اللغة والواقع في الفيزيقا الحديثة
على طول تاريخ العلم كانت الاكتشافات والأفكار الجديدة تُسبب جدلًا علميًّا، كانت تؤدي إلى كتاباتٍ هجومية عنيفة تنتقد الأفكار الجديدة، ولقد كان هذا النقد دائمًا مفيدًا في تطويرها. لكن الجدل لم يبلُغ في عُنفه أبدًا ما بلغه عند اكتشاف نظرية النسبية، أو — لدرجةٍ أخف بعض الشيء — عند اكتشاف نظرية الكم. فلقد ارتبطت المشاكل العلمية في كِلتا الحالتَين بالقضايا السياسية، والْتجأ بعض العلماء إلى المناهج السياسية يروِّجون لآرائهم. لا يُمكننا تفهُّم رد الفعل العنيف بالنسبة للتطوُّرات الأخيرة بالفيزياء الحديثة إلا إذا أدركْنا أن أُسس الفيزياء هنا قد بدأت تتحرَّك، وأن هذه الحركة قد تسبَّبت في الشعور بأن أُسس العلم ستنهار. وهذا قد يعني في نفس الوقت أننا لم نجد بعدُ اللغة الصحيحة التي نتحدَّث بها عن الوضع الجديد، وأن التقارير الخاطئة التي نُشرت هنا وهناك في فورة الحماس للاكتشافات الجديدة، قد تسبَّبت في كل أشكال سوء التفهُّم. وهذه في الحق مشكلة جوهرية. فالتقنيات المُحسَّنة في زماننا تضع في متناول العلم الجديد نواحيَ من الطبيعة لا يمكن أن توصَف بلغة المفاهيم الشائعة. لكن، بأية لغةٍ يُمكننا إذن أن نصِفها؟ إن أول لغةٍ تقترح نفسها من عملية التوضيح العلمي عادة ما تكون في الفيزياء النظرية، لغةً رياضية، البرنامج الرياضي الذي يسمح بالتنبُّؤ بنتائج التجارب. فلقد يَقنع الفيزيائي إذا ما توفَّر لدَيه برنامج رياضي وعرف كيف يستخدِمه في تفسير التجارب. لكن، عليه أيضًا أن يتحدَّث عن نتائجه إلى غير الفيزيائيين الذين لا يرضَون إلَّا إذا وضع التفسير في لُغة سهلة يفهمها الجميع، والوصف في اللغة السهلة، حتى بالنسبة للفيزيائيين، سيكون هو المعيار لدرجة التفهُّم التي أمكن التوصُّل إليها. إلى أي مدى يكون مِثل هذا التفسير مُمكنًا على الإطلاق؟ أيمكن أن نتحدَّث عن الذرة نفسها؟ إنها مشكلة لُغة مثلما هي مشكلة فيزياء، وعلى هذا فثمَّة ملاحظات نجِدها ضرورية تتعلَّق باللغة عمومًا، واللغة العلمية على وجه الخصوص.
شكَّل الإنسان اللغة في عصور ما قبل التاريخ ليستخدمها وسيلةً للاتصال وأساسًا للتفكير. ونحن لا نعرف إلَّا القليل عن خطوات تشكيلها، لكن اللغة الآن تحوي عددًا كبيرًا من مفاهيم تُعتبَر أداةً ملائمة لاتصالٍ غير غامض بين الناس بخصوص وقائع الحياة اليومية. ولقد اكتُسبت هذه المفاهيم بالتدرُّج دون تحليل نقدي، وذلك بممارسة اللغة، فبعد أن تُستخدَم الكلمة استخدامًا كافيًا فإنَّا عادة ما نعتقِد أننا نعرف معناها. من الحقائق المعروفة أن معنى الكلمات ليس محددًا كما يبدو للوهلة الأولى، وأن مجال تطبيقها مجال محدود؛ فلقد نتحدَّث مثلًا عن قطعة من الحديد أو قطعة من الخشب، لكنَّا لا نتحدَّث عن قطعة من الماء. إن كلمة «قطعة» لا تصلح للمواد السائلة. وهذا مثال آخر. يُحب بوهر في مناقشاته عن حدود المفاهيم أن يروي القصة التالية: ذهب صبي إلى دكان بقَّال وفي يدِه قرش وسأله: «هل يمكن أن تُعطيني بهذا القرش مزيجًا من الحلوى؟» التقط البقَّال قطعتَين من الحلوى وأعطاهما للصبي قائلًا «هاك قطعتين من الحلوى، ويمكنك أن تمزجهما بمعرفتك». وإليك مثال آخر أكثر جدِّية للعلاقة المُلغِزة بين الكلمات والمفاهيم. فنحن نستخدِم كلمتي «أحمر» و«أخضر»، نستخدمهما حتى لو كنَّا مُصابين بعمى الألوان، بالرغم من أن حدود استخدام هاتين الكلمتين لا بد أن تختلف عند هؤلاء عنها عند غيرهم من الناس.
أُدرِكت هذه اللامُحققية الأصيلة في معنى الكلمات مبكرًا، وجُلبت معها الحاجة إلى التعريفات، أو — كما تقول كلمة «تعريف» — الحاجة إلى حدود يُعرَّف بها الموضع الذي تُستخدَم فيه الكلمة، والذي لا تُستخدَم فيه. لكن التعريفات لا تُعطَى إلا بمساعدة مفاهيم أخرى، وعلى هذا فعلينا في النهاية أن نعتمد على بعض المفاهيم التي تؤخَذ كما هي دون تحليلٍ ودون تعريف.
