الفصل السابع

نظرية النسبية

لقد لعبت نظرية النسبية دائمًا دورًا غاية في الأهمية في الفيزياء الحديثة. فبهذه النظرية أدرك العلماء لأول مرةٍ الحاجة إلى التغيير في المبادئ الأساسية للفيزياء. وعلى هذا فإن مناقشة المشاكل التي أثارتها النظرية، وقامت بحلِّ جزءٍ منها، هذه المناقشة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمُعالجتنا للتضمينات الفلسفية للفيزياء الحديثة، وعلى عكس نظرية الكم، يُمكننا هنا أن نقول — بمعنًى ما — إن تطور نظرية النسبية لم يستغرِق إلَّا وقتًا قصيرًا جدًّا من الاعتراف النهائي بالصِّعاب، وحتى حلها. ظهر أولُ دليلٍ على استحالة كشف حركة انتقال الأرض بالطُّرق البصرية عندما كرَّر مورلي وميلر عام ١٩٠٤م تجربة مايكلسون. ثم كان أن ظهر بحث أينشتين الحاسِم بعد أقل من سنتَين. من ناحيةٍ أخرى فإن تجربة مورلي وميلر وبحث أينشتين لم يكونا إلَّا الخطوات الأخيرة في تطويرٍ كان قد ابتُدِئ قبل ذلك بوقتٍ طويل، تطوير يمكن أن نضعه تحت عنوان «الديناميكا الكهربائية للأجسام المتحركة».

الواضح أن الديناميكا الكهربائية للأجسام المتحركة كانت مجالًا هامًّا في الفيزياء والهندسة منذُ ابتُكِر المحرك الكهربي. على أن مشكلةً خطيرة برزت في الموضوع عندما اكتشف ماكسويل الطبيعة الكهرومغناطيسية لموجات الضوء. تختلف هذه الموجات في خصيصةٍ هامَّة عن غيرها من الموجات — عن موجات الصوت مثلًا: فهي تنتشِر فيما يبدو أنه حيِّز فارغ عندما يُدَّق ناقوس في وعاءٍ مُفرَّغِ الهواء فإنَّ الصوت لا ينتقِل إلى الخارج، لكن الضوء ينفُذ بسهولةٍ خلال الحيِّز المُفرَّغ. وعلى هذا فقد افتُرض أنه من المُمكن اعتبار موجات الضوء موجاتٍ مرنةً من جوهرٍ خفيفٍ جدًّا يُسمَّى الأثير، لا يمكن رؤيتُه أو الإحساس به برغم أنه يملأ المكان الفارغ كما يملأ الحيِّز الذي توجَد به المواد الأخرى كالهواء والزجاج. لم يطرأ على أذهان الفيزيائيين آنئذٍ أن الموجات الكهرومغناطيسية في ذاتها قد تكون واقعًا مستقلًّا عن أي جسم. ولمَّا كان هذا الجوهر المُفترَض على ما يبدو يتخلَّل كل مادة أخرى، فقد بزغ السؤال: ماذا يحدُث إذا ما بدأت المادة تتحرك؟ هل يشترك الأخير في هذه الحركة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف تنتشِر موجة الضوء في الأثير المُتحرك؟

والتجارب المتعلقة بهذا السؤال تجارب صعبة للسبب التالي: سرعات الأجسام المُتحركة عادة ما تكون صغيرة جدًّا مقارنة بسرعة الضوء. وعلى هذا فإنَّ حركة هذه الأجسام لن تُعطي سوى آثار ضئيلة جدًّا تتناسب مع نسبة سرعة الجسم إلى سرعة الضوء، أو إلى هذه النسبة مرفوعة إلى أسٍّ أعلى. ولقد سمحت أبحاث ويلسون ورولاند ورونتيجن وأيخينفالد وفيزو؛ سمحت بقياس هذه الآثار بدقَّةٍ تُناظر الأسَّ الأول لهذه النسبة. وتمكَّنت نظرية الإلكترونات التي طوَّرها لورنتس عام ۱۸۹٥م من وصف هذه الآثار بشكلٍ مُرضٍ للغاية. لكن تجربة مايكلسون ومورلي وميلر خلقت وضعًا جديدًا.

سنُناقش هذه التجربة ببعض التفصيل، فلِكَي نحصل على آثارٍ أكبر ومِن ثم على نتائج أكثر دقَّة، يبدو من الأفضل أن تُجرى التجارب باستخدام أجسامٍ ذات سرعةٍ كبيرة جدًّا. تتحرك الأرض حول الشمس بسرعة نحو ۲۰ ميلًا في الثانية. فإذا كان الأثير ساكنًا بالنسبة للشمس ولا يتحرك مع الأرض، فإن هذه السرعة الكبيرة للأثير بالنسبة للأرض ستظهر كتغيُّرٍ في سرعة الضوء، فهذه السرعة عندما يكون انتشار الضوء موازيًا لاتجاه حركة الأثير لا بد أن تختلف عنها إذا كان الانتشار مُتعامدًا عليه، وحتى لو كان الأثير يتحرَّك جزئيًّا مع الأرض فلا بد أن يُظهر أثرًا ما قد نُسميه رياح الأثير، وهذا الأثر قد يتوقَّف إذن على ارتفاع الموقع الذي تُجرَى به التجربة عن سطح البحر. ولقد اتضح من حساب الأثر المُتوقَّع أنه صغير للغاية لأنه يتناسَب مع مُربع نسبة سرعة الأرض إلى سرعة الضوء، وأن علينا إذن أن نُجري تجارب دقيقة للغاية على تداخُل شعاعَين من الضوء يتحركان في موازاة حركة الأرض أو عموديًّا عليها. قام مايكلسون بأول تجربة من هذا القبيل عام ۱۸۸۱م، لكنها لم تكن دقيقةً بما فيه الكفاية. ثم كُرِّرت هذه التجربة فلم تظهر أدنى إشارة إلى الأثر المتوقَّع. لكن تجارب مورلي وميلر التي أجرَياها عام ١٩٠٤م وفَّرت الدليل القاطِع على أنْ ليس ثمَّة وجود لأثرٍ بهذا الحجم.

قابلت هذه النتيجة على غرابتِها موضوعًا آخر كان محلَّ نقاشٍ بين الفيزيائيين قبل ذلك بزمنٍ. تُحقِّق ميكانيكا نيوتن «مبدأ للنسبية» يمكن وصفُه بما يلي: إذا أوفت الحركة الميكانيكية في نظامٍ مرجعي مُعين قوانين ميكانيكا نيوتن، فسيكون هذا صحيحًا أيضًا بالنسبة لأي إطارٍ مرجعي آخر، ما دام في حركةٍ غير دوَّارة مُنتظمة بالنسبة للنظام الأول. أو بمعنًى آخر: إن حركة الانتقال المُنتظمة للنظام لا تُسبِّب آثارًا ميكانيكية على الإطلاق، ومِن ثَم فلا يمكن أن نُلاحظها عن طريق مثل هذه الآثار.

بدا للفيزيقيين أنَّ مبدأ النسبية هذا لا يُمكن أن يكون صحيحًا في البصريات أو الديناميكا الكهربائية. فإذا كان النظام الأول ساكنًا بالنسبة للأثير، فإنَّ النُّظم الأخرى لن تكون، وعلى هذا فلا بدَّ أن تُدْرَك حركتها بالنسبة للأثير عن طريق آثارٍ من النمط الذي قرَّره مايكلسون. ثم كان أن أحيت النتيجة السلبية لتجربة مورلي وميلر عام ۱۹۰٤م، أحيت فكرة أنَّ مبدأ النسبية هذا قد يكون صحيحًا في الديناميكا الكهربائية كما ميكانيكا نيوتن.

مِن ناحية أخرى، ثمَّة تجربة قديمة قام بها فيزو عام ١٨٥١م كانت تبدو بالتأكيد مناقضةً لمبدأ النسبية. قاس فيزو سرعة الضوء في سائلٍ متحرك، فإذا كان مبدأ النسبية صحيحًا فإن السرعة الكلية للضوء في السائل المُتحرِّك لا بد أن تكون حاصِل جمْع سرعة السائل مضافًا إليها سرعة الضوء في السائل الساكن. لكن هذا لم يكن صحيحًا، فقد بيَّنت التجربة أن السرعة الكلية كانت أقلَّ بعض الشيء.

ومع ذلك فإن النتائج السلبية للكثير غير هذه من التجارب الحديثة لإدراك الحركة «بالنسبة للأثير»، هذه النتائج قد ألهمت المُنظِّرين من الفيزيائيين والرياضيين في ذلك الوقت أن يبحثوا عن تفسيراتٍ رياضية تُوفِّق ما بين معادلة الموجة لانتشار الضوء ومبدأ النسبية. اقترح لورنتس عام ١٩٠٤م تحويلًا رياضيًّا يُحقق هذه المُتطلبات. قدم فرضًا بأن الأجسام المتحركة تنكمش في اتجاه الحركة بمُعاملٍ يتوقَّف على سرعة الجسم، وأن هناك في النظم المرجعية المختلفة أزمنة ظاهرية مختلفة تَحلُّ بطرقٍ شتَّى مَحَلَّ الزمن «الحقيقي». بهذه الطريقة توصَّل إلى شيءٍ يُشبه مبدأ النسبية: إن السرعة «الظاهرية» للضوء واحدة في كلِّ النظُم المرجعية. ولقد ناقش بوانكاريه وفيتزجيرالد وغيرهما من الفيزيائيين آراءً مشابهة.

وكانت الخطوة الحاسمة بحثًا لأينشتين نُشِر عام ۱۹۰٥م، برهن فيه أن الزمن «الظاهري» لتحويل لورنتس هو الزمن الحقيقي، وألغى ما كان لورنتس يُسمِّيه الزمن «الحقيقي». كان هذا تغيُّرًا في أُسس الفيزياء ذاتها، تغيُّرًا جذريًّا غير مُتوقع تطلَّب كل شجاعة شابٍّ عبقري ثوري. واتخاذ هذه الخطوة لا يتطلَّب — للتمثيل الرياضي للطبيعة — أكثر من التطبيق المُتماسِك لتحويل لورنتس. لكن تفسيراتها الجديدة قد غيَّرت بنية المكان والزمان، وظهر الكثيرُ من مشاكل الفيزيقا في ضوءٍ جديد. وعلى سبيل المِثال فمِن المُمكن إلغاء جوهر الأثير تمامًا. فلمَّا كانت كل نظم الإحالة الموجودة في حركة انتقال مُنتظمة بعضها بالنسبةِ لبعض، لمَّا كانت متساويةً بالنسبة لوصفها للطبيعة، فليس ثمَّة معنًى للقول بوجود مادة «الأثير» ساكنة في واحدٍ فقط من هذه النظم. لا حاجة في الواقع لمِثل هذا الجوهر، والأسهل أن نقول إن موجات الضوء تنتشِر في الحيِّز الفارغ، وإن المجالات الكهرومغناطيسية واقع مُستقل يمكن أن يُوجَد في الحيِّز الفارغ.

لكنَّ التغيُّر الحاسم كان في بِنية المكان والزمان. يصعُب جدًّا أن نصِف هذا التغيُّر بكلمات اللغة المألوفة، دون استخدام الرياضيات، لأن الكلمتَين الشائعتَين «المكان» و«الزمان» تُشيران إلى بِنيةٍ للمكان والزمان، هي في واقع الأمر صياغة مِثالية للبِنية الحقيقية وتبسيط مُفرط لها. ومع ذلك فعلينا أن نُحاول وصف البِنية الجديدة، وربما فعلنا ذلك بالطريقة الآتية:

عندما نستخدِم المصطلح: «الماضي» فإنا نضمُّ تحته تلك الوقائع التي يُمكن أن نعرفها على الأقل من ناحية المبدأ، والتي يُمكن أن نكون قد سمِعنا عنها، على الأقل من ناحية المبدأ. وبنفس الشكل فإنَّا نضمُّ في المصطلح «المستقبل» كل الوقائع التي يُمكن أن نؤثر فيها على الأقل من ناحية المبدأ، والتي يُمكن أن نُحاول تغييرها أو منعَها على الأقل من ناحية المبدأ. وليس من السهل بالنسبة لغير الفيزيائي أن يعرف السبب في أنْ يكونَ هذا التعريف لِمُصطلحَي «الماضي» و«المستقبل»، هو الأكثر ملاءمة، لكن يُمكننا أن نلحظ أنه يُناظر، بدقَّةٍ بالغة، استخدامنا الشائع للمُصطلحَين. فإذا استخدمنا المُصطلحَين بهذه الطريقة فسنجد أن ثمة نتائج لتجارب عديدة تُبيِّن أن محتوى «المستقبل» و«الماضي» لا يعتمِد على حالة المُراقب من حيث حركته أو أية خصائص أخرى له. يُمكننا أن نقول إن التعريف ثابتٌ لا يتغيَّر مع حركة المراقب، وهذا صحيح في كلٍّ مِن ميكانيكا نيوتن ونظرية أينشتين للنسبية.

لكنَّ الفارق هو الآتي: نحن نفترض في النظرية الكلاسيكية أن ثمَّة فترة غاية في القِصَر نُسميها اللحظة الحاضرة، تفصل ما بين المستقبل والماضي. ولقد عرفنا أن الوضع يختلف في نظرية النسبية. فالمُستقبل والماضي تفصلهما فترة مُتناهية يتوقَّف طولُها على بُعد المُراقب. إن كل فِعل ينتشر بسرعة تقلُّ عن سرعة الضوء أو تساويها. وعلى هذا فإن المراقب لا يُمكنه في لحظةٍ بذاتها أن يعرف أو يؤثر على حدثٍ في موقعٍ بعيدٍ يقع بين زمنَين مميزَين؛ أحدُهما هو لحظة صدور إشارة ضوئية من مكان وقوع الحادثة لكي تصِل إلى المراقب في لحظة الملاحظة، أمَّا الآخر فهو اللحظة التي عندها تصِل إلى موقع الحدث إشارة ضوئية يُطلقها المراقب لحظة الملاحظة. إن كل الفترة الزمنية المُتناهية بين هاتَين اللحظتَين هي ما نُسميه الزمن الحاضر بالنسبة للمراقب لحظة الملاحظة. وكل واقعة تحدُث بين هذين الزمنَين المميزَين قد نقول إنها متزامنة مع فعل الملاحظة.

واستعمالنا التعبير «قد نقول» إنما يُشير إلى غموض كلمة «متزامنة» وهو غموض يرجع إلى حقيقة أنَّ هذه الكلمة قد نشأت عن خِبرتنا في الحياة اليومية؛ حيث تُعتبَر سرعة الضوء دائمًا سرعةً لانهائية. والواقع أننا نستطيع أن نُعرِّف الكلمة بشكلٍ مُختلف بعض الشيء، استعملَه أينشتين في أبحاثه. هذا هو التعريف الثاني: عندما تحدُث واقعتان مُتزامنتان في نفس الموقع في الفضاء فإنَّا نقول إنهما «متزامكتان». وهذا تعبير لا غموضَ فيه على الإطلاق. دعْنا الآن نتخيَّل ثلاث نقطٍ في الفضاء توجَد جميعًا على خطٍّ مُستقيم بحيث تقَع النقطة الوسطى منها بالضبط في مُنتصف المسافة بين النقطتَين الطرفيتَين، فإذا ما حدثت واقِعتان بالنقطتَين الطرفيتَين بحيث يتزامك عند النقطة الوسطى وصول الإشارتَين الضوئيتَين المنبعثتَين منهما، قُلنا إن الواقعتَين متزامِنتان. وهذا التعريف أضيَقُ من التعريف الأول. ومن أهم نتائجه أنه إذا ما كانت واقِعتان متزامنتَين بالنسبة لمُراقبٍ ما، فقد لا تكونان كذلك عند آخَر، إذا ما كان هذا مُتحركًا بالنسبة للأول. مِن المُمكن أن نُقيم العلاقة بين التعريفَين بالقول إنه متى كانت واقِعتان متزامنتَين بالمعنى الأول، فإنا نستطيع دائمًا أن نجد إطارًا مرجعيًّا تكونان فيه كذلك بالمعنى الثاني أيضًا.

يبدو أن التعريف الأول لمصطلح «التزامن» هو الأقرب إلى الاستخدام في حياتنا اليومية، لأن قضية ما إذا كانت واقعتان متزامنتَين لا تعتمِد في حياتنا اليومية على الإطار المرجعي. لكن المُصطلح في كِلا التعريفَين النسبويَّين قد اكتسب دقةً تفتقر إليها لغة حياتنا اليومية. كان على الفيزيائيين في نظرية الكمِّ أن يعلموا مبكرًا أن مُصطلحات الفيزياء الكلاسيكية إنما تصِف الطبيعة بشكلٍ غير دقيق، وأن تطبيقها محكوم بقوانين الكم، وأنَّ علينا أن نكون إذن حذِرِين في استعمالها. ولقد حاول الفيزيائيون في نظرية النسبية أن يُغيروا معنى كلمات الفيزياء الكلاسيكية ليجعلوا المُصطلحات أكثر دقةً بحيث تُلائم الوضع الجديد في الطبيعة.

