دور الفيزيقا الحديثة في تطوُّر التفكير البشري
ناقشنا في الفصول السابقة التضمينات الفلسفية للفيزياء الحديثة، كي نُبين أن هذا الفرع الحديث جدًّا من العلم يلمس، في نقاطٍ كثيرة، اتجاهات قديمة جدًّا في الفِكر، إنه يمسُّ بعضًا من أقدم المشاكل إنما من اتجاه جديد. ربما كان من الصحيح على وجه العموم أن أكثر التطوُّرات خصبًا في تاريخ التفكير البشري يحدث في تلك النقاط التي يلتقي عندها خطان مختلفان من الفكر. قد تنشأ جذور مثل هذه الخطوط في جوانب مختلفة تمامًا من الثقافة البشرية، في أزمان مختلفة أو بيئات ثقافية مختلفة أو تقاليد دينية مختلفة، ومن ثم فإذا ما التقت فعلًا، نعني إذا ما كانت على الأقل قريبة من بعضها للحدِّ الذي يسمح بنشوء تفاعُل حقيقي بينها، عندئذٍ فقد نأمل في أن تظهر تطورات جديدة مثيرة. والفيزياء الذرية — كجزءٍ من العلم الحديث في زماننا هذا — تتغلغل بالفعل داخل تقاليد ثقافية مختلفة كثيرًا. فهي لا تُدرس فقط في أوروبا ودول الغرب — حيث تنتمي إلى النشاط التقليدي في العلوم الطبيعية — وإنما أيضًا في الشرق الأقصى، بدول مثل اليابان والصين والهند، ولها ما لها من خلفيات ثقافية متباينة تمامًا، وفي الروسيا، حيث ظهر في زماننا هذا أسلوب جديد للتفكير، أسلوب جديد ينتمي إلى التطوُّرات العلمية الأوروبية في القرن التاسع عشر كما ينتمي إلى تقاليد روسية أُخرى مختلفة تمامًا. ولا يمكن بالطبع أن يكون الهدف من المناقشة التالية هو التنبُّؤ بالنتائج المحتملة للِّقاء بين أفكار الفيزياء الحديثة والتقاليد الأقدم، لكن قد يُمكننا تحديد النقاط التي قد يبدأ عندها التفاعُل بين الأفكار المختلفة.
نحن مؤكدًا لا نستطيع أن نفصل عملية اتساع الفيزيقا الحديثة هذه عن الاتساع العام للعلوم الطبيعية، وللصناعة والهندسة وللطب … إلخ. ونعني عمومًا للحضارة الحديثة بكل أرجاء العالم. إن الفيزيقا الحديثة هي مجرد حلقة واحدة في سلسلة طويلة من الوقائع بدأت منذ أعمال بيكون وجاليليو وكبلر، ومن التطبيقات العملية للعلوم الطبيعية في القرنين السابع عشر والثامن عشر. كان الارتباط بين العلوم الطبيعية والعلوم التقنية منذ البداية هو ارتباط العون المتبادل: فالتقدُّم في العلوم التقنية، وتحسين الأدوات، وابتكار الأجهزة التقنية الجديدة، كل هذا قد وفَّر الأساس لمعرفةٍ تجريبية بالطبيعة أكثر وأكثر دقَّة، كما أن التقدُّم في تفهُّم الطبيعة ثم الصياغة الرياضية للقوانين الطبيعية قد فتحا الطريق إلى تطبيقاتٍ جديدة لهذه المعرفة في العلوم التقنية. فابتكار التلسكوب مثلًا قد مكَّن الفلكيين من قياس حركة النجوم بشكلٍ أكثر دقَّةً عن ذي قبل، ومن هنا حدث تقدُّم ملحوظ في علم الفلك وفي الميكانيكا. من ناحية أخرى كان للمعرفة الدقيقة بالقوانين الميكانيكية قِيمتها الضخمة في تحسين الأدوات الميكانيكية وفي بناء المحركات … إلخ. بدأ الانتشار الكبير لهذا المزيج من العلوم الطبيعية والتقنية عندما نجح البعض في تطويع بعض قوى الطبيعة لخدمة الإنسان. فالطاقة المُخزنة في الفحم على سبيل المثال قد تؤدي بعض العمل الذي كان الإنسان يقوم به قبلًا … ومن الممكن أن نعتبر الصناعات التي نشأت عن هذه الإمكانات الجديدة امتدادًا طبيعيًّا للحِرَف القديمة، فعمل الآلة يُشبه، في نقاطٍ كثيرة، العمل اليدوي البشري. كما يمكن اعتبار العمل في مصانع الكيماويات امتدادًا لمصانع الصباغة والصيدلة في الأزمنة القديمة. ثم تطوَّرت فيما بعدُ فروع جديدة تمامًا من الصناعة لا نظير لها في الحرف القديمة، كالهندسة الكهربائية مثلًا. لقد مكَّن تغلغل العلم إلى المناطق الأبعد من الطبيعة، مكَّن المُهندسين أن يستخدموا قوى للطبيعة كانت قبلًا غير معروفة أو تكاد، وكان للمعرفة الدقيقة بهذه القوى في صورة صياغة رياضية للقوانين التي تحكمها، كان أن شكَّلت الأساس المتين لتشييد كل أنواع الآلات.
