نقد تفسير كوبنهاجن لنظرية الكم والاقتراحات المُضادة له
قاد تفسير كوبنهاجن لنظرية الكم الفيزيائيين بعيدًا عن الأفكار المادية البسيطة التي سادت العلوم الطبيعية بالقرن التاسع عشر. ولمَّا كانت هذه الأفكار لم ترتبِط فقط بالعلوم الطبيعية لتلك الحقبة، وإنما قد وَجدت تحليلًا منهجيًّا في بعض النظم الفلسفية، كما تغلغلت عميقًا حتى في ذهن رجل الشارع العادي، فمن اليسير أن نتفهَّم جيدًا لماذا جرَت المحاولات لانتقاد تفسير كوبنهاجن ولإحلال تفسيرٍ محلَّه يتَّفق أكثر مع مفاهيم الفيزياء الكلاسيكية أو الفلسفة المادية.
يمكن أن تُقسَّم هذه المحاولات إلى مجاميع ثلاث. لم ترغب المجموعة الأولى في تغيير تفسير كوبنهاجن بالنسبة لتنبُّؤات النتائج التجريبية، وإنما حاولت أن تُغيِّر لُغة هذا التفسير حتى تُصبح أكثر شبهًا بالفيزياء الكلاسيكية، بمعنًى آخَر، لقد حاولَت أن تُغير الفلسفة دون أن تُغير الفيزياء. ثمَّة عدد مِن أبحاث هذه المجموعة قد قصرت اتفاقها مع التنبؤات التجريبية لتفسير كوبنهاجن، على التجارب التي أُجرِيت حتى ذلك الوقت، أو على تلك التي تنتمي إلى الفيزياء الإلكترونية العادية.
أدركت المجموعة الثانية أن تفسير كوبنهاجن هو التفسير الوحيد المُلائم، إذا ما كانت النتائج التجريبية في كل مكان تتَّفق مع تنبؤات هذا التفسير؛ وعلى هذا فقد حاولت هذه المجموعة في أبحاثها أن تُغير نظرية الكم بعضَ الشيء في بعض النقاط الحرجة.
أما المجموعة الثالثة والأخيرة فقد عبَّرت عن استيائها العام من نتائج تفسير كوبنهاجن، ولا سيما من نتائج فلسفته، دون أن تُقدم اقتراحاتٍ مضادة محددة. تنتمي أبحاث أينشتين وفون لاوه وشرودنجر إلى هذه المجموعة الثالثة التي كانت تاريخيًّا هي أولى المجاميع الثلاث.
على أن كلَّ معارضي تفسير كوبنهاجن كانوا يتَّفقون في نقطةٍ واحدة. فهم يُفضلون العودة إلى مفهوم الواقع بالفيزيقا الكلاسيكية، أو إلى أنطولوجيا المادية، إذا استعملنا مصطلحات أكثر عمومية. هم يفضلون العودة إلى فكرة عالمٍ حقيقي موضوعي توجَد أصغر أجزائه موضوعيًّا، بنفس المعنى الذي تكون به الأحجار والأشجار كذلك، لا تعتمد على مراقبتنا أو عدَم مراقبتنا لها.
على أن هذا مستحيل، أو على الأقل ليس مُمكنًا تمامًا، بسبب طبيعة الظواهر الذرِّية، كما سبق وَبَيَّنَّا في بعض الفصول السابقة. إن مُهمتنا ليست صياغة ما نتمنَّى أن تكون عليه الظواهر الذرية. مُهمتنا تنحصر في تفهُّمها لا أكثر.
