقيقية في العلم مجرد اكتشافاتٍ مُذهلة وتقدُّمات سريعة في التفهُّم. إنها أيضًا تُغير المفاهيم التي عليها يُبنى الموضوع، ولقد حدث مثل هذا التحوُّل الجذري في علم الفيزياء خلال السنين الثلاثين الأولى من هذا القرن، وبلغ أوجَهُ فيما سُمِّي «العصر الذهبي للفيزياء»، وكانت نتيجته أن تغيرت نظرة الفيزيائي للعالم تغيرًا جذريًّا لا يُعكَس.

تضمَّنت التطورات التي أحدثت هذا الاضطراب الهائل صياغةَ نظريتَين جديدتَين تمامًا كانت الأولى نظرية عن الفضاء والزمن والحركة، اسمُها النسبية. أما الثانية فكانت نظريةً تختصُّ بطبيعة المادة وطبيعة القوى التي تعمل عليها. ولقد نشأت هذه الأخيرة عن ملاحظةٍ لماكس بلانك وجد فيها أن الإشعاع الكهرومغناطيسي ينبعِث في دفقاتٍ متميزة، أو كمَّات. طُوِّرت «نظرية الكم» هذه في العشرينيات إلى نظريةٍ عامة هي «ميكانيكا الكم». ولقد لعب مؤلِّف هذا الكتاب دورًا قائدًا في الصياغة الأولى لميكانيكا الكم، ثم فيما تلاها من تعريفٍ بتضميناتها الثورية. وكلُّ مَنْ درس شيئًا عن ميكانيكا الكمِّ يعرف مبدأ اللاحتمية أو مبدأ هايزنبرج؛ فهذا عنصر رئيسي في فيزيقا الكم.

وبالرغم من أن الكثير قد كُتب مؤخرًا عن الأسس العجيبة لمفاهيم ميكانيكا الكم، فإن علينا أن نُولي اهتمامًا خاصًّا لتأمُّلات هايزنبرج، أحد كبار مهندسي هذه النظرية، لقد ظل هايزنبرج — وحتى وفاتِه عام ١٩٧٦م — على اهتمامه العميق بعالم الكم، وبالتضمينات الفلسفية الهائلة التي تنثال منه. والشرح الذي سيلي هو استعراض شامل لهذه الآراء، ومعه تقييم لنظرية النسبية ولبعض مناحي الفيزياء الذرية والجُسيمية. إنه نموذج للوضوح وهو واحد من أوضح التقارير عما يُسمَّى «تفسير كوبنهاجن» لميكانيكا الكم الذي أصبح وجهة النظر القياسية.

إن المبحث المحوري لعرض هايزنبرج — الذي بُني على محاضرات جيلفورد التي ألقاها في العام الدراسي ١٩٥٥-١٩٥٦م بجامعة سانت أندروز — هو أنَّ الكلمات والمفاهيم المألوفة في الاستعمال اليومي قد تفقد معناها في عالم النسبية وفيزياء الكم. فقد يُصبح من المتعذِّر مثلًا أن نجد إجابةً ذات معنًى لأسئلةٍ تُطرح عن الفضاء والزمن أو عن خصائص الأشياء المادية كمثل مواقعها، بالرغم من أنها أسئلة تبدو معقولة تمامًا في أحاديثنا اليومية. وهذا بدوره له تضميناته العميقة بالنسبة لطبيعة الواقع وبالنسبة لنظرتنا الكلية للعالم.

إن التكيُّف مع جيشان المفاهيم الذي تتطلَّبه النظرية النسبية لهو أسهل في نواحٍ كثيرة مما تتطلَّبه ميكانيكا الكم. من الصحيح أن النسبية تتضمَّن بعض الأفكار الغريبة كمثل تمدُّد الزمن وتقلُّصه وانحناء الفضاء والثقوب السوداء، وصحيح أيضًا أنها تؤكِّد أن ليس ثمة إجابات صريحة واضحة لأنماطٍ مُعينة من الأسئلة تبدو معقولة تمامًا وذات معنًى. فلقد نسأل مثلًا عن الوقت الذي يقع فيه حدث، أو عما إذا كان حدثان في مكانَين مختلفَين قد وقعا في نفس اللحظة، لكن مثل هذه الأسئلة، في صورتها هذه، قد تكون ممَّا لا يمكن الإجابة عليه، لأن النظرية تُخبرنا أن ليس ثمة زمن كوني مُطلق. كما ليس ثمة مفهوم كوني للتزامن، فمثل هذه الأشياء أشياء «نسبية»، ولا بدَّ أن تُنسب إلى إطارٍ مرجعي مُحدد قبل أن يصبح للسؤال معنًى. لكن هذه الأفكار، بالرغم من كونها غريبة غير مألوفة فإنها لا تُنافي العقل على نحوٍ بيِّن ولا هي تُثير أية مشاكل في التفهُّم حقيقية. ولهذا السبب يلزم أن تُعتبر النظرية النسبية، في صورتَيها الخاصة والعامة، نظريةً لا خلافية.

ربما كانت أعقد المشاكل الفلسفية التي أبرزتها نظرية النسبية هي إمكانية أن يكون الكون قد نشأ في لحظةٍ مُحددة في الماضي، عندما بزغت المادة والطاقة فجأةً في الوجود ومعهما الفضاء والزمن. والحق أن الدرس الرئيسي لنظرية النسبية هو أن الفضاء والزمان لا يُشكلان فقط المساحة التي عليها تُمثَّل الدراما الكونية، ولكنهما أيضًا جزء من صميم العرض — نعني أن الزمان هو جزء من العالم الفيزيقي تمامًا مثل المادة، بل الحق أنهما مُتناسجان في حميمية. ولقد ذكر هايزنبرج أن القديس أوغسطين في القرن الخامس قد سبقَنا إلى فكرة أنَّ الزمن لا يمتدُّ إلى الوراء حتى الأبد، وإنما هو قد خُلق مع الكون. هناك إذن نظير علمي للتعاليم المسيحية عن الخلق من العدم، لكن ما حدث من تحريفٍ لمفهومنا عن السببية الفيزيقية تحريف ضخم. ولقد ابتدأ مؤخرًا فقط، ظهور صورةٍ مُرضية عن أصل الزمكان من داخل سياق كوزمولوجيا الكم (وهذا عِلم تطوَّر بعد وفاة هايزنبرج).

وميكانيكا الكم، على عكس نظرية النسبية، تعرض لنا مشاكل في المفاهيم والفلسفة أكبر بكثير. وعن هذه المشاكل بالتحديد يُحدِّثنا هايزنبرج في وضوح بالِغ، ويلزم أن أؤكِّد من البداية أن معظم الطلبة يدرسون ميكانيكا الكم كمُقرر، وليس أبدًا ثمة ما يُلزمهم بأن يتورَّطوا في قضاياها الفلسفية. والتطبيق العملي لميكانيكا الكم ناجح لحدٍّ بعيد، ولقد تغلغل في ميادين عديدة مِن العلم والتكنولوجيا المعاصرة. ليس ثمة من يُجادل فيما تتنبَّأ به النظرية، وإنما فقط فيما تعنيه.

في قلب ثورة الكم يقع مبدأ هايزنبرج للَّاحتمية. وهذا المبدأ يقول — بشكلٍ عريض — إن كل المقادير الفيزيقية التي يمكن ملاحظتها تخضع لتقلُّباتٍ لا يمكن التنبُّؤ بها، تجعل قِيَمها غير مُحددة تمامًا. خُذ على سبيل المثال موقع «س» وكمية حركة «ح» جسيم كَمَّاتي مثل الإلكترون. للباحث أن يقيس أيًّا مِن هاتين القيمتَين لأي درجة من الدقة يراها. لكن مِن المستحيل أن تكون لهما سويًّا قِيَم دقيقة في نفس الوقت. ثمة لاحتمية أو انتشار في قيمتَيهما س ح على التوالي) بحيث إن حاصل الضرب س × ح لا يمكن أن يقلَّ عن رقمٍ ثابتٍ مُعين؛ ومِن ثم فإن زيادة الدقة في تعيين المَوقع لا بد أن تكون على حساب انخفاض الدقة في تعيين السرعة والعكس بالعكس. وهذا الثابت (ويُسمَّى ثابت بلانك، عن اسم ماكس بلانك) رقم غاية في الصغر، بحيث لا تُصبح للآثار الكمَّاتية أية أهمية عمومًا إلا في المجال الذري. ونحن لا نلاحظها في حياتنا اليومية.

مِن المُهم هنا أن نعرف تمامًا أن هذه اللاحتمية تكمُن في صلب الطبيعة، وأنها ليست مجرد نتيجةٍ لقصورٍ في تكنولوجيا القياس. ليس الأمر مجرد إهمالٍ مِن المُجرِّب في أن يقيس الموقع وكمية الحركة في نفس الوقت. إن الجُسيم ببساطة لا يمتلك قيمتَين دقيقتَين متزامنتَين لهاتَين الخصيصتَين. لقد تعوَّدنا على اللاحتمية في الكثير من العمليات المادية — في البورصة مثلًا أو في الديناميكا الحرارية — لكن اللاحتمية في هذه المجالات ترجِع إلى قصورٍ في البيانات المُتاحة وليس إلى عجزٍ أساسي فيما قد يُعرَف عن هذه النظم.

لِلَّاحتمية تضمينات عميقة. إنها تعني مثلًا أن الجسيم الكمَّاتي لا يتحرك عبر الفضاء في مسارٍ واضح التحديد. فلقد يترك الإلكترون الموقع «أ» ليصل إلى الموقع «ب» لكن ليس في الإمكان أن نُعيِّن مسارًا مُحددًا يربط ما بين الموقعَين. وعلى هذا فإن النموذج المعروف للذرة، وبه الإلكترونات تدور حول النواة على طول مدارات مُميزة هو نموذج مُضلل إلى حدٍّ بعيد. يُخبرنا هايزنبرج أنَّ مِثل هذا النموذج قد يكون مفيدًا في تكوين صورةٍ مُعينة بالذهن، ولكنها صورة لا يربطها بالواقع غير رباطٍ واه.

يؤدِّي تشابُك الموقع وكمية الحركة إلى لاحتمية مُتأصِّلة في سلوك النظم الكمَّاتية، حتى لتُصبح أكمل البيانات عن نظامٍ ما (الذي قد يكون مجرد جسيمٍ مفردٍ حُرِّ الحركة) غير كافية على العموم للتمكُّن من تنبُّؤ مُحدَّد عن سلوكه. فلقد يمضي نظامان مُتطابقان عند البدء، ليفعلا شيئين مختلفَين تمامًا. وعلى سبيل المثال فقد يُطلق المُجرِّب إلكترونًا نحو هدفٍ ليجد أنه يَستطير إلى اليسار، فإذا ما كرَّر التجربة تحت نفس الظروف فقد يستطير الإلكترون التالي إلى اليمين.

على أنَّ عدم إمكانية التنبُّؤ في النظم الكمَّاتية لا يعني الفوضى. فما زالت ميكانيكا الكمِّ تُمكِّننا مِن أن نُحدِّد بدقة «الاحتمالات» النسبية للبدائل. ميكانيكا الكم إذن نظرية إحصائية في مقدورها أن تُعطي تنبُّؤات لا لبس فيها بالنسبةِ لمجموعاتٍ من النظم المتطابقة، ولكنها لا تُقدم عمومًا شيئًا محددًا عن نظامٍ مفرد. أما ما تختلف فيه عن غيرها من النظريات الإحصائية (مثل الميكانيكا الإحصائية أو التنبُّؤ بالجو أو علم الاقتصاد) فهو أنَّ عامل الصدفة متأصِّل في طبيعة النظام الكمَّاتي، ولا يَفرضه فقط قصور إدراكنا لكلِّ المُتغيرات التي تؤثر في النظام.

ليس هذا مجرد مُماحكة مُتحذلقة. خذ أينشتين مثلًا، لقد راعته فكرة اللاتنبُّؤية المُتأصِّلة في العالم الفيزيقي ليرفُضها في غير تحفُّظ بقولتِه الشهيرة: إن الإله لا يلعب النرد مع الكون. كان يرى أن ميكانيكا الكم قد تكون صحيحةً في حدودها، لكنها بالرغم من ذلك ناقصة ولا بد من وجود ثمة مستوًى أعمق من مُتغيرات دينامية مخبوءة تؤثِّر في النظام وتُضفي عليه لاحتمية ولاتنبُّؤية، في الظاهر لا أكثر. لقد أمل أينشتين أن توجَد تحت فوضى الكم صيغةٌ غاية في الدقة من عالمٍ مألوف حسَن السلوك من الديناميكا الحتمانية.

عارض هايزنبرج ونيلز بوهر، وبقوة، محاولة أينشتين للتشبُّث بهذه النظرة الكلاسيكية للعالم. امتدَّ الجدل الذي بدأ في أوائل ثلاثينيات هذا القرن لسنين طويلة، كان أينشتين أثناءها يُهذب من اعتراضاته ويُعيد صياغتها. كان أكثر هذه الاعتراضات ثباتًا هو ما اقترحَه مع بوريس بودولسكي وناثان روزين عام ١٩٣٥م، وهو ما يُطلَق عليه عادة اسم «مفارقة آب ر» (والواقع أنه ليس ثمة مفارقة حقيقية). تتعلق هذه المفارقة بخصائص نظامٍ من جُسيمَين يتفاعلان ثم يفترقان وينطلقان بعيدًا عن بعضهما مسافة طويلة. تقول ميكانيكا الكمِّ إن النظام يبقى كُلًّا لا يتجزأ بالرغم من انفصال الجُسيمَين في الفضاء، والمتوقَّع أن تُبين القياسات المُتزامنة التي تُجرى على الجُسيمَين تلازُمات تدلُّ على أن كلَّ جسيمٍ يحمل (بمعنًى يمكن تحديدُه تحديدًا رياضيًّا جيدًا) أثرًا لنشاطات الآخر. يحدث هذا التعاضُد بالرغم من قيود نظرية النسبية الخاصة لأينشتين نفسه والتي ترفض أي اتصالٍ فوري مادي بين الجُسيمَين.

كان أينشتين يرى أنَّ نظام الجُسيمين يوضح القصور في ميكانيكا الكم، ذلك أن المُجرِّب عندما يُجري القياسات على الجُسيم الثاني وحدَه (وهو ما يعني في الواقع استخدام هذا الجُسيم بالإنابة كوسيلة للحصول على بيانات عن الجسيم الأول) فقد يستنبط، حسب هواه، موقع الجُسَيم الأول في تلك اللحظة أو كمية حركتِه. يقول أينشتين إن هذا بالتأكيد يعني ضرورة إضفاء قدْرٍ من الواقع في تلك اللحظة على الجُسيمَين كليهما، لأن الباحث يستطيع أن يدنو من أيٍّ منهما لا كليهما مُستخدمًا نظام قياسٍ لا يمكن أن يُقلق الجسيم موضع الاهتمام (بسبب قيد سرعة الضوء).

تمضي مفارقة آب ر إلى قلب الصورتَين المختلفتَين للعالم اللتَين تفرضهما علينا الفيزياء الكلاسيكية وفيزياء الكم. فأما صورة العالم الكلاسيكي التي يَعتنقها أينشتين في حماسٍ فهي صورة تنسجِم جيدًا مع العقل العام بتأكيدها الواقع الموضوعي للعالم الخارجي. هي تُسلِّم بأن ملاحظاتنا بالضرورة تقتحِم ذلك العالم وتُقلقه، لكن هذا الإقلاق ليس سوى اتفاقٍ عرضي يمكن التحكُّم فيه وتقليله. ثم إن هذه النظرة تعتبر العالم الصغير مختلفًا في المدى، لا في مرتبة الوجود، عن عالم الشهادة الكبير. فالإلكترون صورة مُصغرة من كرة بلياردو عادية، ويشترك مع هذه الأخيرة في مجموعةٍ كاملة من الخصائص الدينامية، مثل صفة الوجود في مكانٍ ما (نعني أن لها موقعًا) والحركة في مسار معين (نعني أن لها كمية حركة). فمُلاحظاتنا في العالم الكلاسيكي لا تخلق الواقع وإنما تكشِفه. وعلى هذا تظلُّ الذرَّات والجُسيمات موجودة تحمِل صفاتٍ مُحددة تمامًا حتى لو لم نكن نلحظها.

في مقابل ذلك نجد أن تفسير كوبنهاجن لميكانيكا الكم — الذي يُناصره هايزنبرج بوضوحٍ تامٍّ في هذا الكتاب — يرفض الواقع الموضوعي لعالم الكمِّ الصغير. إنه يرفض مثلًا أن يكون للإلكترون موقع مُحدد تمامًا وكمية حركة مُحددة تمامًا، في غياب ملاحظة فعلية لموقعه أو لحركته (ولا يمكن أن يكون لكليهما سويًّا في نفس الوقت قِيم قاطعة). وعلى هذا فلا يمكن أن نعتبر الإلكترون أو الذرة شيئًا صغيرًا بالمعنى الذي تكون فيه كرة البلياردو شيئًا. إن كلامَنا يكون بلا معنًى إذا نحن تحدَّثنا عما يفعله إلكترون بين ملاحظتَين، لأن الملاحظة وحدَها هي التي تخلق واقع الإلكترون. وعلى هذا فإن قياس موقع إلكترونٍ ما يخلق إلكترونًا — له — موقع، وقياس كمية حركته يخلق «إلكترونًا — ذا — حركة» لكنَّا لا نستطيع أن نعتبِر هذا الكيان أو ذاك موجودًا بالفعل قبل أن نُجري القياس.