قاد النجاح الهائل لمزيج العلوم الطبيعية والتقنية إلى تفوُّق واضح لتلك الأمم والدول والمجتمعات التي ازدهر فيها هذا النوع من النشاط البشري، وكنتيجةٍ طبيعية لهذا، فقد أخذت به حتى بعض الأمم التي — بحكم تقاليدها — لم تكن تنزع إلى العلوم الطبيعية والتقنية، وأكملت وسائل الاتصال والنقل الحديثة، في نهاية الأمر، عملية انتشار الحضارة التقنية. ولا شكَّ أن هذه العملية قد غيَّرت أوضاع الحياة على الأرض تغييرًا جذريًّا؛ وسواء قبِلنا أو لم نقبل أسميناها تقدُّمًا أم أسميناها خطرًا، فإن علينا أن نُدرك أنها قد مضت داخل القوى البشرية لأبعد من مجال تحكُّمنا. ولربما اعتبرناها عمليةً بيولوجية على أوسع نطاقٍ تسطو فيها البِنى الفعَّالة للكائن البشري على نصيبٍ أكبر من المادة وتُحوله إلى صورةٍ ملائمة لزيادة عشيرة بني البشر.
تنتمي الفيزياء الحديثة إلى أحدث فروع هذا التطوُّر. أما جوهر هذا التطوُّر فقد عرَضه كأوضح ما يكون ابتكار الأسلحة الذرية — أكثر النتائج بروزًا، للأسف. من ناحية أخرى، فقد أظهرت بجلاء أننا لا يمكن أن ننظر بالنظرة المتفائلة وحدَها إلى التغيُّرات التي يستحضرها مزيج العلوم الطبيعية والتقنية. لقد بررت هذه التغيرات — جزئيًّا على الأقل — وجهات نظر من حذَّرونا دائمًا من أخطارِ مثل هذه التحولات الجذرية في الأوضاع الطبيعية للحياة. من ناحية أخرى سنجدها وقد أجبرت الدول أو الأفراد الذين حاولوا البقاء بعيدًا عن هذه الأخطار، أجبرتهم على أن يُوجِّهوا انتباههم إلى هذا التطور الحديث؛ فالواضح أن القوة السياسية، مُمثلة في القوة العسكرية، إنما ترتكز على امتلاك الأسلحة الذرية. والمؤكد أنْ ليس من مهام هذا الكتاب أن يُناقش بالتفصيل التضمينات السياسية للفيزيقا النووية. لكنا نستطيع على الأقل أن نخطَّ بضع كلماتٍ عن هذه المشاكل، لأنها أول ما يجول بالذهن إذا ما ذكرت الفيزياء الذرية.
الواقع أن ابتكار الأسلحة الجديدة، لا سيما الأسلحة الثرمونووية، قد غيَّرت التركيب السياسي للعالم تغييرًا جذريًّا لم يُصِب التغيُّر الحاسم فقط مفهوم الأمم أو الدول المستقلة. لأن كل أمة لا تمتلك مثل هذه الأسلحة لا بد أن تعتمد بشكلٍ أو بآخر على العدد القليل جدًّا من الدول التي تُنتجها بكمياتٍ وفيرة، وإنما سنجِد أيضًا أن المجازفة بحربٍ واسعة النطاق باستخدام هذه الأسلحة قد أصبحت نوعًا سخيفًا من الانتحار، وعلى هذا فإنَّا كثيرًا ما نسمع وجهة النظر المتفائلة التي تقول إن خطر الحرب قد زال، وإنها لن تقع مرة أخرى. لكن هذا للأسف تبسيط مُخل للغاية؛ فالعكس صحيح. إن استحالة الحرب بالأسلحة النووية قد تعمل كحافزٍ على الحروب الصغيرة. فإذا ما اقتنعت أمة أو جماعة سياسية بحقِّها التاريخي أو الأخلاقي في أن تفرض بالقوة تغييرًا ما في الوضع الراهن فستشعر أن استخدام الأسلحة التقليدية لغرَضها لن يجلب وراءه أية مخاطر كبيرة، ستفترض أن العدو بالتأكيد لن يلجأ إلى الأسلحة النووية، ذلك أن هذا العدو المُخطئ تاريخيًّا وأخلاقيًّا لن يجرؤ على حربٍ واسعة النطاق. وهذا الوضع سيغري بدوره الدول الأخرى أن تقول إنه إذا ما شنَّ عليها المعتدون حربًا صغيرة فسيكون الرد بالأسلحة النووية. الواضح إذن أن الخطر باقٍ. من الجائز جدًّا — بعد نحو عشرين أو ثلاثين عامًا من الآن — أن يحدث في العالم تغيُّرات ضخمة تخفض كثيرًا أو تمنع تمامًا خطر الحروب الكبيرة، خطر استخدام كل الموارد التقنية لإبادة الخصم، لكن الطريق إلى هذا الوضع الجديد يمتلئ بالمخاطر الهائلة. لا بد أن نُدرك — كما أدركنا في كل الأزمنة السابقة — أن ما يبدو شرعيًّا لجانب — تاريخيًّا وأخلاقيًّا — قد يبدو باطلًا للجانب الآخر. ولن يكون بقاء الوضع على ما هو عليه هو الحل الصحيح دائمًا، على العكس من ذلك، فقد يكون من المُهم أن نجد وسيلةً سلمية للتعديل إلى أوضاع جديدة. وقد يصعب في الكثير من الحالات أن نصِل إلى أي قرارٍ عادل. وعلى هذا فربما لا يكون من التشاؤم أن نقول إننا لا نستطيع أن نتجنَّب الحرب الكبيرة إلا إذا كانت كل الجماعات السياسية المختلفة مستعدةً للتخلِّي عن بعض ما تراه حقًّا واضحًا لها — وذلك بالنظر إلى حقيقة أن موضوع الحق والباطل أمر تتباين فيه رؤية الطرفين. هذه مؤكدًا ليست وجهة نظر جديدة، إنها في الحقيقة تطبيق لذلك الموقف الذي علَّمتنا إياه الأديان العظيمة، من قرونٍ بعيدة.