كانت مشكلة المفاهيم في اللغة، بالفلسفة الإغريقية، مبحثًا رئيسيًّا منذ سقراط، الذي كانت حياته — كما يقول العرض الفني لمحاورات أفلاطون — مناقشةً مستمرة في محتوى المفاهيم باللغة، وفي القصور في أساليب التعبير. فلِكي يصل أرسطو إلى أساس متين للتفكير العلمي بدأ في منطقِه بتحليل صور اللغة، البِنية الصورية لنتائجه واستنباطاته مُستقلة عن محتواها. بهذه الطريقة وصل إلى درجةٍ من التجريد والدقة غير مسبوقة في الفلسفة الإغريقية، بذلك أسهم إسهامًا كبيرًا في التوضيح، في توطيد نظام بِمناهجنا في التفكير. لقد خلق فعلًا الأساس للُّغة العلمية.
لكن هذا التحليل المنطقي للغة يتضمَّن خطر الإفراط في التبسيط إلى حدِّ التشويه. فنحن في المنطق نهتمُّ ببِنًى خاصة جدًّا، بعلاقات غير غامضة بين المُقدمات والاستنباطات، بنماذج بسيطة من الاستدلال، بينما نُهمل كل البِنى الأخرى للغة. وهذه البِنى الأخرى قد تنجم عن علاقات بين معانٍ مُعينة للكلمات. فقد يكون هناك معنًى ثانوي للكلمة يَعبُر الذهن بشكلٍ غامض عندما تُسمَع الكلمة ولكنه يُسهِم إسهامًا جوهريًّا في محتوى الجُملة. أما حقيقة أنَّ كلَّ كلمةٍ قد تُثير الكثير من النشاط نصف الواعي في أذهاننا، فقد تُستخدَم لتُمثل جزءًا من الواقع في اللغة بشكل أوضح مما يحدُث عند استخدام الأنماط المنطقية. وعلى هذا فقد اعترض الشعراء كثيرًا على هذا التوكيد، في اللغة وفي التفكير، على النمَط المنطقي، التوكيد الذي قد يجعل اللغة أقلَّ ملاءمةً للغرَض الذي ابتُكرت من أجلِه — إذا صحَّ تفهُّمي لآرائهم. ولقد نتذكَّر مثلًا في «فاوست» جوته ما قاله ميفستوفيليس للطالب الشاب:
إن في هذا وصفًا جميلًا لبِنية اللغة ولضيق أُفق الأنماط المنطقية البسيطة.
على أن العِلم — من ناحية أخرى — يرتكز على اللغة كوسيلةٍ للاتصال لا غيرها. ولمَّا كان الغموض يُشكل مشكلةً ذات أهميةٍ كبيرة في اللغة، فلا بد للأنماط المنطقية أن تلعب دورَها. وربما أمكننا أن نعرض الصعوبة المُميزة لهذه النقطة كما يلي: إننا نُحاول في العلوم الطبيعية أن نشتقَّ الخاص من العام، أن نفهم الظاهرة كنتيجةٍ لقوانين عامة بسيطة. فإذا ما صِيغت القوانين العامة في صيغةٍ لُغوية فإنها لن تحوي إلَّا عددًا محدودًا من المفاهيم البسيطة — وإلا لما كان القانون بسيطًا ولا كان عامًّا. من هذه المفاهيم تُشتَق تشكيلة لانهائية من الظواهر المُمكنة، ليس فقط من الناحية الكيفية وإنما أيضًا بدقَّة كاملة بالنسبة لكل التفاصيل. الواضح أن مفاهيم اللغة المألوفة — وهي ما هي من ناحية عدم الدقة والتعريف المُبهم — لن تسمح أبدًا بمثل هذه الاشتقاقات، فإذا ما نجمت عن المُقدمات المُعطاة سلسلة من الاستنباطات، فإن عدد الحلقات المُمكنة بالسلسلة يعتمد على دقَّة هذه المُقدمات؛ وعلى هذا فإن مفاهيم القوانين العامة لا بدَّ أن تُحدد في العلوم الطبيعية بدقَّة بالِغة، ولا يُمكن أن يتمَّ هذا إلا عن طريق التجريد الرياضي.
ولقد نقابل نفس الوضع تقريبًا في علوم أخرى، وذلك بالنسبة للحاجة إلى التعريف الدقيق — كالقانون مثلًا. لكن عدد الحلقات في سلسلة الاستنباطات هنا لا يلزم أن يكون كبيرًا؛ فالدقة الكاملة ليست مطلوبة، إنما يكفي التعريف الدقيق نوعًا ما، مصاغًا في لُغة مألوفة.
نحاول في الفيزياء النظرية أن نفهم زُمَر الظواهر بأن نُدخل الرموز الرياضية التي يُمكن ربطُها بالحقائق؛ نعني بنتائج القياس. إننا نستخدِم أسماء لهذه الرموز تمنح علاقاتها بالقياس صورًا ذهنية. بذا فإن الرموز ترتبط باللغة. وهذه الرموز، فوق ذلك، تترابط بنظامٍ متين من التعريفات والبديهيات، وفي النهاية تُعبر عن القوانين الطبيعية كمعادلاتٍ بين الرموز. الحلول اللانهائية لهذه المعادلات لا تُناظر إذن التنويع اللانهائي للظواهر المَعنية المُمكنة في هذا الجزء من الطبيعة. بهذه الطريقة يُمثل المُخطط الرياضي زُمرة الظواهر إلى المدى الذي تمضي إليه العلاقة بين الرموز والقياسات. إن هذا الارتباط هو الذي يسمح بالتعبير عن القوانين الطبيعية باللغة الشائعة، لأننا نستطيع دائمًا أن نصف تجاربنا — المؤلَّفة من الأفعال والملاحظات — في لُغة مألوفة.