فإذا قُمنا بتحليل أبحاث المجموعة الأولى، فمن الضروري أن نُدرك، من البداية، أن تفسيراتهم لا يُمكن أن ندحضها بالتجربة، فهي دائمًا تُكرر تفسير كوبنهاجن بلُغةٍ مختلفة، بل ولقد يمكن حتى أن نقول — من وجهة النظر الوضعية الدقيقة — إنَّنا هنا لا نهتمُّ باقتراحاتٍ مضادة لتفسير كوبنهاجن، وإنما بمجرَّد تكرارٍ له في لُغةٍ أخرى. وعلى هذا فليس أمامنا هنا إلَّا أن نُناقش مدى ملاءمة هذه اللغة. هناك مجموعة من الاقتراحات المضادة تعمل على فكرة «المقاييس الخفية». فلمَّا كانت القوانين الكمَّاتية-النظرية تُحدِّد على وجه العموم نتائج التجربة إنما فقط بشكلٍ إحصائي، فقد ننزع، من وجهة النظر الكلاسيكية، إلى أن نتصوَّر وجود مقاييس خفيَّة تُفلت من الملاحظة في أية تجربة عادية، ولكنها تُحدد نتيجة التجربة بالطريقة العلمية العادية. وعلى هذا تحاول بعض الأبحاث أن تبني مثل هذه المقاييس داخل هيكل ميكانيكا الكم.
وعلى هذا الخط طرح بوهم — مثلًا — اقتراحًا مضادًّا لتفسير كوبنهاجن، وقد تبنَّاه مؤخرًا — ولحدٍّ ما — ده برولي أيضًا. ولقد تمَّ بالتفصيل شرح تفسير بوهم، وعلى هذا فقد يخدم هنا كأساسٍ للمناقشة. اعتبر بوهم الجُسيمات بِنًى واقعية موضوعية، مثل الكُتَل النُّقطية في ميكانيكا نيوتن. والموجات في فضاء التشكيل هي في تفسيره أيضًا واقعية موضوعية، مثل المجالات الكهربية. وفراغ التشكيل هذا فراغ مُتعدد الأبعاد يُشير إلى الإحداثيات المختلفة لكل الجُسيمات التي تنتمي للنظام. هنا نواجِه الصعوبة الأولى: ماذا نعني بقولنا إن الموجات في فراغ التشكيل واقعية؟ هذا الفراغ فراغ تجريدي جدًّا. وكلمة «واقعي» (باللغة الإنجليزية) أصلها كلمة لاتينية تعني «الشيء»، إنما الأشياء في الفضاء الثلاثي الأبعاد العادي، وليس في الفضاء التشكيلي التجريدي. ولقد نقول إنَّ الموجات في فضاء التشكيل «موضوعية» إذا كنَّا نُريد القول إنها لا تعتمد على المُراقب، لكن يصعُب أن نُسميها واقعية إلَّا إذا كنَّا مُستعدِّين لتغيير معنى الكلمة. يَمضي بوهم ليُعرِّف الخطوط العمودية على أسطح الطور المَوجي الثابت بأنها المدارات المُمكنة للجُسيمات. أما أيٌّ مِن هذه الخطوط سيكون هو المدار «الواقعي»، فأمْر يعتمِد، عندَه، على تاريخ النظام وعلى جهاز القياس، ولا يُمكن أن نُحدده دون أن نعرف عن النظام وجهاز القياس أكثر ممَّا يُمكننا بالعقل معرفته. يحتوي هذا التاريخ في الواقع على المقاييس الخفية «المدار الواقعي» قبل أن تبدأ التجربة.
من بين نتائج هذا التفسير — كما يؤكِّد باولي — أنَّ الإلكترونات في الحالات الأرضية للكثير من الذرَّات لا بدَّ أن تكون ساكنة، أي لا تقوم بأي حركةٍ مدارية حول نواة الذرة. يبدو هذا مُناقضًا للتجارب، لأن قياسات سرعة الإلكترونات في الحالة الأرضية (عن طريق ظاهرة كومبتون مثلًا) تُبيِّن دائمًا توزيع سرعاتٍ للحالة الأرضية يتَّفق مع قواعد ميكانيكا الكم. لكنَّ بوهم يستطيع هنا أن يُجادل بالقول إن القوانين العادية لم تعُد صالحةً لتقدير القياس. هو يوافق على أن التقدير العادي للقياس سيقود حقًّا إلى توزيع سرعات، لكنَّا إذا وضعنا نظرية الكم في الاعتبار بالنسبة لآلة القياس، فمِن الممكن أن نقبل القول إنَّ الإلكترونات «واقعيًّا» تكون ساكنة دائمًا. في قياسات موقع الجُسيم، يأخذ بوهم التفسير العادي للتجارب على أنه صحيح، لكنه يرفُضه في قياسات السرعة. بهذا الثمن يجِد بوهم نفسَه قادرًا على أن يجزم «بأنَّنا لا نحتاج أن نهجر الوصف الدقيق العقلي الموضوعي للنُّظم المُفردة في عالم نظرية الكم». على أنَّ هذا الوصف الموضوعي يُفصح عن نفسه كشكلٍ من بِنية أيديولوجية فائقة تكاد لا تتعلَّق بالواقع الفيزيقي المباشر، لأن المقاييس الخفية في تفسير بوهم هي من نوعٍ لا يمكن وجوده في وصف العمليات الواقعية، إذا بقِيَت نظرية الكم دون تغيير.
ولكي يتجنَّب بوهم هذه الصعوبة فقد أعرب، في الحقيقة، عن أملِه في أن تلعب المقاييس الخفية في تجارب المُستقبل دورًا ماديًّا في مجال الجُسيمات الأولية؛ ومِن ثَم يظهر خطأ نظرية الكم. عبَّر بوهر عن هذه الآراء الغريبة بقوله إنها تُشبه في تركيبها هذه الجملة: إنَّنا نأمُل أن يتَّضح يومًا ما أن ۲ × ۲ = ٥، فمِثل هذه النتيجة ستُفيدنا كثيرًا في أمور المال. والواضح أن تحقيق آمال بوهم لن يهدم فقط نظرية الكم، وإنما أيضًا تفسير بوهم. طبيعيٌّ أنْ يَلزمَنا في نفس الوقت أن نؤكد أن التشبيه الذي ذكرناه — برغم كمالِه — لا يُمثل حجةً دامغة منطقية ضد تغيير مُستقبلي مُحتمل لنظرية الكم بالطريقة التي اقترحها بوهم، فليس من المُستحيل أن نتصوَّر مثلًا أن توسيع المنطق الرياضي قد يُعطي معنًى مُعينًا لجُملة تقول إن ۲ × ٢ = ٥ في حالاتٍ استثنائية، بل ومِن المُحتمل أن تكون لهذه الرياضة المُوسَّعة استخداماتها في مجال الاقتصاد. غير أنَّنا مقتنعون — حتى دون أساسٍ منطقي مُقنع — أنَّ مثل هذه التغيُّرات في الرياضة لن تُفيدنا في الاقتصاد. وعلى هذا فمِن الصعب أن نفهم كيف يمكن أن تُستخدَم في وصف الظواهر الفيزيقية، هذه الاقتراحات الرياضية التي تقول أعمال بوهم إنها تُحقق آماله.
فإذا أهملنا هذا التعديل المُحتمَل لنظرية الكم، فإن لغة بوهم كما أوضحنا، لا تقول عن الفيزيقا شيئًا يختلف عمَّا يقوله تفسير كوبنهاجن. يبقى إذن السؤال عن صلاحية هذه اللغة، بجانب الاعتراض الذي ذكرناه، بأنَّنا عندما نتحدث عن مدارات الجُسيم فإنما نُعالج «بنية أيديولوجية فائقة» غير ضرورية، يجب أن نذكُر بخاصَّةٍ أن لُغة بوهم تُحطم السيمترية بين الموقع والسرعة، المفهومة ضمنًا في نظرية الكم. يقبل بوهم قياسات الموقع بالتفسير العادي، لكنَّه لا يقبله بالنسبة لقياسات السرعة وكمية الحركة. ولمَّا كانت الخصائص السيمترية تُشكل دائمًا أهم خصائص أية نظرية، فمِن الصعب أن نرى ما نكسبه من إغفالها في اللغة المناظرة. وعلى هذا الأساس لا يُمكننا أن نعتبر اقتراح بوهم المُضاد لتفسير كوبنهاجن بمثابة تحسين.
من المُمكن إثارة اعتراض مُماثل — في صورةٍ مختلفة بعض الشيء — ضد التفسير الإحصائي الذي قدَّمه بوب و(على خَطٍّ يختلف قليلًا) فينيس. عالج بوب خلق وفناء الجُسيم على أنهما العملية الجوهرية لنظرية الكم. فالجُسيم واقعي بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، بالمعنى الأنطولوجي المادي، أما قوانين نظرية الكم فقد اعتُبرت حالةً خاصةً من إحصاءات التلازُم لوقائع الخلق والفناء هذه. وهذا التفسير — الذي يحوي الكثير المُثير من الملاحظات على القوانين الرياضية لنظرية الكم — يُمكن تحقيقه بطريقةٍ تقود بالضبط (بالنسبة للنتائج الفيزيقية) إلى نفس نتائج تفسير كوبنهاجن. هو إذن — بالمعنى الوضعي — تفسيرٌ مساوٍ في الشكل لتفسير بوهم، لكنه يُحطم — في لُغته — السيمترية بين الجُسيمات والموجات؛ تلك السيمترية التي تُعتبَر ملمحًا مميزًا للبرنامج الرياضي لنظرية الكم. أوضح جوردان وكلاين وفيجنر منذ عام ۱۹۲۸م أنه من الممكن تفسير البرنامج الرياضي ليس فقط كتكمِية لحركة الجُسيم، وإنما أيضًا كتكمِية لموجات المادة الثلاثية الأبعاد. وعلى هذا فليس من سببٍ يدعونا أن نَعتبر موجات المادة هذه أقلَّ واقعيةً من الجُسيمات. من الممكن أن نكفل السيمترية بين الموجات والجُسيمات في تفسير بوب، إذا نحن فقط طوَّرنا إحصاءات الارتباط المُناظِرة لموجات المادة في المكان والزمان أيضًا، وإذا تركنا قضية اعتبار ما إذا كانت الجُسيمات أو الموجات واقعًا «حقيقيًّا»، قضية مفتوحة.
سيقودنا الافتراض بأن الجُسيمات واقعية بالمعنى الأنطولوجي المادي، سيقودنا دائمًا إلى أن نَعتبر الانحرافات من مبدأ اللامُحقَّقية انحرافاتٍ مُمكنة «جوهريًّا». يقول فينيس على سبيل المثال: «إن وجود مبدأ اللامُحققية (والذي ربطه هو بعلاقات إحصائية خاصة) لا يجعل القياس المُتزامِن للمكان والسرعة بدقَّة تحكُّمية، أمرا مستحيلًا». على أن فينيس لم يذكُر كيف يمكن القيام بمثل هذه القياسات عمليًّا؛ وعلى هذا تبقى آراؤه مجرَّد رياضيات بحتة.
أما فايتسيل — الذي تُشبه اقتراحاته المضادة لتفسير كوبنهاجن اقتراحات بوهم وفينيس — فقد ربط «المقاييس الخفية» بجُسيمٍ من نوع جديد ابتكرَه خصوصًا وأطلق عليه اسم «زيرون». وهذا جُسيم لا يمكن ملاحظته، غير أن هذا المفهوم يقَع في خطر أن يُشتِّت التفاعُل بين الجُسيمات الحقيقية والزيرونات الطاقةَ بين العديد من درجات حُرية مجال الزيرون، حتى لتَغدُو كل الديناميكا الحرارية تشوُّشًا كاملًا. ولم يُفسر فايتسيل كيف يأمل أن يتجنب هذا الخطر.
ربما أمكننا الوصول إلى أفضل تعريفٍ لوجهة النظر بكل المنشورات التي ذُكِرت حتى الآن إذا نحن استدعَينا مناقشةً مشابهة تتعلَّق بنظرية النسبية الخاصة، فكلُّ مَن لم يقتنع برفض أينشتين للأثير وللفضاء المُطلق والزمن المُطلق، يُمكنه أن يُجادل كما يلي: إن نظرية النسبية الخاصة لم تُثبت على الإطلاق عدم وجود الفضاء المُطلق والزمن المُطلق. إن كل ما أوضحته هو أن الفضاء الحق والزمن الحق لا يحدُثان مباشرةً في أية تجربة عادية. لكنَّا إذا أخذنا بالشكل الصحيح هذا الوجه من أوجه قوانين الطبيعة، فأدخلنا الأزمنة «الظاهرية» الصحيحة إلى النظم المتحركة النظيرة، فلن نجِد حجةً ضد افتراض الفضاء المُطلق، بل ولقد يكون من الملائم أن نفترض أن مركز جاذبية مَجرَّتنا يُوجَد في حالة سكونٍ في فضاء مُطلق (أو هكذا تقريبًا). ولقد يُضيف ناقدُ نظريةِ النسبية الخاصة أنَّنا قد نأمُل أن تسمح القياسات في المستقبل بتعريفٍ غير غامضٍ للفضاء المُطلق (نعني «للمقاييس الخفية» بنظرية النسبية) لتُنْقَض بذلك نظرية النسبية الخاصة.
من الممكن أن نرى فورًا أن هذه الحُجة لا يمكن أن تُدحَض بالتجربة، لأنها لا تُقدم تقارير تختلف عن تقارير نظرية النسبية الخاصة، لكن هذا التفسير باللُّغة التي استخدمها سيحطم خاصيَّة السيمترية الحاسمة للنظرية — نقصد لا تغيير لورنتس — ومِن ثَم فمن الضروري أن نعتبرها غير ملائمة.
والتشبُّه بنظرية الكم واضح؛ فقوانين نظرية الكم تقول بأن «المقاييس الخفية» المُلفَّقة خصوصًا لا يُمكن أن تُلحَظ. تُحطَّم إذن الخصائص السيمترية الحاسمة إذا ما أدخلْنا المقاييس الخفية، ككيانٍ خياليٍّ، إلى تفسير النظرية.
لكنَّ أعمال بلوشنزيف وألكزندروف تختلف تمامًا في عرضها للمشكلة عمَّا ناقشناه قبلًا؛ فهذان العالِمان قد حدَّدا أهدافهما، بوضوحٍ ومنذ البداية، ضد تفسير كوبنهاجن، في الناحية الفلسفية من المشكلة. أما فيزياء التفسير فقد قَبِلاها دون تحفُّظ.
غير أن الصورة الظاهرية للهجوم كانت أكثر عنفًا. كتب بلوشنزيف في مقدمته يقول: «من بين الاتجاهات المِثالية المختلفة في الفيزياء سنجِد مدرسة كوبنهاجن هي الأكثر رجعية. ولقد خصَّصتُ هذه المقالة لأكشف القناع عن التأمُّلات المثالية واللاأدرية لهذه المدرسة في المشاكل الأساسية لفيزياء الكم.» إن فظاظة الهجوم تُبين أنَّنا لا نتعامَل هنا مع العِلم وحدَه، وإنما أيضًا مع إيمان عقائدي. أما الهدف فقد عبَّر عنه في النهاية باقتباسٍ مِن عمل للينين: «مهما كانت عظمة تحويل الأثير، الذي لا يُوزَن، إلى مادةٍ توزَن (من وجهة نظر العقل البشري العام)، مهما كانت غرابة افتقار الإلكترونات إلى كتلةٍ غير الكتلة الكهرومغناطيسية مهما كان الشذوذ في اقتصار الحركة الميكانيكية على حقل الظواهر الطبيعية وحدَها، وخضوعها للقوانين الأعمق للظواهر الكهرومغناطيسية؛ فإن هذا كله ليس سوى إثباتٍ للجدلية المادية». وهذه الجُملة تجعل من مناقشة بلوشنزيف لموضوع علاقة نظرية الكمِّ بفلسفة الجدلية المادية، أقل إثارةً لأنها تحطُّ من مَرتبتها إلى مرتبة محاكمةٍ عُرِفَ الحكم فيها قبل بدء المحاكمة. على أنه مِن المهم أن نُوضِّح الحُجج التي قدَّمها بلوشنزيف وألكزندروف.
هنا، حيث المهمة هي إنقاذ الأنطولوجيا المادية، سنجِد الهجوم وقد وُجِّه أساسًا إلى وجود المُراقب في تفهُّم نظرية الكم. كتب ألكزندروف يقول: وعلى هذا فلا بدَّ لنا أن نفهم أن نتيجة القياس في نظرية الكم ليست إلَّا الأثر الموضوعي للتفاعُل بين الإلكترون والموضوع. لا بدَّ أن نتجنَّب ذكر المراقب، وعلينا أن نُعالج الظروف الموضوعية والآثار الموضوعية. إن المقدار الفيزيائي خصيصة موضوعية للظاهرة، وليس نتيجةً للملاحظة. ودالة الموجة في فضاء التشكيل، عند ألكزندروف، تُميز الحالة الموضوعية للإلكترون.
أغفل ألكزندروف في عرضه حقيقة أنَّ الصورية في نظرية الكمِّ لا تسمح بنفس درجة التَّموضُع الموجودة بالفيزياء الكلاسيكية. وعلى سبيل المثال، فإذا نحن نظرْنا إلى التفاعُل بين نظامٍ ما وبين آلة القياس ثُم عالجناه ككُلٍّ تبعًا لميكانيكا الكم، وإذا نظَرْنا إليهما سويًّا وكأنهما مُنفصلان عن بقية العالم، عندئذٍ لن تؤدي صورية نظرية الكم بالضرورة إلى نتيجةٍ صريحة لا لبس فيها. هي لا تؤدي مثلًا إلى اسوداد اللوحة الفوتوغرافية في نقطةٍ بعينها. فإذا أردْنا أن نُنقذ «الأثر الموضوعي» لألكزندروف بالقول إن اللوحة تسودُّ «في الواقع» عند نقطةٍ معينة بعد التفاعل، فسيكون الردُّ أننا لم نعُد نُطبِّق هنا المُعالجة الكمَّاتية الميكانيكية للنظام المُغلق المكوَّن من الإلكترون وآلة القياس واللوحة. إنَّ الخصيصة «الواقعية» للحدث التي يمكن وصفُها بلغةِ مفاهيم الحياة اليومية هي التي لا تتضمَّنها الصورية الرياضية لنظرية الكم، وهي التي تظهر في تفسير كوبنهاجن عن طريق إدخال المُراقِب. الواضح بالطبع أنه لا يصحُّ أن نُسيء تفهُّم إدخال المُراقب ليَعني أنَّنا سنُدخل ملامح ذاتية إلى وصف الطبيعة، إنما ستكون مهمة المُراقِب هي تسجيل القرارات، نقصد العمليات في الفضاء والزمن، ولا يُهم ما إذا كان المُراقب جهازًا أو إنسانًا. لكن عملية التسجيل (ونعني تحوُّل «المُمكن» إلى «الواقعي») هي عملية ضرورية تمامًا هنا ولا يمكن حذفُها من تفسير نظرية الكم. وهنا سنجد أن نظرية الكم ترتبط جوهريًّا بالثرموديناميكا، مِن ناحية أن فعل المُراقبة هو بطبيعتِه عمليةٌ لا تُعكَس. فمِن خلال مثل هذه العمليات اللاعَكُوسة وحدَها يُمكن أن تربط صورية نظرية الكم برباطٍ وثيق مع الأحداث الواقعية في المكان والزمان. وفوق هذا فإن اللاعَكُوسية — إذا ما طُرِحت في التمثيل الرياضي للظواهر — هي نتيجةٌ لمعرفة المُراقب غير الكاملة بالنظام، وهي بهذا غير «موضوعية» تمامًا.
أما صياغة بلوشنزيف للمادة فتختلف قليلًا عنها عند ألكزندروف: «في ميكانيكا الكم نحن لا نصِف حال الجُسيم ذاته، وإنما حقيقة أنَّ الجُسيم ينتمي إلى هذا التجمُّع الإحصائي أو ذاك. وهذا الانتماء موضوعي تمامًا ولا يعتمِد على أية تقارير للمراقب.» على أن هذه الصياغة تأخُذنا بعيدًا — وربما بعيدًا جدًّا — عن الأنطولوجيا المادية. ولكي نُوضِّح هذا ربما كان مِن المفيد أن نتذكَّر كيف يُستخدَم هذا الانتماء إلى تجمُّع إحصائي، في تفسير الثرموديناميكا الكلاسيكية. إذا ما حدَّد مُراقب درجة حرارة نظامٍ ما، وأراد أن يستنبط من نتائجه شيئًا عن الحركات الجُزيئية بالنظام، فقد يقول إنَّ النظام هو مجرد عينةٍ واحدة من طاقمٍ مُقنَّن؛ ومن ثم فربما اعتبر أنَّ له عدة طاقات مختلفة. لكن النظام «في الواقع» — هكذا قد نقول في الفيزيقا الكلاسيكية — له طاقة واحدة مُحددة في الوقت المُعين، لن تتحقَّق فيه أيٌّ من الطاقات الأخرى. يُخدع المراقب إذا هو اعتبر أن ثمَّة طاقة أخرى مُحتملة في تلك اللحظة. إن الطاقم المُقنَّن يحوي تقارير، ليس فقط عن النظام نفسه، وإنما أيضًا عن معرفة المُراقب غير الكاملة بالنظام. فإذا حاول بلوشنزيف، في نظرية الكمِّ، أن يقول عن انتماءٍ ما لتجمُّعٍ إنَّه «موضوعي تمامًا»، فإنه يستخدِم كلمة «موضوعي» بمعنًى يختلف عما تَعنيه في الفيزيقا الكلاسيكية؛ إذ إن معنى هذا الانتماء في الفيزيقا الكلاسيكية — كما سبق وذكرنا — إنما هو تقارير، ليس فقط عن النظام، وإنما أيضًا عن درجة معرفة المُراقب بهذا النظام. ثمة استثناء يَلزم أن نؤكِّده بالنسبة لهذا التقرير عن نظرية الكم. فإذا تَميز التجمُّع في نظرية الكمِّ بدالَّةٍ مَوجبة واحدة في فضاء تشكيل (وليس — كالعادة — بمصفوفة إحصائية) فسنُقابل وضعًا خاصًّا (يُسمَّى «الحالة الخالصة») قد يُقال للوصف فيه إنه موضوعي بمعنًى ما، وفيه لا يظهر على الفور عنصر المعرفة غير الكاملة. لكن لمَّا كان كلُّ قياسٍ سيُعيد (بسبب ملامحه غير العَكُوسة) إدخال عنصر المَعرفة غير الكاملة، فلن يختلف الوضع اختلافًا جوهريًّا.
وفوق كل هذا فإن هذه الصياغات الجديدة توضِّح صعوبة أن نُحاول أن ندفع بأفكار جديدة في نظام قديم من المفاهيم ينتمي إلى فلسفة قديمة أو — إذا استخدَمْنا استعارة قديمة — أن نُعبئ نبيذًا جديدًا في زجاجاتٍ قديمة، فمثل هذه المحاولات عادة ما تكون مُحزنة. إنها تُضللنا فنشغل أنفسنا بالشروخ المحتومة بالزجاجات القديمة وننسى أن نُمتع أنفسنا بالنبيذ الجديد. إنَّنا لا نتوقَّع مِن المُفكرين الذين قدموا المادية الجدلية منذ قرنٍ مِن الزمان أن يتنبَّئوا بتطوير نظرية الكم. إن مفاهيمهم عن المادة والواقع، لم يكن لها أن تتلاءم مع نتائج التقنيات التجريبية الدقيقة بأيَّامِنا هذه.
ربما كان لنا هنا أن نُضيف بعض الملاحظات العامَّة عن موقف العلماء بالنسبة لعقيدةٍ ما، عقيدة قد تكون دينية أو سياسية. إن الفارق الجوهري بين العقيدة الدينية والعقيدة السياسية — وهو أن الأخيرة تتعلق بالواقع المادي المباشر للعالم من حولنا في حين أن موضوع الأولى هو واقعٌ آخر، أبعد مِن العالم المادي — هذا الفارق ليس مُهمًّا بالنسبة لهذه القضية بالذات. أما ما يستحق المناقشة فهو مشكلة العقيدة ذاتها. إن المرء — بناءً على ما قيل — ليطلُب من العالم ألَّا يركن على الإطلاق إلى مذاهب خاصة، ألا يُقيد منهجه في التفكير بفلسفةٍ مُعينة. عليه أن يكون مستعدًّا دائمًا لأن يُغير أُسس معرفته تبعًا للخبرة الجديدة. لكنَّ مِثل هذا الطلب سيكون تبسيطًا مخلًّا لوضعِنا في الحياة، لسببَين؛ أولهما أن بِنية تفكيرنا تُحددها في شبابنا الأفكار التي نُصادفها، آنئذٍ، أو الاتصال بشخصياتٍ قوية نتعلم منها. ستُشكل هذه البنية جزءًا متكاملًا من كل أعمالنا التالية، وقد تجعل من الصعب علينا أن نُكيف أنفسنا، فيما بعد، مع أية أفكارٍ جديدة تمامًا. أما السبب الثاني فهو أنَّنا ننتمي إلى جالية أو مُجتمع، هذا المجتمع تجمعه أفكار شائعة، أو مقياس شائع للقِيَم الأخلاقية، أو لُغة شائعة يتحدَّث بها الفرد عن المشاكل العامة للحياة. وهذه القِيَم الشائعة قد تدعمُها سلطة كنيسة، أو حزب أو الدولة. وحتى لو لم يكن الأمر كذلك فقد يكون من الصعب أن يهجر الفرد الأفكار الشائعة دون صراعٍ مع المجتمع. لكن نتائج التفكير العِلمي قد تتعارَض مع الأفكار الشائعة. والمؤكد أنه مِن الحماقة أن نطلُب ألَّا يكون العالِم عضوًا مخلصًا بمجتمعِه، أن يُحرَم من سعادة الانتماء إلى مجتمع، وسيكون من الحماقة أيضًا أن نطلُب أن تتغيَّر على الفور أفكار المجتمع الشائعة (وعادة ما تكون تبسيطًا، مِن وجهة النظر العلمية) مع كلِّ تقدُّم في المعرفة العلمية، وأن تكون في مِثل التنوُّع الذي يلزم أن تكون عليه النظريات العلمية. وعلى هذا فإنَّا نعود ها هنا — حتى في زماننا هذا — إلى مشكلة «الحقيقة المزدوجة» التي ملأت تاريخ الديانة المسيحية خلال العصور الوسطى المتأخرة. هناك المذهب القائل «إن الدين الوضعي أيًّا كان شكلُه هو ضرورة لا غِنى عنها لجماهير الناس، وعلى رجل العلم أن يبحث عن الحقيقة الواقعية خلف الدين، وألا يبحث عنها إلا هناك». يقولون «إن العلم موضوع الخاصة، إنه للقلَّة فقط». فإذا أَخَذَت المذاهب السياسية والأنشطة الاجتماعية دور الدين الوضعي في بعض الدول، فستبقى المشكلة على حالها. إن أول ما يتطلَّبه العالم هو الأمانة الفكرية، بينما يتطلَّب المجتمع من العالم — بالنظر الى تنوُّع العلم — أن ينتظر على الأقل بضعة عقودