نظرية الكم وجذور العلوم الذرية
ترجع فكرة الذرة إلى زمنٍ أبعد بكثير من بداية العلم الحديث بالقرن السابع عشر؛ سنجد جذورها في الفلسفة الإغريقية القديمة، إذ كانت في تلك الحقبة هي المفهوم المحوري للمادية التي قال بها ليوقبَّص وديموقريطس. من ناحيةٍ أخرى سنجِد أن التفسير الحديث للوقائع الذريَّة لا يكاد يُشبه الفلسفة المادية الحقيقية، بل الحق أننا نستطيع القول إن الفيزياء الذرية قد حرَّفت العلم بعيدًا عن الاتجاه المادي الذي ساده خلال القرن التاسع عشر. من المُثير إذن أن نُقارن تطوُّر الفلسفة الإغريقية نحو مفهوم الذرة، بالوضع الحالي لهذا المفهوم في الفيزياء الحديثة.
أما فكرة أصغر وحدةِ بناءٍ لا تنقسِم من المادة فقد ظهرت مرتبطةً بتطوير مفاهيم المادة والوجود والصيرورة، التي ميَّزت الحقبة الأولى للفلسفة الإغريقية. بدأت هذه الحقبة في القرن السادس قبل الميلاد بطاليس، مُؤسِّس المدرسة الملطية، الذي نَسَب إليه أرسطاطاليس القول «إن الماء هو العلَّة المادية لكلِّ شيء». وهذه الجُملة، برغم ما يبدو بها من غرابة، تُعبِّر عن ثلاث أفكار أساسية في الفلسفة كما يقول نيتشه. أما الأولى فهي مسألة العلَّة المادية لكلِّ الأشياء. وأما الثانية فهي الحاجة إلى أن تُحَلَّ هذه المسألة وفقًا للمنطق دون اللجوء إلى التصوف والأساطير. والثالثة هي المُسلَّمة بأنَّا لا بدَّ أن نتمكَّن في النهاية مِن ردِّ كلِّ شيءٍ إلى مبدأٍ واحد. كانت جُملة طاليس هي أول تعبيرٍ عن فكرة جوهرٍ أوَّلي تكونُ كل الأشياء منه أشكالًا عابرة. بالتأكيد لم تكن كلمة «جوهر» هنا تُفسَّر آنئذٍ بالمعنى المادي الخالص الذي ننسبه إليها الآن. كانت الحياة مرتبطةً بهذا «الجوهر» أو متأصِّلة فيه. كما نسب أرسطاطاليس أيضًا لطاليس القول: «كل الأشياء مليئة بالآلهة». مرة أخرى سنجِد مسألة العلَّة المادية لكلِّ الأشياء، وليس مِن الصعب أن نتصوَّر أن طاليس قد اتَّخذ وجهة النظر هذه، أساسًا، لاعتباراتٍ تختصُّ بالأرصاد الجوية. فالماء من بين كل الأشياء التي نعرفها هو الأكثر في تبايُن صورِه. فهو قد يتَّخذ في الشتاء صورة الثلج أو الجليد، وقد يتبخَّر ويُصبح بخارًا، ويُمكنه أن يُشكِّل السُّحب، ويبدو أنه يتحوَّل الى ترابٍ حيثما يُشكِّل النهر دِلتاه، وهو قد يتفجَّر من الأرض. إنَّ الماء شرط للحياة، فإذا كان ثمة جوهر أولي، فمِن الطبيعي أن يتَّجِه التفكير أولًا إلى الماء.
ثم تطوَّرت فكرة الجوهر الأوَّلي على يدَي أنكسيمندر، وكان تلميذ طاليس ويعيش في نفس المدينة. أنكر أنكسيمندر أن يكون الجوهر الأولي هو الماء أو أيًّا مِن الجواهر المعروفة. كانت تعاليمه تقول إن الجوهر الأولي لا محدود خالد سرمدي، وأنه يشمل العالم. يتحوَّل هذا الجوهر الأولي إلى الجواهر الأخرى التي نعرفها. يُورد ثيوفراستوس قول أنكسيمندر «إن الأشياء تضمحلُّ مرةً أخرى إلى الشكل الذي منه نشأت — هذا قَدَرُها — ذلك أنها تُعوِّض وتُرضي بعضها بعضًا تكفيرًا عمَّا ارتكبته مِن ظلمٍ وفقًا لتسلسُل الزمن.» في هذه الفلسفة سنجد أن نقيضَ الموجود والصيرورة يلعب الدور الرئيسي. يتحلل الجوهر الأولى اللامحدود السرمدي، هذا الموجود اللامُتنوِّع، يتحلَّل إلى الأشكال العديدة التي تقود إلى صراعاتٍ لا تنتهي. إن عملية الصيرورة تُعتبَر نوعًا مِن الانحطاط في قيمة الموجود اللامُتناهي — تحلُّلًا إلى الصراع الذي يُكَفَّر عنه بالعودة إلى ما لا شكلَ له ولا طبع، والصراع المَعنيُّ هنا هو التنازُع بين الساخن والبارد، بين النار والماء، بين المُبتلِّ والجاف … إلخ. أما الانتصار المؤقت لأحدهما على الآخر فهو الظلم الذي بِسبَبِه يَجري الإصلاح في النهاية في تسلسلِ الزمن. ثمَّة «حركة أزلية» عند أنكسيمندر؛ خلق وفناء، عوالم من اللامتناهي إلى اللامتناهي.
