تطور الأفكار الفلسفية منذ ديكارت مقارنة بالوضع الجديد في نظرية الكم
في الألفي سنةٍ التي أعقبت أوج العلم والثقافة الإغريقية بالقرن الخامس والرابع قبل الميلاد كان الذهن البشري مشغولًا إلى حدٍّ كبير بمشاكل ذات طبيعةٍ تختلف عمَّا كان بالمرحلة السابقة. ففي القرون الأولى للحضارة الإغريقية كان الواقع المباشر، الذي نحيا به ونُحسُّه بحواسِّنا هو أقوى الدوافع، كان الواقع يمتلئ بالحياة، ولم يكن ثمَّة مِن سببٍ وجيه لتأكيد التفرقة بين المادة والعقل، أو بين الجسم والروح. لكنَّا سنرى في فلسفة أفلاطون أنَّ ثمَّة دافعًا آخر قد بدأ يبرز. ففي «الكهف» شبَّه أفلاطون الرجال بسُجناء في كهفٍ قُيدوا بحيث لا ينظرون إلا في اتجاه واحد. خلفهم كانت نار، وعلى الحائط أمامهم كانوا يرَون ظلالهم وظلال الأشياء من خلفهم. ولمَّا كانوا لا يرَون سوى الظلال، فقد اعتبروا الظلال واقعًا ولم يُدركوا الأشياء نفسها. في النهاية هرب واحد منهم وخرج من الكهف إلى ضوء الشمس. لأول مرةٍ رأى الأشياء الحقيقية وأدرك أن الظلال قد خدعته، عرف الحقيقة لأول مرة ولم يعُد يذكُر حياته السابقة في الظلام إلا في أسًى. السجين الذي هرب من الكهف إلى نور الحقيقة هو الفيلسوف الحقيقي. إنه يمتلك المعرفة الحقيقية. وهذا الارتباط المباشر بالحقيقة، أو بالإله (إذا استخدمنا المعنى المسيحي) هو الواقع الجديد الذي ابتدأت قوَّتُه تفوق واقع العالم الذي نُحسُّه بحواسِّنا. يحدث الارتباط المباشر بالإله داخل الروح البشرية، لا في العالم. ولقد كانت هذه هي المشكلة التي شغلت الفكر الإنساني أكثر من أي شيءٍ آخر خلال الألفي سنة بعد أفلاطون. في هذه الفترة اتَّجهت أعيُن الفلاسفة نحو روح الإنسان وعلاقته بالإله، نحو مشاكل الأخلاقيات، نحو تفهُّم الوحي، لا نحو العالم الخارجي. وكان علينا أن ننتظِر حتى عصر النهضة الإيطالي حتى يبدأ ثانية تغيُّر تدريجي للذهن البشري، ينتهي إلى إحياء الاهتمام بالطبيعة.
أما التطور الكبير في العلوم الطبيعية بالقرن السادس عشر والسابع عشر، فقد سبقه وصحبه تطوُّر في الرؤى الفلسفية، تطوُّر يرتبط برباطٍ وثيقٍ بالمفاهيم الأساسية في العلم. وعلى هذا فقد يكون مِن المفيد أن نُعلق على هذي الرؤى مِن الموقع الذي بلغه العلم الحديث أخيرًا في زماننا.
كان أول كبار الفلاسفة في هذه الحقبة الجديدة للعلم هو رينيه ديكارت الذي عاش في النصف الأول مِن القرن السابع عشر، وكتابه «المقال في المنهج» يحمل أهم آرائه بالنسبة لتطوُّر التفكير العلمي، حاول على أساس الشكِّ والاستدلال المنطقي أن يجد أساسًا جديدًا تمامًا، أو كما أعتقد أساسًا صلبًا، لنسقٍ فلسفي. لم يقبل الوحي في ذاته أساسًا، لا ولم يرغب في أن يقبل — دون تفحُّص — ما تستشعِره الحواس. ابتدأ إذن بمنهج الشك. ألقى بشكوكه على ما تُخبرنا به حواسُّنا عن نتائج استدلالاتنا، ليصِل في النهاية إلى جُملته الشهيرة «أنا أفكر إذن فأنا موجود». أنا لا أستطيع أن أشكَّ في وجودي لأن وجودي ناتِج عن حقيقة أنَّني أُفكر، وبعد توطيد وجود الأنا بهذه الطريقة مضى ليُثبت وجود الإله مُتَّبعًا خطوط الفلسفة المدرسية. أما وجود العالم فسيتأتى عن حقيقة أن الإله قد منحني ميلًا قويًّا كي أعتقد بوجود العالم — ومِن المُستحيل بالطبع أن يكون الإله قد خدعني.
يختلف أساس فلسفة ديكارت هذا اختلافًا جذريًّا عن قرينه لدى الفلاسفة الإغريق، فنقطة البدء هنا ليست هي المبدأ أو الجوهر الأوَّلي، وإنما هي مشروع معرفة أوَّلية. ولقد أدرك ديكارت أن ما نعرفه عن ذِهننا أكثر يقينًا ممَّا نعرفه عن العالم الخارجي. غير أن الثالوث «الإله – العالم – الأنا»، وهو نقطة البداية عنده، قد بسَّط بطريقةٍ خطرةٍ الأساس لمزيدٍ من الاستدلال. فالقسمة بين المادة والذهن، أو بين الروح والجسد (تلك التي بدأت في فلسفة أفلاطون) قد غدت الآن تامَّة. لقد افترق الإله عن الأنا وعن العالم. لقد رُفع الإله في الحقيقة إلى مرتبةٍ أعلى بكثيرٍ فوق العالم وفوق الناس، حتى إنه لا يظهر بفلسفة ديكارت في النهاية إلَّا كنقطة إحالة شائعة، تُوطِّد العلاقة بين الأنا والعالم.
وبينما حاولَت فلسفة قُدامى الإغريق أن تجِد النظام في التنوُّع اللانهائي للأشياء والوقائع، بالبحث عن مبدأٍ موحَّد أوَّلي، فقد حاول ديكارت أن يوطِّد النظام من خلال شكلٍ من القسمة الأولية، لكن الأجزاء الثلاثة التي تنشأ عن القسمة تفقد بعضًا من جوهرها إذا ما أُخِذ أيٌّ منها منفصلًا عن الجزأين الآخَرين. فإذا كان لنا أن نستعمِل المفاهيم الأوَّلية لديكارت فسيلزَم أن يكون الإله في العالم، وفي الأنا، وسيلزَم أيضًا ألَّا تنفصل الأنا عن العالم. طبيعي أن ديكارت قد عرف ضرورة هذا الارتباط التي لا تقبل الجدل، لكن الفلسفة والعلوم الطبيعية في الفترة اللاحقة قد تطوَّرت على أساس التناقُض بين «الشيء المُفكر» و«الشيء المُمتد». ركَّزت العلوم الطبيعية اهتمامها على «الشيء المُمتد». ومن الصعب أن نُقلل من أثر القسمة الديكارتية على الفكر الإنساني في القرون التالية، لكن هذه القسمة بالذات هي ما سأقوم بنقدها فيما بعد، وذلك من تطوُّر الفيزياء في وقتِنا هذا.
سيكون من الخطأ بالطبع أن نقول إن ديكارت، من خلال منهجه في الفلسفة، قد فتح اتجاهًا جديدًا في الفكر الإنساني. إن ما فعله حقًّا هو أن صاغ لأول مرةٍ نزعة في التفكير الإنساني يُمكن بالفعل أن نشهدها في حركة النهضة بإيطاليا وحركة الإصلاح الديني. لقد كان ثمة عودة إلى الاهتمام بالرياضيات، الأمر الذي يَشي بالأثر المُتزايد للعوامل الأفلاطونية بالفلسفة، والإلحاح على الدين الشخصي. دعم الاهتمام المُتنامي بالرياضيات نظامًا فلسفيًّا بدأ بالاستدلال المنطقي وحاول بهذا المنهج أن يصِل إلى بعض الحقيقة؛ بعض به من اليقين مثل ما بنتيجة القياس الرياضي. أما الإلحاح على الدين الشخصي فقد فصل بين الأنا وعلاقتها بالإله، وبين العالم. وأما الاهتمام لتجميع المعرفة التجريبية مع الرياضيات — كما نلحظ في أعمال جاليليو — فربما كان يرجع جزئيًّا إلى احتمال أن نصِل بهذه الطريقة إلى بعض المعرفة التي يمكن حفظها مُستقلة تمامًا عن الجدل اللاهوتي الذي أثارته حركة الإصلاح الديني. من الممكن أن تصاغ هذه المعرفة التجريبية دون أن نتحدَّث عن الإله أو عن أنفسنا. وهي تدعم فصل المفاهيم الثلاثة القاعدية «الإله – العالم – الأنا»، أو الفصل ما بين «الشيء المُفكر» و«الشيء المُمتد». في تلك الحقبة كان ثمة في بعض الحالات اتفاقٌ صريح بين روَّاد العلم التجريبي على ألَّا يُذكَر في مناقشاتهم اسم الإله أو العلَّة الأولى.
من ناحية أخرى، كان من اليسير أن نتنبَّأ من البداية بالصعوبات التي ستكتنِف عملية القسمة، ففي التفرقة ما بين «الشيء المُفكر» و«الشيء المُمتد» مثلًا، سنجد ديكارت وقد دُفع إلى أن يضع الحيوانات على جانب «الشيء المُمتد» كليةً. وبناء على ذلك فإن الحيوانات والنباتات لا تختلِف جذريًّا عن الماكينات، فسلوكها محكوم تمامًا بعِلَل مادية. ويبدو أنه من الصعب علينا دائمًا أن نُنكِر وجود نوعٍ من الروح في الحيوانات، كما يبدو أنَّ المفهوم القديم للروح — في فلسفة توماس الأكويني مثلًا — هو أمر أكثر طبيعيةً وأقل قسرًا من مفهوم «الشيء المُفكر» الديكارتي، حتى لو اقتنعنا بأن قوانين الفيزياء والكيمياء تسري بدقَّة على الكائنات الحيَّة. من بين النتائج التي ظهرت متأخرةً لهذه الفكرة الديكارتية أنَّنا إذا اعتبرنا ببساطة أن الحيوانات ماكينات فسيصعُب ألَّا نقول نفس الشيء عن البشر. من ناحيةٍ أخرى، لمَّا كان «الشيء المفكر» و«الشيء الممتد» قد اعتُبرا شيئين مختلفين تمامًا في الجوهر، فإننا لن نتوقَّع أن يؤثر أيهما في الآخر، وعلى هذا فلكي نحفظ توازيًا كاملًا بين خبرة الذهن وخبرة الجسد، فلا بد أن يكون النشاط الذهني أيضًا محكومًا تمامًا بقوانين تُناظر قوانين الفيزياء والكيمياء. هنا تبزُغ مسألة إمكانية «الإرادة الحرة». الواضح أن كل هذا الوصف وصفٌ اصطناعي بشكلٍ ما، ويُبين القصور الخطير في عملية القسمة الديكارتية.
من الناحية الأخرى سنجد أن القسمة في العلوم الطبيعية كانت ولبضعةِ قرونٍ ناجحة تمامًا. ابتدأت ميكانيكا نيوتن، وكل الفروع الأخرى من الفيزياء الكلاسيكية التي بُنيت على نمطِها. ابتدأت من افتراضٍ يقول إنَّنا نستطيع أن نصِف العالم دون أن نتحدَّث عن الإله أو عن أنفسنا، ولقد بدا سريعًا أن هذه الإمكانية تكاد تكون شرطًا ضروريًّا للعلوم الطبيعية بوجهٍ عام.
لكن الوضع هنا قد تغيَّر بعض الشيء بسبب نظرية الكم، وعلى هذا فقد يكون لنا الآن أن نُقارن نسَق ديكارت الفلسفي بالوضع الحالي في الفيزياء الحديثة. سبق أن أوضحنا أننا نستطيع أن نمضي في تفسير كوبنهاجن لنظرية الكم دون أن نذكُر أنفسنا كأفراد، لكنَّا لا نستطيع أن نتجاهل حقيقة أنَّ الإنسان هو مَنْ شكَّل العلوم الطبيعية، إن العلوم الطبيعية ليست مجرد وصفٍ وتفسير للطبيعة، إنها جزء من التفاعُل بين الطبيعة وبين أنفسنا، إنها تصف الطبيعة بعد أن نُعرِّضها لمنهجنا في الاستفهام. وهذه إمكانية لم يكن ديكارت ليُفكر فيها لكنها تجعل الفصل القاطع بين العالم والأنا مُستحيلًا.
فإذا تتبَّعنا الصعوبة البالِغة التي واجهت حتى كبار العلماء من أمثال أينشتين في تفهُّم وقبول تفسير كوبنهاجن لنظرية الكم، فسنجد أن جذورها ترجع إلى عملية القسمة الديكارتية. لقد نُفِّذت هذه القسمة بعُمق داخل الذهن البشري عبر القرون الثلاثة التي انقضت بعد ديكارت، وسيتطلَّب الأمر زمانًا طويلًا حتى يُمكن أن نستبدل بها موقفًا مختلفًا حقًّا نحو مشكلة الواقع.
أما الوضع الذي قادت إليه القسمة الديكارتية بالنسبة ﻟ «الشيء المُمتد»، فقد كان هو ما قد نُسمِّيه الواقعية الميتافيزيقية. فالعالم — نعني الأشياء المُمتدة — «موجود». ويجب أن نفرق بين هذه وبين الواقعية العملية. من المُمكن أن نصِف الأشكال المختلفة من الواقعية كما يلي: إنَّنا نُمَوضِع أي تقرير إذا ادَّعَينا أن محتواه لا يتوقف على الظروف اللازمة لإثباته. تفترض الواقعية العملية أن هناك تقارير يمكن مَوضعتُها، بل إن الجزء الأكبر من خِبرتنا في الحياة اليومية يتألف في الواقع مِن مثل هذه التقارير. والواقعية الدوجماتية تدَّعي ألا وجود لتقارير تتعلَّق بالعالم المادي لا يُمكن موضعتها. كانت الواقعية العملية دائمًا، وستظلُّ دائمًا، جزءًا جوهريًّا من العلوم الطبيعية. لكن الواقعية الدوجماتية — كما نراها الآن — ليست شرطًا ضروريًّا للعلوم الطبيعية. غير أنها قد لعبت دورًا هامًّا في تطوُّر العلوم، بل الواقع أن الوضع في الفيزياء الكلاسيكية هو وضع واقعية دوجماتية. وعن طريق نظرية الكم وحدَها عرفنا أن العلم المضبوط مُمكن دون أساسٍ مِن الواقعية الدوجماتية. ولقد ارتكز نقد أينشتين لنظرية الكم على الواقعية الدوجماتية. وهذا موقف طبيعي للغاية. فكلُّ عالِم يقوم بالتجارب يشعر بأنه يبحث عن شيءٍ له حقيقة موضوعية، وهو لا يرغب أن تعتمِد تقاريره على الظروف اللازمة لإثباتها. أما حقيقة أننا نستطيع أن نفسر الطبيعة — وبالذات في الفيزياء — بقوانين رياضية بسيطة، فهي تُخبرنا أنَّنا نقابل هنا ملمحًا حقيقيًّا من ملامح الواقع، لا شيئًا بأنفسنا قد ابتكرناه — بكلِّ ما لهذه الكلمة من معان. هذا هو الوضع الذي كان في ذهن أينشتين عندما اتخذ الواقعية الدوجماتية أساسًا للعلوم الطبيعية. لكن نظرية الكم ذاتها هي مثال لإمكانية تفسير الطبيعة عن طريق قوانين رياضية بسيطة دون هذا الأساس. قد لا تبدو هذه القوانين بسيطة إذا قُورنت بميكانيكا نيوتن، فإذا ما نظرنا إلى التعقيد البالغ للظواهر التي علينا أن نُفسرها (مثلًا: الطيف الخطِّي للذرات المُعقدة) فسنجد أن المُخطط الرياضي لنظرية الكم بسيط نسبيًّا. الواقع أن العِلم الطبيعي مُمكن دون أساس مِن الواقعية الدوجماتية.
تمضي الواقعية الميتافيزيقية خطوةً أبعد من الذاتية الدوجماتية، عندما تقول إن «الأشياء توجَد حقًّا». وهذا في الواقع هو ما حاول ديكارت أن يُثبته بحجَّته أن الإله لا يمكن أن يكون قد خدعَنا. إن القول إن الأشياء توجَد حقًّا يختلف عما تقول به الواقعية الدوجماتية، لوجود كلمة «توجد» هنا، وهي المُضمَّنة أيضًا في القول «أنا أفكر إذن فأنا موجود»، لكن يصعُب أن نفهم المقصود في هذا الموضوع والذي لا تتضمَّنه بالفعل قضية الواقعية الدوجماتية. وهذا يقودنا إلى نقدٍ عامٍّ للتعبير «أنا أُفكر إذن فأنا موجود» الذي اعتبره ديكارت الأساس الصلب الذي يمكن أن يَبني عليه نظامه. والواقع بالفعل أن بهذا التعبير يقينًا مثل يقين نتيجة القياس الرياضي إذا عرَّفنا الكلمات «أنا أفكر» و«موجود» بالطريقة المعتادة — أو بصورةٍ أكثر حذرًا، وأكثر انتقادًا في الوقت نفسه — إذا عرَّفناها بحيث يكون التعبير استطرادًا لها. لكن هذا لا يُعرِّفنا بالمدى الذي يُمكننا أن نستعمِل فيه مفهومي «التفكير» و«الموجود» في استكشاف طريقنا. إن السؤال عن المدى الذي يمكن فيه تطبيق مفاهيمنا هو دائمًا سؤال تجريبي على العموم.
ولقد شعر الفلاسفة بمشكلة الواقعية الميتافيزيقية بعد ديكارت بوقتٍ قصير، وأصبحت هي نقطة البدء بالنسبة للفلسفة التجريبية، للمذهب الحسِّي والمذهب الوضعي.
ثمَّة فلاسفة ثلاثة يُمكن اعتبارهم مُمثلين للفلسفة التجريبية المبكرة هم: لوك وباركلي وهيوم. كان هيوم يعتقد — على عكس ديكارت — أن أصل المعرفة كلها، في نهاية المطاف، هو الخبرة. قد تكون هذه الخبرة إحساسًا أو إدراكًا حسيًّا بعمل عقولنا. يقول لوك إن المعرفة هي الإحساس باتفاق فكرتَين أو عدم اتفاقهما. تكفَّل باركلي بالخطوة التالية. فإذا كانت كلُّ معرفتنا مُشتقة فعلًا من الإدراك الحسِّي، فليس ثمة معنًى لقولنا «إن الأشياء توجَد حقًّا». ذلك أننا إذا افترضنا الإدراك الحسي فلن يُهم فعلًا إن كانت الأشياء موجودة أو غير موجودة. وعلى هذا فقولنا إنَّ الشيء محسوس يُطابق قولنا إنه موجود. ولقد مدَّ هيوم هذا الخط من الجدَل إلى مذهبٍ للتشكُّكية مُتطرف أنكر الاستقراء والسببية، ومِن ثَم توصَّل إلى نتيجة تُحطِّم، إذا أخذْناها على نحوٍ جاد، أساس كلِّ العلوم التجريبية.
ونقد الواقعية الميتافيزيقية الذي عبَّرت عنه الفلسفة التجريبية، هو نقْد له، بالتأكيد، ما يُبرِّره، إذا أُخِذ كتحذيرٍ ضد الاستخدام الساذج لمصطلح «وجود». ومِن الممكن أن نوجِّهَ النقد بنفس الطريقة للتعبيرات الوضعية لهذه الفلسفة، فحواسُّنا ليست مجردَ حُزَم من الألوان أو الأصوات. إن ما نُحسُّه، نُحسُّه كشيءٍ ما — والتركيز هنا على كلمةِ «شيء» — وعلى هذا فلَنا أن نَشكَّ فيما إذا كان ثمَّة ما سنكسبُه إذا نحن وضعْنا إحساساتنا، بديلًا عن الأشياء، كعناصر الواقع الأوَّلية.
أما المشكلة الأساسية فقد أقرَّت بها الوضعية الحديثة في وضوح. يُعبر هذا الخط من التفكير عن انتقادٍ للاستخدام الساذج لمصطلحاتٍ معينة مثل «الشيء» و«الإدراك الحسِّي» و«الوجود» وذلك بالمُسلَّمة العامة بأنَّ مسألةً ما، إذا كان لجُملةٍ ما أيُّ معنًى على الإطلاق، هي أمر لا بد أن يخضع لفحصٍ دقيقٍ نقدي. فالمُسلَّمة — والموقف من خلفها — مُشتقَّان مِن المنطق الرياضي. ويُصوَّر منهج العلوم الطبيعية كوصلةٍ من الرموز مُلحَقة بالظواهر. من الممكن أن تجمع الرموز — كما في الرياضيات — حسب قوانين مُعينة، وبهذه الطريقة يُمكن أن تُمثَّل التقارير عن الظواهر بمجاميع من الرموز. فإذا ما كان ثمة مجموعة من الرموز لا تُطيع القوانين، فهي ليست خاطئة، إنما هي فقط لا تنقل أي معنًى.
والمشكلة الواضحة في هذه الحجَّة هي افتقارنا إلى أي معيارٍ نحكم به على ما إذا كانت الجُملة بلا معنًى. فنحن لن نصِل إلى حكمٍ حاسم إلَّا إذا كانت الجُملة تنتمي إلى نظامٍ مُغلق من المفاهيم والبديهيات، وهذا أمر يُعتبَر، في تطور العلوم الطبيعية، الاستثناء لا القاعدة. يقول التاريخ إن التخمين بأن جُملةً مُعينة لا معنى لها قد قاد في بعض الحالات إلى تقدُّم كبير، إذ فتح الباب لتوطيد علاقاتٍ جديدة كانت مُستحيلة لو كان للجُملة معنًى. ولقد ناقشْنا في نظرية الكمِّ مثالًا هو الجُملة: «في أي مدارٍ يتحرك الإلكترون حول النواة». لكن المُخطط الوضعي المُستمد مِن المنطق الرياضي هو على العموم نطاقٌ ضيق للغاية في وصف الطبيعة يَستخدِم بالضرورة كلماتٍ ومفاهيم يصعُب تعريفها إلا في صورةٍ مبهمة.
ولقد قادت القضية الفلسفية القائلة إنَّ كل المعرفة تتركَّز في نهاية المطاف في الخبرة، قادت إلى مُسلَّمة تتعلَّق بالتفسير المنطقي لأي تقرير عن الطبيعة. ربما كان هناك ما يُبرر مثل هذه المُسلَّمة في مرحلة الفيزياء الكلاسيكية، لكنَّا قد عرفنا منذ ظهرت نظرية الكم أنها لا يُمكن أن تُحقَّق. إن «موقع» و«سرعة» الإلكترون كلمتان يبدو أنهما مُحدَّدتان مِن ناحية المعني والارتباطات المُحتملة؛ والحق أنهما كانتا مفهومَين واضحَي التحديد داخل الإطار الرياضي لميكانيكا نيوتن، لكن الواقع أنهما ليستا كذلك، تُخبرنا بذلك العلاقات اللامُحققية. فلقد نقول إن «الموقع» في ميكانيكا نيوتن كان مُحددًا تمامًا، لكن العلاقة بالطبيعة لم تكن كذلك. وهذا يُبين أنَّنا أبدًا لن نستطيع أن نعرف مُقدَّمًا أية قيود قد تكتنِف قابلية تطبيق مفاهيم مُعينة عندما نمدُّ موقفنا إلى مناطق من الطبيعة بعيدة لا يُمكننا اختراقها إلا باستخدام أعقد الأدوات. علينا إذن في عملية الاختراق أن نستخدِم مفاهيمنا أحيانًا بطريقةٍ لا تُبرَّر ولا تحمِل أي معنًى. والإصرار على مُسلمة التفسير المنطقي الكامل سيجعل العِلم مستحيلًا، وسيُذكِّرنا علم الفيزياء الحديث هنا بالحكمة القديمة القائلة: على كل من يريد ألَّا يتفوَّه بخطأ أن يصمت.
ثمة تركيبة تجمع ما بين خطَّي الفكر هذَين اللذَين بدآ من ديكارت من ناحية ولوك وباركلي من أخرى، تركيبة شرع فيها كانط في فلسفته (وكان هو مؤسِّس المثالية الألمانية). أما الجزء من عمله الذي يُهم في المقارنة بنتائج الفيزياء الحديثة فنسجِده في كتابه «نقد العقل الخالص». تبنَّى معالجة قضيةِ ما إذا كانت المعرفة تؤسَّس على الخبرة وحدَها أم أنها قد تأتي عن مصادر أُخرى، وتوصل إلى نتيجةٍ مؤدَّاها أن معرفتنا هي جزئيًّا معرفة قبلية لا يُستدَلُّ عليها بالاستقراء من الخبرة. وعلى هذا فقد ميَّز ما بين المعرفة «التجريبية» والمعرفة «القبلية». في نفس الوقت ميَّز أيضًا ما بين القضايا التحليلية والقضايا التركيبية، فالقضايا التحليلية تنتُج ببساطة عن المنطق، وإنكارها يؤدي إلى التناقُض الذاتي. أما القضايا التي ليست «تحليلية» فهي قضايا «تركيبية».
ما هو معيار المعرفة «القبلية» عند كانط؟ يوافق كانط على أن المعرفة كلها تبدأ من الخبرة، لكنه أضاف أنها لا تُشتَق دائمًا من الخبرة، لكنها لا تُخبرنا أنها لا يُمكن أن تكون مختلفة. وعلى هذا فإذا ما فكَّرنا في قضيةٍ مع ضرورتها، فلا بد أن تكون قبلية، والخبرة أبدًا لا تمنح، أحكامَها عموميةً كاملة. وعلى سبيل المثال فالجُملة «الشمس تُشرق كل صباح» تعني أنَّنا لا نعرف أي استثناءٍ لهذه القاعدة حدثَ في الماضي، وأننا نتوقَّع أن تسري الجُملة أيضًا في المستقبل. لكنَّا نستطيع أن نتخيَّل استثناءاتٍ للقاعدة. فإذا ما وضعْنا حكمًا ذا عموميةٍ كاملة، أي إذا كان مِن المُستحيل أن نتصوَّر أيَّ استثناء، فلا بد أن يكون هذا الحُكم «قبليًّا» الحُكم التحليلي دائمًا حكم «قبلي». فحتى إذا ما تعلَّم الطفل الحساب عن طريق لعب «البلي» فإن الأمر لا يتطلَّب منه أن يعود إلى خِبرته كي يعرف أن ۲ + ٢ = ٤. لكن المعرفة التجريبية معرفة تركيبية.
لكن، هل مِن الممكن أن تكون الأحكام التركيبية قبلية؟ حاولَ كانط أن يُثبت هذا بأنْ أعطى أمثلةً تبدو فيها المعايير السابقة وقد تحقَّقت. يقول إنَّ الزمان والمكان صورتان قبليَّتان للحدس الخالص. ثم قدَّم عن المكان الحُجَج الميتافيزيقية التالية:
-
(١)
المكان ليس مفهومًا تجريبيًّا جُرِّد من تجارب أخرى، لأن المكان افتراض مُسبق عندما نُحيل الإحساسات إلى شيءٍ خارجي، والخبرة الخارجية مُمكنه فقط من خلال معنى المكان.
-
(٢)
المكان معنًى بسيط قبلي ضروري يُشكل الأساس لكلِّ الإحساسات الخارجية، ذلك أننا لا نستطيع أن نتخيَّل عدم وجود المكان، وإن كنَّا نستطيع أن نتخيَّل المكان فارغًا لا شيء فيه.
-
(٣)
المكان ليس مفهومًا انتقاليًّا أو شاملًا لعلاقات الأشياء عمومًا، لأن هناك مكانًا واحدًا فقط، وما نُسميه «أماكن» ليس سوى أجزاء منه لا شواهد.
-
(٤)
يُعرَض المكان كمقدارٍ مُفترَض لا مُتناهٍ يحمل بداخله أجزاء المكان كلها، وهذه العلاقة تختلف عن علاقة المفهوم بشواهده، وعلى هذا فالمكان ليس مفهومًا وإنما هو صورة من صُوَر الحدس.
لن نُناقش هذه الحُجَج هنا، إنما نذكُرها كأمثلة للنموذج العام للأدلة التي كان كانط يراها بالنسبة للأحكام القبلية التركيبية.
أما بالنسبة للفيزياء فقد أخذ كانط قانون العِلِّية ومفهوم الجوهر — مثلما أخذ الزمان والمكان — على أنهما قبليَّان. ولقد حاول في مرحلةٍ متأخرة من عمله أن يضم أيضًا قانون حفظ المادة و«الفعل ورد الفعل» بل وحتى قانون الجاذبية. وليس مِن فيزيائي سيرغب في اتِّباع كانط هنا إذا ما كان للمُصطلح «قبلي» أن يُستخدَم بالمعنى المطلق الذي منحَه إيَّاه كانط. وفي الرياضيات اعتبر كانط الهندسة الإقليدية قبلية.
وقبل أن نُقارن مذاهب كانط هذه بنتائج الفيزياء الحديثة علينا أن نذكُر جزءًا آخر من عمله سنرجع إليه فيما بعد. فالسؤال الكريه عما إذا كانت «الأشياء توجَد حقًّا» والذي أدَّى إلى الفلسفة التجريبية، هذا السؤال قد ظهر أيضًا في نسق كانط. لكنَّ كانط لم يتَّبع خطَّ باركلي وهيوم، وهو أمر لو حدث لكان مُستقيمًا. لقد احتفظ بفكرة «الشيء في ذاته» منفصلةً عن المُدرَك الحسِّي، وحفظ بهذه الطريقة نوعًا من الارتباط مع الواقعية.
نصِل الآن إلى مقارنة مذاهب كانط بالفيزياء الحديثة. من اللحظة الأولى سيبدو مفهومه المِحوري عن الأحكام التركيبية القبلية وقد مَحقَتْه تمامًا اكتشافاتُ هذا القرن. غيَّرت نظرية النسبية رؤيتنا للمكان والزمان، بل لقد كشفت في الحقيقة ملامح جديدة للزمان والمكان، ليس بينها ما نراه في صُوَر كانط القبلية للحدس الخالص. لم يعُد قانون العِلِّية يُطبَّق في نظرية الكم، ولم يعُد قانون حفظ المادة صحيحًا بالنسبة للجُسيمات الأولية. الواضح أن كانط لم يكن له أن يتنبَّأ بالاكتشافات الحديثة. لكن لمَّا كنتُ مُقتنعًا بأن مفهوماته ستكون «الأساس لأيِّ ميتافيزيقا مُستقبلية يُمكن أن تُسمى علمًا» فمِن المشوِّق أن نرى أين كانت حُجَجُه خاطئة.
دعْنا نأخُذ قانون العِلِّية كمثال. يقول كانط إنه حيثما نلاحظ واقعة فإننا نفترِض أن ثمَّة واقعة سبقتها لا بد للأُخرى أن تنتُج عنها حسبَ قاعدةٍ ما. وهذا كما يُقرر كانط أساس كلِّ العمل العِلمي. أما إمكانية أن نجِد دائمًا هذه الواقعة السابقة من عدمِه فهو أمر لا يُهم بالنسبة لهذه المناقشة، والواقع أننا نستطيع أن نجِدها في الكثير من الحالات، لكن حتى لو لم نستطع، فليس ثمَّة ما يمنعنا من أن نسأل عما قد تكونُه، وأن نبحث عنها. وعلى هذا فقد طُوِّع قانون العلِّية إلى منهج البحث العلمي. إنه الشرط الذي يجعل العِلم مُمكنًا. ولمَّا كنَّا نُطبق هذا المنهج بالفعل، فإن قانون العِلِّيَّة «قبلي» ولا يُشتَق من الخبرة.
فهل هذا صحيح في الفيزياء الذرِّية؟ فلنأخُذ ذرة راديوم يُمكنها أن تُطلِق جُسيم ألفا. لا يمكن أن نتنبَّأ بالوقت الذي سيُطلَق فيه جُسيم ألفا. كل ما يُمكننا أن نقولَه هو أن هذا الجُسيم سيُطلَق في المتوسط في نحو ألفَي عام. وعلى هذا فعندما نُلاحظ الانطلاق فلن نبحث عمليًّا عن واقعةٍ سابقة يتبعها انبعاثُ الجُسيم حسب قاعدةٍ ما. من المُمكن منطقيًّا أن نبحث عن مِثل هذه الواقعة، ولا يلزم أن تُثبطنا حقيقة أنَّ أحدًا لم يلحظ حتى الآن مِثل هذه الواقعة، لكن لماذا تغيَّر المنهج العلمي بالفعل في هذه القضية الجوهرية بالذات منذ كانط؟
ثمَّة إجابتان مُحتملَتان لهذا السؤال؛ الأُولى منهما هي: لقد أقنعَتْنا الخبرة أن قوانين نظرية الكم صحيحة، فإذا كانت كذلك، فإنا نعرِف أنَّنا لن نجِد واقعةً سابقة تُعلل انبعاث الجُسيم في وقتٍ مُعين. أما الإجابة الثانية فهي أنَّنا نعرف الواقعة السابقة، لكن ليس بشكلٍ دقيق تمامًا. إنَّنا نعرف القُوى في النواة الذرية المسئولة عن إطلاق جُسيمات ألفا. لكن هذه المعرفة تحمِل اللامحققية الناجمة عن التفاعُل بين النواة وبين بقية العالم. فإذا أردْنا أن نعرف السبب في إطلاق جُسيم ألفا في ذلك الوقت المُعين، فمِن الضروري أن نعرف التركيب الميكروسكوبي للعالم بأكملِه بما فيه أنفُسنا، وهذا أمر مُستحيل، ولهذا فلم تعُد حُجَج كانط للصِّفة القبلية لقانون العلِّية، قابلة للتطبيق هنا.
مِن المُمكن أن نُقدِّم مناقشةً مشابهة عن الصفة القبلية للزمان والمكان كصورتَين من صور الحدْس، وسنصِل إلى النتيجة نفسها. إن المفاهيم القبلية التي اعتبرها كانط حقيقةً لا تقبل الجدل لم تعُد مُضَمَّنَةً في النسق العلمي للفيزيقا الحديثة.
لكنها لا تزال تُشكل قسمًا جوهريًّا من هذا النسق، إنما بمعنًى يختلف بعض الشيء. عند مناقشة تفسير كوبنهاجن لنظرية الكم أكَّدنا أنَّا نستعمل المفاهيم الكلاسيكية في وصف أجهزتها التجريبية، وبشكلٍ عام، في وصف ذلك الجزء من العالَم الذي لا ينتمي إلى موضوع التجربة. والواقع أن استخدام هذه المفاهيم — ومنها المكان والزمان والعلِّيَّة — هو الشرط لملاحظة الوقائع الذرِّية، وهو — بهذا المعنى — قبلي. أما ما لم يستطِع كانط أن يتنبَّأ به فهو أن هذه المفاهيم القبلية قد تكون هي الشروط اللازمة للعِلم، وأنَّ مجال تطبيقاتها قد يكون محدودًا في نفس الوقت. فعندما نقوم بتجربةٍ فإن علينا أن نفترض تسلسلًا عِلِّيًّا من الوقائع يقود، من الواقعة الذرية عبر الجهاز، حتى عين المراقب. فإذا لم نفترض هذا التسلسُل العِلِّي فلن نعرف شيئًا عن الواقعة الذرية. لكن يلزم أيضًا أن نتذكَّر أن للفيزياء الكلاسيكية وللعِلِّية مدًى محدودًا من التطبيق. لقد كانت المفارقة الجوهرية في نظرية الكم هي ما لم يستطع كانط أن يتنبأ به. لقد غيَّرت الفيزياء الحديثة تعبير كانط عن احتمال الأحكام التركيبية القبلية، من احتمالٍ ميتافيزيقي إلى احتمالٍ عملي، سيكون للأحكام التركيبية القبلية بذلك خصيصةُ حقيقةٍ نسبية.
فإذا أعدنا تفسير «قبلية» كانط بهذه الطريقة فليس ثمة مِن سبب يدعونا لاعتبار أن الخصائص هي المُعطيات لا الأشياء، إننا نستطيع — تمامًا كما في الفيزياء الكلاسيكية — أن نتحدث عن الوقائع التي لا نلحظها بنفس الطريقة التي نتحدَّث بها عمَّا نعرفه من وقائع. وعلى هذا، فإن الواقعية العملية هي جزء طبيعي من إعادة التفسير. أما بالنسبة لمفهوم «الشيء في ذاته» الكانطي، فلقد أشار كانط إلى أنَّنا لا نستطيع أن نستنبط شيئًا من الإدراك الحسِّي ﺑ «الشيء في ذاته». وسنجِد لهذه الجُملة (كما لاحظ فايتسيكر) مثيلها الصوري في حقيقة أنه برغم استخدامِنا المفاهيم الكلاسيكية في كلِّ التجارب فإن السلوك غير الكلاسيكي للمواضيع الذرية أمرٌ ممكن. إن مفهوم الشيء في ذاته عند الفيزيائي الذرِّي — إذا ما استخدَمه أصلًا — هو بِنية رياضية في نهاية المطاف. لكن هذه البِنية تُستَنْبَط — على عكس كانط — على نحو غير مباشر من الخبرة.
وفي إعادة التفسير هذه، ترتبط «القبلية» الكانطية، على نحوٍ مباشر، بالخبرة — إلى المدى الذي تشكَّلت فيه خلال التطوُّر الذهني البشري في الماضي البعيد جدًّا. اتَّبَع البيولوجي لورنتس هذه الحجَّة ذات مرة عندما قارن المفاهيم القبلية بصُوَر السلوك الحيواني التي يُطلَق عليها اسم «الأنماط الوراثية أو الفطرية». والواقع أنه من المقبول حقًّا أن يختلف المكان والزمان بالنسبة لبعض الحيوانات البدائية عمَّا أسماه كانط «حدسنا الخالص» للمكان والزمان. فهذا الأخير ينتمي لجِنس البشر، لا إلى العالَم مُستقلًّا عن الإنسان. لكنَّا نَدخل أكثر مما ينبغي إلى مناقشاتٍ افتراضية إذا نحن اتَّبَعنا هذه الملاحظة البيولوجية عن «القبلية». لقد ذكرناها هنا كمثالٍ ليس إلَّا، لِما يمكن أن تُفسَّر به «الحقيقة النسبية» في سياق «القبلية» الكانطية.
لقد استعملنا الفيزيقا الحديثة هنا كمثالٍ أو إن أردتَ كنموذجٍ للتحقُّق مِن نتائج بعض النظم الفلسفية القديمة الهامة، والتي قصد بها بالطبع أن تسري على مجالٍ أوسع. وربما أمكنَنا أن نعرض فيما يلي أهم ما تعلَّمناه من فلسفة ديكارت وكانط بصفةٍ خاصة:
ليس ثمة معنًى قاطع واضح لأيٍّ من المفاهيم والكلمات التي تشكَّلت في الماضي من خلال التفاعُل بين العالَم وأنفسنا، نعني أنَّنا لا نعرف بالضبط إلى أي مدًى قد تُساعدنا في معرفة طريقنا في العالم. كثيرًا ما نُدرك أننا نستطيع أن نستخدِمها في مجالٍ واسع من مجالات الخبرة الداخلية والخارجية، لكنَّا عمليًّا لا نعرف أبدًا حدود تطبيقاتها بالضبط. وهذا صحيح حتى بالنسبة لأبسط وأهم المفاهيم مثل «الوجود» و«المكان والزمان». وعلى هذا فلن يُمكننا أبدًا، عن طريق العقل الخالص، أن نصِل إلى بعض الحقيقة المُطلقة.
ولقد تكون المفاهيم مُحددة تمامًا بالنسبة لعلاقتنا، وهذا صحيح فعلًا عندما تُصبح المفاهيم جزءًا من نظام البديهيات والتعريفات يُمكن التعبير عنه بمُخططٍ رياضي. ومثل هذه المجموعة من المفاهيم المرتبطة قد تكون قابلةً للتطبيق على مجالٍ واسع من الخبرة، وقد تُساعدنا في أن نعرف طريقَنا داخل هذا المجال. لكنَّ حدود التطبيق ستظلُّ عمومًا غير معروفة، أو على الأقل غير كاملة.
وحتى لو أدركْنا أن معنى المفهوم لا يُمكن أبدًا أن يُحدَّد بدقة كاملة، فإن بعض المفاهيم تُشكِّل جزءًا مُتمِّمًا للمناهج العلمية، لأنها تُمثل في الوقت الحالي المُحصِّلة النهائية لتطوُّر الفكر الإنساني في الماضي، أو حتى في الماضي البعيد. وهي قد تُورَّث، وهي، على أية حالٍ، أدواتٌ لا غِنى عنها لإجراء البحث العلمي في زماننا. وبهذا المعنى فهي «قبلية» مِن الناحية العملية. لكنَّا قد نجد في المُستقبل حدودًا أبعد لقابلِيَّتها للتطبيق.