أثار ابتكار الأسلحة النووية أيضًا مشاكل جديدة تمامًا للعلم والعلماء. غدا الأثر السياسي للعلم أكبر بكثير مما كان له قبل الحرب العالمية الثانية. ولقد وضعت هذه الحقيقة على كاهل العالِم مسئوليةً مزدوجة، لا سيما العالم الفيزيائي. فهو إما أن يتَّخذ دورًا نشطًا في إدارة بلده بشأن أهمية العلم للمجتمع، وهنا سيواجه في نهاية المطاف مسئولية اتخاد قرارات ذات وزنٍ رهيب تمضي لأبعد من دائرة بحثِه الضيِّقة وعمله الجامعي الذي تعوَّد عليه، أو أن ينسحب طوعًا من الاشتراك في اتخاذ القرارات، وهنا سيظل مسئولًا عن أية قرارات خاطئة اتُّخذت كان في مقدوره، لو أراد، أن يمنعها إذا لم تكن الحياة الناعمة للعلماء قد راقته. الواضح أن مهمة العلماء أن يُخبروا حكوماتهم بالتفصيل عن الخراب الذي لم يسبق له مثيل الذي سيحلُّ إذا نشبت حرب بالأسلحة النووية، ثم إن العلماء كثيرًا ما يُطلب منهم الاشتراك في وضع القرارات الجليلة من أجل السلام العالمي، لكني لا بد أن أعترف، بالنسبة لهذا الأمر الأخير، أنني أبدًا لم أجد معنًى لأية تصريحاتٍ من هذا القبيل. قد تبدو هذه القرارات إثباتًا طيبًا لحُسن النية، لكن كل من يتحدث عن السلام دون أن يُحدد بدقة شروطه، لا بدَّ أن نرتاب فورًا في أنه إنما يعني ذلك النوع من السلام الذي يُفيده هو وجماعته — وهذا بالطبع سلام لا جدوى منه على الإطلاق. إن أيَّ إعلان مُخلص للسلام لا بدَّ أن يتضمن قائمةً بما نحن مستعدُّون أن نُضحي به من أجل الحفاظ على السلام. وليس لدى العلماء — كقاعدة — السلطة للإدلاء بتصريحاتٍ من هذا النوع.
يستطيع العالم في نفس الوقت أن يقوم بما يُمكنه لتشجيع التعاون الدولي في هذا المجال. إن الأهمية القصوى لارتباط العديد من الحكومات بالبحث في الفيزياء النووية في أيامنا هذه، وحقيقة أنَّ مستوى العمل العلمي ما يزال يتباين كثيرًا بين الدول المختلفة، إنما تُزكيان التعاون الدولي في هذا المجال. ولقد يتجمع شباب العلماء من الدول المختلفة في معاهد بحثية يجري بها نشاط كبير في مجال الفيزياء الحديثة. عندئذٍ سيشجع العمل المشترك في المشاكل العلمية الصعبة، التفاهم المُتبادَل بينهم. ثمة حالة حدثت في منظمة جنيف أمكن فيها بالمجهود المشترك التوصُّل إلى اتفاقٍ بين عددٍ من الدول لتشييد معمل عام، ولبناء التجهيزات التجريبية الغالية الثمن للبحث في الفيزياء النووية. سيُساعد مثل هذا النوع من التعاون بالتأكيد في بناء موقفٍ عامٍّ نحو مشاكل العلم — بل وشائع حتى لأبعد من المشاكل العلمية البحتة — بين أفراد الجيل الجديد من العلماء. طبيعي أننا لا نعرف مسبقًا ماذا سينمو عن البذور التي بذرت بهذه الطريقة عندما يعود العلماء إلى بيئاتهم الأصلية ويشاركون في تقاليدهم الثقافية. لكنَّا لا نشك في أنَّ تبادل الأفكار بين شباب العلماء من الأقطار المختلفة ومن الأجيال المختلفة في كل قطر سيساهم في الوصول، دون الكثير من التوتر، إلى وضعٍ متزن ما بين القوى التقليدية القديمة وبين الحاجات الملحَّة للحياة المعاصرة. ثمة ملمح من ملامح العلم يجعل منه الأكثر ملاءمةً لتوطيد أول رابطة قوية بين التقاليد الثقافية المختلفة. ذلك هو حقيقة أن الأحكام النهائية حول قيمة أي عملٍ علمي، حول ما هو صحيح وما هو خاطئ فيه، لا تعتمد على سلطة إنسان، فلقد يتطلب الأمر أحيانًا سنينَ طويلة قبل أن نصِل إلى حلٍّ لمشكلة، قبل أن نستطيع أن نُميز الصحيح من الخاطئ، ولكنا نستطيع في النهاية أن نفصل في القضية، ويكون القرار من صنع الطبيعة لا من صنع أية جماعة من العلماء. لذا تنتشر الأفكار العلمية بين المهتمين بالعلم بطريقة تختلف تمامًا عن طريقة انتشار الأفكار السياسية.
وبينما يمكن للأفكار السياسية أن تحظى بتأثيرٍ مُقنع على الجماهير الغفيرة من الناس لمجرد أنها تتوافق — أو يبدو أنها تتوافق — مع الاهتمامات السائدة لديهم، فإن الأفكار العلمية تنتشر فقط بسبب كونها صحيحةً. ثمة معايير موضوعية وغائية تؤكد صحة التعبير العلمي.
وكل ما قيل هنا عن التعاون الدولي وتبادل الأفكار لا شك ينطبق أيضًا على أي فرعٍ من أفرع العلم الحديث. إنه ليس مقصورًا بالتأكيد على الفيزياء الذرية. فالفيزيقا الحديثة — في هذا الخصوص — ليست سوى واحدٍ من أفرع كثيرة من العلم. وحتى لو كانت تطبيقاتها التقنية تُضفي وزنًا خاصًّا لهذا الفرع — الأسلحة والاستخدام السلمي للطاقة الذرية — فليس ثمة من سببٍ لكي نعتبر أن للتعاون الدولي في هذا المجال أهمية تفوق أهميته في أي مجالٍ آخر. لكن علينا الآن أن نُناقش ملامح الفيزياء الحديثة التي تختلف جوهريًّا عن التطور السابق في العلوم الطبيعية، وعلينا إذن أن نعود مرة أخرى إلى التاريخ الأوروبي لهذا التطوُّر الذي نشأ عن مزيج العلوم الطبيعية والتقنية.
