تاريخ نظرية الكم
ترتبط نظرية الكم بمظاهر معروفة لا تنتمي إلى الأجزاء الرئيسية من الفيزياء الذرية. فإذا ما سخَّنت أي قطعة من المادة، فإنها تبتدئ في التوهُّج، وبارتفاع الحرارة تلتهبُ ويحمرُّ لونُها ثم يزداد اتِّقادها فتبيضُّ. ولا يعتمد اللون كثيرًا على سطح المادة، وهو في الأجسام السوداء يتوقَّف تمامًا على درجات الحرارة، وعلى هذا فإن الإشعاع المنبعث من مثل هذه الأجسام السوداء على درجات الحرارة المُرتفعة يُعتبر مادةً ملائمة للبحث الفيزيائي. إنه ظاهرة بسيطة يجِب أن تجِد تفسيرها البسيط في القوانين المعروفة للإشعاع والحرارة؛ على أن المحاولة التي قام بها اللورد رايلي وجينس في نهاية القرن التاسع عشر قد فشلت وكشفت عن صعوباتٍ خطيرة. لن يكون من السهل أن نصِف هنا هذه الصعوبات في عباراتٍ بسيطة، ويكفي فقط أن نذكُر أن تطبيق القوانين المعروفة لم يؤدِّ إلى نتائج معقولة. وعندما دخل بلانك هذا المجال من البحث عام ۱۸۹٥م حاول أن يحوِّل المشكلة من الإشعاع إلى الذرة المُشعَّة. بيد أن هذا لم يؤدِّ إلى إزالة أيٍّ من الصعوبات المُلازمة للمشكلة، لكنه بسَّط تفسير الحقائق التجريبية. في هذا الوقت بالذات — في صيف عام ۱۹۰۰م — قام كرلباوم وروبنس في برلين بإجراء قياساتٍ جديدة دقيقة جدًّا لِطَيف الإشعاع الحراري. عندما سمع بلانك بهذه النتائج حاول أن يُفسرها عن طريق صِيَغ رياضية بسيطة بدت مقبولةً من بحثه عن العلاقة العامة بين الحرارة والإشعاع. ثم تقابل بلانك وروبنس يومًا على فنجان شايٍ في منزل بلانك، وقارَنا نتائج روبنس الأخيرة بصيغة جديدة اقترحها بلانك، بيَّنت المقارنة توافقًا كاملًا. وكان هذا هو اكتشاف قانون الإشعاع الحراري لبلانك.
كان هذا في الوقت ذاته بدايةً للعمل النظري المُكثف لبلانك. ماذا كان التفسير الفيزيائي الصحيح للصيغة الجديدة؟ كان بلانك يستطيع من أعماله السابقة، أن يُترجم صيغته بسهولة إلى بيان عن الذرة المُشعة (أو ما تُسمَّى بالمُتذبذبة)، ولا بد أنه اكتشف سريعًا أن صيغته تُشير إلى أن المُتذبذبة لا يمكن أن تحوي إلَّا كمات مُتميزة من الطاقة — وهذه نتيجة تختلف تمامًا عن كلِّ ما عُرف قبلًا في الفيزياء الكلاسيكية، حتى ليُمكن القول إنه لا بدَّ وأن قد رُفِض تصديقُها في البداية. لكنه أقنع نفسه خلال فترة عمله المُكثف صيف ۱۹۰۰م بأن لا مفرَّ من هذا الاستنباط، ذكر ابنُ بلانك أن والده قد حدَّثه عن أفكاره الجديدة أثناء نزهةٍ طويلة على الأقدام في جرونيفالد — تلك الغابة في ضواحي برلين. شرح له في هذه النزهة بأنه شعر كما لو كان قد توصَّل إلى كشفٍ من الطراز الأول، ربما لا يُضارعه إلا اكتشافات نيوتن. لا بد إذن أنَّ بلانك كان يُدرك آنئذٍ أن صيغته مسَّت أُسس وصفنا للطبيعة، وأن هذه الأُسس ستبدأ يومًا ما في التحرك من وضعها التقليدي الحالي نحو وضعٍ مُستقرٍّ جديد لا يزال مجهولًا. لم يكن بلانك يُحب هذه النتيجة على الإطلاق وهو المحافظ في نظرته الكلية للمُستقبل، لكنه نشر فرضَه الكمَّاتي في ديسمبر عام ١٩٠٠م.