ومع ذلك فإننا نوسِّع اللغة أيضًا إذ نُوسع المعرفة العلمية، فنبتكر مصطلحات جديدة ونوسِّع من مجال استخدام المصطلحات القديمة، أو نُطبقها بصورةٍ تختلف عن اللغة المألوفة، ولعلَّ في مصطلحات «الطاقة»، «الكهرباء»، «الإنتروبيا»، الأمثلة الواضحة. بهذه الطريقة نطوِّر لغة علمية يُمكن أن نقول إنها امتداد طبيعي للُّغة العادية وقد كُيِّفت للمجالات المُضافة من المعرفة العلمية.
دخل الفيزياء خلال القرن الماضي عدد من المفاهيم الجديدة، ولقد تطلَّب الأمر من العلماء في بعض الحالات وقتًا طويلًا قبل أن يتعوَّدوا على استخدامها. وعلى سبيل المثال فإن مصطلح «المجال الكهرومغناطيسي» — الذي كان موجودًا بالفعل لحدٍّ ما في عمل فاراداي والذي شكَّل فيما بعدُ أساس نظرية ماكسويل — هذا المصطلح لم يقبله الفيزيائيون بسهولة — فقد وجَّهوا انتباههم في المقام الأول إلى الحركة الميكانيكية للمادة — ولقد تضمَّن إدخال هذا المفهوم في الحقيقة تغيُّرًا في الأفكار العلمية أيضًا، ومثل هذه التغيُّرات لا تتم بسهولة.
ومع ذلك فإن كل المفاهيم التي قُدمت حتى نهاية القرن الماضي قد شكَّلت زُمرة متماسكة تمامًا تُطبق على مجالٍ واسع من الخبرة، وشكَّلت — مع ما سبقها من مفاهيم — لغةً يمكن للعلماء — بل وحتى للتقنيِّين والمهندسين — أن يُطبقوها بنجاح في أعمالهم. لهذه الأفكار الجوهرية التي تُشكل أساس هذه اللغة، ينتمي الافتراض بأن ترتيب الوقائع في الزمن مُستقل تمامًا عن وضعها في الفضاء، وبأن الوقائع «تحدُث» في الفضاء والزمن ولا علاقة لها بوجود مُراقب أو عدم وجوده. لم يُنكَر أنَّ لكل ملاحظة أثرًا على الظاهرة تحت الفحص، لكن ثمة افتراضًا عامًّا بأننا نستطيع أن نُقلل من هذا الأثر كثيرًا لو أجرينا تجاربنا باحتراس. والحق أن هذا، على ما يبدو، كان شرطًا ضروريًّا للموضوعية المِثالية التي اعتُبرت أساس كل العلوم الطبيعية.
وفي هذا الجو الهادئ للفيزيقا، انفجرت نظرية الكم ونظرية النسبية الخاصة كحركةٍ مفاجئة في أسس العلوم الطبيعية — إن تكن بطيئة في البداية تتزايد بالتدريج. بدأت أولى المُجادلات العنيفة، حول مشاكل الفضاء والزمان التي أثارتها نظرية النسبية. كيف يمكن أن نتحدَّث عن الوضع الجديد؟ هل علينا أن نعتبِر تقلُّص لورنتس للأجسام المُتحركة تقلُّصًا حقيقيًّا، أم تُراه مجرد تقلُّص ظاهري؟ هل علينا أن نقول إن بنية الفضاء والزمان تختلف عما كان مفترضًا، أم أنَّ الواجب أن نقول فقط إنَّ النتائج التجريبية يُمكن أن تُربَط رياضيًّا بطريقةٍ تتوافق مع هذه البنية الجديدة، بينما يبقى الفضاء والزمان كما كانا دائمًا — الصيغة الشاملة الضرورية التي فيها تظهر لنا الأشياء؟ كانت المشكلة الحقيقية وراء هذه الخلافات العديدة هي حقيقة أنه لم يكن ثمَّة لغة يمكن بها أن نتحدَّث بطريقةٍ مستقيمة عن الوضع الجديد. فاللُّغة المألوفة ترتكز على مفهومَي الفضاء والزمن القديمين، وهذه هي اللغة التي تُقدم الوسيلة الوحيدة غير الغامضة للاتصال، عن تصميم المقاييس ونتائجها. ورغم ذلك فقد بيَّنت التجارب أن المفهومين القديمين لا يمكن أن يُطبَّقا في كل مكان.
كانت نقطة البدء الواضحة لتفسير نظرية النسبية هي، إذن، حقيقة أن النظرية الجديدة تُطابق — عمليًّا — النظرية القديمة عندما تكون السرعات مُنخفضة (مُنخفضة بالنسبة لسرعة الضوء). وعلى هذا، ففي هذا الجزء مِن النظرية، كان من الواضح كيف يمكن ربط الرموز الرياضية بالمقاييس وبمصطلحات اللغة المألوفة. والواقع أن تحويل لورنتس قد تم اكتشافه مِن خلال هذا الارتباط. لم يكن ثمة غموض حول معنى الكلمات والرموز في هذه المنطقة. والحق أن هذا الارتباط كان بالفعل كافيًا لتطبيق النظرية على كلِّ مجال البحوث التجريبية المُرتبطة بمشكلة النسبية. وعلى هذا فإن القضايا الخلافية حول تقلص لورنتس «الواقعي» أو «الظاهر»، أو حول تعريف كلمة «متزامن» … إلخ، لم تكن تخصُّ الحقائق وإنما اللغة.