ما هو الإلكترون إذن من وجهة النظر هذه؟ هو ليس شيئًا ماديًّا بقدْر ما هو تشفير تجريدي لمجموعةٍ مِن الإمكانات أو النتائج المحتمَلة للقياسات. هو طريقة مُختزلة للإشارة إلى وسيلةٍ لربط ملاحظاتٍ مختلفة عن طريق الصورية الميكانيكية للكم. لكن الواقع يكمُن في الملاحظات لا في الإلكترون.

أما إنكار الواقع الموضوعي للعالم الخارجي المُضمَر في تفسير كوبنهاجن، فكثيرًا ما يُصاغ في عباراتٍ أكثر حذرًا. لكن هايزنبرج في هذا الكتاب يقدِّم لنا بعضًا من أصرح ما رأيتُ من تأكيداتٍ لهذا الموقف. هو يقول: «في التجارب التي تُجرى على الوقائع الذرية، علينا أن نتعامل مع الأشياء والحقائق، مع ظواهر لها نفس واقعية الحياة اليومية. لكن الذرات أو الجُسيمات الأولية ذاتها ليست واقعية، مثلها، إنها تُشكِّل عالمًا من الإمكانات أو الاحتمالات لا عالمًا من الأشياء والحقائق.» تُوسَم آراء أينشتين بأنها «واقعية دوجماطية» وهي تُمثل موقفًا طبيعيًّا جدًّا في رأي هايزنبرج. والحق أن الغالبية العُظمى من العلماء يَدينون به. هم يعتقدون أن أبحاثهم تشير فعلًا إلى شيء واقعي يُوجَد هناك في العالم المادي، وأن الكون المادي الشرعي ليس مجرد ابتكار من خيال العماء. إنَّ النجاح غير المُتوقَّع للقوانين الرياضية البسيطة في الفيزياء يدعم الاعتقاد بأن العالَم إنما يطرُق واقعًا خارجيًّا موجودًا بالفعل، لكن هايزنبرج يُنبِّهنا إلى أن ميكانيكا الكمِّ قد بُنِيَت أيضًا على قوانين رياضية بسيطة ناجحة تمامًا في تفسير العالم المادي، غير أنها لا تتطلَّب أن يكون لهذا العالم وجود مُستقل، بالمعنى الذي تقول به «الواقعية الدوجماطية». وعلى هذا فإن العلم الطبيعي مُمكن بالفعل دون أساسٍ من الواقعية الدوجماطية.

هنا نصِل إلى الموضوع الذي يُشكل ذروة قضية هايزنبرج، تساءل كيف يمكن التحدُّث عن الذرات وما أشبه إذا ما كان وجودها مبهمًا؟ أيُّ معنًى ننسبُه للكلمات التي تشير إلى خصائصها؟ إنه يؤكد المرة بعد المرة أن كل الحقائق التي نبني عليها عالم الخبرة تشير إلى أشياء عيانية تُرى بالعين — دقَّات عداد جايجر، بُقَع على لوحة فوتوغرافية، وهلم جرًّا. وكل هذه أشياء نستطيع أن نربطها ببعضها بعضًا بشكلٍ معقول بكلامٍ عادي بسيط (إذا استعرْنا تعبير بوهر). ولا يُمكننا أن نُدرك عالم الكمِّ الصغير دون هذه الستارة الخلفية «للأشياء» الكلاسيكية المعقولة المألوفة (وواقعها على ما يبدو أمر أكيد)، لأن كل قياساتنا وملاحظاتنا للعالَم الدقيق تؤخَذ عن طريق الأجهزة الكلاسيكية وتتضمَّن رصد سجلَّات دقيقة، كمثل موقع المؤشر على جهاز القياس، وهي سجلَّات لا يختلف عليها اثنان، ولا يكتنِفها أي إبهام أو غموض تصوُّري.