أما فكرة أن الطاقة لا يُمكن أن تنبعِثَ أو تُمتصَّ إلا في كمَّات طاقة مُتميزة فقد كانت فكرةً جديدة تمامًا، حتى لم يكن من المُستطاع تكييفُها داخل الهيكل التقليدي للفيزياء. حاول بلانك مرة أن يُصالح فرضَه الجديد مع القوانين الأقدم للإشعاع، لكن محاولته فشلت في القضايا الأساسية، وتطلَّب الأمر خمسَ سنين كي تخطو الخطوة التالية في الاتجاه الجديد.
في هذه المرة كان الشاب أينشتين — ذلك العبقري الثوري بين الفيزيائيين — هو الشخص الجسور الذي لم يخشَ هجر المفاهيم القديمة. كان ثمَّة مشكلتان يُمكنه فيهما أن يستخدِم الأفكار الجديدة. فأما الأولى فهي ما يُسمى الظاهرة الضوكهربية، انبعاث الإلكترونات من المعادن تحت تأثير الضوء. بيَّنت التجارب — لا سيما تجارب لينارد — أن طاقة الإلكترونات المُنبعثة لا تعتمِد على شدة الضوء، وإنما فقط على قوَّته — أو إذا أردتَ الدقة على تردُّده. ولا تستطيع النظرية التقليدية للإشعاع أن تُفسر هذا. ولقد تمكَّن أينشتين من تفسير هذه الملاحظات بأن ترجم فرضَ بلانك على أنه يقول إن الضوء يتكوَّن من كمَّات من الطاقة تتحرَّك خلال الفضاء. ويلزم أن يكون الكم الواحد للضوء — بناءً على افتراضات بلانك — مُساويًا لتردُّد الضوء مضروبًا في ثابت بلانك.
وأما المشكلة الثانية فكانت هي الحرارة النوعية للأجسام الجامدة. تؤدي النظرية التقليدية إلى قِيَم للحرارات النوعية تتوافق مع المُلاحظات على درجات الحرارة المُرتفعة، لكنها تخالفها على درجات الحرارة المُنخفضة، ومرة أخرى تمكَّن أينشتين من أن يوضِّح أننا نستطيع تفهُّم هذا السلوك بتطبيق فرض الكمِّ على اهتزازات المرونة للذرَّات في الجسم الجامد. ولقد كانت هاتان النتيجتان علامة بارزةً من علامات التقدُّم لأنهما كشفَتا عن وجود كمِّ الفعل لبلانك — وهكذا يُسمَّى ثابت بلانك بين الفيزيائيين — عن وجوده في ظواهر مُتعددة ليس لها علاقة مع الإشعاع الحراري. ثم إنهما كشفتا في نفس الوقت عن الصفة الثورية العميقة للفرض الجديد. فلقد قادت الأولى منهما إلى وصْفٍ للضوء يختلف عن الصورة الموجية التقليدية. من المُمكن تفسير الضوء إما على أنه يتكوَّن — تبعًا لنظرية ماكسويل — من موجاتٍ كهرومغناطيسية، أو أنه يتكوَّن من كمَّات ضوء، أو رزَم من الطاقة تتحرَّك خلال الفضاء بسرعةٍ هائلة. لكن هل مِن الممكن أن يكون كليهما؟ عرف أينشتين بالطبع أنه لا يمكن تفسير الظواهر المعروفة للحيود والتداخُل إلَّا على أساس الصورة الموجية. ولم يكن في استطاعته أن يُناقش التعارُض التام بين الصورة الموجية وفكرة كمَّات الضوء. ولا هو حاول حتى أن يُزيل التناقُض الذاتي لهذا التفسير. لقد أخذ التناقض ببساطةٍ على أنه شيء يُمكن فهمُه فيما بعد.