أما بالنسبة للغة فلقد أدركنا بالتدريج أنه ربما كان علينا ألَّا نُصر كثيرًا على مبادئ بذاتها. يصعب دائمًا أن نجد معايير عامة مُقنعة يلزم أن نستخدِم لها مصطلحات لغوية، وأن نعرف كيفية استخدامها. علينا ببساطة أن ننتظر حتى تتطور اللغة التي تُكيف نفسها بعد فترة للوضع الجديد. والواقع أن هذا التكيُّف في نظرية النسبية الخاصة قد حدث في مُعظمه بالفعل خلال الخمسين سنة الماضية. لقد اختفى، ببساطة، الفرق بين التقلُّص «الواقعي» و«الظاهري» — مثلًا. أما كلمة «متزامن» فتُستعمل متوافِقة مع التعريف الذي منحه إيَّاها أينشتين، بينما نجد، بالنسبة للتعريف الأوسع الذي ناقشناه في فصل سابق، أن المصطلح «على مسافةٍ شبه فضائية» مصطلح شائع الاستعمال … إلخ.
وفي نظرية النسبية العامة أنكر بعض الفلاسفة وبشدَّة فكرة الهندسة غير الإقليدية في الفضاء الواقعي، وبيَّنوا أن منهجنا في تصميم التجارب هو بالفعل افتراض مُسبق في الهندسة الإقليدية.
والواقع أنه إذا ما حاول حِرَفي أن يُعِد سطحًا مستويًا مضبوطًا، فإنه يستطيع أن يفعل ذلك بالطريقة الآتية: يُعِد أولًا ثلاثة أسطح لها تقريبًا نفس الحجم، وتكون تقريبًا مُستوية، ثم يُحاول أن يجعل كل اثنين من هذه الأسطح الثلاثة يتلامسان، بأن يضعهما قبالة بعضهما في مواقع نسبية مختلفة. يُعبِّر مقدار التلامُس الكُلي بين الأسطح عن درجة الدقة التي يُمكن بها أن نقول إن الأسطح «مستوية». ولن يقنع الحرفي بالأسطح الثلاثة إلا إذا كان التلامُس بين كل اثنين منها كاملًا في كل مكان. فإذا ما حدث هذا أمكن لنا أن نُثبت رياضيًّا أن الهندسة الإقليدية تسري على الأسطح الثلاثة. بهذه الطريقة — هكذا حاجُّوا — فإن مقاييسنا قد «جعلت» الهندسة الإقليدية صحيحة.
يمكن بالطبع — من وجهة نظر النسبية العامة — أن نُجيب بأن هذه الحجَّة تُثبت صحة الهندسة الإقليدية على الأبعاد الصغيرة وحدَها، أبعاد أدواتنا التجريبية. ودرجة الدقة التي تحملها في هذا النطاق عالية للغاية، حتى ليُمكن دائمًا أن تُطبَّق العملية التي ذكرناها لإنتاج الأسطح المُستوية. لن نستطيع أن نُدرك ما يوجَد من انحرافاتٍ بالغة الدقة عن الهندسة الإقليدية، لأن الأسطح مصنوعة من مادة ليست صلبةً تمامًا، وإنما تسمح بالتشوُّهات الطفيفة جدًّا، ولأن مفهوم «التلامُس» لا يمكن أن يُعرَّف بدقة كاملة. أما بالنسبة للأسطح على المُستوى الكوني فإن العملية التي وصفناها لن تسري. لكن هذا ليس من مشاكل الفيزياء التجريبية.
مرة أخرى سنجد أن نقطة البدء الواضحة للتفسير الفيزيقي للبرنامج الرياضي بالنسبية العامة هي حقيقة أن الهندسة تقترب جدًّا من الإقليدية بالنسبة للأبعاد الصغيرة — ففي هذه المنطقة تقترِب النظرية من النظرية الكلاسيكية. وعلى هذا فإن التلازُم هنا بين الرموز الرياضية والقياسات وبين المفاهيم في اللغة المألوفة سيكون غير مُبهم. ومع ذلك فإنَّا نستطيع أن نتحدث عن هندسة غير إقليدية بالنسبة للأبعاد الضخمة، ويبدو أن الرياضيين — لا سيما جاوس في جوتنجن — قد فكَّروا بالفعل في إمكانية وجود هندسة لا إقليدية في الفضاء الواقعي، وذلك حتى قبل ظهور النسبية العامة بوقتٍ طويل. يُقال إن جاوس عندما قام بقياسات جيوديسية دقيقة على مُثلث شكَّلته جبال ثلاثة — جبل بروكين في جبال هارتس، وجبل إينسلبرج في مقاطعة ثورنجيا، وجبل هوهنهاجن قُرب جوتنجن — يُقال إنه راجع قياساته بدقة بالِغة ليتأكَّد مِن أن مجموع زوايا المُثلث الثلاث يساوي ۱۸۰ درجة، وأنه قد أخذ في حسبانه اختلافًا قد يُثبت إمكانية وجود انحرافاتٍ عن الهندسة الإقليدية. والواقع أنه لم يجد أية انحرافات في حدود دقة قياساته.