أما بِنية المكان والزمان التي كشفتها نظرية النسبية فقد كانت لها نتائج عديدة في أجزاءٍ مختلفة من الفيزياء. فالديناميكا الكهربية للأجسام المُتحركة يُمكن أن تُشتق على الفور من مبدأ النسبية. وهذا المبدأ ذاته يُمكن أن يُصاغ في صورة قانونٍ للطبيعة عام جدًّا يُناسب ليس فقط الديناميكا الكهربائية والميكانيكا، وإنما أيضًا أي مجموعةٍ من القوانين: تتَّخذ القوانين نفس الصورة في كلِّ النُّظم المرجعية، التي تختلف بعضها عن بعض، فقط بسبب حركة انتقالٍ منتظمة كلها ثابتة أمام تحويل لورنتس.

ربما كانت أهم نتائج مبدأ النسبية هي القصور الذاتي للطاقة، أو تكافؤ الكتلة والطاقة. لمَّا كانت سرعة الضوء هي السرعة القصوى التي لا يمكن أبدًا لأي جسمٍ مادي أن يصِلها، فمن السهل أن نرى أن تعجيل جسمٍ يتحرك بالفعل بسرعةٍ كبيرة سيكون أصعبَ من تعجيلِ جسمٍ ساكن. لقد ازداد القصور الذاتي بزيادة طاقة الحركة. لكنَّ أي نوعٍ من الطاقة على وجه العموم، سيُسهم — تبعًا لنظرية النسبية — في القصور الذاتي، نعني في الكتلة. وكتلة أي مقدارٍ من الطاقة ليست سوى هذه الطاقة مقسومةً على مُربع سرعة الضوء. وعلى هذا فإن كل طاقةٍ تحمل معها كتلة، لكن حتى الطاقة الهائلة لا تحمِل إلَّا قدرًا ضئيلًا جدًّا من الكتلة. وهذا هو السبب في أنَّ أحدًا لم يكتشف العلاقة بين الطاقة والكتلة. يفقد قانونا حفظ الكتلة وحفظ الشحنة كلاهما صلاحيتهما وينضمَّان في قانونٍ واحد يمكن أن نُسميه قانون حفظ الطاقة أو الكتلة. عندما صِيغت نظرية النسبية منذ خمسين عامًا كان فرض تكافؤ الكتلة يبدو ثورةً كاملة في الفيزياء، ولم يكن ثمَّة إلَّا قدْر ضئيل من الشواهد التجريبية لتعضيده، أما في أيامِنا هذه فسنرى في الكثير من التجارب كيف يُمكن تخليق الجُسيمات الأولية من الطاقة الحركية، وكيف تفنى هذه الجُسيمات لتُشكِّل إشعاعًا؛ وعلى هذا فإن التحوُّل من الطاقة إلى الكتلة أو العكس لا يقترح شيئًا غير عادي. إن كمية الطاقة الضخمة التي تُحرَّر في أي انفجارٍ ذرِّي ليست سوى إثباتٍ علني مُذهل على صحة معادلة أينشتين. لكنَّا قد نُضيف هنا ملحوظة نقدية تاريخية.

كثيرًا ما نسمع أن الطاقات الهائلة للانفجارات الذرية إنما ترجع إلى تحوُّل الكتلة إلى طاقة تحولًا مباشرًا، وأن التنبؤ بهذه الطاقات لم يكن مُمكنًا إلَّا من خلال نظرية النسبية. لكن هذا في واقع الأمر سوء تفهُّم. إن القدْر الهائل من الطاقة المُتاحة في نواة الذرة كان معروفًا منذ تجارب بيكريل وكوري ورذرفورد على الاضمحلال الإشعاعي. فكل جسمٍ يضمحل (كالراديوم مثلًا) يُنتج مِن الطاقة ما يصِل إلى نحو مليون ضعف الطاقة التي تتحرَّر في عملية كيمياوية على نفس المقدار من المادة. ومصدر الطاقة في عملية انشطار اليورانيوم هو بالضبط مصدرها في اضمحلال ألفا بعنصر الراديوم — نقصد التنافُر الكهروستاتيكي للجزأين اللذَين تنشطر إليهما الذرة. تأتي طاقة الانفجار الذري مباشرة عن هذا المصدر، لا عن تحوُّل الكتلة إلى طاقة. إن عدد الجُسيمات الأوَّلية ذات كتلة السكون المُتناهية لا ينقص خلال الانفجار، لكن مِن الصحيح أن الكتلة تُفصح عن طاقات ربط هذه الجُسيمات في نواة الذرة، ومن ثَم فإن تحرُّر الطاقة يرتبط أيضًا، في هذا الشكل غير المُباشر، بالتغيُّرات في كُتَل النوايا. لقد أثار تكافؤ الكتلة والطاقة — بجانب أهميتِه في الفيزياء — مشاكل تختصُّ بقضايا فلسفية قديمة جدًّا. ثمَّة قضية نجِدها في نُظم فلسفية عديدة قديمة، تقول بأن الجوهر أو المادة لا يُمكن أن تُحطَّم. لكنَّا سنجد في الفيزياء الحديثة الكثير من التجارب، وقد أوضحت أنه من الممكن أن تفنى جُسيمات أولية كالبوزيترونات والإلكترونات، وأن تتحول إلى إشعاع. فهل هذا يَعني أن التجارب الحديثة قد أثبتت بطلان النظم الفلسفية القديمة، وأن الحُجج التي قدَّمتها هذه النظم كانت مُضللة؟

سيكون هذا بالتأكيد قرارًا متهورًا ليس له ما يُبرره؛ إذ لا يمكن ببساطةٍ أن نُطابق مصطلحَي «الجوهر» و«المادة» في الفلسفة القديمة أو القروسطية بمصطلح «الكتلة» في الفيزيقا الحديثة. فإذا أردْنا أن نُعبر عن خبرتنا الحديثة بلُغة الفلسفات القديمة، فلَنا أن نَعتبر الكتلة والطاقة صورتَين مختلفتَين من صور نفس «الجوهر»، وبذا نحفظ فكرة الجوهر الذي لا يتحطَّم.

يصعب، في الحق، أن نقول إننا نكسب كثيرًا إذا عبَّرنا عن معرفتنا الحديثة بلُغة قديمة، لقد تشكَّلت النظم الفلسفية في الماضي عن كم المعرفة الذي أُتيح آنذاك وعن أساليب الفكر التي أدَّت إليها مثل هذه المعرفة. والمؤكد أنَّنا لا نتوقَّع أن يتنبَّأ الفلاسفة، منذ بضعة قرونٍ مضت، بتطوُّر الفيزياء الحديثة أو نظرية النسبية؛ وعلى هذا فإنَّا لا نتصوَّر أنه من المُمكن أن يتكيَّف أيٌّ من المفاهيم التي طرقها الفلاسفة في عملية التوضيح العقلي منذ زمنٍ بعيد، بحيث يُلائم الظواهر التي لا يمكن ملاحظتها إلَّا بالأدوات التقنية المُعقدة التي ظهرت في زماننا هذا.

لكن، قبل أن نمضي إلى مناقشة التضمينات الفلسفية لنظرية النسبية، علينا أنْ نصِف أوَّلًا ما جدَّ عليها من تطورات.

لقد أجهزت نظرية النسبية، كما ذكرنا، على جوهر «الأثير» الافتراضي الذي لعِب دورًا هامًّا في المُناقشات الأولى عن نظريات ماكسويل بالقرن التاسع عشر. يُعبَّر عن هذا أحيانًا بالقول إنَّنا قد تخلَّينا عن فكرة الفضاء الخالص. لكن مثل هذه الجملة لا بد ألَّا تُقبَل إلَّا بحذَر بالغ. صحيح أن المرء لا يستطيع أن يشير إلى إطار مرجعي خاص يكون فيه جوهر الأثير في حالةِ استقرارٍ ويستحقُّ اسم «الفضاء الخالص»، لكن من الخطأ أن نقول إن الفضاء قد فقد الآن كلَّ خصائصه الفيزيقية، فما زالت مُعادلات الحركة للأجسام المادية أو المجالات تتَّخِذ صورة في نظامٍ «عادي» مَرجعي، تختلف عن أخرى في نظام آخر يدور أو يتحرك حركةً غير مُنتظمة بالنسبة للنظام «العادي». ووجود قوى الطرد المركزية في النظم الدوَّارة يُثبت — فيما يُهمُّ نظرية النسبية لعام ۱۹۰٥م ولعام ۱۹۰٦م — وجود خصائص فيزيقية للفضاء تسمح بالتمييز بين نظامٍ دوَّار وآخر غير دوَّار.

قد لا يبدو هذا مُرضيًا من إحدى وجهات النظر الفلسفية، الوجهة التي يُفضَّل فيها أن نمنح الخصائص الفيزيقية فقط للكيانات الفيزيائية، مثل الأجسام المادية أو المجالات، وليس للفضاء الفارغ. لكنَّا سنجد، بالنسبة لنظرية العمليات الكهرومغناطيسية أو الحركات الميكانيكية، أن وجود الخصائص الفيزيقية هذه للفضاء الفارغ، ليس إلَّا وصفًا لحقائق لا نزاع فيها.

ولقد قاد تحليل دقيق لهذا الوضع، تمَّ بعد نحو عشرين عامًا — عام ١٩١٦م — قاد أينشتين إلى توسيعٍ هامٍّ جدًّا لنظرية النسبية يُطلق عليه عادة اسم نظرية النسبية العامة. وقبل أن نمضي إلى وصف الأفكار الرئيسية لهذه النظرية الجديدة، قد يكون مِن المُفيد أن نذكُر بضع كلماتٍ عن درجة اليقين في صحَّة جزأي نظرية النسبية هذين. ترتكز نظرية عام ١٩٠٥م و١٩٠٦م على عددٍ كبير جدًّا من الحقائق الموطدة على تجارب مايكلسون ومورلي والكثير غيرها مما يُشبهها، على تكافؤ الكتلة والطاقة في العمليات الإشعاعية التي لا تُعَد ولا تُحصى، على اعتماد عمر الأجسام المُشعَّة على سرعتها … إلخ. وعلى هذا فإن هذه النظرية تنتمي إلى الأساس المتين للفيزيقا الحديثة، ولا يمكن في وضعنا الحالي أن نشكَّ فيها.

والشواهد التجريبية بالنسبة لنظرية النسبية أقل إقناعًا بكثير، لأنَّ مادة البحث نادرة للغاية. فنحن لن نجد إلَّا عددًا محدودًا من الملاحظات الفلكية التي تسمح بالتحقُّق من صحة الفروض. وعلى هذا فإن هذه النظرية أكثر «فرضية» من الأولى.

أما حجر الزاوية في نظرية النسبية العامة فهو العلاقة ما بين القصور الذاتي والجاذبية.

أوضحت القياسات الدقيقة جدًّا أن كتلة الجسم، كمصدرٍ للجاذبية، تتناسَب بالضبط مع الكتلة كمقياسٍ للقصور الذاتي للجسم. وأبدًا لم يُظهِر حتى أدق القياسات أيَّ انحرافٍ مِن هذا القانون. فإذا كان القانون صحيحًا على وجه العموم، فمِن المُمكن أن تُوضَع قوى الجاذبية على نفس مستوى قوى الطرد المركزي أو غيرها من القوى الأخرى التي تَنتُج كردِّ فعلٍ للقصور الذاتي. ولمَّا كان مِن اللازم أن تُعتبَر قوى الطرد المركزي ناشئةً عن الخصائص الفيزيائية للفضاء الفارغ، كما ذكرنا، فقد تحوَّل أينشتين إلى الفرض بأن قوى الجاذبية أيضًا تنشأ عن خصائص الفضاء الفارغ. وكانت هذه خطوةً هامة تطلَّبَت على الفور خطوة تاليةً لها نفس الأهمية. نحن نعرف أن قوى الجاذبية تنتُج عن الكتلة، فإذا ما كانت الجاذبية مُرتبطةً بخصائص الفضاء، فإن خصائص الفضاء هذه لا بد أن تنتُج عن الكتل أو تتأثر بها. وقوى الطرد المركزي في أي نظامٍ دوَّار لا بدَّ أن تنشأ عن دوران كُتَل (بالنسبة للنظام) قد تكون بعيدة جدًّا.

ولتنفيذ البرنامج الذي حدَّدتْه هذه الجُمَل القليلة، كان على أينشتين أن يربط الأفكار الفيزيقية التحتية بالمُخطط الرياضي للهندسة العامة التي طوَّرها رايمان. فلمَّا كانت خصائص الفضاء تتغيَّر، على ما يبدو، مع مجالات الجاذبية، فمِن الضروري أن تُقارَن هندستها بالهندسة على الأسطح المُنحنية؛ حيث يُستبدَل بخطِّ الهندسة الإقليدية المستقيمِ خطُّ جيوديسي (وهو خطُّ أقصرِ المسافات) وحيث يتغيَّر الانحناء بصورةٍ مستمرة. تمكَّن أينشتين في النهاية من تقديم صياغةٍ رياضية للارتباط ما بين توزيع الكُتَل والمعالم المحددة بالهندسة. ولقد مثَّلت هذه النظرية الحقائق الشائعة عن الجاذبية، فهي تقريب مُمتاز جدًّا، يُطابق النظرية التقليدية للجاذبية، بل ويتنبَّأ بعددٍ من الظواهر المُشوِّقة التي كانت بالضبط على حدود المقياسية. كان هناك مثلًا فِعل الجاذبية على الضوء؛ عندما ينبعِث ضوء أُحادي اللون من نجمٍ ثقيل، فإن كمَّات الضوء تفقد طاقةً وهي تتحرك بعيدًا خلال جاذبية النجم، ويتبع ذلك «إزاحة نحو الأحمر» لخطِّ الطيف المنبعث. وليس ثمَّة حتى الآن من شواهد تجريبية لهذه الإزاحة نحو الأحمر، كما بيَّنت بوضوح مناقشات تجارب فرويندليخ. لكن سيكون من السابق لأوانه أيضًا أن نقولَ إنَّ التجارب تُناقض توقُّعات نظرية أينشتين، فشعاع الضوء الذي يمرُّ قُرب الشمس يجب أن ينحرف بسبب مجال جاذبيتها. ولقد رصد فرويندليخ تجريبيًّا هذا الانحراف، وكان في النطاق الصحيح. أما موضوع موافقة الانحراف من الناحية الكمية للقيمة التي تنبَّأت بها نظرية أينشتين، فهو أمر لم يتَّضح بعد. ويبدو أن أفضل الشواهد على صحة نظرية النسبية العامة هو تقدُّم الحركة المدارية لكوكب عطارد؛ إذ الواضح أنه يتَّفق جيدًا مع القيمة التي تتنبأ بها النظرية.

وبالرغم من أن الأساس التجريبي للنسبية العامة لا يزال ضيِّقًا نوعًا ما، فإن النظرية تحوي أفكارًا ذات أهميةٍ قصوى. فمنذ عصر الرياضيين الإغريق وحتى القرن التاسع عشر، كانت الهندسة الإقليدية تُعتبر أمرًا مُثبتًا، كانت بديهيَّات إقليدس تُعتبَر الأساس بالنسبة لأي هندسةٍ رياضية، الأساس الذي لا يُمكن الشكُّ فيه. ثم، وفي القرن التاسع عشر، إذا بالرياضيين بولياي ولُباشفيسكي، وجاوس ورايمان يكتشفون أن ثمَّة هندساتٍ أُخرى يمكن ابتكارها وتطويرها لتكون لها نفس الدقَّة التي تُميِّز هندسة إقليدس. وعلى هذا تحوَّلت قضية «أي الهندسات هو الصحيح؟» لتُصبح قضية تجريبية. ولم يأخُذ الفيزيائيون القضية حقًّا كموضوع للدراسة إلَّا مِن خلال أعمال أينشتين. أما الهندسة موضوع النقاش في نظرية النسبية العامة فلم تكُن تختصُّ بالفضاء الثلاثي الأبعاد، وحدَه، وإنما أيضًا بالمُعقَّد الرباعي الأبعاد الذي يتألَّف من الفضاء والزمن. وطَّدت النظرية علاقةً بين الهندسة في هذا المُعقَّد وبين توزيع الكُتَل في العالم. وعلى هذا، فقد أثارت هذه النظرية — في صورة جديدة تمامًا — أثارت القضايا القديمة لسلوك الفضاء والزمان في الأبعاد الكبرى. كان في مقدورها أن تقترح إجاباتٍ مُحتملة يمكن التحقُّق منها بالملاحظة.

وبناءً على ذلك أُعيدَت للدراسة مواضيعُ فلسفية قديمة جدًّا كانت تشغل ذهن الإنسان مُنذ أقدمِ أطوارِ الفلسفة والعِلم: هل الفضاء مُتناهٍ أو لامُتناهٍ؟ ماذا كان هناك قبل بدء الزمن؟ ما الذي سيحدُث عند نهاية الزمن؟ أم تُرى ليس ثمَّة بداية له ولا نهاية؟ وجدت هذه الأسئلة إجاباتٍ مُختلفة في الفلسفات والأديان المختلفة. ففي فلسفة أرسطو مثلًا سنجد أن الفضاء الكُلي للكون مُتناهٍ (إن يكن قابلًا للقسمة اللانهائية). كان الفضاء ناشئًا عن امتداد الأجسام، كان مرتبطًا بهذه الأجسام، فحيث لا تُوجَد أجسام لا يوجَد فضاء. الكون يتألَّف من الأرض والشمس والنجوم؛ عدد مُتناهٍ مِن الأجرام. وخلف نِطاق النجوم ليس ثمة فضاء، وعلى هذا فإن حَيِّز الكون مُتناهٍ.

أما في فلسفة كانط فقد كان هذا السؤال ينتمي إلى ما أسماه «النقائض» — الأسئلة التي لا يُمكن الإجابة عليها، إذ فيها تقود حجَّتان مُختلفتان إلى نتائج متضادة. فالفضاء لا يمكن أن يكون متناهيًا لأنَّنا لا نستطيع أن نتخيَّل وجود نهاية للفضاء، فحيثما وصلْنا يُمكننا دائمًا أن نتصوَّر أنَّ في مقدورنا أن نمضي أبعد. وفي نفس الوقت فإن الفضاء لا يُمكن أن يكون لانهائيًّا، لأن الفضاء شيء يُمكننا تخيُّله (وإلَّا لما صِيغت كلمة «فضاء») وليس في مقدورنا أن نتخيَّل فضاءً لانهائيًّا. والواقع أن كانط لم يذكُر هذه الحجَّة حرفيًّا هكذا (بالنسبة للقضية الأخيرة). وجُملة الفضاء اللامُتناهي تعني بالنسبة لنا شيئًا سلبيًّا، فنحن لا نستطيع أن نصِل إلى نهاية للفضاء، أما بالنسبة لكانط فكانت تَعني أن لانهائية الفضاء هي بالفعل من المُعطيات، أنها «توجد» بمعنًى يصعب علينا أن نُعبر عنه. وكانت النتيجة التي توصَّل إليها كانط: إن الإجابة العقلية للسؤال عن تناهي الفضاء أو لاتناهيه هي أمرٌ مُستحيل، لأن الكون بأكمله لا يمكن أن يكون موضوع تجربتِنا.

وسنُقابل موقفًا مشابهًا بالنسبة لمشكلة لاتناهي الزمن؛ ففي «اعترافات» القديس أوغسطين، مثلًا اتخذ هذا السؤال الصورة التالية: «ماذا كان الإله يفعل قبل أن يخلق العالم؟» لم يقتنع أوغسطين بالنكتة: «كان مشغولًا بتجهيز جهنَّم كي تستقبل كُلَّ مَن يسأل مثل هذه الأسئلة السخيفة.» قال إن هذه إجابة رخيصة جدًّا، ثم حاول أن يُعطي تحليلًا عقليًّا للمشكلة. فالزمن يَمضي بالنسبة لنا وحدَنا، إنَّنا نتوقَّعه كمُستقبل، وهو يَمضي كلحظةٍ حاضرة، ونتذكَّره كماضٍ. لكن الإله ليس في الزمن، إنَّ ألف عامٍ بالنسبة له يوم، واليوم عنده ألف عام. لقد خلق الزمن مع العالم، إنه ينتمي إلى العالم، ومِن ثَم فالزَّمن لم يوجَد قبل أن يُوجَد العالم. أما بالنسبة للإله فإن كل مَجرى الكون قد أُقيم في الحال. لم يكن ثمَّة زمان قبل أن يخلُق الإلهُ العالم. والواضح أن كلمة «يخلق» في مثل هذه الجُمَل تُثير على الفور كل الصعوبات الجوهرية. فهذه الكلمة كما تُفهَم عادة تعني أن شيئًا قد بزغ في الوجود لم يكُن موجودًا قبلًا، وهي في هذا المعنى تفترِض مُسبقًا مفهوم الزمن. وعلى هذا فمِن المُستحيل أن نُعرِّف، بمصطلحات معقولة، ما قد تعنيه جُملة «لقد خلق الزمن». وهذه الحقيقة تُذكرنا مرة أخرى بالدرس الذي طالما نُوقش والذي علَّمتنا إيَّاه الفيزياء الحديثة: إنَّ كلَّ لفظٍ أو مفهوم، مهما بدا واضحًا، ليس له إلَّا مجال محدود من الاستعمالات.

يمكن في نظرية النسبية العامة أن تُوضَع هذه الأسئلة عن لانهائية الفضاء والزمان، وأن تُجاب جزئيًّا على أساسٍ تجريبي. فإذا ما كانت النظرية قد وفَّرت العلاقة الصحيحة بين الهندسة الرباعية الأبعاد في الفضاء والزمان، وبين توزيع الكُتَل في الكون، عندئذٍ فإن الملاحظات الفلكية عن توزيع المجرَّات في الفضاء ستُقدم المعلومات عن هندسة الكون ككُل. يستطيع المرء أن يبني «نماذج» للكون، صورًا كونية، ثم يُمكنه أن يُقارن نتائجها بالحقائق التجريبية.

لا يستطيع المرء بالنظَر إلى المعرفة الفلكية الحالية أن يُميز بوضوحٍ بين نماذج مُمكنة عديدة. فقد يكون الفضاء المُمتلئ بالكون متناهيًا، وهذا لا يعني أن ثمَّة نهاية للكون في مكانٍ ما، إنما سيعني أنَّنا إذا ما تقدَّمنا في الكون أكثر وأكثر في اتجاهٍ واحد، فسنصِل في النهاية إلى النقطة التي ابتدأنا منها. وهذا الوضع يُشبه ما يحدُث في الهندسة الثنائية الأبعاد على سطح الأرض؛ فإذا ابتدأنا من نقطةٍ مُتَّجِهِين إلى الشرق، فسنصِل في النهاية إلى نفس النقطة من الغرب.

أما بالنسبة للزمن، فثمَّة ما يُشبه بداية له. فالكثير من الملاحظات يُشير إلى منشأٍ للكون منذ نحو أربعة بلايين عام، أو يبدو على الأقل أنها تُشير إلى أنَّ كل مادة الكون في ذلك الوقت كانت مركزةً في فضاءٍ أصغر بكثيرٍ، وأنها انتشرت منه بسرعاتٍ مختلفة منذ ذلك التاريخ. وسنصل إلى نفس هذا الزمن (أربعة بلايين عام) في الكثير من الملاحظات المختلفة (مثلًا عمر النيازك، أو المعادن على الأرض … إلخ). وعلى هذا فسيغدو من الصعب أن نجِد تفسيرًا يختلف جذريًّا عن فكرة المنشأ هذه، فإذا كانت صحيحة فإنها ستعني أن مفهوم الزمن فيما وراء هذا الزمن ستكتنِفه تغيُّرات جوهرية. وسنجِد في الموقف الحالي للملاحظات الفلكية أن الأسئلة عن هندسة الزمكان الواسع لم تجِد بعدُ إجاباتٍ لها أدنى حدٍّ من اليقين. وسيكون من المشوق جدًّا أن تجد هذه الأسئلة إجاباتها في نهاية المَطاف على أساس تجريبي صلب. إن الأساس التجريبي الذي ترتكِز عليه، حتى نظرية النسبية العامة، لا يزال إلى الآن ضئيلًا جدًّا. ولا بد أن تؤخَذ على أنها أقلُّ يقينًا مما يُسمى نظرية النسبية الخاصة التي يُعبر عنها تحويل لورنتس.

وحتى لو لم نذكُر البحوث الإضافية في هذه النظرية الأخيرة، فليس من شكٍّ في أن نظرية النسبية قد غيَّرت كثيرًا من نظرتنا إلى بِنية الفضاء والزمان. ربما لم تكُن طبيعة هذه التغيُّرات هي أكثر مناحيها إثارة، وإنما حقيقة أنها كانت مُمكنة. إن بِنية الفضاء والزمان التي عرفَها نيوتن كأساسٍ لوصفه الرياضي للطبيعة، كانت بِنية بسيطة متماسِكة وتُناظر كثيرًا استخدام مفهومَي الفضاء والزمان في الحياة اليومية. كان التناظُر في الحق وثيقًا حتى ليُمكننا أن نعتبِر أن تعريفات نيوتن هي الصياغة الرياضية الدقيقة لهذَين المفهومَين الشائعين. إننا نستطيع أن نُرتِّب الوقائع في الزمن دون النظر إلى موقِعها في الفضاء. كان هذا هو الأمر الطبيعي تمامًا قبل نظرية النسبية. لكنَّا نعرف الآن أن هذا الانطباع إنما تخلُقه في حياتنا اليومية حقيقةُ أن سرعة الضوء تفوق بكثيرٍ جدًّا أيَّ سرعةٍ نقابلها في الخبرة العملية. لكنَّ أحدًا لم يُدرك بالطبع هذا القيد آنئذٍ. وحتى بعد أن عرفنا هذا القيد الآن، فما زال مِن الصعب أن نتخيَّل أن يعتمد. ترتيب الوقائع على موقعها.

وجهت فلسفة كانط الانتباه فيما بعدُ إلى حقيقة أن مفهومَي الفضاء والزمان ينتمِيان إلى علاقتنا بالطبيعة، لا إلى الطبيعة نفسها؛ أننا لا نستطيع وصف الطبيعة دون استخدام هذَين المفهومَين. ومِن ثَم فإن هذَين المفهومَين هما — بمعنًى ما — من المفاهيم القبلية. إنهما شرط وليسا نتيجةً لخبرتنا. ولقد كان مِن المُعتقد عمومًا أنَّنا لا نستطيع أن نَمَسَّهما بخبرةٍ جديدة. وعلى هذا بدَت ضرورة التغيير مفاجأة عُظمى. كانت هذه هي المرة الأولى التي اكتشف العلماء فيها الحاجة إلى الحذَر البالغ عند تطبيق مفاهيم الحياة اليومية على الخبرة المصقولة للعِلم التجريبي الحديث. إن الصياغة الدقيقة والمتماسِكة لهذه المفاهيم في اللغة الرياضية لميكانيكا نيوتن أو تحليلها الدقيق في فلسفة كانط، لم تُقدِّم أدنى حماية ضد التحليل النقدي، التحليل المُمكن من خلال قياساتٍ غاية في الدقة. أثبت هذا التحذير فيما بعدُ أهميتَه القصوى في تطوُّر الفيزياء الحديثة. والمؤكد أن تفهُّم نظرية الكمِّ كان سيغدو أصعبَ لولا أن نجحت نظرية النسبية في تحذير العلماء من الاستخدام غير المُدقق لمفاهيم تؤخَذ من الحياة اليومية أو مِن الفيزياء الكلاسيكية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