في غضون ذلك كانت أبحاث بيكريل وكوري ورذرفورد قد أدَّت إلى بعض التوضيح بالنسبة لتركيب الذرة. فقد أثمرت ملاحظات رذرفورد على تفاعل أشعَّة ألفا التي تنفُذ خلال المادة، أثمرت عام ۱۹۱۱م النموذج الذري الشهير، وفيه تُصوَّر الذرة على أنها نواة موجبة الشحنة تحوي كلَّ كتلة الذرة تقريبًا، تدور حولها إلكترونات مثلما تدور الكواكب حول الشمس. وفسَّرت الرابطة بين ذرات العناصر المختلفة كتفاعُل بين الإلكترونات الخارجية للذرات المتجاورة، فليس لها علاقة مباشرة بنواة الذرة. تُحدد النواة السلوك الكيماوي للذرة من خلال شحنتها، التي تُحدد بدَورها عدد الإلكترونات في الذرة المتعادلة. لم يكن هذا النموذج الذري في بداية الأمر قادرًا على تفسير أهم الملامح المُميزة للذرة: نقصد ثباتها الهائل. ليس ثمَّة نظام كوكبي يُمكنه، تبعًا لميكانيكا نيوتن، أن يعود إلى صورته الأصلية بعد تصادُمه بنظامٍ شبيه، لكن ذرة عنصر كالكربون ستظلُّ ذرة كربون بعد أي تصادُم أو تفاعُل يحدُث في الترابط الكيماوي.
قدَّم بوهر عام ۱۹۱۳م تفسير هذا الثبات الفريد، وذلك بتطبيق فرض الكم لبلانك. فإذا كانت الذرة تستطيع أن تُغير طاقتها فقط عن طريق كمَّات طاقة مُميزة، فإن هذا يعني بالضرورة أن الذرة لا يمكن أن توجَد إلا في حالاتٍ موقوفة مميزة، أدناها هي الحالة الطبيعية للذرة. وعلى هذا فإن الذرة بعد أي تفاعلٍ ستعود في نهاية المطاف إلى حالتها الطبيعية.
بتطبيق نظرية الكم على النموذج الذري استطاع بوهر، ليس فقط أن يُفسر ثبات الذرة وإنما أيضًا أن يُقدم في بعض الحالات البسيطة تفسيرًا نظريًّا للطَّيف الخطِّي الذي تُطلقه الذرات بعد إثارتها بالتفريغ الكهربي أو الحرارة. ترتكز نظريتُه على تشكيلةٍ من الميكانيكا الكلاسيكية لحركة الإلكترونات تحت شروطٍ كمَّاتية فُرضت على الحركات الكلاسيكية لتحديد الحالات الموقوفة المُميزة للنظام. ولقد قدم سومر فيلد فيما بعدُ صياغةً رياضية متينة لهذه الشروط. كان بوهر يُدرك حقيقة أن الشروط الكمَّاتية تُفسد، بشكلٍ ما، استقامة ميكانيكا نيوتن. يمكن للمرء باستخدام نظرية بوهر أن يحسب تردُّدات الضوء المنبعِث من ذرةٍ بسيطة كذرَّة الأيدروجين.
ولقد اتَّضح وجود اتفاقٍ تامٍّ مع الملاحظات. غير أن هذه التردُّدات كانت تختلف عن التردُّدات المدارية وعن توافقيَّات الإلكترونات الدائرة حول النواة، وقد بيَّنت هذه الحقيقة على الفور أن النظرية لا تزال الدائرة حول النواة، وقد بيَّنت هذه الحقيقة على الفور أن النظرية لا تزال تعجُّ بالمُتناقضات، لكنها تحمل جزءًا كبيرًا من الحقيقة. فهي تفسر بالفعل — وصفيًّا — السلوك الكمَّاتي للذرات وطيفها الخطي، ولقد تأكدت صحة وجود الحالات الموقوفة عن طريق تجارب فرانك، وهيرتس، وشتيرن وجيرلاخ.
فتحت نظرية بوهر فرعًا جديدًا من البحوث. أُتيح الآن كل ذلك القدْر الهائل من المادة التجريبية التي جمعت بالمِطياف خلال بضعة عقود، أُتيح ليُستخدَم كبيانات عن قوانين الكم الغريبة التي تحكم حركات الإلكترونات في الذرة، كما أمكن أيضًا استعمال الكثير من تجارب الكيمياء لنفس الغرض. ولقد تعلم الفيزيائيون من ذلك التاريخ أن يسألوا الأسئلة الصحيحة. وكثيرًا ما نقطع، بوضع السؤال الصحيح، أكثر من نصف الطريق نحو حلِّ المشكلة.