قد يكون من المُثير أن نلحظ هنا أن المشكلة — مشكلة ما إذا كان الجوهر الأولي هو أحد الجواهر المعروفة أم أنه لا بد أن يكون شيئًا مختلفًا تمامًا — أن المشكلة تظهر في صورةٍ مختلفة بعض الشيء في أحدث أفرُع الفيزياء الذرية. يُحاول الفيزيائيون اليوم أن يجدوا قانونًا أساسيًّا لحركة المادة يمكن منه رياضيًّا أن تُشتق كل الجُسيمات الأوليَّة وخصائصها. ولقد تُشير هذه المعادلة الأساسية للحركة إما إلى موجاتٍ من نمط معروف، موجات بروتون وميزون، أو إلى موجاتٍ ذات طبيعة مختلفة تمامًا لا علاقةَ لها بأيٍّ من الموجات المعروفة أو الجُسيمات الأولية. هي تعني في الحالة الأولى أنه من الممكن أن نردَّ كل الجسيمات الأولية الأخرى، بطريقةٍ ما، إلى ضروبٍ معدودة من الجُسيمات الأولية «الأساسية». والواقع أن الفيزياء النظرية قد اتَّبعَت هذا الخط البحثي خلال العقدَين الأخيرَين. أما في الحالة الثانية فتُرَدُّ فيها كل الجسيمات الأولية إلى مادةٍ ماكونية قد نُطلق عليها اسم الطاقة أو المادة، لكن ليس ثمة مِن الجُسيمات المختلفة ما يَفضُل غيرَه لأنه أكثر «أساسيةً». هذه الصورة الأخيرة تُناظر بالطبع مذهب أنكسيمندر. وأنا مُقتنع بأن هذه هي الصورة الصحيحة في الفيزياء الحديثة، لكن دعْنا نرجع ثانيةً إلى الفلسفة الإغريقية.
أما ثالث الفلاسفة المَلطيِّين فكان أنكسيمينز، زميل أنكسيمندر. وقد كان يرى أن الهواء هو الجوهر الأوَّلي، «فكما تجمع الروح — وهي هواء — أجزاءنا، كذا تُطوِّق النسَمات والهواء العالم بأكمله». أدخل أنكسيمينز إلى الفلسفة الملطية فكرة أن عملية التكثيف والخلخلة تُسبِّب تحوُّل الجوهر الأوَّلي إلى موادَّ أخرى. وكان تكثيف بخار الماء إلى سُحب هو المِثال الواضح، وطبيعيٌّ أن أحدًا لم يكن يعرف الفرق بين بُخار الماء والهواء في ذلك الوقت.
يشغل مفهوم الصيرورة المكان الأول في فلسفة هرقليطس، المنتمي إلى مدينة إفسوس. كان يرى أن ما يتحرَّك «النار» هو العنصر الأساسي. ولقد حُلَّت مشكلة التوفيق بين فكرة مبدأ أساسيٍّ واحدٍ وبين التشكيلة اللانهائية مِن الظواهر بإدراك أنَّ صراع الأضداد إنما هو نوع من الانسجام. فالعالم عند هرقليطس واحدٌ ومُتعدِّد في آن. إن «التوتر المُتعارض» للأضداد هو ما يخلق وحدة الواحد. يقول: «علينا أن نعرف أن الحرب أمر شائع للجميع، وأنَّ الصراع عدل وأن كلَّ شيءٍ إنما يظهر في الوجود ويُقضى مِن خلال الصراع».
فإذا نظرْنا إلى تطور الفلسفة الإغريقية حتى ذلك الوقت، فسنُدرك أنها كانت مُنشغلة، منذ بدايتها وحتى هذه المرحلة، بالتوتُّر ما بين الواحد والمُتعدد. حواسُّنا تقول إن العالم يتكوَّن مِن تنوع لانهائي من الأشياء والحوادث، من الألوان والأصوات. لكن علينا كي نتفهَّمها أن نُدخل نوعًا من النظام، والنظام يعني إدراك ما هو متساوٍ، إنه يعني نوعًا من الوحدة. مِن هذا ينبثق الاعتقاد بوجود جوهر أولي، ومِن هنا في نفس الوقت تنبع صعوبة أن نشتقَّ منه هذا النوع اللانهائي للأشياء. إن فكرة وجود علَّة مادية للأشياء جميعًا هي نقطة بدءٍ طبيعية، لأن العالم يتألف من مادة. لكنَّا إذا حملنا فكرة الوحدة الأساسية إلى مداها المُتطرِّف، فسنصِل إلى ذلك الوجود اللانهائي الأزلي اللامُتنوع، الذي لا يُمكنه في ذاته — سواء أكان ماديًّا أم لا — أن يُفسر التنوُّع اللانهائي للأشياء. وهذا يقود إلى نقيض الموجود والصيرورة، ومِن ثم إلى حلِّ هرقليطس القائل إن التغيُّر في ذاته هو الجوهر الأولي، أو كما قال عنه الشعراء «التغير الخالد، الذي يُجدد العالم». لكن التغيُّر في ذاته ليس علَّة مادية، وعلى هذا فإن النار تُمثله في فلسفة هرقليطس على أنه العنصر القاعدي، فالنار مادة وهي قوة مُحركة في آن.