دعم هايزنبرج حُجته بالاستناد إلى مبدأ بوهر المُسمَّى «مبدأ التتام». هذا المبدأ يُسلم بالغموض الأساسي المتأصل في النظم الكمَّاتية: أن يفصح النظام الواحد عن خصائص تبدو مُتناقضة. فالإلكترون على سبيل المثال قد يسلك سلوك موجةٍ وقد يسلك سلوك جُسيم. ويؤكد بوهر أن هاتَين الخصيصتَين هما وجهان للواقع مُتتامَّان لا مُتناقضان، فلقد تُفصح تجربة عن الطبيعة المَوجية للإلكترون بينما تُفصح أخرى عن الطبيعة الجُسيمية. ولا يمكن للإلكترون أن يُفصح عن الخصيصتَين في آنٍ معًا، والأمر يرجع للمُجرب في أن يُقرِّر الوجه الذي يكشفه عندما يختار تجربته. وموقع الإلكترون وكمية حركته هما كذلك صفتان مُتتامَّتان وعلى المُجرب أن يُقرر أية خصيصة سيرصُد.

أما سؤالنا «هل الإلكترون موجة أم هو جُسيم؟» فلا يُشبه إلا السؤال «هل تقع أستراليا فوق بريطانيا أم تحتها؟» والإجابة: «كلاهما، ولا أيُّهما». للإلكترون كِلا الوجهَين، ويمكن لأيِّهما أن يتجلَّى، ولكن ليس لأيِّهما أيُّ معنًى في غياب سياقٍ تجريبي مُحدد، وبذا فإن ميكانيكا الكم تستخدِم كلماتٍ مألوفة (كمثل الموجة أو الجُسيم أو الموقع) لكن معانيها في غاية التعقيد، وعادة ما تكون غامضة. يُحذرنا هايزنبرج إذا ما قادنا الاستعمال الغامِض غير المَنهجي للُّغة إلى مشاكل، فعلى الفيزيائي أن يتحول إلى البرنامج الرياضي وعلاقاته الواضحة مع الحقائق التجريبية.

وهذا في الحق هو الخط الأساسي للحُجة، لأن ميكانيكا الكم — في صميمها — برنامج رياضي يربط نتائج الملاحظات بطريقةٍ إحصائية، وهذا هو كلُّ شيء. وكل حديث عمَّا يجري «فعلًا» ليس إلَّا محاولة كي نكسب في عالم الكمِّ عينيَّة غير شرعية تُيسِّر التخيُّل. تفحَّص هايزنبرج في هذا الخصوص أعمال ديكارت وكانط في ضوء الفيزيقا الحديثة، وتوصَّل إلى أن الكلمات والمفاهيم المُرتبطة بها، ليس لها معانٍ مُطلقة مُحددة تمامًا. إنها تنشأ من خلال تجاربنا في العالم، ثم إننا لا نعرف مسبقًا مجال تطبيقاتها. إننا لا نتوقَّع أن نكشف أية حقيقةٍ جوهرية عن العالم عن طريق المُعالَجة المجرَّدة للكلمات والمفاهيم. أما حقيقة أننا لا نستطيع ببساطةٍ أن ننقل إلى ميدان النسبية أو الكم كلماتٍ ومفاهيم معينة دارجة، فلم تكن عند هايزنبرج أمرًا يُثير الاعتراض من الناحية الفلسفية.

وبالرغم من أن معظم الجدل الكمَّاتي قد جرى على المستوى الفلسفي إلا أن ثمة عددًا قد أُجريَ من التجارب الحاسمة ذات العلاقة المباشرة بالموضوع. وربما كان أهمها تلك التي اختصَّت بدفع التجربة التي تخيَّلها آب ر إلى حقل الفيزياء العملية في عام ١٩٦٥م. وسَّع جون بيل مناظرة آب ر، وأثبت بشكلٍ عامٍّ أن أية نظرية ترتكز على «الواقع الموضوعي» وتُحرَّم فيها أية إشاراتٍ أسرع من الضوء، لا بدَّ أن تُرضي لاتساويات رياضية مُعينة، وأن تقصُر ميكانيكا الكم بالضرورة (تبعًا للنظرية القياسية) عن إرضائها، ومِن ثم نُضطر إما إلى أن نتخلَّى عن الواقع الموضوعي (مع بوهر وهايزنبرج) أو أن نتخلَّى عن نظرية النسبية الخاصة. وليس بين الفيزيائيين غير القليل ممَّن يُفضلون السبيل الأخير. ولاختبار لاتساويات بيل، قام آلين أسبكت وزملاؤه بمعهد البصريات قُرب باريس، بتجارب في أوائل الثمانينيات مُستخدِمين أزواجًا من الفوتونات من مصدرٍ ذري شائع. وبعد العديد من المحاولات الدقيقة ظهرت النتائج واضحةً جلية. لقد نُقضت لاتساويات بيل حقًّا وفقًا لتنبُّؤات ميكانيكا الكم.

ظهرت هذه النتائج بعد وفاة هايزنبرج، غير أن الفرصة قد أُتيحت لي كي أُناقشها مع الكثيرين من زملائه القدامى، الذين ساهموا، ومعهم بوهر، في تشكيل تفسير كوبنهاجن في ثلاثينيات هذا القرن. كانوا جميعًا مُتحفظين بالنسبة لتجربة أسبكت التي عضدت في جمالٍ موقفهم، وقالوا إن النتائج لا يمكن لها أن تكون غير ما كانت، وأنها لم تكن مفاجأة.

وبالرغم من ذلك فإن تفسير كوبنهاجن ليس خاليًا من النقائض، فما يزال الكثيرون من الفيزيائيين يشعرون بالضيق بالنسبة للنظرية التي يلزم قبل تطبيقِها توسيع الصورية بفروض إبستمولوجية (معرفية) مُعينة. أما حقيقة أنَّ تفسير كوبنهاجن يرتكز على قبول الوجود المُسبق للعالم الكلاسيكي الكبير، فإنها تبدو حقيقةً دائرية ومتناقضة، لأن العالم الكبير يتألَّف من عالم الكم الصغير. وبالرغم من أن الآثار الكمَّاتية ضئيلة للغاية على مؤشرات الأجهزة وعلى الأسطح الفوتوغرافية، إلا أنها موجودة بالفعل من ناحية المبدأ. يأمُل الفيزيائيون أن يستنبطوا العالم الكلاسيكي حدًّا أعلى لعالم الكم، لا أن يفترضوه مسبقًا.

يظهر ضعف تفسير كوبنهاجن عندما نطرح السؤال: ما الذي يحدث فعلًا داخل جزءٍ من جهاز القياس عند قياس جُسيم كَمَّاتي؟ إن افتراض كوبنهاجن يقول إننا نعامِل الجهاز معاملةً كلاسيكية، أما إذا عاملناه (بشكلٍ أكثر واقعية) كمجموعة (إن تكن كبيرة) من جُسيمات كماتية، فستكون النتيجة مُزعجة للغاية. إن نفس ما يكتنِف الجُسيم من الغموض واللاحتمية سيجتاح الآن النظام بأكملِه، وبدلًا من أن يقوم الجهاز بإفراد حقيقة واقعة مُعينة من بين مجال من الاحتمالات المُمكنة ويجعلها مما يُدرَك بالحواس، فإن النظام المركَّب من (الجهاز زائدًا الجُسيم) سيتَّخذ وضعًا لا يزال يُمثل مجالًا من الاحتمالات المُمكنة. لنأخذ مثالًا محددًا. إذا ما أُعِد الجهاز ليقيس ما إذا كان إلكترون ما موجودًا بالنصف الأيمن أو بالنصف الأيسر من صندوق، وإذا ما كان الجهاز سيُفصح عن النتيجة بأن ينحرف المؤشر إلى اليمين أو إلى اليسار حسب الحالة، فإن النتيجة النهائية لهذا الإجراء هي أن يتَّخذ النظام المُركَّب وضعًا لا يمكن فيه اختيار أي من النتيجتَين، إنما سيكون الوضع هو تراكبًا من حالَين، واحد يتألَّف من الإلكترون والمؤشر إلى اليمين، والآخر يتألف منهما إلى اليسار. وما دام هذان البديلان متنافِيَين فقد لا تكون ثمة مشكلة لا تُذلَّل، لكن قد يكون هناك أيضًا في التجارب الأكثر عموميةً تداخُل بين البديلَين بحيث لا تتبدَّى ثنائية هذا أو ذاك. باختصار، لن يمكن القول بأن ثمة قياسًا فعليًّا قد تم.

لم يولِ هايزنبرج إلا أقلَّ اهتمامٍ للعمل الضخم عن «مشكلة القياس» الذي قام به جون فون نويمان وغيره. استند إلى أن الآثار الكمَّاتية وبالذات تداخُل الاحتمالات تتشتَّت إن آجلًا وإن عاجلًا في مُحيط العالم الكبير، سيقتنع معظم الناس بهذا، إلا جماعة جديدة من الفيزيائيين يُعرَفون باسم «كوزمولوجيي الكم». يُحاول هؤلاء المنظرون تطبيق ميكانيكا الكم على الكون ككلٍّ لكشف سِر منشئه. فإذا ما اعتبرنا الكون بأكملِه هو نظام الكم المَعني، فلن يكون بالطبع ثمَّة مُحيط لعالم كبير أوسع، أو جهاز قياس خارجي، يُمكن لتشوُّش الكم أن يتلاشى فيه. يرفض معظم كوزمولوجيي الكم تفسير كوبنهاجن بما يتطلَّبه من آليةٍ إبستمولوجية إضافية. ويفضلون بديلًا عنه أن يأخذوا الصورية الكمَّاتية بقيمتها الظاهرية. وهذا يعني ببساطةٍ قبولهم المدى الكامل للبدائل الكمَّاتية واقعًا موجودًا فعلًا. نعني أنهم يقطعون في تجربة القياس آنفة الذكر بوجود عالَمَين؛ واحد بالإلكترون والمؤشر إلى اليسار، وآخر بهما إلى اليمين، يتضمن قياس الكم عمومًا التسليم بعددٍ لانهائي من العوالم الموازية تتصاحَب في الوجود. ومرة أخرى سنجد أن الكثير من هذه التطوُّرات لم يحدث إلا بعد وفاة هايزنبرج، وإن كنتُ أعتقد أنه لم يكن ليُولِيها كثيرًا من اهتمامه.

يعالج هذا الكتاب موضوعاتٍ أخرى، لعلَّ أجدرَها بالذكر هو بعض التقدُّمات المُبكرة في الفيزياء الذرية والجُسيمية. لا يُشير هايزنبرج كثيرًا إلى محاولاته الشخصية في توحيد الفيزياء الجسيمية، لكنه يلفِت النظر إلى بعضٍ من أعسر الصعوبات التي نُقابِلها في تطبيق ميكانيكا الكمِّ على الجُسيمات النسبوية. مرة أخرى سنجد الحوادث تتجاوز الكتاب. إن التشعُّبات المُفزعة، أو اللانهايات التي ذكرها، قد غدت اليوم وقد وُفِّقَت روتينيًّا في معظم التطبيقات، دون ما إفساد لقدرةِ النظرية على التنبُّؤ، بل لقد أصبح من الممكن جدًّا تجنُّبها تمامًا في بعض نظريات التوحيد الحديثة، لا سيما فيما يُسمَّى بنظرية الخيط الفائق. كما أن نظريَّتنا عن الجُسيمات الأولية قد أصبحت اليوم أفضل بكثيرٍ مما كانت عليه عندما وُضِع هذا الكتاب. ولربَّما حظِيَت نظرية الكواركات واللبتونات الحديثة بمُوافقة هايزنبرج لو أنها ظهرت في حياته. أما مناقشته للإله والأخلاقيات فهي سطحية نوعًا، وأعتقد أنها وُضِعت أساسًا لمقابلة مُتطلَّبات محاضرات جيلفورد.

ولكن هذه ليست سوى اعتراضات ثانوية على كتاب يعرِض على نحوٍ مُرضٍ جوهر ثورة الإدراك الذهني التي تُسمَّى الفيزياء الحديثة. ولقد أنجز هايزنبرج هذا بلا رياضيات وبأقلِّ قدرٍ من التفاصيل التقنية، لا يلزم بالتأكيد أن تكون فيزيائيًّا كي تُتابع حُجَجه وتُقدر الطبيعة الخطيرة لتحوُّل الفكر الذي أعقب ثورتي النسبية والكم، أما ذلك السحر الذي لا ينضب لهذا الكتاب فإنما يرجع إلى أنه يحمل القارئ، في وضوحٍ رائع من عالَم الفيزياء الذرية الخفي إلى عالم الناس واللغة وإدراك واقِعِنا المشترك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