وماذا كانت هذه الأسئلة؟ كانت كلها تقريبًا تتعلق بالتناقضات الغريبة الواضحة بين نتائج التجارب المختلفة. فالإشعاع الذي يُسبب نموذج التداخُل، والذي لا بد من ثم أن يتألف من موجات، كيف يمكن أن يُتيح أيضًا الظاهرة الضوكهربية وهي التي تحتاج بالضرورة أن يكون مؤلفًا من جُسيمات متحركة؟ وتردُّد الحركة المدارية للإلكترون في الذرة، كيف يُمكن ألَّا يتبدى في تردُّد الإشعاع المنبعث؟ هل يعني هذا أن ليس ثمة حركة مدارية؟ لكن إذا ما كانت فكرة الحركة المدارية خاطئة، فماذا يحدث للإلكترونات داخل الذرة؟ يُمكننا أن نرى الإلكترونات وهي تتحرك خلال الغرفة السحابية، وهي تُطرد أحيانًا من الذرة، فلماذا إذن لا تتحرك خلال الذرة أيضًا؟ من الصحيح أنها قد تكون في وضع سكون، في الحالة الطبيعية للذرة — حالة أدنى طاقة. لكن ثمة حالات كثيرة لطاقةٍ أعلى يكون فيها للقشرة الإلكترونية عزم زاوٍ. ومثل هذه الإلكترونات لا يمكن أن تكون في وضع سكون. يُمكننا أن نُضيف العديد من الأمثلة المُشابهة، وسنجد، المرة بعد المرة، أن محاولة وصف الأحداث الذرية باستخدام المصطلحات التقليدية للفيزياء ستؤدي إلى تناقُضات.
وبالتدريج، خلال أوائل العشرينيات، تعوَّد الفيزيائيون على هذه الصعوبات، واكتسبوا معرفةً مُعينة غامضة عن المواقع التي تحدُث بها المشاكل، وتعلَّموا أن يتجنَّبوا التناقُضات. عرفوا أي وصفٍ للوقائع الذرية سيكون هو الصحيح بالنسبة لكلِّ تجربةٍ. لم يكن هذا كافيًا لتشكيل صورة عامة مُتماسكة عما يحدُث في العملية الكمَّاتية، لكنه غيَّر فكر الفيزيائيين بطريقةٍ ما أدخلَتْهم إلى روح نظرية الكم. وعلى هذا، فقد كان العلماء يعرفون بالتقريب ما ستكون عليه نتيجة أي تجربة حتى قبل ظهور صياغة مُتماسكة لنظرية الكم.
كثيرًا ما نناقش ما يُسمَّى بالتجارب المثالية. تُصمَّم مثل هذه التجارب لتُجيب على سؤال حاسم، بغضِّ النظر عن إمكانية تنفيذها، من المُهم بالطبع أن يكون إجراء التجربة مُمكنًا من ناحية المبدأ، لكن التقنية قد تكون في غاية التعقيد. وقد تكون هذه التجارب المثالية نافعةً جدًّا في توضيح مشاكل بذاتها. فإذا لم يتَّفق الفيزيائيون حول نتيجة مثل هذه التجربة المثالية، فكثيرًا ما نتمكَّن من العثور على تجربةٍ مُشابهة أبسط يُمكن إجراؤها، بحيث تُسهم الإجابة التجريبية جوهريًّا في تفسير نظرية الكم.
وكانت أغرب خبرات تلك السنين هي عدم اختفاء مفارقات نظرية الكم خلال عملية التوضيح هذه؛ على العكس مِن ذلك، لقد غدت أكثر بروزًا وأكثر إثارةً. كانت هناك على سبيل المثال تجربة كومبتون الخاصة باستطارة أشعة إكس. تقول التجارب المُبكرة عن تداخُل الضوء المُستطار إنه ليس ثمَّة شك في أن الاستطارة تحدُث أساسًا في الشكل التالي: تتسبَّب موجة الضوء الساقط في أن يهتزَّ بالشعاع إلكترون بنفس تردُّد الموجة، ثم يبعث الإلكترون المُتذبذِب موجةً كروية لها نفس التردُّد، وبذلك ينتج الضوء المُستطار. على أن كومبتون قد وجد عام ۱۹۲۳م أن تردُّد أشعة إكس المُستطارة يختلف عن تردُّد أشعة إكس الساقطة. من المُمكن أن يُفهم هذا التغيُّر في التردُّد منهجيًّا إذا افترضنا أن الاستطارة تنتُج عن ارتطام كمِّ ضوءٍ بالإلكترون؛ إذ تتغيَّر طاقة كم الضوء أثناء الارتطام. ولمَّا كان حاصل ضرب التردُّد × ثابت بلانك يُعطي طاقة كمِّ الضوء، فلا بد إذن أن يتغيَّر التردُّد أيضًا، لكن ماذا يحدُث في هذا التفسير لموجة الضوء؟ يبدو من التجربتَين (واحدة عن تداخُل الضوء المُستطار والأخرى عن التغيُّر في تردُّد الضوء المستطار) أن كلًّا منهما تُناقِض الأخرى، وليس ثمة احتمال لحلٍّ وسط.
في ذاك الوقت كان الكثيرون من الفيزيائيين قد اقتنعوا بأن هذه التناقُضات البادية إنما تنتمي إلى البنية الأصيلة للفيزياء الذرية. وعلى هذا حاول ده برولي في فرنسا عام ١٩٢٤م أن يمدَّ ما بين وصف الموجة ووصف الجُسيم من ثنائية، إلى الجُسيمات الأولية للمادة، لا سيما إلى الإلكترونات. أوضح أن موجةً ماديةً ما قد «تُناظر» إلكترونًا متحركًا، تمامًا مثلما تُناظر موجة الضوء كمَّ ضوءٍ مُتحركًا. لم يكن مفهومًا آنئذٍ ماذا تعني كلمة «تناظُر» في هذا الخصوص. لكن ده برولي اقترح ضرورة أن يُفسر الشرط الكمَّاتي في نظرية بوهر على أنه تعبير عن موجات المادة. إن موجةً تدور حول نواة لا يمكن أن تكون موجةً موقوفة إلا لأسبابٍ هندسية. إن محيط المدار لا بد أن يكون عددًا صحيحًا تامًّا من أضعاف طول الموجة. بهذه الطريقة ربطت فكرة ده برولي الشرط الكمَّاتي (والذي كان دائمًا عاملًا دخيلًا في ميكانيكا الإلكترونات) بالثنائية بين الموجة والجُسيم.
أما الاختلاف بين التردُّد المداري المحسوب للإلكترونات، وتردُّد الإشعاع المُنبعِث، فقد كانت نظرية بوهر تُفسره كقصورٍ في مفهوم المدار الإلكتروني. كان هذا المفهوم مُبهمًا إلى حدٍّ ما منذ البداية، على أن الإلكترونات في المدارات العُليا تتحرَّك على مسافاتٍ بعيدة جدًّا من النواة تمامًا، مثلما تفعل عندما نراها وهي تتحرَّك خلال الغرفة السحابية. هنا يُمكننا أن نتحدَّث عن المدارات الإلكترونية؛ ومِن ثَم فلقد كان مِن المُرضي حقًّا بالنسبة لهذه التردُّدات العُليا أن تقترب تردُّدات الإشعاع المُنبعث من التردُّدات المدارية وتوافقيَّاتها العُليا. كما أن بوهر قد اقترح بالفعل في أبحاثه المُبكرة المنشورة، أن شدَّة خطوط الطَّيف المُنبعث تقترب من شدة التوافُقات المناظِرة. ولقد أثبت مبدأ التناظُر هذا قيمتَه العُظمى في الحسابات التقريبية لشدة الخطوط الطَّيفية. ومن ثم سنصِل إلى انطباعٍ بأن نظرية بوهر تُعطي تصويرًا وصفيًّا لاكميًّا لِما يحدث داخل الذرة، بأن ثمَّة ملمحًا جديدًا لسلوك المادة قد عُبِّر عنه كميًّا تحت الشروط الكمَّاتية، التي ترتبط بدورها بالثنائية بين الموجات والجُسيمات.