ولقد نقول في هذا الموضوع إنَّ الفيزياء الحديثة بشكلٍ ما قريبة للغاية مِن مذاهب هرقليطس. فإذا استبدلنا بكلمة «النار» كلمة «الطاقة» فلربما كرَّرنا بالضبط تعبيراته كلمةً كلمةً من وجهة نظرِنا الحديثة. فالطاقة في الواقع هي الجوهر الذي منه تُصنَع كل الجُسيمات الأولية؛ كل الذرات، ومِن ثم كلُّ الأشياء، والطاقة هي ما يتحرك. والطاقة جوهر لأنَّ مقدارها لا يتغيَّر، ومِن الممكن بالفعل أن تُصنَع الجُسيمات الأولية مِن هذا الجوهر كما نرى في الكثير من التجارب عن تخليق الجُسيمات الأوَّلية. مِن الممكن تحويل الطاقة إلى حركةٍ، إلى ضوءٍ، إلى توتُّر. يُمكننا أن نُسمِّي الطاقة باسم العلَّة الأولى لكلِّ تغيُّر في العالم. لكنَّا سنعود فيما بعدُ إلى مقارنة الفلسفة الإغريقية بأفكار العلم الحديث.
عادت الفلسفة الإغريقية فترةً إلى مفهوم «الواحد» في تعاليم بارمنيدس، الذي عاش في إيليا بجنوب إيطاليا. وربما كانت أهم إسهاماته في التفكير الإغريقي هو أنه قدَّم حُججًا منطقية خالصة إلى الميتافيزيقا (ما بعد الطبيعة)، (إن المرء لا يُمكنه أن يعرف «غير الموجود»، هذا مستحيل، لا ولا يمكنه أن يُعبر عنه؛ ذلك أن ما يُمكن التفكير فيه هو ما يُمكن أن يُوجَد). وعلى هذا فلا يُوجَد غير «الواحد». وليس ثمة صيرورة أو زوال. أنكر بارمنيدس وجود المكان الفارغ لأسبابٍ منطقية، ولمَّا كان كلُّ تغيرٍ يتطلَّب مكانًا فارغًا، كما افترض، فقد رفض التغيُّر واعتبره وهمًا.
لكن الفلسفة لا تستطيع أن تستقرَّ طويلًا على هذه المفارقة. ولأول مرةٍ تحوَّل أنباد قليس — الذي عاش بالساحل الجنوبي لصقلية — من الواحدية إلى نوعٍ من التعدُّدية. فلِكي يتجنَّب صعوبة أن يُفسِّر جوهر أولي واحد تعدُّد الأشياء والوقائع، افترض أربعة عناصر أوَّلية: التراب والماء والهواء والنار. تمتزج هذه العناصر سويًّا وتنفصل بفِعل المحبَّة والنزاع. وعلى هذا فالمحبَّة والنزاع، اللذان يمكن مُعالجتهما من وجهاتٍ مختلفة وكأنهما مادِّيَّان تمامًا مثل العناصر الأربعة الأخرى، مَسئولان عن التغيُّر الخالد. وصف أنباد قليس تشكُّل العالم في الصورة التالية: في البدء كان ثمَّة عالم للواحد لامُتناهٍ — مثلما تقول فلسفة بارمنيدس. لكن، في الجوهر الأولي مُزجت «الجذور» الأربعة بالمحبَّة، فإذا ما بدأت المحبَّة تخبو ويدخُل النزاع، أخذت العناصر تنفصِل جزئيًّا وتتَّصل جزئيًّا، إلى أن تنفصِل العناصر تمامًا وتُصبح المحبَّة خارج العالم. وأخيرًا تُجمِّع المحبة العناصر مرةً أخرى ويبدأ النزاع يخبو، حتى نعود ثانيةً إلى العالم الأصلي.
يُمثل مذهب أنباد قليس هذا تحوُّلًا واضحًا في الفلسفة الإغريقية نحو نظرةٍ أكثر مادية. فالعناصر الأربعة ليست مبادئ أولية بقدْر ما هي عناصر مادية. هنا ولأول مرةٍ يُفسَّر تنوُّع لا يُحَدُّ من الأشياء والوقائع، يُفسَّر بمزجِ وفصلِ بضعة جواهر مختلفة جذريًّا. إن التعدُّدية لا يستسيغُها مَن تعوَّد التفكير في المبادئ الأوَّلية. لكنها شكل معقول لحلٍّ وسط يتجنَّب مشاكل الواحدية، ويسمح ببناء نوعٍ من النظام.
