علاقة نظرية الكمِّ بغيرها من فروع العلوم الطبيعية
سبق أن ذكرْنا أن مفاهيم العلوم الطبيعية يمكن أن تُعرَّف بدقَّة بالنسبة للعلاقات فيما بينها. اتضحت هذه الإمكانية لأول مرة في كتاب المبادئ لنيوتن، وبِسبَبِها بالتحديد كان لعمل نيوتن هذا، تلك الآثار الهائلة على كل تطوُّر العلوم الطبيعية في القرون التالية، ابتدأ نيوتن كتابه بمجموعةٍ من التعريفات والبديهيات متشابكة بطريقةٍ تُشكِّل معها ما يُمكن أن نُسميه «النظام المغلق». من الممكن أن يُمثَّل كل مفهوم برمز رياضي، لتُمثَّل العلاقات بين المفاهيم المختلفة بمعادلاتٍ رياضية تُستخدَم فيها هذه الرموز. وتتكفَّل الصورة الرياضية للنظام بعدَم حدوث تناقُضات به. بهذه الوسيلة تُمثَّل الحركات المختلفة للأجسام تحت تأثير القُوَى الفعَّالة، بالحلول المُمكنة لهذه المعادلات. يؤخَذ نظام التعريفات والبديهيات الذي يُمكن أن يُكتَب في صورة مجموعةٍ مِن المعادلات الرياضية، يؤخَذ على أنه وصف لِبِنية أزلية للطبيعة، لا يتوقَّف على مكانٍ مُعيَّن أو زمنٍ بذاته.
والارتباط بين المفاهيم المختلفة بالنظام شديدٌ للغاية، حتى ليستحيل عمومًا أن نُغيِّر أيًّا منها دون أن نُفسِد النظام بأكمله.
لهذا السبب اعتُبِر نظام نيوتن، ولفترة طويلة، نظامًا نهائيًّا. وأصبحت مُهمَّة العلماء في الفترة التالية هي مجرد توسيع نطاق ميكانيكا نيوتن إلى مجالاتٍ مِن الخبرة أوسع. والواقع أن عِلم الفيزياء قد تطوَّر بهذه الطريقة لفترةٍ تبلغ نحو قرنَين.
يستطيع المرء أن يتحول من نظرية الكتلة إلى ميكانيكا الأجسام الجامدة، إلى الحركة الدوَّارة، ويُمكنه أن يُعالج الحركات المتَّصلة لسائلٍ أو الحركات المُتذبذبة لجسمٍ مرِن. كل هذه الأجزاء من الميكانيكا أو الديناميكا قد تطوَّرت بالتدريج في علاقةٍ وثيقة مع تطوُّر الرياضيات، لا سيما حساب التفاضُل، ثم إن النتائج قد اختُبِرت بالتجارب. أصبحت الصوتيَّات وديناميكا السوائل جزءًا من الميكانيكا. ثمَّة عِلم آخر هو عِلم الفلك، كان لتطبيق ميكانيكا نيوتن به شأن واضح. لقد أدَّت التحسينات التي أُدخلت على المناهج الرياضية بالتدريج، إلى تقديراتٍ أدقَّ وأدقَّ لِحركات الكواكب وتأثيراتها المتبادَلة. وعندما اكتُشفت ظاهِرتا الكهرباء والمغناطيسية قُورنت القوى الكهربية والمغناطيسية بقوى الجاذبية، ثم دُرست آثارهما على حركة الأجسام على هَدْي ميكانيكا نيوتن. وأخيرًا، وفي القرن التاسع عشر، أمكن إخضاع، حتى نظرية الحرارة، إلى الميكانيكا، عندما افتُرِض أن الحرارة في الواقع تتكوَّن من حركات إحصائية معقدة لأصغر أجزاء المادة. وبتجميع مفاهيم النظرية الرياضية للاحتمالات مع مفاهيم ميكانيكا نيوتن تمكَّن كلوسيوس وجيبس وبولتسمان من أن يُوضِّحوا أن القوانين الأساسية لنظرية الحرارة يُمكن أن تُفَسَّر كقوانين إحصائية تَنتُج عن ميكانيكا نيوتن عند تطبيقها على نُظُم ميكانيكية غاية في التعقيد.