ناقش رجال التاريخ كثيرًا قضية ما إذا كانت ثورة العلوم الطبيعية بعد القرن السادس عشر هي مجرد نتيجة طبيعية لما سبقها من اتجاهات في التفكير البشري. يُمكننا أن نقول إن ثمة اتجاهات مُعينة في الفلسفة المسيحية قد أدَّت إلى مفهوم مجرد للغاية عن الإله، أنها قد وضعت الإله بعيدًا فوق العالم حتى ليبدأ الفرد في تأمُّل العالم الخارجي، دون أن يرى الإله أيضًا — في الوقت نفسه — في العالم، ولقد نعتبر أن القسمة الديكارتية هي الخطوة الأخيرة في هذا التطور، وقد نقول أيضًا إن كل الخلافات اللاهوتية بالقرن السادس عشر قد سبَّبت استياءً عامًّا بالنسبة لمشاكل لم تُحسَم بالعقل، وتعرَّضت للصراعات السياسية في ذلك الزمن وإن هذا الاستياء قد وجَّه الاهتمام إلى المشاكل البعيدة تمامًا عن الجدل اللاهوتي، وربما كان لنا أيضًا أن نُشير إلى ذلك النشاط الهائل، تلك الروح الجديدة التي دبَّت في التجمُّعات الأوروبية خلال عصر النهضة، على أية حال، فلقد ظهرت في تلك الحقبة سلطة جديدة مُستقلة تمامًا عن الدين المسيحي والفلسفة المسيحية والكنيسة، تلك هي سلطة الخبرة، سلطة الواقع التجريبي. يُمكننا أن نرجع بهذه السلطة إلى أقدم الاتجاهات الفلسفية، سنجدها مثلًا في فلسفة أوكام، وضنس سكوطس، لكنها لم تصبح قوة حيوية للنشاط الإنساني إلَّا من القرن السادس عشر. لم يفكر جاليليو فقط في الحركات الميكانيكية، في البندول والحجر الساقط، إنما حاول بالتجربة أن يعرف كميًّا، كيف تحدُث هذه التحركات. والمؤكد أن هذا النشاط الجديد لم يكن في بداياته انحرافًا عن الدين المسيحي التقليدي، على العكس، لقد نتحدث عن نوعَين من الوحي الإلهي؛ أحدهما في الإنجيل مكتوب، والآخر في كتاب الطبيعة موجود. كتب الإنسان الكتاب المقدس، ومِن ثم فقد كان عرضةً للخطأ، أما الطبيعة فهي التعبير المباشر لأغراض الإله.
ارتبط التأكيد على الخبرة بتغيُّرٍ بطيءٍ تدريجي في وجه الواقع، فما نُسميه الآن المعنى الرمزي للشيء، كان يُعتبر في العصور الوسطى — بشكلٍ ما — واقعًا أوليًّا للشيء. لقد تغير وجه الواقع في اتجاه ما يمكن أن نُدركه بحواسِّنا. فما يمكن أن نراه ونلمسه قد أصبح الواقع الأولي. ومِن الممكن أن نربط مفهوم الواقع هذا بنشاطٍ جديد: في مقدورنا أن نُجرب ونرى واقع الأشياء. من السهل أن نرى أن هذا الموقف يعني تحوُّل الذهن البشري إلى مجالٍ عريض من الإمكانات الجديدة، ومن السهل أن نفهم لماذا وجدت الكنيسة في هذه الحركة الجديدة الأخطار لا الآمال. وتُمثل المحاكمة الشهيرة لجاليليو، بسبب آرائه في النظام الكوبرنيكي، بداية صراعٍ استمر أكثر من قرن. في هذا الخلاف يمكن لمُمثلي العلوم الطبيعية أن يُحاجُّوا بأن التجربة تُقدِّم حقيقة لا تقبل الجدل، أنه ليس ثمة لسلطة بشرية أن تُقرر ما يحدث بالفعل في الطبيعة، أن القرار هو قرار الطبيعة، أو — في هذا المعنى — هو قرار الإله، أما مُمثلو الدين التقليدي فقد حاجوا بأن الاهتمام البالغ بالعلم المادي، بما نُدركه بحواسنا، سيؤدي إلى أن نفقد الصلة بالقِيَم الجوهرية للحياة الإنسانية، بذلك الجزء من الواقع الأسمى مِن العالم المادي. هاتان الحُجَّتان لا تتلاقيان. لم تُحسَم المشكلة إذن باتفاقٍ أو حكم.
في غضون ذلك كانت العلوم الطبيعية تتقدم لتصل إلى صورةٍ للعالم المادي أوضح وأوسع. كان لهذه الصورة في الفيزيقا أن توصف باستخدام تلك المفاهيم التي نُسميها في أيامِنا هذه مفاهيم الفيزيقا الكلاسيكية. يتألَّف العالم من أشياء في المكان والزمان، والأشياء تتألَّف من مادة، والمادة تُنتِج القوى وتتأثر بها. تنشأ الوقائع عن التفاعُل بين المادة والقوى، فكل واقعة هي نتيجة وعلَّة لوقائع أخرى. في نفس الوقت تغيَّرَ موقف الإنسان من الطبيعة من موقف تأمُّلي إلى موقف برجماتي. فنحن لا نهتم بالطبيعة كطبيعة، إنما نسأل عما يمكن أن نفعل بها. وعلى هذا فقد تحوَّلت العلوم الطبيعية إلى علوم تقنية، وارتبط كل تقدُّم في المعرفة بالفائدة العملية التي تعود علينا منه. ولم يكن هذا صحيحًا فقط في الفيزياء، فلقد كان الموقف مشابهًا في الكيمياء والبيولوجيا. وأسهم نجاح المناهج الجديدة في الطب وفي الزراعة في نشر الاتجاهات الجديدة.
بهذه الطريقة طوَّر القرن التاسع عشر في النهاية إطارًا للعلوم الطبيعية غاية في الصلابة، إطارًا شكَّل العلم مثلما شكَّل وجهة النظر العامة لكُتَلٍ غفيرة من البشر. دعمت هذا الإطارَ المفاهيمُ الجوهرية للفيزياء الكلاسيكية، الفضاء والزمان والمادة والعلِّية. كان مفهوم الواقع يسري على الأشياء أو الوقائع التي يمكن أن نُدركها بحواسِّنا أو التي يمكن ملاحظتها عن طريق الأدوات الدقيقة التي وفَّرها العلم التقني. كانت المادة هي الواقع الأولي، وصُوِّر التقدم العلمي على أنه حملة غزو لعالَم المادة. كانت المنفعة هي شعار تلك المرحلة.
لكن هذا الإطار كان من الضِّيق والصرامة حتى ليصعُب أن نجد فيه مكانًا للكثير من مفاهيم لُغتنا، المفاهيم التي انتسبت دائمًا إلى جوهر اللغة ذاته، مثل مفهوم الذهن ومفهوم روح الإنسان ومفهوم الحياة. لم يعُد في الإمكان إدخال الذهن إلى الصورة العامة إلَّا كمرآة لعالم المادة. وعند دراسة خصائص هذه المرآة في علم السيكولوجيا، فثمَّة ما يُغري العلماء دائمًا — إذا كان لي أن أمضي في التشبيه — أن يهتمُّوا بخصائصها الميكانيكية لا البصرية، بل ولقد حاولوا حتى هنا أن يُطبقوا مفاهيم الفيزياء الكلاسيكية، مفهوم العلِّية في المقام الأول. بنفس الشكل كانت الحياة تُفسَّر كعملية فيزيقية كيماوية تتحكَّم فيها القوانين الطبيعية وتحكُمها العلِّية تمامًا. ولقد وفَّر مفهوم التطوُّر لداروين شواهد كثيرة لهذا التفسير، وبصورةٍ خاصة، كان من الصعب أن نجد في هذا الإطار مكانًا لتلك الأجزاء من الواقع التي كانت موضوع الدين التقليدي ثم تحوَّلت الآن لتُصبح خيالات. وعلى ذلك فقد ثار عداء صريح ضد العِلم في تلك الدول الأوروبية التي تعوَّدت تتبُّع الأفكار حتى نتائجها، وحتى في غير هذه مِن الدول كان ثمَّة اتجاه مُتزايد نحو اللامبالاة بمِثل هذه القضايا. لم يُستَثْنَ مِن هذا الاتجاه إلا القِيَم الأخلاقية بالدين المسيحي، على الأقل في ذلك الوقت. كانت الثقة في المنهج العلمي وفي التفكير العقلي قد حلَّت محلَّ سواها ممَّا يحمي الذهن البشري.
فإذا عدنا الآن إلى مساهمات الفيزياء الحديثة، فلقد نقول إن أهم ما أحدثته نتائجها من تغيُّرات هو القضاء على الإطار الصارم من مفاهيم القرن التاسع عشر. والحقيقة أن ثمة الكثير من المحاولات قد بُذِلت للتخلُّص من هذا الإطار، الذي بدا أضيقَ من أن يسمح بتفهُّم الأجزاء الجوهرية من الواقع، لكنَّ أحدًا لم يتمكن من معرفة أوجه الخطأ في المفاهيم الجوهرية — كمفهوم المادة، والفضاء، والزمن، والعلِّية — التي نجحت تمامًا على طول تاريخ العلم. لم يكن غير البحث التجريبي نفسه — ذلك الذي يُجرَى بكلِّ الأدوات المُنقحة التي أمكن للعِلم التقني تقديمها — وغير تفسيره الرياضي، ما يستطيع أن يوفر الأساس لتحليلٍ نقدي لهذه المفاهيم — ولقد نقول: أن يُفرض التحليل النقدي بالقوة — لينتهي في آخر المطاف بانهيار ذلك الإطار الصارم.
ولقد وقع هذا الانهيار على مرحلتَين مميزتَين؛ كانت الأولى — ومن خلال نظرية النسبية — هي اكتشاف أن المفاهيم الأساسية، مثل الفضاء والزمن، يُمكن أن تُغيَّر، بل ويجب في الحقيقة أن تُغيَّر بسبب الخبرة الجديدة. لم يكن هذا التغيُّر يتعلق بمفهومَي الفضاء والزمن في اللغة المألوفة، الغامضين بعض الشيء، لكنه كان يختصُّ بصياغتهما الدقيقة في اللغة العلمية لميكانيكا نيوتن التي اعتُبرت — خطأً — نهائية. أما المرحلة الثانية فقد كانت مناقشة مفهوم المادة الذي فرضته النتائج التجريبية الخاصة بِبنية الذرة. ربما كانت فكرة واقعية المادة هي أقوى أجزاء ذلك الإطار الصارم لمفاهيم القرن التاسع عشر. كان من الضروري أن تُحوَّر هذه الفكرة على الأقل بالنسبة للخبرة الجديدة. ومرة أخرى بقِيَت المفاهيم دون أن تُمَس في اللغة المألوفة. لم يكن ثمَّة صعوبة في التحدُّث عن المادة أو عن الوقائع أو عن الواقع، عند وصف التجارب الذرية ونتائجها. لكنَّ الاستقراء العلمي لهذه المفاهيم في أصغر أجزاء المادة لا يُمكن أن يتم بالطريقة البسيطة التي تقترحها الفيزياء الكلاسيكية، إن يكن قد حَدَّد — خطأً — النظرة العامة إلى مشكلة المادة.