أما الخطوة التالية نحو مفهوم الذرَّة فقد اتَّخذها أناكساجوراس، وكان معاصرًا لأنباد قليس، وقد عاش في أثينا نحو ثلاثين عامًا، وربما كان ذلك في النصف الأول من القرن الخامس قبل الميلاد. أكد أناكساجوراس على فكرة المزج، على الفرض بأن كل التغيُّر ينتُج عن المزج والفصل. افترض مُتنوِّعًا لانهائيًّا من «بذور» غاية في الصِّغر، منها تتكوَّن كل الأشياء. لم تكن البذور تُشير إلى عناصر أنباد قليس الأربعة، فهناك عدد لا يُحصى من البذور المختلفة. لكن البذور تُمزَج سويًّا وتنفصل ثانية، وبهذا يحدُث التغيُّر. سمح مبدأ أناكساجوراس للمرة الأولى بتفهُّمٍ هندسي للمُصطلح، «مزيج»: فلمَّا كان يتحدَّث عن بذورٍ غاية في الضآلة، فمِن المُمكن أن نتصوَّر مزيجها مثل مزيجٍ بين نوعَين من الرمل يختلفان في اللون. ولقد تختلف البذور في العدد أو في مواقعها النسبية. افترض أناكساجوراس أنَّ كلَّ البذور موجودة في كل شيء، ونِسَبُها فقط هي التي تختلف بين الأشياء المختلفة، يقول: «كل الأشياء توجَد في كل شيء، لا وليس في إمكانها أن تفترِق، لكنَّ كلَّ شيءٍ به قدْر من كل شيء». لا يتحرَّك عالم أناكساجوراس مثل عالم أنباد قليس عن طريق المحبَّة والنزاع، وإنما عن طريق اﻟ «نوس» أو «العقل».
لم تكن بين هذه الفلسفة وبين مفهوم الذرة سوى خطوةٍ واحدة، ولقد خطاها ليوقبَّص وديموقريطس الأبديري. تحوَّل نقيض الموجود واللاموجود بفلسفة بارمنيدس إلى نقيض «المُمتلئ» و«الفارغ». فالموجود ليس واحدًا فقط، إذ مِن المُمكن أن يُكرَّر عددًا لانهائيًّا من المرَّات. إنه الذرة، أصغر وحدةٍ لا تنقسِم من المادة. الذرة أزليَّة لا تُحطَّم إن يكن حجمُها محدودًا. ولقد جعلت الحركة مُمكنة من خلال الفضاء الفارغ بين الذرات. وعلى هذا فقد ظهرت لأول مرةٍ في التاريخ فكرة وجود أصغر الجُسيمات الأوَّلية — وحدات البناء الأصلية للمادة.
وتبعًا لمفهوم الذرة هذا الجديد، لا تتكوَّن المادة فقط من «الممتلئ» وإنما أيضًا من «الفارغ»، مِن الفضاء الخالي الذي تتحرك فيه الذرات. أما الاعتراض المنطقي لبارمنيدس على «الفارغ» (فاللَّاموجود لا يمكن أن يُوجَد) فقد أهمل استجابة الخبرة. يمكن القول من وجهة نظرنا المعاصرة إنَّ الفضاء الخالي بين الذرات في فلسفة ديموقريطس لم يكن «لا شيء»، كان هو الحامل للهندسة والحركة، هو الذي يجعل ترتيبات الذرات وحركتها أمرًا مُمكنًا. لكن إمكانية الفضاء الخالي كانت دائمًا مشكلةً خلافية في الفلسفة. كانت إجابة نظرية النسبية العامة هي أن الهندسة تنجم عن المادة، أو أن المادة تنتُج عن الهندسة. وهذه الإجابة تُناظر كثيرًا تلك الفكرة التي يَعتنقها الكثيرون من الفلاسفة بأنَّ الفراغ يُحدده امتداد المادة، لكن ديموقريطس قد انحرف عن هذه الفكرة ليجعل التغيُّر والحركة مُمكنَين.
كانت كل ذرات ديموقريطس مِن نفس الجوهر، هي كلها تشترك في خصيصة الوجود، إنما في أحجامٍ وأشكال مختلفة؛ وعلى هذا فقد صُوِّرت على أنها قابلة للتقسيم بالمعنى الرياضي لا المادي. يمكن للذرات أن تتحرك، ويُمكنها أن تشغَل مواقع مختلفة في الفراغ، لكن ليس لها خصائص مادية أخرى. ليس لها لون ولا رائحة ولا طعم. أما ما نشعر به من خصائص المادة بحواسِّنا فقد افترض أنها ناتجة عن حركات ومواقع الذرات في الفراغ، وكما يمكن أن نكتُب التراجيديا والكوميديا بنفس الحروف الأبجدية، كذا فإن التنوُّع الهائل من الوقائع بهذا العالم يمكن أن يُحقَّق بنفس الذرَّات من خلال تشكيلاتها وحركاتها المختلفة. لقد أثبتت الهندسة والحركة، الناجِمتان عن الفراغ، أن لهما، بشكلٍ ما، أهميةً أكبر من مجرد الموجود الخالص. يُذكَر عن ديموقريطس قوله: «للشيء لون نراه ليس إلَّا، له طعم حلوٌ أو مرٌّ ليس إلَّا. لكن ليس مِن وجودٍ حقيقي لغير الذرات والفراغ».
والذرَّات في فلسفة ليوقبَّص لا تتحرك بالصدفة وحدَها. يبدو أن ليوقبَّص كان يعتقد في الحتمية الكاملة، إذ يُعرَف أنه قال: «إن العدم يحدُث للاشيء، لكن كل شيءٍ يحدث عن سببٍ وللضرورة». لم يُعطِ الذريون أي علَّةٍ لبداية حركة الذرات، الشيء الذي يُوضِّح أنهم فكروا في وصفٍ علِّي للحركة الذرية، ذلك أن العليَّة تُفسر الوقائع التالية عن طريق الوقائع السابقة، لكنها أبدًا لا يمكن أن تُفسِّر البدء.
استعار الفلاسفة الإغريق فيما بعدُ أفكار النظرية الذرية وحوَّروها جزئيًّا. مِن المُهم هنا ومِن أجل المقارنة بالفيزياء الذرية، أن نذكُر تفسير المادة عند أفلاطون في حوار «تيماوس». لم يكن أفلاطون يؤمِن بالمذهب الذرِّي، على العكس، لقد ذكر ديوجينس ليرشيوس أن أفلاطون كان يكرَه ديموقريطس حتى ليتمنَّى أن تُحرَق كل كتبِه. لكن أفلاطون جَمَّعَ أفكارًا قريبة من المذهب الذري مع مذاهب مدرسة فيثاغورس وتعاليم أنباد قليس.
كانت المدرسة الفيثاغورسية فرعًا من الأورفية التي ترجع إلى تقديس الإله ديونيسوس. هنا نشأ الربط بين الدين والرياضيات، الربط الذي كان له منذ ذلك التاريخ أقوى تأثيرٍ على الفكر الإنساني. يبدو أن الفيثاغورسيين كانوا أوَّل مَن أدرك القوة الخلَّاقة المتأصِّلة في الصياغة الرياضية. فاكتشافهم أنَّ صوتا الوترَين ينسجمان إذا كانت النسبة بين طولَيْهما نِسبة بسيطة، هذا الاكتشاف يُبين مدى ما تَعنيه الرياضيات في تفهُّم الظواهر الطبيعية. لم يكن الأمر بالنسبة للفيثاغورسيين مجرد قضية تفهُّم، كانت النسبة الرياضية البسيطة بين أطوال الأوتار هي التي تخلق الانسجام في الصوت. كان أيضًا ثمَّة تصوُّف في عقائد المدرسة الفيثاغورسية يصعُب علينا تفهُّمه. لكنهم عندما جعلوا الرياضيات جزءًا مِن دينهم، فإنهم مسُّوا نقطة محورية في تطوُّر الفكر البشري. ولقد أقتبِسُ جُملةً عن برتراند راسل كتبَها عن فيثاغورس: «إنني لا أعرف رجلًا آخر كان له مِثل هذا الأثر في مجال الفكر».
عرَف أفلاطون باكتشاف الفيثاغورسيين للمُجسَّمات المُنتظمة، وبإمكانية ربطها بعناصر أنباد قليس. شبَّه أصغر الأجزاء من عنصر التراب بالمُكعب، ومِن عنصر الهواء بالمُجسَّم الثُّماني، ومِن عنصر النار بالمُجسَّم الرباعي، ومن عنصر الماء بالمُجسم ذي العشرين وجهًا. لم يكن ثمة عنصر يُناظر المُجسَّم ذا الاثني عشر سطحًا. هنا لا يقول أفلاطون سوى: «ما زال هناك مُركَّب خامس استعملَه الإله في تخطيط الكون».
فإذا كان مِن المُمكن أصلًا تشبيهُ الذرات بالمُجسمات المُنتظمة التي تُمثل العناصر الأربعة، فلقد أوضح أفلاطون أن وجه الشبَهِ هو عدم القابلية للانقسام. ركَّب أفلاطون المُجسمات المنتظمة من مُثلثَين قاعدِيَّين هما المُثلث المتساوي الأضلاع والمُثلث المتساوي الساقَين فمِنهما تُركَّب أسطُح المُجسَّمات. وعلى هذا فمِن المُمكن أنْ تُحوَّل العناصر بعضها إلى بعضٍ (على الأقل جزئيَّا). مِن المُمكن أن تُفكَّك المُجسمات المنتظمة إلى مُثلثات، وأن تُشكَّل منها مُجسمات منتظمة جديدة. وعلى سبيل المثال، مِن الممكن أن يُفكَّك مُجسم رباعي ومُجسَّمان ثُمانيَّان إلى عشرين مثلثًا مُتساوي الأضلاع، يمكن منها تشكيل مُجسم ذي عشرين وجهًا. وهذا يَعني أن ذرةً واحدة من النار وذرَّتين من الهواء يمكن أن تُجمَع وتُعطِي ذرةَ ماءٍ واحدة. لكن المُثلثات الأوَّلية لا يمكن أن تُعتبَر مادة، فليس لها امتداد في الفضاء، ولا تُخلَق وحدة من المادة إلا إذا جُمعت المثلثات لتُشكل مُجسمًا منتظمًا. إن أصغر أجزاء المادة ليست هي الموجودات الأوَّلية كما تقول فلسفة ديموقريطس، إنما هي صور رياضية. هنا يتَّضح بجلاءٍ أنَّ الصورة أكثر أهميةً مِن الجوهر الذي هي صورة له.
بعد هذا الاستعراض السريع للفلسفة الإغريقية حتى تشكيل مفهوم الذرة، دعْنا نرجع الآن إلى الفيزياء الحديثة لنبحث عن أوجُه الشبَه بينها وبين أفكارنا الحديثة عن الذرة ونظرية الكم. سنجد من الناحية التاريخية أن كلمة «ذرة» كانت تُشير إلى الشيء الخطأ في الفيزياء والكيمياء الحديثة، في فترة إحياء العلوم بالقرن السابع عشر؛ ذاك لأن أصغر الجُسيمات بالعنصر الكيماوي لا يزال يُمثل نظامًا مُعقدًا مكوَّنًا من وحداتٍ أصغر. تُسمَّى هذه الوحدات الأصغر في أيامنا هذه باسم الجُسيمات الأولية، والواضح أن ما يُمكن مقارنته في الفيزياء الحديثة بذرَّات ديموقريطس هي الجُسيمات الأولية مثل البروتون والنيوترون والإلكترون والميزون.
كان ديموقريطس على بيِّنةٍ بحقيقة أنه إذا ما كان من الممكن للذرات، بحركتها وترتيبها، أن تُفسِّر خصائص المادة — اللون، الرائحة، الطعم — فليس لها أن تمتلك هي ذاتها هذه الخصائص. وعلى هذا فقد جرَّد الذرة من تلك الخصائص، ذرَّتُه إذن جزءٌ من المادة مجرد. لكنه ترك للذرة خصيصة «الموجود»، خصيصة الامتداد في الفراغ، خصيصة الشكل والحركة؛ إذ كان يصعب التحدُّث عن الذرة إذا ما جُرِّدت من مثل هذه الخصائص، لكن هذا يَعني من الناحية الأخرى أن مفهوم الذرة لا يمكن أن يُفسِّر الهندسة أو الامتداد في الفضاء أو الموجود، لأنه لا يستطيع أن يختزلها إلى شيءٍ أكثر جوهريةً. والنظرة الحديثة بالنسبة لهذه القضية تبدو أكثر صلابةً وراديكالية. دعنا نُناقش السؤال: ما هو الجُسيم الأولي؟ إننا نقول «نيوترون» مثلًا لكنَّا لا نستطيع أن نُعطي صورةً واضحةَ التحديد ولا ما نَعنيه بهذه الكلمة. يُمكننا أن نستخدِم صورًا متعددة، كأن نصِفه مرة كجُسيم ومرةً كموجةٍ ومرة كدفقة أمواج. لكنا نعرف أن ليس مِن هذه الأوصاف ما هو دقيق. المؤكد أنَّ ليس للنيوترون لونٌ ولا رائحة ولا طعم. وفي هذا الخصوص فإنه يُشبه ذرة الفلسفة الإغريقية. لكنَّا نجرد الجُسيم الأوَّلي حتى من الخصائص الأخرى، على الأقل إلى حدٍّ ما، فمَفهومَي الهندسة والحركة، كالشكل والحركة في الفضاء، لا يمكن أن يُطبَّقا عليه باستقامة. فإذا أردْنا أن نُعطي وصفًا دقيقًا للجُسيم الأوَّلي — وهنا يكون التأكيد على كلمة «دقيق» — فإنَّ كلَّ ما نستطيع أن نكتُبه في وصفه هو دالَّة احتمال، لكنَّا سنرى هنا أنَّا لا نمنحُ ما نصِفُه ولا حتى خصيصة «الموجود» (إذا اعتبرنا هذه «خصيصة»). إنها احتمال أن يوجَد أو نزعة لأن يوجَد. وعلى هذا فإن الجُسيم الأوَّلي للفيزيقا الحديثة لا يزال أكثر تجريدًا من ذرة الإغريق، وهو، بهذه الخصيصة بالذات، أكثر استقامةً كمفتاحٍ لتفسير سلوك المادة.
تتألَّف الذرَّات جميعًا في فلسفة ديموقريطس من نفس الجوهر، إذا كان لنا هنا أن نستخدِم كلمة «الجوهر» أصلًا. والجُسيم الأوَّلي في الفيزياء الحديثة يحِمل كتلةً بنفس المعنى المحدود الذي يحمل به الصفات الأخرى. ولمَّا كانت الكتلة والطاقة، تبعًا لنظرية النسبية، هما في الأساس نفس المفهوم، فلَنا أن نقول إنَّ كل الجُسيمات الأولية تتألف مِن الطاقة. يمكن أن نفهم هذا على أنَّنا نُعرِّف الطاقة بأنها الجوهر الأوَّلي للعالم، فلَها في الحق الخصيصة المُميزة للمصطلح «جوهر» مِن حيث إنها تُحفَظ. لذلك فقد ذكرْنا قبلًا أن أفكار الفيزيقا الحديثة في هذا الخصوص قريبة جدًّا من أفكار هرقليطس، إذا أخذنا عنصر النار على أنه يَعني الطاقة. الطاقة في الحقِّ هي ما يتحرك، ولقد نُسمِّيها العلَّة الأولى لكلِّ تغيُّر، والطاقة يمكن أن تتحوَّل إلى مادةٍ أو حرارة أو ضوء، والنزاع بين الأضداد في فلسفة هرقليطس يُمكن أن نجِدَه في النزاع بين صورتَين مختلفتَين مِن صور المادة.
والذرات في فلسفة ديموقريطس هي وحدات للمادة أزليَّة لا تُحطَّم، ومن المُستحيل أن تتحوَّل إحداها إلى الأخرى. تتَّخذ الفيزياء الحديثة بالنسبة لهذه القضية موقفًا واضحًا ضد مادية ديموقريطس، وفي صفِّ أفلاطون والفيثاغورسيين. فالأجسام الأولية بالتأكيد ليست وحداتٍ للمادة أزليَّة لا تُحطَّم، ومِن الممكن فعلًا تحويلها من صورةٍ إلى الأخرى. والواقع أنه إذا تحرَّك جُسيمان من هذه خلال الفضاء بطاقةٍ حركية عالية جدًّا، ثم اصطدَما، فقد يُخلَق مِن الطاقة المتاحة الكثير من الجُسيمات الأولية الجديدة بينما يَختفي الجسيمان الأصليَّان في عملية الارتطام. ولقد لُوحظت مثل هذه الوقائع كثيرًا، وهي تُقدِّم أكبر دليل على أنَّ الجسيمات مصنوعة من نفس الجوهر: الطاقة. لكنَّا قد نأخذ تشابُه الأفكار الحديثة مع أفكار أفلاطون والفيثاغورسيين إلى مدًى أبعد بعض الشيء. فالجُسيمات الأولية في «تيماوس» أفلاطون هي في النهاية ليست جوهرًا، إنما هي صورةٌ رياضية «كل الأشياء أرقام». هذه جُملة تُنسَب إلى فيثاغورس. ولقد كانت الصِّيَغ الرياضية الوحيدة المتاحة في زمنه هي صِيَغ هندسة المُجسَّمات المنتظمة والمثلثات التي تُشكل أسطحها. ليس ثمَّة مِن شكٍّ في أن الجُسيمات الأولية في نظرية الكم الحديثة ستُصبح هي الأخرى في النهاية صِيغًا رياضية إن تكن طبيعتها أكثر تعقيدًا. فكَّر الفلاسفة في صورٍ ساكنة، ووجدوها في المُجسمات المنتظمة. أما العلم الحديث فقد انطلق منذ بداياته في القرن السادس عشر والقرن السابع عشر، انطلق من المُشكلة الديناميكية. لم يكن العنصر الثابت في الفيزياء، منذ عصر نيوتن صورةَ تشكُّلٍ أو صيغةً رياضية، وإنما كان قانونًا ديناميكيًّا. معادلة الحركة صحيحة في كل وقت، فهي بهذا المعنى أزليَّة، أما الصور الهندسية، كمِثل المدارات، فهي مُتغيرة. وعلى هذا فإن الصِّيَغ الرياضية التي تُمثل الجُسيمات الأولية ستكون هي حلول قانونٍ ما أزلي لحركة المادة. والواقع أن هذه المشكلة لم تجِدِ الحلَّ بعد. فالقانون الأساسي لحركة المادة لم يُكتشَف حتى الآن، وعلى هذا فليس مِن الممكن حتى الآن أن نستنبِط رياضيًّا خصائص الجُسيمات الأولية مِن مثل هذا القانون. لكن يبدو أن الفيزياء النظرية في وضعها الحالي ليست بعيدةً عن هذا الهدف، ويُمكننا على الأقل أن نقول أي نوع من القوانين سنتوقَّع. وربما كانت المعادلة النهائية لحركة المادة مُعادلةً موجيةً مُكَمَّاة غير خطِّية لمجال عواملٍ موجي يُمثل المادة، وليس أي نوعٍ من الموجات أو الجُسيمات. وقد تكافئ معادلة الموجة هذه مَجاميع متعددةً من مُعادلات تكاملية لها «جذور كامنة» و«حلول كامنة» كما يقول الفيزيائيون. وستُمثل الحلول الكامنة في نهاية الأمر الجُسيمات الأولية، هي الصور الرياضية التي ستَحلُّ محلَّ المُجسمات المنتظمة عند الفيثاغورسيين. ولقد نذكُر الآن أن «الحلول الكامنة» ستنتُج عن المعادلة الأساسية للمادة بنفس العملية الرياضيَّة التي تنتُج بها الاهتزازات الهارمونية للوتَر الفيثاغورسي عن المعادلة التفاضُلية للوتر. لكن هذه المشاكل — كما قُلنا — لم تُحَل بعد.
فإذا اتَّخذنا الخط الفيثاغورسي للتفكير فلقد نأمُل أن يثبت في النهاية أن قانون الحركة الأساسي هو قانون رياضي بسيط، حتى لو كان تقييمُه بالنسبة للحالات الكامنة في غاية التعقيد. يصعب أن نُقدِّم حجةً طيبة لأملِنا هذا في البساطة، سوى حقيقة أنَّنا استطعْنا دائمًا أن نكتُب المعادلات الأساسية للفيزياء في صِيَغ رياضية بسيطة. وهذه الحقيقة تتوافق مع دين الفيثاغورسيين، ويُشاركهم الكثير من الفيزيائيين في هذا الشأن. لكن ليس ثمة حجَّة مُقنعة حتى الآن تقول إن الأمر لا بد أن يكون هكذا.
ربما أضفْنا هنا حجَّةً تتعلق بمسألةٍ كثيرًا ما يُثيرها غير المُتخصصين، عن مفهوم الجُسيم الأوَّلي في الفيزياء الحديثة. لماذا يدَّعي الفيزيائيون أن جُسيماتهم الأوليَّة لا يمكن أن تنقسِم إلى أجزاء أصغر؟ إن إجابة هذا السؤال توضِّح بجلاءٍ قدْر الزيادة في التجريد بالعلم الحديث، مقارنة بالفلسفة الإغريقية. تَجري الحجَّة كما يلي: كيف يمكن أن ينقسِم الجسيم الأوَّلي؟ مؤكدًا سيحدث هذا باستخدام قوى شديدة وآلات حادَّة جدًّا. والآلات المُتاحة لن تكون غير جُسيمات أولية أخرى. وعلى هذا فإن التصادُمات بين جُسيمَين أولِيَّين لهما طاقة عالية جدًّا ستكون هي الوسيلة الوحيدة لتقسيم الجُسيمات. والواقع أنه مِن الممكن أن تُقسَّم بمثل هذه الوسائل، ويكون ذلك أحيانًا إلى عددٍ كبير جدًّا من الشظايا. لكن الشظايا هذه هي، مرة أخرى، جُسيمات أولية، وليست أجزاءً صغيرة منها، وتنتُج كُتَل هذه الشظايا عن الطاقة الحركية الضخمة للجُسيمات المتصادمة. بمعنًى آخر: إن تحول الطاقة إلى مادة يجعل من المُمكن أن تكون شظايا الجُسيمات الأولية، مرة أخرى، هي نفس الجُسيمات الأوَّلية.
بعد ما قدمناه من مقارنة بين الأفكار الحديثة في الفيزياء الذرية والفلسفة الإغريقية، علينا أن نُضيف تحذيرًا بألَّا نُسيء تفهُّم هذه المقارنة. قد يبدو من النظرة الأولى أن فلاسفة الإغريق قد توصلوا عن طريق نوعٍ مِن الحدس العبقري إلى نفس الاستنباطات — أو ما هو قريب جدًّا من الاستنباطات — التي لم نبلُغها في العصور الحديثة إلَّا بعد قرونٍ من العمل الشاقِّ في التجارب والرياضيات. إن تفسير المقارنة بهذا الشكل سيكون سوء تفهُّمٍ خطيرًا. ثمة فارق واسع بين العلم الحديث والفلسفة الإغريقية، يكمُن في الموقف التجريبي للعلم الحديث. لقد ارتكز العلم منذ عصر جاليليو ونيوتن على الدراسة التفصيلية للطبيعة، وعلى مُسلَّمة أنَّا لا يصحُّ أن نتناول إلا التقارير التي حقَّقتها التجربة أو التي يمكن على الأقل أن نتحقَّق منها بالتجربة. أما فكرة أن نختار بالتجربة وقائع بذاتها من الطبيعة من أجل دراسة التفاصيل والتوصُّل إلى القانون الثابت في التغيُّر المُستمر، فهو أمر لم يخطر ببال الفلاسفة الإغريق. وعلى هذا فإن العلم الحديث، ومنذُ بدايته، قد وقف — على عكس الفلسفة القديمة — على أرضٍ أكثر تواضعًا إن تكن أكثر صلابة. ومن ثم فإن ما تعنيه تقارير الفيزياء الحديثة لهو شيء أكثر جديةً مقارنة بما تَعنيه الفلسفة الإغريقية، فإذا قال أفلاطون مثلًا إن أصغر جُسيمات النار هي المُجسمات الرباعية، فليس من السهل أن نفهم ما يَعنيه حقًّا. هل المُجسَّم الرباعي يرتبط بعنصر النار من الناحية الرمزية فقط؟ أم أن أصغر جُسيمات النار يعمل ميكانيكيًّا كمِثل مُجسمات رباعية صلبة أو مُجسمات رباعية مرِنة؟ وبأية قوة يمكن أن نفصلها إلى مُثلثات متساوية الأضلاع … إلخ؟ فالعلم الحديث ينتهي دائمًا بالسؤال: كيف يستطيع المرء تجريبيًّا أن يُقرر ما إذا كانت ذرَّات النار مُجسمات رباعية وليست مُكعبات مثلًا؟ وعلى هذا فإذا ما قرَّر العلم الحديث أن البروتون هو حلٌّ مُعين لمعادلة أساسية للمادة، فإنه يعني أنه يستطيع من هذا الحلِّ أن يستنبط رياضيًّا كل الخصائص المُمكنة للبروتون، وأنه يستطيع أن يتفحَّص صحَّة الحل بالتجربة في كل التفاصيل. وهذه الإمكانية لتفحُّص صحة التقرير تجريبيًّا، وبدرجة عالية من الدقة، ولأي عددٍ من التفاصيل، تُعطي وزنًا هائلًا للتقرير لا يمكن أن نعزوه لتقارير الفلسفة الإغريقية المبكرة.
على أية حال، إن بعض تقارير الفلسفة القديمة تقترب بعض الشيء من تقارير العلم الحديث، وهذا يوضح ببساطةٍ المدى الذي يمكن أن نصل إليه بتجميع خبرتنا العادية بالطبيعة، والتي نُدركها دون إجراء تجارب، مع المجهود المُتواصِل كي نُدخِل نوعًا من النظام المنطقي إلى الخبرة لنتفهَّمها من مبادئ عامة.