أنجز البرنامج الذي أقامته ميكانيكا نيوتن، وحتى هذه المرحلة نجاحاتٍ صلبة، وقاد إلى تفهُّم مدًى واسع من الخبرات. ظهرت أولى الصعوبات في مناقشات المجال الكهرومغناطيسي بأبحاث فاراداي وماكسويل. فقوى الجاذبية في ميكانيكا نيوتن تُعتبر من المُعطيات، وليست موضوعًا يخضع لدراساتٍ نظرية تُجرى. لكن مجال القوة نفسه أصبح في أبحاث فاراداي وماكسويل موضوع الاستقصاء. أراد الفيزيائيَّان أن يعرِفا كيف يتبايَن مجال القوة هذا كدالَّة للمكان والزمن. وبذا حاوَلا أن يضعا معادلاتٍ لحركة المجالات، ليست أساسًا للأجسام التي تعمل عليها المجالات. ولقد عاد بهما هذا التغيير إلى وجهة نظر اعتنقَها العديد مِن العلماء قبل نيوتن، تقول إن الفعل — على ما بدا لهم — يُمكن أن ينتقِل من جسمٍ إلى آخر، فقط إذا تلامس الجسمان — بالاصطدام مثلًا أو بالاحتكاك. قدَّم نيوتن فرضًا جديدًا جدًّا وغريبًا عندما افترض قوةً تعمل عبر مسافةٍ طويلة. عُدنا الآن في نظرية مجالات القوى إلى الفكرة القديمة — القائلة: إن الفعل ينتقِل من نقطةٍ إلى أخرى مجاورة — وذلك فقط بوصف سلوك المجال في صورة مُعادلات تفاضُلية. ولقد ثبت أن هذا بالفعل مُمكن؛ ومِن ثم فقد بدا الوصف الذي قدَّمته معادلات ماكسويل للمجالات الكهرومغناطيسية، بدا حلًّا مُرضيًا لمشكلة القوة. لقد غيَّرنا بالفعل برنامج ميكانيكا نيوتن، فالبديهيات والتعريفات التي قدَّمها نيوتن كانت تُطبَّق على الأجسام وعلى حركتها. أما عند ماكسويل فقد بدت مجالات القوى وقد اكتسبت نفس درجة الواقعية التي تتمتَّع بها الأجسام في نظرية نيوتن. طبيعيٌّ ألا نتوقَّع أن تُقبل هذه الصورة بسهولة، ولكي نتجنَّب مثل هذا التغيُّر في مفهوم الواقع، بدا من الملائم أن نُقارن المجالات الكهرومغناطيسية بمجالات تَشوُّهِ المرونة أو الإجهاد — موجات ضوء نظرية ماكسويل بمَوجات الصوت في الأجسام المرنة. وعلى هذا فقد اعتقد العديد من الفيزيائيِّين أن معادلات ماكسويل تُشير إلى تشوُّه وسطٍ مرِن أُطلق عليه اسم الأثير، ولقد مُنِح الوسط هذا الاسم ليَعني وسطًا خفيفًا دقيقًا يخترق المادة دون أن يُرى أو يُحَس. على أن هذا التفسير لم يكن مُرضيًا تمامًا، لأنه لا يُفسر الغياب الكامل لأي موجات ضوءٍ طولية.
وأخيرًا بيَّنت نظرية النسبية، التي سنُناقشها في الفصل التالي، وبطريقةٍ حاسمة، أنَّنا لا بدَّ أن نتخلَّى عن مفهوم الأثير كجوهر، وهو المفهوم الذي تُشير إليه معادلات ماكسويل. لا يُمكننا أن نُناقش الحُجَج هنا، لكن النتيجة كانت ضرورة اعتبار المجالات واقعًا مستقلًّا.
ثمَّة نتيجة أخرى أكثر إثارةً للفزع جاءت عن نظرية النسبية الخاصة، هي اكتشاف خصائص جديدة للمكان والزمان أو — في الواقع — اكتشاف علاقة بين المكان والزمان لم تكُن معروفةً قبلًا ولا توجَد في ميكانيكا نيوتن.
وتحت تأثير هذا الوضع الجديد تمامًا، وصل الكثير من الفيزيائيين إلى الاستنباط التالي، إن يكن متسرِّعًا بعض الشيء: لقد ثبت أخيرًا بطلان ميكانيكا نيوتن. إن الواقع الأوَّلي هو المجال لا الجسم، إن الوصف الصحيح للمكان والزمان يأتي عن صِيَغ لورنتس وأينشتين، لا عن بديهيات نيوتن. تُقدم ميكانيكا نيوتن تقديراتٍ تقريبية جيدة في حالاتٍ كثيرة، ولقد أصبح من الضروري الآن أن تُحسَّن لتُعطي وصفًا أكثر دقةً للطبيعة.
إن مثل هذا التعبير من وجهة النظر التي توصَّلنا إليها أخيرًا في نظرية الكم، هو وصف فقير للغاية للوضع الفعلي. فهو أولًا يتجاهل حقيقة أن معظم التجارب التي تُقاس بها المجالات، هي تجارب ترتكِز على ميكانيكا نيوتن، ثم إن ميكانيكا نيوتن لا يمكن أن تُحسَّن، إن ما نستطيعُه هو أن نستبدِل بها شيئًا مُختلفًا تمامًا!
علَّمَنا تطور نظرية الكم أن الأفضل أن يصِف المرء الوضع كما يلي: حيثما يُمكن استخدام مفاهيم ميكانيكا نيوتن في وصف الوقائع بالطبيعة، تكون القوانين التي صاغها نيوتن صحيحةً تمامًا، ولا يمكن تحسينُها. لكن الظواهر الكهرومغناطيسية لا يمكن أن توصَف كما يجِب باستخدام مفاهيم ميكانيكا نيوتن، وعلى هذا فإن التجارب في المجالات الكهرومغناطيسية والموجات الضوئية، ومعها تحليلها النظري الذي قدَّمَه ماكسويل ولورنتس وأينشتين، هذه التجارب قد قادت إلى نظامٍ جديدٍ مُغلق من التعريفات والبديهيات ومن المفاهيم، يمكن التعبير عنه برموزٍ رياضية، نظام مُترابط تمامًا مثل نظام ميكانيكا نيوتن، لكنَّه يختلف عنه اختلافًا جوهريًّا.
وعلى هذا، فلا بد أن تتغير حتى الآمال التي صاحبت أعمال العلماء منذ نيوتن. الواضح أن التقدُّم في العِلم لا يمكن دائمًا أن يُحقَّق باستخدام المعروف من قوانين الطبيعة في تفسير الظواهر الجديدة. فالظواهر الجديدة في بعض الحالات التي فُحصت لا يُمكن تفهُّمها إلَّا بمفاهيم جديدة صِيغت لتُلائمها، مثلما صِيغت مفاهيم نيوتن لتُلائم الوقائع الميكانيكية. يمكن بعدئذٍ أن تُربَط هذه المفاهيم الجديدة في نظام مُغلق وأن يُعبَّر عنها برموزٍ رياضية. لكن، إذا ما تقدَّمَت الفيزياء — أو العلوم الطبيعية على وجه العموم — بهذه الطريقة، فسيبزغ السؤال: ما هي العلاقة بين الزُّمَر المختلفة من المفاهيم؟ إذا ظهرت مثلًا نفس المفاهيم أو الكلمات في زُمرتَين مختلفتَين وعُرِّفت بشكلٍ مختلف في السياق وفي التعبير الرياضي، فبأيِّ معنًى تُمثل المفاهيم الواقع؟
ظهرت هذه المشكلة فور اكتشاف نظرية النسبية الخاصة. فمفهوما المكان والزمان ينتمِيان إلى كلٍّ من ميكانيكا نيوتن ونظرية النسبية. لكن المكان والزمان في ميكانيكا نيوتن مفهومان مُستقلَّان عن بعضهما، أما في نظرية النسبية فهما مُرتبطان بتحويل لورنتس. في هذه الحالة الخاصة يمكن للمرء أن يُوضِّح أن تقارير نظرية النسبية تقترِب من تقارير ميكانيكا نيوتن عندما تكون كلُّ السرعات بالنظام أقلَّ كثيرًا من سرعة الضوء. مِن هذا يمكن أن نستنتِج أن مفاهيم ميكانيكا نيوتن لا يمكن أن تُطبق على أي واقعةٍ تتضمن سرعات تقترب من سرعة الضوء. بذلك وجدْنا أخيرًا حدودًا مميزة لميكانيكا نيوتن لم نكُن لنراها لا مِن زمرة المفاهيم المُترابطة ولا مِن الملاحظات البسيطة للنظم الميكانيكية.
وعلى هذا فإن العلاقة ما بين زمرتَين مختلفتَين من زُمَر المفاهيم تتطلَّب دائمًا استقصاءً دقيقًا جدًّا. وقبل أن ندلف إلى مناقشةٍ عامة حول بِنية أيٍّ من مثل هذه الزُّمَر المُغلقة المُتماسكة من المفاهيم، وحول علاقاتها المُمكنة، سنُقدِّم وصفًا مُختصرًا لِما عُرِف الآن في الفيزياء من هذه الزُّمَر. يُمكننا أن نُميز أربعة نظم بلغت بالفعل صورَها النهائية.
ولقد ناقشنا بالفعل المجموعة الأولى، زمرة ميكانيكا نيوتن. لقد صِيغت لتُلائم وصفَ كلِّ النظم الميكانيكية، وحركة السوائل والتذبذُب المرِن للأجسام. وهي تشمل علوم الصوتيَّات والاستاتيكا والديناميكا الهوائية.
أما النظام المُغلق الثاني مِن المفاهيم فقد تشكَّل خلال القرن التاسع عشر في ارتباطٍ مع نظرية الحرارة. وبالرغم من أنه قد أمكن في النهاية ربط نظرية الحرارة بالميكانيكا من خلال تطوير الميكانيكا الاستاتيكية، فلن يكون من الواقعي أن نعتبرها جزءًا من الميكانيكا. والواقع أن نظرية الحرارة الظاهراتية تستخدِم عددًا من مفاهيم لا نظيرَ لها في فروعٍ أخرى من الفيزياء؛ مفاهيم مثل: الحرارة، والحرارة النوعية، والإنتروبيا، والطاقة الحرة … إلخ. فإذا كنا نستطيع من هذا الوصف الظاهراتي أن ننتقل إلى التفسير الإحصائي، بأن نعتبر الحرارة طاقةً تتنوع إحصائيًّا بين العدد الكبير جدًّا من درجات الحرية الراجع إلى التركيب الذري للمادة، عندئذٍ لن يكون ارتباط الحرارة بالميكانيكا بأكثرَ مِن ارتباطه بالديناميكا الكهربية أو غيرها مِن أقسام الفيزياء. والمفهوم المحوري لهذا التفسير هو مفهوم الاحتمال، الوثيق الصِّلة بمفهوم الإنتروبيا في النظرية الظاهراتية. أضف إلى ذلك المفهوم أن النظرية الإحصائية للحرارة تتطلَّب مفهوم الطاقة، لكنَّ أيَّ زُمرةٍ متماسكة من البديهيات والمفاهيم في الفيزياء ستحوي بالضرورة مفاهيم الطاقة، وكمية الحركة، وكمية الحركة الزاوِيَّة، والقانون الذي تُحفظ به هذه المقادير تحت شروط مُعينة. وهذا صحيح بالضرورة إذا ما كانت الزُّمرة المُتماسكة قد قُصِد بها وصفُ ملامحَ للطبيعةِ مُعينة صحيحة في كلِّ وقتٍ وفي كل مكان، نَقصد ملامح لا تعتمِد على المكان أو الزمان، أو — كما يقول الرياضيون — ثابتة تحت التحوُّلات التحكمية في المكان والزمان والدورانات في المكان، وتحويل جاليليو (أو لورنتس). وعلى هذا فمِن المُمكن أن تُوحَّد نظرية الحرارة مع أيٍّ من نُظُم المفاهيم الأخرى.
نشأ النظام المُغلَق الثالث من المفاهيم والبديهيات من ظاهرتَي الكهرباء والمغناطيسية، وبلغ صورتَه النهائية في العقد الأول للقرن العشرين مِن خلال أعمال لورنتس وأينشتين ومينكوفسكي. وهو يضمُّ الديناميكا الكهربية، والنسبية الخاصة، والبصريات، والمغناطيسية، وقد نُضيف نظرية ده برولي عن موجات المادة لكل الضروب المختلفة من الجُسيمات الأوَّلية. لكنه لا يضمُّ النظرية المَوجية لشرودنجر.
وأخيرًا فإن النظام الرابع هو أساسًا نظرية الكمِّ كما شرحتُ في أول فصلَين من هذا الكتاب. والمفهوم المحوري هو دالَّة الاحتمال، أو المَصفوفة الإحصائية كما يُسمِّيها الرياضيون، وهو يضم ميكانيكا الكم، والميكانيكا الموجية، ونظرية الطيف الذري، والكيمياء ونظريةً لخصائص أُخرى للمادة مثل المُوصليَّة الكهربية والفريمغناطيسية.
يُمكن أن نُبين العلاقات بين هذه الزُّمَر الأربع في الشكل التالي: الزمرة الأولى مُضمَّنة في الثالثة كحالةٍ حَدِّية عندما تُعتبَر سرعة الضوء كبيرة إلى أبعد حدٍّ، وهي مُضَمَّنَة أيضًا في الرابعة كحالة حَدِّية عندما نَعتبر ثابت بلانك صغيرًا إلى أبعد حدٍّ والزمرة الأولى وبعض الثالثة ينتميان إلى الرابعة كوضع قَبْلي لوصف التجارب. ويُمكن أن تُربط الثانية بأيٍّ من الثلاث الأخريات، وإن كانت علاقتها بالرابعة ذات أهميةٍ خاصة. والوجود المُستقل للثالثة والرابعة يقترح وجود مجموعةٍ خامسة تُعتبر الأولى والثالثة والرابعة حالاتٍ حَدِّيةً لها. ربما تَوصَّلنا يومًا إلى هذه المجموعة الخامسة مُرتبطة بنظرية الجُسيمات الأولية.
أسقطنا من هذه القائمة مجموعة المفاهيم المُرتبطة بنظرية النسبية العامة، فقد لا تكون قد بلغَت بعدُ صورتها النهائية. لكن علينا أن نؤكِّد أنها تختلف بلا ريبٍ عن الزُّمَر الأربع الأخرى.
بعد هذا العرض السريع، ربما عُدنا إلى السؤال الأكثر عموميةً عما يجِب أن نعتبره ملمحًا لمِثل هذا النظام المُغلق من البديهيات والتعريفات. ربَّما كان أهم الملامح هو إمكانية العثور على تعبير رياضي مُتماسك له. وهذا التعبير لا بدَّ أن يَضمَن ألَّا يحتوي النظام على أية تناقُضات. ثم إنه لا بد أن يكون مُلائمًا لوصف مجالٍ واسعٍ من الخبرة. والتنوُّع الهائل مِن الظواهر لا بدَّ أن يُناظر العدد الكبير من حلول المُعادلات في التعبير الرياضي. ولا يمكن، على العموم، أن نستنبِط مِن المفاهيم مدى محدودية المجال، فالمفاهيم لا تُعرَّف بشكلٍ دقيق بالنسبة لعلاقتها بالطبيعة، برغم التحديد الصارم لارتباطاتها المُمكنة. وعلى هذا فإنَّا سنعرِف الحدود من الخبرة، من حقيقة أن المفاهيم لا تسمح بوصفٍ كامل للظواهر الملحوظة.
بعد هذا التحليل المُوجَز لبِنية الفيزياء اليوم، يُمكننا الآن أن نُناقش العلاقة بين الفيزياء وبين غيرِها مِن فروع العلوم الطبيعية. لعلَّ الكيمياء هي أقرب جيران الفيزياء. والواقع أن هذَين العِلمَين قد وصلا من خلال نظرية الكمِّ إلى اتحادٍ كامل، لكنَّهما كانا مُنفصلَين كثيرًا منذ مائة عام. كان منهجاهما في البحث مختلفَين تمامًا، ولم يكن لمفاهيم الكيمياء، في ذلك الوقت، ما يُناظرها في الفيزياء. فالتكافؤ والفاعلية والقابلية للذَّوبان والتطايُرية هي مفاهيم ذات خصائص تغلِب عليها الوصفية، وكان مِن الصعب إدراج الكيمياء بين العلوم المضبوطة. وعندما طُوِّرت نظرية الحرارة على أواسط القرن الماضي بدأ العلماء في تطبيقها على العمليات الكيماوية. ومنذ ذلك الحين أصبح البحث العلمي في هذا المجال وقد حكَمَه الأمل في اختزال قوانين الكيمياء إلى ميكانيكا الذرَّات. على أنه مِن الواجب أن نؤكِّد أن هذا لم يكُن مُمكنًا داخل هيكل الميكانيكا النيوتِنية. فلِكَي نصِل إلى وصفٍ كمِّي لقوانين الكيمياء، علينا أن نصوغ نظامًا من المفاهيم أرحبَ للفيزياء الذرِّية. ولقد أنجزَت نظرية الكم هذا في نهاية المطاف، وهي النظرية التي تتجذَّر في الكيمياء مِثلما تتجذَّر في الفيزياء الذرية. هنا غدا من اليسير أن نرى أنه لم يكن من المُستطاع اختزال قوانين الكيمياء إلى الميكانيكا النيوتِنية للجُسيمات الذرية، لأن سلوك العناصر الكيماوية كان يُفصِح عن درجةٍ من الثبات لا تتوفَّر في النُّظم الميكانيكية على الإطلاق. ولم تُفهَم هذه النقطة تمامًا إلى أن ظهرت نظرية بوهر للذرَّة عام ۱۹۱۳م. ولقد يمكن القول إن مفاهيم الكيمياء في نهاية الأمر هي مفاهيم مُتمِّمة — جزئيًّا — للمفاهيم الميكانيكية. فإذا عرفنا أنَّ ما يُحدِّد الخصائص الكيماوية للذرة هو أدنى الحالات المَوقوفة لها، فلن نستطيع في نفس الوقت أن نتحدَّث عن حركة الإلكترونات في الذرة.
والعلاقة الحالية بين البيولوجيا من ناحيةٍ وبين الفيزياء والكيمياء من ناحيةٍ أخرى، قد تكون شبيهةً جدًّا بالعلاقة بين الكيمياء والفيزياء منذ مائة عام. تختلف مناهج البيولوجيا عن مناهج الفيزياء والكيمياء. والمفاهيم البيولوجية النموذجية لها طبيعة تغلب عليها الوصفية مُقارنةً بمفاهيم العلوم المضبوطة؛ فليس ثمة نظير في الفيزياء والكيمياء لمفاهيم مثل الحياة، العضو، الخلية، وظيفة العضو، الإدراك الحسِّي. من ناحية أخرى سنجِد أن معظم التقدُّم الذي تمَّ في البيولوجيا خلال المائة عام الماضية قد جاء عن تطبيق الفيزياء والكيمياء على الكائنات الحيَّة. ثم إن هدف البيولوجيا في زماننا هذا هو تفسير الظواهر البيولوجية على أساس القوانين الفيزيائية والكيميائية المعروفة. مرة أخرى يبزُغ التساؤل عما إذا كان لهذا الأمل ما يُبرِّره.
ومثلما كان الوضع في الكيمياء، تُعلِّمُنا الخبرة البيولوجية البسيطة أنَّ الكائنات الحية تكشف عن درجةٍ من الثَّبات لا يمكن بالتأكيد أن تَمتلكها البِنى العامة المُعقدة المؤلَّفة من أنماطٍ عديدة من الجزيئات، حسب القوانين الفيزيائية والكيميائية وحدها. وعلى هذا فثمَّة ما يلزَم إضافتُه إلى قوانين الفيزياء والكيمياء قبل أن نصِل إلى تفهُّمٍ كامل للظواهر البيولوجية.
ثمة فكرتان مختلفتان تمامًا في هذا الخصوص نُوقشتا كثيرًا في المجال البيولوجي. الأولى هي نظرية التطوُّر لداروين وعلاقتها بالوراثة الحديثة. تقول هذه النظرية إنَّ المفهوم الوحيد الذي يلزم إضافته إلى مفاهيم الفيزياء والكيمياء، حتى يُمكن تفهُّم الحياة، هو مفهوم التاريخ. إن الفترة الزمنية الهائلة التي تبلغ نحو أربعة آلاف مليون سنة، والتي مرَّت منذ نشأة الأرض، هذه الفترة قد منحت الطبيعة إمكانيةَ تجريب تنوُّعاتٍ تكاد لا تُحَدُّ من تراكيب مجاميع الجُزيئات. مِن بين هذه التراكيب كان ثمَّة عدد تمكَّن من نسخ نفسه باستخدام مجاميع أصغر مِن المادة المُحيطة. تمكَّنت مثل هذه التراكيب إذن مِن التكاثُر بأعدادٍ كبيرة. ثُم إن التغيُّرات العَرَضية في التركيب قد وفَّرت بدورها قدرًا إضافيًّا مِن التراكيب. وكان أن تنافست التركيبات المُختلفة على المادة المُتوفرة في البيئة المحيطة بهذه الطريقة، من خلال «البقاء للأصلح»، حدث تطوُّر الكائنات الحيَّة في نهاية المطاف. لا شكَّ أن هذه النظرية تحمِل قدرًا كبيرًا من الحقيقة، ويدَّعي الكثير مِن البيولوجيين أن إضافة مفهومَي التاريخ والتطوُّر ستكون كافية تمامًا لتفسير كلِّ الظواهر البيولوجية. ثمة حُجة كثيرًا ما تُطرَح في تعضيد هذه النظرية، هي صحَّة قوانين الفيزياء والكيمياء دائمًا حيثما اختُبِرت في الكائنات الحية. يبدو بالتأكيد أن ليس ثمة مكان لاستدعاء قوةٍ حيوية تختلف عن قوى الفيزياء.
من ناحية أخرى، فإن هذه الحجة بالذات هي التي فقدت الكثير من أهميتها بسبب نظرية الكم. فلمَّا كانت مفاهيم الفيزياء والكيمياء تُشكل زُمرة مغلقة متماسكة — نعني زُمرة نظرية الكمِّ — فمن الضروري، حيثما يُمكن استخدامها في وصف الظواهر، أن تسري أيضًا القوانين المُرتبطة بها؛ وعلى هذا، فحيثما تُعامَل الكائنات الحية كنظم فزياكيماوية فمن الضروري أن تتصرف هكذا. أما السؤال الوحيد الذي نستطيع منه أن نعرِف شيئًا عن كفاية هذه الفكرة الأولى، فهو ما إذا كانت المفاهيم الفزياكيماوية تسمح بوصفٍ كامل لهذه الكائنات. والبيولوجيون الذين أجابوا بالنفي على هذا السؤال يعتنقون عمومًا الفكرة الثانية، التي علينا الآن أن نعرضها.
ربما أمكَنَنا أن نعرض الفكرة الثانية في الصورة التالية: يصعب جدًّا أن نرى كيف يُمكن لمفاهيم كالإدراك الحسِّي، ووظيفة العضو، والعاطفة، كيف لها أن تكون جزءًا من زُمرة متماسكة من مفاهيم نظرية الكمِّ مُضافًا إليها مفهوم التاريخ. غير أن هذه المفاهيم من ناحية أخرى ضرورية للوصف الكامل للحياة، حتى لو استثنَينا الآن جنس البشر، لأنه يثير مشاكل جديدة أبعدَ من البيولوجيا. وعلى هذا فقد يكون من الضروري، لتفهُّم الحياة، أن نمضي لأبعد من نظرية الكم ونُقيم زمرة جديدة مُتماسكة من المفاهيم، تكون الفيزياء لها بمثابة الحالات الحدِّية. ولقد يكون التاريخ جزءًا جوهريًّا منها، وستنتمي إليها أيضًا مفاهيم كالإدراك الحسِّي والتكيُّف والعاطفة. فإذا كان هذا الرأي صحيحًا فإن تجميع نظرية داروين والفيزياء والكيمياء لن يكفي لتفسير الحياة العضوية، لكنَّا سنستطيع أن نعتبر الكائنات الحية — ولحدٍّ كبير — نُظمًا فزياكيماوية — أو آلات كما يقول ديكارت ولابلاس — وأنها ستستجيب أيضًا هكذا إذا عُومِلَت هكذا. يُمكننا في نفس الوقت أن نفترض، مثلما فعل بوهر، أن معرفتنا بأن الخلية حية، قد تكون مُتمِّمة للمعرفة الكاملة بتركيبها الجُزيئي. ولمَّا كنَّا لن نصل إلى المعرفة الكاملة لهذا التركيب إلا بتحطيم حياة الخلية، فمن المُمكن منطقيًّا أن تحُول الحياة دون التحديد الكامل للتركيب الفزياكيماوي التحتي، وحتى إذا اعتنقنا الفكرة الثانية هذه، فإنَّا قد لا نُزكِّي للبحث البيولوجي منهجًا آخر غير ما اتُّبِع خلال العقود الماضية: محاولة تفسير أكبر قدْرٍ ممكن على أساس القوانين الفزياكيماوية المعروفة، ووصف سلوك الكائنات بدقَّة دون أي تحيُّزاتٍ نظرية.
والأُولى من هاتَين الفكرتَين هي الأكثر شيوعًا بين البيولوجيين المُعاصرين، وإن كانت الخبرة المُتاحة في الوقت الحاضر لا تكفي بالقطع للمُفاضلة بين الاثنتَين. أما تفضيل الكثير من البيولوجيين للفكرة الأولى، فقد يرجِع إلى القسمة الديكارتية التي تغلغلت في أعماق الذهن البشري خلال القرون الماضية. فلمَّا كان «الشيء المُفكر» يقتصر على البشر على «الأنا»، فليس للحيوانات إذن روح، هي تنتمي بالكامل إلى الشيء المُمتد. وعلى هذا فمِن الممكن أن تُفهَم الحيوانات — هكذا يمضي الجدل — تمامًا مثلما المادة عمومًا، ويلزَم أن تكفي لتفسير سلوكها قواعد الفيزياء والكيمياء، ومعها مفهوم التاريخ. فإذا ما استحضرنا «الشيء المُفكر»، عندئذٍ فقط يظهر وضعٌ جديد يتطلَّب مفاهيم جديدة تمامًا. لكن القسمة الديكارتية هي إفراط خطر في التبسيط، حتى ليُصبح مِن المُحتمل جدًّا أن تكون الفكرة الثانية هي الصحيحة.
وبعيدًا عن هذا السؤال — الذي لا يُمكننا بعدُ أن نحسِمَه — سنجِد أننا لا نزال بعيدين جدًّا عن مِثل هذه الزُّمرة المتماسِكة المُغلقة من المفاهيم لوصف الظواهر البيولوجية. إنَّ درجة التعقيد في البيولوجيا مُثبِّطة لدرجةٍ لا نتمكَّن معها، في الوقت الحاضر، أن نتخيَّل أية مجموعة مِن المفاهيم يُمكن أن تُحدَّد فيها الارتباطات بدقَّة تسمح بالتعبير الرياضي عنها.
فإذا مضَينا عبر نطاق البيولوجيا وأضفْنا السيكولوجيا في نقاشِنا، فليس ثمَّة أدنى شك في أنَّ مفاهيم الفيزياء والكيمياء والتطوُّر جميعًا لن تكفي لوصف الحقائق. هنا سنجِد أن ظهور نظرية الكمِّ قد غيَّر موقفَنا عمَّا كان عليه بالقرن التاسع عشر. في تلك الحقبة كان ثمَّة من العلماء مَنْ يميل إلى الاعتقاد بإمكان تفسير الظواهر السيكولوجية على أساسٍ من فيزياء وكيمياء المخ. وليس ثمة مُبرر لمثل هذا الافتراض من وجهة النظر الكمَّاتية-النظرية، ليس لنا أن نتوقَّع أن تكفي هذه لتفسيرها، بالرغم من أنَّ الوقائع الفيزيائية بالمخ تنتسِب إلى الظواهر النفسية. إنَّنا لا نشكُّ أبدًا في أنَّ المخ يعمل كآليةٍ سيكوكيماوية إذا اعتُبر هكذا، لكنَّ تفسير الظواهر النفسية يتطلَّب أن نبدأ من حقيقة أنَّ الذهن البشري يدخل كموضوعٍ وكذاتٍ في العملية العِلمية للسيكولوجيا.
فإذا عُدنا لننظُر في الزُّمَر المختلفة من المفاهيم التي تشكَّلت في الماضي أو التي تتشكَّل في المستقبل، في محاولةٍ أن نجِد بالعلم سبيلًا خلال العالم، فسنجِد أنها تبدو وكأنْ قد أملاها الدور المُتعاظم الذي يلعبه العامِل الذاتي في الزُّمرة. من المُمكن أن تؤخَذ الفيزياء الكلاسيكية على أنها الصورة المِثالية التي نتحدَّث بها عن العالم وكأنَّه مُنفصل تمامًا عنا. والزُّمَر الثلاث الأولى تُناظر هذا التصوُّر المثالي، والزُّمرة الأولى وحدَها تمتثِل تمامًا، للقبلية في فلسفة كانط، أما الزُّمرة الرابعة — زُمرة نظرية الكمِّ — فيُجلَب فيها الإنسان كموضوعٍ للعلم، من خلال الأسئلة التي توجَّه للطبيعة في الصِّيَغ القبلية للعِلم البشري. إن نظرية الكمِّ لا تسمح بالوصف الموضوعي الكامِل للطبيعة. ولقد يكون مِن المُهم، للتوصُّل إلى تفهم كامل في البيولوجيا، أن يكون واضع الأسئلة هو نوع الإنسان الذي ينتمي هو نفسُه إلى جِنس الكائنات الحية — نعني أنَّنا نعرف بالفعل ماذا تكون الحياة، حتى قبل أن نتمكن من تعريفها علميًّا. لكن ربما كان من غير الجائز ألَّا ندلف إلى هذه التأمُّلات عن التركيب المُحتمَل لزُمَر مفاهيم لم تتشكَّل بعد.
فإذا ما قارنَّا هذا النظام بالتصنيفات الأقدم التي ظهرت في المراحِل الأسبق للعلوم الطبيعية، فسنرى أنَّنا الآن قد قسَّمنا العالم، ليس إلى مجاميع مُختلفة من المواضيع، وإنما إلى مجاميع مُختلفة من العلاقات. كنَّا مثلًا في العصور القديمة للعلم نُميز كمجاميع مختلفة: المعادن، والنباتات، والحيوانات، والبشر. كانت هذه المجاميع تُعتبَر ذات طبيعةٍ مختلفة، مصنوعة من مواد مختلفة، وسلوكها تُحدِّده قوًى مختلفة. لكنَّا نعرف الآن أنها جميعًا — المعادن كما الحيوان كما النبات — تتكوَّن من نفس المادة، نفس المركبات الكيماوية المختلفة، كما أن القوى التي تعمل بين الأجزاء المختلفة للمادة هي في نهاية المطاف واحدة بها جميعًا. أما ما يُمكن تمييزه فهو نوع العلاقة ذات الأهمية في ظاهرةٍ مُعينة. فعلى سبيل المثال، عندما نتكلم عن فعل القوى الكيماوية، فإنَّنا نعني نوعًا مِن العلاقة أكثر تعقيدًا من ميكانيكا نيوتن، أو تختلف عنها على أية حال. يبدو العالم بذلك نسيجًا مُعقَّدًا مِن الوقائع، تتناوب فيه العلاقات من كل نوع، أو تتراكب أو تتجمَّع، وبذلك تُحدَّد بِنية الكل.
وحيثما نُعبر عن مجموعةٍ من العلاقات بزُمرة مُغلقة مُتماسكة من المفاهيم والبديهيَّات والتعريفات والقوانين — والتي نُعبر عنها هي الأخرى ببرنامج رياضي — فإنَّا بذلك نكون قد عزلنا، بغرَض التوضيح، هذه المجموعة مِن العلاقات ووضعناها في صورةٍ مثالية، لكنَّا حتى لو توصَّلنا بهذه الطريقة إلى التوضيح الكامِل، فلن نعرِف مدى دقَّة زمرة المفاهيم هذه في وصف الواقع.
ولقد نقول إنَّ وضع العلاقات في صورةٍ مثالية هو جزء من اللغة البشرية التي تشكَّلت عن التفاعُل بين العالم وأنفسنا، استجابةً بشريةً لتحدِّي الطبيعة. وفي هذا الصدد يمكن أن نُقارنها بالأساليب المختلفة في الفن؛ قل مثلًا فن العمارة أو الموسيقى. مِن الممكن أن نُعرِّف أسلوب الفن أيضًا بزُمرة مِن القواعد الاصطلاحية تُطبَّق على مادة هذا الفن بخاصة، وقد لا يلزم أن تُمثَّل هذه القواعد — بشكل صارم — بمجموعةٍ من المفاهيم الرياضية والمعادلات، لكنَّ عناصرها الأولية ستكون شديدة الصِّلة بالعناصر الأولية للرياضيات. تلعب المساواة والتفاوت، التكرار والتناسُق، وبِنًى للمجاميع مُعينة؛ تلعب الدور الرئيسي في كلٍّ من الفن والرياضيات. والعادة أن يُستخدَم عمل بضعة أجيالٍ في تطوير ذلك النظام الاصطلاحي الذي يُطلَق عليه فيما بعدُ اسم الأسلوب الفني، تطويره من بداياته البسيطة وحتى الثروة مِن النماذج المُتقَنة التي تُميِّز كماله. يتركَّز اهتمام الفنان على عملية البلورة هذه، حيث تتشكَّل مادة الفن — بفعله — وتتَّخِذ الصِّيَغ المختلفة التي حفَّزتها المفاهيم الاصطلاحية الأولى لهذا الأسلوب. وما إن تكتمِل حتى يخبو الاهتمام — لأن كلمة «الاهتمام» تعني: أن تكون مع شيء، أن تُشارك في عملية حياة، ولقد بلغت هذه العملية نهايتها. إلى أي مدًى تُمثل القواعد الاصطلاحية للأسلوب الفني واقع الحياة الذي يهدف إليه الفن؟ ها نحن مرةً أُخرى لن نستطيع بتلك القواعد أن نُجيب عن السؤال. إن الفن دائمًا هو صياغة المِثال، والمِثال يختلف عن الواقع — أو عن واقع الظلال على الأقل، كما قد يقول أفلاطون — لكن صياغة المثال ضرورية للفهم.
قد تبدو المقارنة بين الزُّمَر المختلفة من المفاهيم في العلوم الطبيعية وبين الأساليب المُختلفة للفن، بعيدةً جدًّا عن الحقيقة، عند مَن يَعتبر الأساليب المختلفة للفن نتائجَ تحكُّمية للذهن البشري. ولقد يُجادل هؤلاء بالقول إنَّ هذه الزُّمَر المختلفة من المفاهيم في العلوم الطبيعية تُمثل واقعًا موضوعيًّا، علَّمتنا إيَّاها الطبيعة، وهي إذن ليست تحكُّميةً على الإطلاق، هي نتيجة حتمية للتزايُد التدريجي لمعرفتنا التجريبية بالطبيعة. وسنجد أنَّ معظم العلماء يُوافقون على هذا الرأي. لكن، هل الأساليب المختلفة للفنِّ حقًّا نِتاج تحكُّمي للذهن البشري؟ مرةً أخرى لا يجِب أن تُضلِّلنا القسمة الديكارتية. ينشأ الأسلوب عن التفاعُل بين العالم وأنفسنا، أو بشكلٍ أكثر تحديدًا بين روح العصر والفنان، وربما كانت روح العصر حقيقةً في مِثل موضوعيةِ أيٍّ من الحقائق بالعلوم الطبيعية. تُظهِر هذه الروح ملامحَ للعالم مُعينة، مُستقلَّة حتَّى عن الزمن، وتكون بهذا المعنى أزلية. يحاول الفنان بعمله أن يجعل هذه الملامح مفهومة، وفي محاولته هذه يتَّجه إلى صِيَغ الأسلوب الذي يعمل به.
وعلى هذا فإن العمليتَين؛ عملية العلم وعملية الفن، لا تختلفان كثيرًا. كلتاهما تُشكِّل على مدَى القرون لغةً بشرية يُمكننا بها أن نتحدَّث عن الأجزاء الأقصى من الواقع. والزُّمَر مِن المفاهيم، ومثلها الأساليب المختلفة للفن، ليست إلَّا كلمات — أو مجاميع من كلمات — في تلك اللغة.