بادئ ذي بدءٍ علينا أن نعتبر هذه النتائج الجديدة تحذيرًا بألَّا نفرض تطبيقات المفاهيم العلمية قسرًا في ميادين لا تنتمي إليها. فتطبيق مفاهيم الفيزيقا الكلاسيكية، في الكيمياء مثلًا كان خطأً. وعلى هذا فإنَّا لا نميل اليوم إلى التأكيد بإمكان تطبيق مفاهيم الفيزياء، بل وحتى مفاهيم نظرية الكم، في كل مجال بالبيولوجيا أو غيرها من العلوم. على العكس من ذلك، سنحاول أن نُبقي الباب مفتوحًا لدخول مفاهيم جديدة، حتى في تلك الأفرع من العلم التي أفادت المفاهيم القديمة فيها كثيرًا، في تفهُّم الظواهر. وفي تلك المواضع، على وجه الخصوص، التي يبدو أن تطبيق المفاهيم الأقدم فيها يتم قسرًا، أو التي تبدو غير كافية تمامًا للمشكلة، حتى في هذه، علينا أن نحاول تجنُّب أي استنباطات مُتسرعة.
من أهم ملامح تطوُّر وتحليل الفيزياء الحديثة، هناك تلك الخبرة بأن مفاهيم اللغة المألوفة — وبها ما بها من غموض التعريف — تبدو أكثر ثباتًا عند اتساع المعرفة، مقارنة بالمصطلحات الدقيقة للغة العلمية المُشتقة عن مجاميع محدودة من الظواهر. وهذا في الواقع ليس بمُستغرَب لأن مفاهيم اللغة الاعتيادية إنما تتشكَّل عن الاتصال المباشر بالواقع، إنها تُمثل الواقع. من الصحيح أنها ليست مُحددة تمامًا، ومِن ثَم فقد تتغير مع الزمن، تمامًا مثل الواقع نفسه، لكنها لا تفقد أبدًا الصِّلة المباشرة بالواقع. أما المفاهيم العلمية فهي على العكس، قد جُعِلت مثالية. إنها تُشتَق من خبرة نُحصلها بأدوات تجريبية مُحسَّنة، وهي دقيقة التحديد ببديهيَّاتها وتعريفاتها. ومن خلال هذه التعريفات الدقيقة يمكن أن نربط المفاهيم بالمشروع الرياضي، وأن نشتقَّ رياضيًّا ذلك التنوُّع اللانهائي من الظواهر الممكنة في هذا المجال. لكنا، بالتعريف الدقيق وبِجعلِها مثالية، نفقد الارتباط المباشر بالواقع. ستظلُّ المفاهيم تُناظِر الواقع كثيرًا في ذلك الجزء من الطبيعة الذي وُضِع تحت البحث، لكنَّا قد نفقد التناظُر في أجزاء أخرى تشمل مجاميع أخرى من الظواهر.
فإذا ما تذكَّرنا الثبات الأصيل لمفاهيم اللغة العادية في عملية التطوير العلمي، فسنجد، بعد خبرة الفيزياء الحديثة، أن موقفنا نحو مفاهيم كالذِّهن أو روح الإنسان أو حياته، أو الإله، سيختلف عن موقف القرن التاسع عشر، لأن هذه المفاهيم تنتمي إلى اللغة العادية، ولها بالتالي ارتباط مباشر بالواقع. من الصحيح أننا سنُدرك أيضًا أن هذه المفاهيم ليست مُحددة تمامًا بالمعنى العلمي، وأن تطبيقها قد يقود إلى تناقُضات مختلفة، لكن علينا في الوقت الحالي أن نأخُذها كما هي دون تحليل، عارِفين أنها تلمس الواقع. ولقد يكون من المُفيد في هذا الخصوص أن نتذكَّر أننا حتى في أكثر فروع العلم دقة — في الرياضة — لا نستطيع أن نتجنَّب استخدام مفاهيم تتضمَّن تناقُضات؛ فمن المعروف مثلًا أن مفهوم اللانهاية يؤدي إلى تناقُضات أمكن تحليلها. لكن مِن المُستحيل أن نبني الأجزاء الأساسية للرياضة دون هذا المفهوم.
كان الاتجاه العام للتفكير البشري بالقرن التاسع عشر ينحو إلى الثقة المتزايدة في المنهج العلمي وفي المصطلحات العقلية الدقيقة، كما قاد إلى ارتيابية عامَّة فيما يتعلق بمفاهيم اللغة العادية التي لا تُلائم الإطار المُغلق للتفكير العلمي — مفاهيم الدِّين على سبيل المثال. لقد تسبَّبت الفيزياء الحديثة بطُرقٍ شتَّى في زيادة هذه الارتيابية، لكنها في نفس الوقت حوَّلتها ضد المُغالاة في تقدير المفاهيم العلمية الدقيقة، ضد وجهة نظر مُغالية في التفاؤل بالنسبة للتقدُّم على وجه العموم، ثُم في النهاية ضد الارتيابية نفسها. والارتيابية ضد المفاهيم العلمية الدقيقة لا تعني ضرورة وجود حدٍّ مُعين لتطبيق التفكير العقلي. على العكس، فربما جاز لنا القول إن القدرة البشرية على الفَهم قد تكون، بمعنًى ما، لا محدودة. لكن المفاهيم العلمية الموجودة لا تُغطي دائمًا إلَّا مجالًا محدودًا للغاية من الواقع. أما الجزء الباقي الذي لم يُفهم بعدُ فهو لامُتناهٍ، فحيثما تقدَّمنا من المعروف إلى المجهول، فقد نأمُل أن نفهم، لكن قد يكون علينا أيضًا أن نتعلم في نفس الوقت معنًى جديدًا لكلمة «الفهم». إننا نعرف أن أيَّ فهمٍ لا بد أن يرتكز في النهاية على اللغة العادية؛ ففيها فقط يُمكننا التأكُّد من أننا نلمس الواقع، ومِن ثَم فلا بد أن نرتاب في الارتيابية، فيما يتعلَّق بهذه اللغة الطبيعية ومفاهيمها الجوهرية. وعلى هذا فقد نستخدِم هذه المفاهيم كما كانت تُستعمَل طول وقت. بهذه الطريقة ربما كانت الفيزياء الحديثة قد فتحت الباب لنظرةٍ أوسع على العلاقة بين الذهن البشري والواقع.
يتوغَّل هذا العلم الحديث إذن في أيامنا هذه إلى مناطق أخرى من العالم، حيث التقاليد الثقافية تختلف تمامًا عن الحضارة الأوروبية. وهناك لا بدَّ أن يظهر أثر هذا النشاط الجديد في العلوم الطبيعية والتقنية بشكلٍ أقوى بكثيرٍ من أوروبا، لأن تغيُّر ظروف الحياة الذي استغرق في أوروبا قرنَين أو ثلاثة سيتم هناك خلال بضعة عقود. ولنا أن نتوقَّع أن يبدو هذا النشاط الجديد في مواقع كثيرة كتدهورٍ في الثقافة القديمة، كموقف بربري قاسٍ يُقلق التوازن الحساس الذي عليه ترتكز السعادة البشرية. لا يمكن تجنُّب مثل هذه النتائج ولا بد أن تُؤخَذ كسِمَةٍ من سمات زماننا هذا. لكن، حتى هنا، سنجد أن انفتاح الفيزيقا الحديثة قد يساعد إلى حدٍّ ما في التوفيق بين التقاليد القديمة والاتجاهات الحديثة في الفكر. وعلى سبيل المثال فإن ما قامت به اليابان من إسهامٍ علمي كبير في مجال الفيزياء النظرية منذ الحرب الأخيرة قد يُعتبَر دليلًا على وجود علاقة ما بين الأفكار الفلسفية في تقاليد الشرق الأقصى وبين الجوهر الفلسفي لنظرية الكم. وقد يكون من الأبسط أن نُكيف أنفسنا مع مفهوم الواقع الكمَّاتي النظري إذا لم نتَّخذ طريقة التفكير المادية الساذجة التي كانت تعمُّ أوروبا في العقود الأولى من هذا القرن.
طبيعيٌّ أنه لا يصحُّ أن نُسيء فهم مثل هذه الملاحظات فنعتبرها تهوينًا من شأن الدمار الذي قد يحدث، أو الذي قد حدث، للتقاليد الثقافية القديمة تحت تأثير التقدُّم التقني. لكن لمَّا كان هذا التطوُّر قد تجاوز سيطرة القوى البشرية من زمان بعيد، فعلينا أن نقبله كملمحٍ من أهم ملامح عصرنا، وعلينا أن نحاول أن نربطه، للمدى المُمكن، بالقِيَم البشرية التي كانت دائمًا هدف التقاليد القديمة، الثقافية والدينية. وربما كان لنا أن نستشهد بالقصة التالية: كان هناك حاخام (رابي) يهودي مشهود له بالحكمة، إليه يلجأ الناس طلبًا للنصيحة. زارَه يومًا رجل أصابه اليأس بسبب كل ما جرى حوله من تغيُّرات، وأخذ يحكي في أسًى عما وقع له من أضرار من جرَّاء ما يُسمى بالتقدُّم التقني. صاح مستنكرًا: ما فائدة كل هذه التقنيات المُزعجة بالنسبة للقِيَم الحقة للحياة؟ أجابه الرابي «قد يكون الأمر كذلك، لكنك لو اتخذت الموقف الصحيح فسيُمكنك أن تتعلم من كل شيء.» ردَّ الزائر «كلَّا! ماذا يُمكن أن أتعلم من أشياء تافهة كقطارات السكة الحديد أو التليفون أو التلغراف؟» أجاب الرابي «إنك مُخطئ، فمن القطارات يمكنك أن تتعلم أنك قد تفقد كل شيء بسبب لحظة تأخير. ومن التلغراف يُمكنك أن تعرف أن لكلِّ كلمة ثمنًا ويمكنك من التليفون أن تتعلَّم أن ما تقوله هنا قد يُسمع هناك.» فَهِم الزائر ما يَعنيه الرابي ومضى.
وأخيرًا، فلقد تغلغل العلم الحديث في تلك المناطق الواسعة من عالَمنا المعاصر الذي نشأت فيه المذاهب الحديثة من عقود قليلة، كأساسٍ لمُجتمعات جديدة قوية. في هذا العالم يواجِه العلم الحديث مُحتَوى المذاهب — التي تعود إلى الآراء الفلسفية الأوروبية للقرن التاسع عشر (هيجل وماركس) — كما يواجِه أيضًا ظاهرة العقيدة المُتزمِّتة. ولمَّا كان من الضروري أن تلعب الفيزياء دورًا كبيرًا في هذه الدول بسبب تطبيقاتها العملية، فمِن الصعب على من تفهَّم الفيزياء الحديثة ومعناها الفلسفي أن يتجنَّب الشعور بضيق هذه المذاهب. وعلى هذا فقد يحدُث هنا التفاعُل بين العلم والاتجاه العام للفِكر. طبيعي أنه لا يجوز أن نُبالغ في تقدير أثر العلم، لكن انفتاح العلم الحديث قد يُسهِّل حتى على الجماهير الغفيرة أن ترى أن المذاهب قد لا يكون لها ما افتُرِض من أهمية بالنسبة للمجتمع. بهذه الطريقة فإن أثر العِلم الحديث قد يُزكي موقفًا متسامحًا، ومِن ثم فقد تثبت قيمته.
من ناحية أخرى سنجد أن لظاهرة العقيدة المُتزمتة وزنًا أكبر بكثير من بعض الأفكار الفلسفية للقرن التاسع عشر، لا يُمكننا أن نتجاهل حقيقة أنه من النادر أن تكون لدى الغالبية العظمى من الناس أية أحكام واضحة خاصة بصحة أفكار مُعينة عامة أو مذاهب. وعلى هذا فإن كلمة «العقيدة» قد لا تعني، بالنسبة لهذه الأغلبية، إدراك حقيقة شيءٍ ما، وإنما تُفهم على أنها «اعتبار هذا أساسًا للحياة». يُمكننا بسهولة أن نفهم أن هذا الضرب الثاني من العقيدة هو الأكثر رسوخًا وثباتًا، وأنه يصمد حتى أمام المُتناقضات في الخبرة المباشرة، ومِن ثم فلا تهزُّه المعرفة العلمية المضافة. يوضح تاريخ العقدين الماضيين أمثلةً كثيرة على أن البعض قد يعتنقون الضرب الأخير من العقيدة، لدرجة تبدو مُنافية تمامًا للعقل، فلا ينتهي إلَّا بالوفاة. ويُعرفنا العلم والتاريخ أن هذا الضرب من العقيدة قد يُصبح خطرًا جسيمًا على من يعتنقه، لكن قد لا يكون لمِثل هذه المعرفة أية جدوى، إذ ليس ما يدلُّنا على وسيلة لتجنُّبها. وعلى هذا فسنجِد أن مثل هذه العقيدة دائمًا ما تنتمي إلى القوى المُحركة في تاريخ البشر. فإذا نظرنا إلى التقاليد العلمية للقرن التاسع عشر، فقد نأمُل أن تُبنى كل المعتقدات على التحليل العقلي لكل حجَّة، على تروٍّ دقيق، وأن الواجب ألَّا يوجَد أصلًا هذا الضرب الثاني من العقيدة — الذي تؤخَذ فيه حقيقة ما، واقعية أو ظاهرية، أساسًا للحياة. إن التروي الحذر المبني على الحُجج العقلية الخالصة قد يُجنِّبنا الكثير من الأخطاء والأخطار، لأنه يسمح بإعادة التكيُّف مع الأوضاع الجديدة — وقد يكون هذا شرطًا ضروريًّا للحياة. فإذا رجعنا إلى خبرتنا مع الفيزياء الحديثة، فمن السهل أن نرى ضرورة أن يُوجَد دائمًا تتامٌّ جوهري بين التروي وبين القرار. سيصعب دائمًا في القرارات العملية بحياتنا أن نُعالج كل الحجج في صفِّ قرارٍ أو ضده، وعلى ذلك فإنا عادة ما نتصرَّف على أساس بيِّنةٍ غير كافية. نتخذ القرار في النهاية بإهمال كلِّ الحجج — ما فهمناه منها وما قد يظهر بالتروي — وبالتوقُّف عن أي تأمُّل أبعد. وقد يكون القرار نتيجة التروي، لكنه سيكون في نفس الوقت متمِّمًا للتروي، هو يستبعِد التروي. إن عنصر اللامعقولية المحتوم هذا موجود حتى في أهم قرارات حياتنا. والقرار في حدِّ ذاته ضروري، فلا بد من وجود ما نركن إليه، مبدأ ما يوجه أفعالنا. وبدون موقف واضح تفقد أفعالنا كل قِيمتها. وعلى هذا فلا يمكن أن نتفادى القول بأن ثمَّة حقيقة — واقعية أو ظاهرية — تُشكل أساس الحياة. ولا بد أن نُسلم بهذه الحقيقة فيما يتعلق بمن يدينون بمبدأ يختلف عن مبدئنا.
فإذا تساءلنا عما نستنبطه من كل ما قيل عن العلم الحديث، فربما كان لنا أن نُقرر أن الفيزياء الحديثة ليست سوى فرع واحد — إن يكن مميزًا للغاية — من عملية تاريخية عامة تتَّجه إلى توحيد وتوسيع عالمنا المعاصر. وستقود هذه العملية في ذاتها إلى تناقُض تلك التوترات الثقافية والسياسية التي تصنع أكبر أخطار زماننا. لكنها تصطحب معها عمليةً أخرى تعمل في اتجاه مضاد. لقد أدركت معظم الجماهير عملية التوحيد هذه، وهذا سيؤدي إلى إثارة كل قوى المجتمعات الثقافية الموجودة لتحاول أن تضمن أكبر دورٍ ممكن لقِيَمها التقليدية في الوضع النهائي للتوحيد. بهذا ستتزايد التوترات، إذ إن العمليتين المتنافستين مُرتبطتان ارتباطًا وثيقًا بعضهما ببعض حتى إن أي تكثيفٍ في عملية التوحيد — عن طريق التقدم التقني الحديث مثلًا — سيُكثف أيضًا الصراع على التأثير في الوضع النهائي، وبذا يُضيف إلى قلقلة الوضع الانتقالي. ربما كان دور الفيزياء صغيرًا في عملية التوحيد الخطرة هذه لكنها تُفيد في نقطتَين حاسمتَين تمامًا في توجيه التحرُّك نحو نوعٍ من التطوُّر أكثر هدوءًا، فهي تُبين أولًا أن استخدام السلاح في العملية سيكون بمثابة كارثة. وهي ثانيًا، ومن خلال انفتاحها على كل أنواع المفاهيم، تُثير الأمل في تعايُش الكثير من التقاليد الثقافية المختلفة، عند الوضع النهائي للتوحيد، وفي تجميع المُحاولات البشرية المختلفة في شكلٍ جديد من التوازن بين الفكر والعمل بين النشاط والتأمُّل.