وأخيرًا ظهرت الصيغة المضبوطة لنظرية الكمِّ مِن خلال تطويرَين مختلفَين. أما الأول فقد نشأ عن مبدأ بوهر للتناظُر. علينا أن نتخلَّى عن المدار الإلكتروني، لكن علينا أن نستبقِيَه في حدود أعداد الكمِّ الكبيرة، نقصد للمدارات الكبيرة. في هذه الحالة الأخيرة يُعطي الإشعاع المنبعث عن طريق تردُّداته وشدَّته صورةً للمدار الإلكتروني، إنه يُمثل ما يُسميه الرياضيون مفكوك فورييه للمدار. اقترحت الفكرة نفسها أن نكتبَ القوانين الميكانيكية، ليس كمعادلاتٍ لمواقع وسرعات الإلكترونات، وإنما كمعادلات لتردُّدات وسعات مفكوك فورييه الخاص بها، فإذا ابتدأنا بمِثل هذه المعادلات وحوَّرناها قليلًا جدًّا فلنا أن نأمُل في الوصول إلى علاقاتٍ لهذه المقادير تُناظر تردُّدات وشدة الشعاع المُنبعث، حتى بالنسبة للمدارات الصغيرة وللحالة الأرضية (العادية) للذرة من المُمكن تنفيذ هذه الخطة فعلًا. ولقد قادت في صيف عام ١٩٢٥م إلى صورية رياضية أُطلق عليها اسم ميكانيكا المصفوفات، أو — بشكل أكثر عمومية — ميكانيكا الكم. استُبدِلت بمُعادلات الحركة في ميكانيكا نيوتن مُعادلاتٌ شبيهة بين مصفوفات. ولقد كان من الغريب أن نجِد أنه من المُمكن أن نستنبط من النظام الجديد الكثير من نتائج ميكانيكا نيوتن أيضًا — مثل حفظ الطاقة … إلخ. ثم بيَّنت أبحاث بورن وجوردان وديراك ألَّا تبادُل بين المصفوفات التي تُمثل موقع وكمية حركة الإلكترون. ولقد أوضحت هذه الحقيقة بجلاء الفارقَ الجوهريَّ بين ميكانيكا الكم والميكانيكا الكلاسيكية.
أما التطوير الثاني فقد تبع فكرة ده برولي عن موجات المادة. حاول شرودنجر أن يضع معادلة موجية لموجات ده برولي الموقوفة حول النواة. ونجح في أوائل عام ١٩٢٦م في استنباط قِيَم الطاقة بالنسبة للحالات الموقوفة لذرة الأيدروجين، في صورة جذور كامنة لمعادلة الموجة، وتمكن من تقديم وصفةٍ أكثر عموميةً لتحويل مجموعة مُعطاة من المعادلات الكلاسيكية للحركة إلى معادلة موجية مناظرة في فضاءٍ مُتعدد الأبعاد. ثم تمكن فيما بعدُ من إثبات أن صوريَّته لميكانيكا الموجة تُعادل رياضيًّا الصورية القديمة لميكانيكا الكم.
أخيرًا توصَّلنا إذن إلى صوريةٍ رياضية متماسكة يمكن تحديدُها بأسلوبَين متكافئَين: بأن نبدأ إما بالعلاقات بين المصفوفات أو بالمعادلات الموجية. تُعطي هذه الصورية القِيَم الصحيحة للطاقة بالنسبة لذرة الأيدروجين. ولم يمضِ إلَّا أقل من عامٍ حتى اتَّضح أنها ناجحة أيضًا مع ذرة الهليوم، وكذا مع المشاكل الأكثر تعقيدًا للذرات الأثقل، لكن بأيِّ معنًى تصِف الصورية الجديدة الذرة؟ إن مفارقات الثنائية بين الصورة الموجية والصورة الجُسيمية لم تُحَل. لقد كانت مُختبئة بطريقةٍ ما في النظام الرياضي.
قام بوهر وكرامرز وسلاتر عام ١٩٢٤م بأُولى الخطوات وأكثرها تشويقًا — نحو تفهُّم حقيقي لنظرية الكم. حاول هؤلاء حلَّ التناقُض البادي بين صورة الموجة وصورة الجُسيم باستخدام مفهوم موجة الاحتمال. فُسِّرت الموجات الكهرومغناطيسية على أنها ليست موجاتٍ «حقيقية» وإنما هي موجات احتمال، موجات تُحدِّد شدتُها في كل نقطة، احتمالَ أن تمتص ذرة (أو تبعث بالحث) في هذه النقطة كمَّ ضوء. وقد أدَّت هذه الفكرة إلى الاستنباط بأن ليس من اللازم أن يكون قانونا حِفظ الطاقة وكمية الحركة صحيحَين بالنسبة للحدَث الفردي، وأنهما قانونان إحصائيَّان فقط، وأنهما صحيحان فقط في المتوسط الإحصائي، على أن هذا الاستنباط لم يكن صحيحًا، وظلَّت العلاقات بين الصورة الموجية للإشعاع والصورة الجُسيمية أكثر تعقيدًا.
لكنَّ البحث الذي نشرَه بوهر وكرامرز وسلاتر قد أوضح ملمحًا جوهريًّا للتفسير الصحيح لنظرية الكم. كان مفهوم موجة الاحتمال هذا شيئًا جديدًا تمامًا في الفيزياء النظرية منذ زمن نيوتن. فالاحتمال في الرياضة أو في الميكانيكا الإحصائية هو تعبيرٌ عن درجة معرفتنا بالوضع الواقعي، فعندما نُلقي بنرد الطاولة، فإننا لا نعرف التفاصيل الدقيقة لحركة أيدِينا التي تُحدد سقوطه. وعلى هذا نقول إن احتمال ظهور أيٍّ من أرقامه الستة هو السدس. أما موجة الاحتمال عند بوهر وكرامرز وسلاتر فتعني أكثر من ذلك. إنها تعني نزعةً إلى شيءٍ ما. كانت صيغةً كميةً للمفهوم القديم عما يُمكن أن يحدُث وإن لم يوجَد بالفعل (أو يُطلَق عليه مفهوم «البوتنشيا») الذي نجده في الفلسفة الأرسطية. لقد قدمت شيئًا جديدًا يقِف فيما بين فكرة الحدث والحدث الواقعي. هو نوع مِن الواقع الفيزيقي يقع وسطًا ما بين الإمكان والواقع.
وعندما تَحدَّد الإطار الرياضي لنظرية الكم فيما بعد، تبنَّى بورن فكرة موجة الاحتمال هذه، وقدَّم تعريفًا واضحًا للكمية الرياضية في الصورية، التي كان لها أن تُترجَم كموجة احتمال، لم تكن موجةً ذات أبعادٍ ثلاثة مثل الموجات المرِنة أو الموجات الراديوية، وإنما هي موجة في تَشكُّل الفضاء العديد الأبعاد، ومِن ثم فهي كمية رياضية مجردة.
لم يكن واضحًا في كل حالة، وحتى ذلك الوقت (صيف ١٩٢٦م)، كيف يمكن للصورية الرياضية أن تُستخدَم في وصف حالةٍ تجريبية مُعينة. إننا نعرف كيف نصِف الحالات الموقوفة لذرة، لكنَّا لا نعرف كيف نصِف حدثًا أبسط بكثير — مثلًا: إلكترونًا يتحرك خلال غرفة سحابية.
وعندما بيَّن شرودنجر في ذلك الصيف أن صوريَّته لميكانيكا الموجة تُعادل ميكانيكا الكم رياضيًّا، حاول لفترة أن يهجُر تمامًا فكرة الكمَّات و«القفزات الكمَّاتية»، وأن يستبدل بالإلكترونات في الذرة موجات المادة الثلاثية الأبعاد. أمَّا ما ألهمَه القيام بهذه المحاولة فكانت نتائجه، إذ بدا منها أن مستويات الطاقة لذرة الأيدروجين في نظريته هي ببساطةٍ التردُّدات الكامنة لموجات المادة الموقوفة. وعلى هذا فقد تصوَّر أنه مِن الخطأ أن نُسمِّيها بالطاقات؛ فهي ليست سوى تردُّدات. لكنَّ المناقشات التي تمَّت في خريف عام ١٩٢٦م بكوبنهاجن بين بوهر وشرودنجر، ومجموعة فيزيائيِّي كوبنهاجن قد أظهرت أنَّ مثل هذا التفسير لا يكفي حتى لتفسير صيغة بلانك للإشعاع الحراري.
وخلال الأشهر التي أعقبت هذه المناقشات أدَّت دراسة مُكثفة لكل القضايا المُتعلقة بتفسير نظرية الكم، في كوبنهاجن، أدَّت في النهاية إلى توضيحٍ للموقف كاملٍ ومرضٍ كما يعتقد الكثير من الفيزيائيين، لكنه لم يكن حلًّا يمكن تقبُّله بسهولة. أتذكَّر مُناقشاتي مع بوهر لساعاتٍ طويلة استمرَّت حتى وقتٍ متأخِّر من الليل، وانتهت إلى ما يقرُب من اليأس، وعندما انطلقتُ وحدي بعد نهاية النقاش أتمشى في حديقةٍ مجاورة، أخذتُ أُعيد على نفسي المرةَ بعد المرة السؤال: أمِن المُمكن أن تكون الطبيعة بمِثل هذا السخف الذي تتبدى به في هذه التجارب الذرية؟
ولقد حدث الاقتراب من الحلِّ النهائي عن طريقَين مختلفَين كان واحد منهما التفافًا حول السؤال. فبدلًا من أن نسأل «كيف يمكن للشخص أن يُعبر في النظام الرياضي المعروف عن وضعٍ تجريبي مُعين؟» وُضِع السؤال «أمِنَ المُحتمل أن يكون صحيحًا أنَّ ما يظهر في الطبيعة من الأوضاع التجريبية، هو فقط ما يُمكن التعبير عنه بالصورية الرياضية؟» ولقد أدَّى الاقتراح بأن هذا بالفعل صحيح، أدَّى إلى تقييدٍ في استعمال تلك المفاهيم التي كانت أساس الفيزياء الكلاسيكية منذ نيوتن. يُمكننا أن نتحدَّث عن موقع إلكترونٍ وعن سرعته كما في الميكانيكا النيوتِنية، كما نستطيع أن نلحظها ونقيسها، لكنَّنا لا نستطيع أن نُحدد كليهما في نفس الوقت بدقَّةٍ على نحوٍ حاسم، لكن اتَّضح أن حاصل ضرب اللادقَّة للمِقدارَين ليس سوى ثابت بلانك مقسومًا على كتلة الجسيم. من المُمكن صياغة علاقات مُشابهة بالنسبة لأوضاعٍ تجريبية أخرى. وتُسمَّى هذه عادةً علاقات لامُحقَّقية أو مبدأ اللاحتمية. لقد تعلَّمنا أن المفاهيم القديمة تُلائم الطبيعة لكن بشكلٍ غير دقيق.
أما الطريق الآخر فكان مفهوم التَّتام لبوهر. وَصَفَ شرودنجر الذرة نظامًا لا يتكوَّن من نواةٍ وإلكترونات، وإنما من نواة وموجات مادة. وصورة موجات المادة هذه تحمِل بالتأكيد عنصرًا من الحقيقة. اعتبر بوهر الصورتَين — الجُسيمية والموجية — وصفَين متتامَّين لنفس الواقع. لا يحمل أيٌّ مِن هذَين الوصفَين إلا جزءًا من الحقيقة. لا بدَّ أن يكون ثمة حدود لاستخدام مفهوم الجُسيم، كَما لاستخدام مفهوم الموجة، وإلَّا لَما استطاع المرء تجنُّب التناقُضات. فإذا وضعنا هذه الحدود في الاعتبار (وهي حدود يمكن التعبير عنها بالعلاقات اللامُحققية) اختفت التناقُضات.
بهذه الطريقة أصبح لدَينا، منذ ربيع عام ۱۹۲۷م، تفسير مُتماسك لنظرية الكم يُطلَق عليه عادة اسم «تفسير كوبنهاجن». عُرِّض هذا التفسير للاختبار الحاسم في خريف عام ١٩٢٧م بمؤتمر سولفاي في بروكسل، أُعيدت مناقشة التجارب التي كانت تؤدِّي دائمًا إلى أسوأ التناقُضات. أُعيدت بكل تفاصيلها مرارًا وتكرارًا، لا سيما بواسطة أينشتين. وابتُكرت تجارب مِثالية جديدة لاكتشاف أي تناقُض ذاتي مُحتمَل للنظرية، لكن اتَّضح أنَّ النظرية مُتماسِكة وأنها تُوافِق التجارب في حدود ما نرى.
ستكون تفاصيل تفسير كوبنهاجن هي موضوع الفصل التالي، لكن علينا أن نؤكِّد هنا أن الأمر قد تطلَّب أكثر من ربع قرنٍ منذ ظهرت الفكرة الأولى لوجود كم الطاقة، حتى توصَّلنا إلى التفهُّم الحقيقي لقوانين الكم النظرية. وهذا يُشير إلى التغيُّر الكبير الذي كان لا بدَّ أن يحدُث في المفاهيم الأساسية المُتعلقة بالواقع قبل أن يتمكَّن المرء من تفهُّم الوضع الجديد.