تتبع اللغة التي نصف بها القوانين العامة في نظرية النسبية العامة، تتبع الآن اللغة العِلمية للرياضيين، وبالنسبة لوصف التجارب ذاتها يُمكننا استخدام المفاهيم المألوفة، لأن الهندسة الإقليدية تسري بدقَّة كافية في الأبعاد الصغيرة. تظهر في نظرية الكم أعقد مشاكل استخدام اللغة. لم يكن لدَينا في البدء أي دليلٍ بسيط نربط به الرموز الرياضية بمفاهيم اللغة الاعتيادية، كان كل ما نعرفه في البداية هو حقيقة أنَّ مفاهيمنا الشائعة لا يُمكن أن تُطبَّق على بِنية الذرة. مرةً أخرى بدت نقطة البداية الواضحة للتفسير الفيزيقي للصورية هي اقتراب البرنامج الرياضي لميكانيكا الكم من برنامج الميكانيكا الكلاسيكية، وذلك في الأبعاد الأكبر كثيرًا من حجم الذرات، وحتى هذا لا نستطيع أن نقولَه دون بعض التحفُّظات، فسنجد، حتى تحت الأبعاد الكبيرة، العديد من الحلول للمعادلات الكمَّاتية النظرية، والتي لا نظير لها في الفيزياء الكلاسيكية. تظهر في هذه الحلول ظاهرة «تداخُل الاحتمالات» كما ذكرنا في الفصول السابقة، وهذه ظاهرة لا توجَد في الفيزياء الكلاسيكية. وعلى هذا، فلن يكون تافهًا على الإطلاق — حتى داخل حدود الأبعاد الضخمة — ذلك الارتباط بين الرموز الرياضية والقياسات والمفاهيم المألوفة. ولكي نصِل إلى مثل هذا الارتباط غير المُلتبس علينا أن نُدخل في اعتبارنا ملمحًا آخر من ملامح المشكلة. علينا أن نلاحظ أن النمَط الذي تُعالجه مناهج ميكانيكا الكم هو في الحقيقة جزء من نظام أكبر (حدوده العالم بأسره) أنها تتفاعل مع هذا النظام الأكبر، ولا بد أن نُضيف أن الخصائص الميكروسكوبية للنظام الأكبر مجهولة — إلى حدٍّ كبير على الأقل. لا شك أن هذا وصف صحيح للوضع الواقعي. ولاستحالة أن يكون هذا النظام موضوع قياس وتفحُّصات نظرية، فإنه لن ينتمي إلى عالم الظواهر ما لم يكن يتفاعل مع مثل هذا النظام الأرحب، الذي يُمثل المُراقِب جزءًا منه. والتفاعُل مع النظام الأكبر هذا بخصائصه الميكروسكوبية غير المُحدَّدة يُقدم إذن إلى وصف النظام (الكمَّاتي-النظري، والكلاسيكي) عاملًا إحصائيًّا جديدًا. وفي الحالة الحدِّية للأبعاد الكبيرة يحطِّم هذا العامل الإحصائي آثار و«تداخل الاحتمالات» حتى ليقترب البرنامج «الكماتي-الميكانيكي» الآن من البرنامج الكلاسيكي في الوضع الحدِّي. وعلى هذا يُصبح الارتباط عند هذه النقطة بين رموز نظرية الكمِّ ومفاهيم اللغة الاعتيادية غير مُبهم، ويُصبح هذا الارتباط كافيًا لتفسير التجارب. أما المشاكل الباقية فتُهم اللغة لا الوقائع، لأنها تنتمي إلى مفهوم «الواقعة» الذي يمكن وصفه باللغة الاعتيادية.
لكن مشاكل اللغة هنا خطيرة حقًّا. إنَّنا نودُّ أن نتحدَّث بشكلٍ ما عن بِنية الذرات وليس فقط عن «الوقائع» — وهذه الأخيرة قد تكون مثلًا البُقَع السوداء على لوحة فوتوغرافية أو قطيرات الماء في غرفة سحابية. لكنَّا لا نستطيع أن نتحدَّث عن الذرات بلُغتنا المألوفة.
يمكن أن نستمرَّ في التحليل الآن بطريقتَين مختلفتَين، فقد نسأل: أية لُغة للذرات قد تطوَّرت بين الفيزيائيين خلال الثلاثين سنة التي مرت منذ صياغة ميكانيكا الكم؟ أو قد نصِف محاولات تحديد لغة علمية دقيقة تتوافق مع البرنامج الرياضي.
لإجابة السؤال الأول قد نقول إن مفهوم التتامِّ الذي قدَّمه بوهر إلى تفسير نظرية الكمِّ قد شجَّع الفيزيائيين على استخدام لُغة غامضة، أن يستخدموا المفاهيم الكلاسيكية بطريقةٍ مُبهمة بعض الشيء تتَّفق مع مبدأ اللامُحققية، أن يُطبقوا بالتعاقُب مفاهيم كلاسيكية مُختلفة تقود إلى تناقُض إن استُخدمت متزامنة. بهذه الطريقة يُمكننا أن نتحدَّث عن المدارات الإلكترونية، عن موجات المادة وكثافة الشحنة، عن الطاقة وكمية الحركة … إلخ، مُدرِكين دائمًا حقيقة أن لهذه المفاهيم مجالًا محدودًا جدًّا من التطبيق. فإذا ما قاد هذا الاستخدام الغامض غير النظامي اللُّغةَ إلى صعوبات، فعلى الفيزيائي أن ينسحب إلى البرنامج الرياضي وعلاقته غير الغامِضة مع الوقائع التجريبية.
واستخدامنا للُّغة هكذا يُرضي من أوجهٍ شتَّى، فهو يُذكرنا باستخدامٍ للُّغة مُشابه في الحياة اليومية أو في الشِّعر. إننا نُدرك أن وضع التتامِّ لا يقتصِر على العالم الذري وحدَه، إننا نُقابله عندما نتفكَّر في قرار وفي الدوافع وراء قرارنا، أو عندما نُخَيَّر بين أن نستمتع بالموسيقى أو أن نُحلل بِنيتها. من ناحية أخرى سنجد أن المفاهيم الكلاسيكية، عندما تُقدَّم بهذا الشكل تستبقي دائمًا غموضًا مؤكدًا، هي لا تكتسب، في علاقتها بالواقع، غير نفس الأهمية الإحصائية لمفاهيم الثرموديناميكا في تفسيرها الإحصائي. وعلى هذا فقد يُفيد أن نُقدم مناقشةً قصيرة لهذه المفاهيم الإحصائية الثرموديناميكية.
يبدو أن مفهوم «درجة الحرارة» في الثرموديناميكا الكلاسيكية إنما يصِف وجهًا موضوعيًّا من أوجه الواقع، خصيصةً موضوعية للمادة. يسهل علينا في حياتنا اليومية، بمساعدة الترمومتر، أن نعرف ما نعنيه بدرجةِ حرارةِ قطعةٍ من المادة. لكنَّا إذا حاولنا أن نعرف ما تَعنيه حرارة ذرة، حتى في الفيزياء الكلاسيكية، فسنقع في ورطةٍ عويصة. الواقع أنَّنا لا نستطيع أن نربط فكرة «درجة حرارة الذرة» هذه بأية خصيصةٍ واضحة المعالم للذرة، وعلينا أن نربطها — جزئيًّا على الأقل — بمعرفتنا القاصرة عنها. يُمكننا أن نربط قيمة الحرارة ببعض التوقُّعات الإحصائية المُعينة عن خصائص الذرة، لكن سيصعُب، على ما يبدو، أن نعرف ما إذا كان لنا أن نُسمِّي التوقُّع موضوعيًّا. إن تعريف مفهوم «درجة حرارة الذرة» لا يُشبه إلَّا مفهوم «المزج» في قصة الصبي الذي اشترى مزيجًا من الحلوى.
بنفس الشكل سنجد في نظرية الكمِّ أنَّ كل المفاهيم الكلاسيكية، عندما تُطبق على الذرة، لها من التحديد مثل ما ﻟ «درجة حرارة الذرة». هي ترتبط بالتوقُّعات الإحصائية، ولا يُصبح التوقع معادلًا لليقين إلَّا فيما ندر، مرة أخرى — وكما في الثرموديناميكا الكلاسيكية — يصعُب أن نُسمِّي التوقُّع موضوعيًّا. ربما أسميناه ميلًا موضوعيًّا أو إمكانًا موضوعيًّا، أو «بوتنشيا» بالمعنى الأرسطي. والحق أنني أعتقد أن اللغة التي يستعملها الفيزيائيون بالفعل عندما يتحدثون عن الوقائع الذرية، تُحدِث في أذهانهم أفكارًا مشابهة لمفهوم «البوتنشيا»، وعلى هذا تعوَّد الفيزيائيون بالتدريج على ألَّا يعتبروا المدارات الإلكترونية … إلخ واقعًا، وإنما نوعًا من «البوتنشيا». لقد كيفت اللغةُ نفسها بالفعل — إلى حدٍّ ما على الأقل — لهذا الوضع الحقيقي. لكنها ليست لُغة دقيقة يمكن أن نستخدِمها في النماذج المنطقية السوية. هي لغة تُنتج صورًا في الذهن، تصطحب معها معنًى يقول إن الصور ليس لها إلَّا ارتباط غامض بالواقع، إنها تُمثل مجرد اتجاهٍ نحو الواقع.
قاد غموض هذه اللغة المُستخدَمة بين الفيزيائيين إلى محاولاتٍ لتعريف لغةٍ أخرى دقيقة تتبع أنماطًا منطقية مُحددة، تكون على انسجامٍ كامل مع البرنامج الرياضي لنظرية الكم. ويمكن تلخيص المحاولات التي قام بها بيركهوف ونويمان، ثم فايتسيكر مؤخرًا — في القول إنه من الممكن أن يُفسَّر البرنامج الرياضي لنظرية الكم على أنه امتداد أو تحوير للمنطق الكلاسيكي. هناك في المنطق الكلاسيكي مبدأ جوهري بالتحديد يتطلَّب التحوير: إذ يفترض المنطق الكلاسيكي أنه إذا كان للتعبير أي معنًى على الإطلاق، فلا بد أن يكون هو أو نقيضُه صحيحًا. فمن بين التعبيرَين «توجَد هنا منضدة» و«لا توجد هنا منضدة» لا بدَّ أن يكون الأول أو الثاني صحيحًا، وليس ثمَّة إمكانية ثالثة. يجوز ألَّا نعرف إن كان التعبير أو نقيضُه هو الصحيح، لكن تعبيرًا منهما سيكون في الواقع صحيحًا.
علينا، في نظرية الكم، أن نُحوِّر قانون «ليس ثمة إمكانية ثالثة». طبيعي أنَّنا نستطيع أن نُجادل فورًا ضد أي تحوير لهذا المبدأ الجوهري بالقول إن هذا المبدأ مُفترض في اللغة الشائعة، وأن علينا، على الأقل، أن نتحدَّث عن تحويرنا النهائي للمنطق في اللغة المألوفة، وعلى هذا يُصبح من التناقُض الذاتي أن نصِف في لغةٍ مألوفة برنامجًا منطقيًّا لا تُلائمه اللغة المألوفة. على أن فايتسيكر قد أبرز هنا أنَّ لنا أن نُميز مستويات مختلفة للغة.
ثمة مستوًى يتعلق بالموضوعات — بالذرات مثلًا أو الإلكترونات — وثانٍ يتعلق بالتقارير عن الموضوعات، وثالث قد يتعلق بالتقارير عن التقارير عن الموضوعات … إلخ. من المُمكن إذن أن توجَد نماذج منطقية مختلفة عند المستويات المختلفة. صحيح أننا لا بد أن نرجع في النهاية إلى اللُّغة المألوفة، ومِن ثم إلى النماذج المنطقية الكلاسيكية، لكن فايتسيكر يقترح أن المنطق الكلاسيكي قد يكون بنفس الشكل قبليًّا للمنطق الكمَّاتي، مثلما الفيزياء الكلاسيكية لنظرية الكم. المنطق الكلاسيكي يُضمَّن، إذن، كحالة حدية في المنطق الكماتي، لكن الأخير يُشكل النموذج المنطقي الأكثر عمومية.
التحوير المطلوب للنموذج المنطقي الكلاسيكي يتعلق إذن بالمُستوى الأول الخاص بالمواضيع. دعنا نتأمل ذرةً تتحرك داخل صندوقٍ مُغلق به حائط يقسمه الى قسمَين متساويين. بالحائط ثُقب صغير جدًّا يمكن للذرة أن تعبُر من خلاله. ستوجد الذرة، تبعًا للمنطق الكلاسيكي، في النصف الأيسر أو في النصف الأيمن من الصندوق، وليس ثمَّة إمكانية ثالثة. على أننا في نظرية الكم لا بدَّ أن نُسلم — إذا كان لنا أن نستعمل أصلًا كلمتَي «ذرة» و«صندوق» — بأن هناك إمكاناتٍ أخرى كل منها مزيج غريب من الاثنين الأوَّلين. إن هذا أمر ضروري لتفسير تجاربنا. دعنا مثلًا نراقِب الضوء الذي يستطير بسبب الذرة. يُمكننا إجراء تجارب ثلاث: في الأولى تكون الذرة محبوسة (عن طريق إغلاق الثقب مثلًا) في النصف الأيسر من الصندوق، وسنقيس بها كثافة توزيع الضوء المُستطار. في التجربة الثانية تكون الذرة محبوسة في النصف الأيمن، فنقيس ثانيةً الضوء المُستطار. وفي الأخيرة سنترك للذرة حرية التحرك في الصندوق بأكمله لنقيس مرة ثالثة كثافة توزيع الضوء المستطار. فإذا بقِيَت الذرة دائمًا في النصف الأيسر أو الأيمن من الصندوق، فإن التوزيع الأخير للكثافة لا بدَّ أن يكون مزيجًا (تُحدده نسبة الوقت الذي تقضيه الذرة في كل من النصفين) من توزيعَي الكثافة الأوَّلَين، لكن هذا — تجريبيًّا — ليس صحيحًا على وجه العموم. إن توزيع الكثافة في الواقع يُحوِّره «تداخل الاحتمالات». ولقد ناقشنا هذا بالفعل.
للتغلُّب على هذا الوضع أدخل فايتسيكر مفهوم «درجة الحقيقة». فبالنسبة لأي تعبير بسيط في أي خيارٍ، مثل «توجد الذرة في النصف الأيسر (أو الأيمن) من الصندوق» — هناك عدد مُركب يُعرف بأنه «مقياس لدرجة الحقيقة». فإذا كان العدد هو واحدًا فمَعنى ذلك أن التعبير، حقيقي، وإذا كان صفرًا كان التعبير خاطئًا. لكنَّ ثمَّة قيمًا أخرى مُمكنة. والمربع المطلق للعدد المركب يُمثل احتمال أن يكون التعبير صحيحًا، وحاصل جمع احتمالَي طرفَي الخيار («الأيسر» أو «الأيمن» في حالتنا هذه) لا بدَّ أن يساوي الوحدة. لكن كلَّ زوج من الأعداد المُركبة — الخاصة بطرفَي الخيار — يُمثل، تبعًا لتعريف فايتسيكر، «تعبيرًا» لا بد أن يكون حقيقيًّا إذا كان للأعداد بالضبط هذه القيم. فالعددان — على سبيل المثال — يكفيان لتحديد كثافة توزيع الضوء المُستطار في تجربتنا. فإذا سمحنا باستخدام مصطلح «تعبير» بهذه الطريقة، فمِن الممكن أن نقدم مصطلح «تتام» بالتعريف التالي: كل تعبير لا يتطابق مع أيٍّ من تعبيرَي الخيار (وفي حالتنا هما التعبير «توجد الذرة بالنصف الأيسر» و«توجد الذرة بالنصف الأيمن من الصندوق») يُسمَّى مُتممًا لهذين التعبيرين، وتكون قضية وجود الذرة في اليسار أو في اليمين بالنسبة لكل تعبيرٍ مُتمم أمرًا غير محسوم، لكن المصطلح «غير محسوم» لا يُعادل أبدًا المصطلح «غير معلوم». فالمصطلح «غير معلوم» إنما يعني أن الذرة توجد «واقعيًّا» في النصف الأيسر أو الأيمن، لكنَّا لا نعرف أين توجَد. أما مصطلح «غير محسوم» فيُشير إلى وضعٍ مختلف، لا يُفصح عنه إلا تعبير تتام.
وهذا النموذج المنطقي العام، والذي لا يمكن أن نصف تفاصيله هنا يتوافق بدقَّة مع الصورية الرياضية لنظرية الكم، إنه يشكل الأساس للغة دقيقة يمكن استخدامها في وصف بنية الذرة، لكن تطبيق مثل هذه اللغة يُثير عددًا من المشاكل العويصة، سنناقش منها اثنتين: العلاقة بين «المستويات» المختلفة للغة، والنتائج بالنسبة للأنطولوجيا التحتية.
والعلاقة بين المستويات المختلفة للغة في المنطق الكلاسيكي في علاقة تناظُر متكافئة. فالتعبيران «توجَد الذرة في النصف الأيسر» و«من الصحيح أن الذرة توجَد في النصف الأيسر» ينتميان منطقيًّا إلى مستويين مختلفَين. والتعبيران في المنطق الكلاسيكي متكافئان تمامًا، نعني أنهما سويًّا إما أن يكونا صحيحَين أو زائفين، فلا يمكن أن يكون أحدهما صحيحًا والآخر زائفًا. أما في النموذج المنطقي للتتامِّ فسنجد العلاقة أكثر تعقيدًا؛ فصحَّة أو عدم صحة التعبير الأول يتضمن، لا يزال، صحة أو عدم صحة الثاني. لكن عدم صحة التعبير الثاني لا يُفيد ضمنًا عدم صحة الأول. فإذا كان التعبير الثاني غير صحيح، فقد لا يكون وجود الذرة في النصف الأيسر قد حُسِم بعد، إذ لا يلزم بالضرورة أن تكون الذرة في النصف الأيمن. لا يزال ثمَّة تكافؤ كامل بين مستويي اللغة بالنسبة لصحَّة التعبير، لكن ليس بالنسبة لعدم صحته من هذه العلاقة يُمكن أن نفهم استمرار بقاء القوانين الكلاسيكية في نظرية الكم: فحيثما يمكن استنباط نتيجة لا لبس فيها في تجربة عن طريق تطبيق القوانين الكلاسيكية، لزم أيضًا أن تظهر النتيجة في نظرية الكم، وستصحُّ تجريبيًّا.
كان الهدف الأخير لمحاولة فايتسيكر هي تطبيق النماذج المنطقية المحورة أيضًا في المستويات الأعلى للغة. لكنا لا نستطيع مناقشة هذه القضايا هنا.
أما المشكلة الأخرى فتختص بالأنطولوجيا التي تُشكل أساس النماذج المنطقية المحوَّرة. فإذا كان ثمة زوج من الأعداد المركبة يُمثل «تعبيرًا» بالمعنى الذي شرحناه حالًا، فلا بد من وجود «حال» أو «وضع» في الطبيعة يكون فيه التعبير صحيحًا. وسنستعمل نحن كلمة «حال». أطلق فايتسيكر على «الأحوال» المناظرة للتعبيرات المُتتامة اسم «أحوال المعيَّة». وهذا المصطلح يصف الوضع وصفًا صحيحًا، فالواقع أنه يصعب أن نُسميها أحوالًا مختلفة، لأن كل حال يتضمن أيضًا ولحدٍّ ما أحوال المعية الأخرى. يُشكل مفهوم الحال هذا تعريفًا أوليًّا يختص بأنطولوجيا نظرية الكم. سنرى على الفور أن استخدامنا هذا لكلمة «حال» — لا سيما في مصطلح «حال المعية» — يختلف كثيرًا عن الأنطولوجيا المادية العادية، حتى لقد نشك في صلاحية المصطلح للاستخدام. من ناحية أخرى سنجد أننا إذا أخذنا كلمة «حال» على أنها تصف إمكانيةً ما لا واقعًا — بل لقد نستبدل حتى كلمة «إمكانية» بكلمة «حال» — عندئذٍ يصبح مفهوم «إمكانيات المعية» مقبولًا حقًّا، لأن الإمكانية قد تتضمَّن أو تتراكب مع إمكانات أخرى.
من المُمكن أن نتجنَّب كل هذه التعريفات الصعبة والتميُّزات إذا اقتصرت اللغة على وصف الوقائع، نعني نتائج التجارب، لكنا إذا رغبنا في التحدُّث عن الجُسيمات الذرية نفسها، فعلينا إما أن نستخدِم البرنامج الرياضي كإضافةٍ وحيدة إلى اللغة الاعتيادية، أو أن نقرنها بلغةٍ تستخدم منطقًا محوَّرًا أو منطقًا غير معروف تعريفًا جيدًا. في التجارب عن الأحداث الذرية نحن نتعامل مع الأشياء والوقائع، مع ظواهر لها من الواقعية مثل ما لظواهر الحياة اليومية. لكن الذرات أو الجسيمات الأولية ذاتها ليس لها نفس الواقعية. إنها تُشكل عالمًا من الإمكانات والاحتمالات لا عالمًا من الأشياء والوقائع.