الفصل الأول

تقليد قديم وتقليد حديث

عندما يتحدَّث المرء اليوم عن الفيزياء الحديثة فستكون الأسلحة الذرية هي أول ما يجول بخاطره. كلنا يُدرك الأثر الهائل لهذه الأسلحة على البناء السياسي لعالَمنا المعاصر، وكلنا مُستعد لأن يُسلم بأن أثر الفيزياء على الوضع العام لم يكن أبدًا بهذا القدْر قبلًا. لكن، هل الوجه السياسي للفيزياء الحديثة هو الأهم حقًّا؟ عندما يُوفق العالم نفسه ببنائه السياسي مع الإمكانيات التقنية الجديدة، فماذا يا تُرى سيبقى من أثر الفيزياء الحديثة؟

لإجابة هذَين السؤالين يجب أن نذكُر أن كل أداة تحمل معها الروح التي أبدعتها. ولمَّا كان من الضروري أن تهتم كل أمةٍ وكل جماعة سياسية بالأسلحة الجديدة بشكلٍ ما، بغضِّ النظر عن موقعها وعن تقاليدها الحضارية، فإن روح الفيزياء الحديثة ستتغلغل في أذهان الكثيرين، وتربط نفسها بالتقاليد القديمة بطرُق مختلفة. وهذا الأثر الناجم عن ذلك الفرع الخاص من العلوم الحديثة: ماذا ستكون نتيجتُه على مختلِف التقاليد القديمة الراسخة؟ وُجِّهَ الاهتمامُ الأساسي في المناطق من العالم التي تطوَّر فيها العلم الحديث، ولفترة طويلة، نحو النشاط العملي: الصناعة والهندسة جميعًا، مع تحليل منطقي للشروط الخارجية والداخلية الواجب توافرها لمِثل هذا النشاط. لن يجِد مثل هؤلاء الناس صعوبةً في التعامُل مع الأفكار الجديدة؛ فلقد سمح لهم الوقت بالتكيُّف البطيء التدريجي مع المناهج العلمية الحديثة للتفكير. لكن مثل هذه الأفكار ستواجَه في مناطق أخرى من العالم بالبناء الديني والفلسفي للثقافات المحلية. ولمَّا كانت نتائج الفيزياء الحديثة تمسُّ مفاهيم أساسية مثل الواقع والمكان والزمان، فقد تؤدي المواجهة إلى تطوُّراتٍ جديدة تمامًا لا يمكن حتى الآن التنبؤ بها. ثمة ملمح مُميز لهذا اللقاء بين العِلم الحديث والمناهج الأقدم للتفكير، هو دوليَّتُه الكاملة. وفي تبادُل الأفكار بين الجانبين سنجد جانبًا (التقليد القديم) يختلف باختلاف مناطق العالم، بينما سنجِد الآخر واحدًا في كل مكان، وعلى هذا فإن نتائج هذا التبادُل ستنتشر في كل المناطق التي تحدُث فيها المناقشات.

لمثل هذه الأسباب قد يكون ثمة ما يُفيد في محاولة مناقشة أفكار الفيزياء الحديثة بلُغةٍ غير مُسرفة في التقنية، وفي دراسة نتائجها الفلسفية، وفي مقارنتها ببعض التقاليد الأقدم.

ولعلَّ أفضل طريق للولوج إلى مشاكل الفيزياء الحديثة هو الوصف التاريخي لتطوُّر نظرية الكم. صحيح أن نظرية الكم ليست إلا قطاعًا صغيرًا من الفيزياء الذرية، وأن الفيزياء الذرية نفسها ليست سوى قطاع صغير جدًّا من العلوم الحديثة، لكن نظرية الكم هي النظرية التي حدثت بها أهم التغيُّرات الجذرية بالنسبة لمفهوم الواقع، ونظرية الكم في صورتها الأخيرة هي التي تركزت بها وتبلورت الأفكار الجديدة للفيزياء الذرية. تُبين أجهزة التجارب الهائلة البالغة التعقيد اللازمة لبحوث الفيزياء النووية، تُبين ملمحًا آخر لهذا الفرع من العلوم الحديثة مُثيرًا غاية الإثارة. أما بالنسبة للتقنية التجريبية فإن الفيزياء النووية تُمثل الامتداد المتطرِّف لمنهجٍ في البحث تُحدد به نمو العلم الحديث منذ هويجنز أو فولتا أو فاراداي. وبنفس المعنى قد يُمكن القول إن التعقيدات الرياضية المُثبطة لبعض أجزاء نظرية الكمِّ تُمثل النتيجة المتطرفة لمناهج نيوتن أو جاوس أو ماكسويل. لكن التغيُّر في مفهوم الواقع الذي يُفصح عن نفسه في نظرية الكم ليس مجرد استمرارٍ للماضي، إنه يبدو اختراقًا في بناء العلم الحديث. وعلى هذا فسنُخصِّص الفصل التالي لدراسة التطور التاريخي لنظرية الكم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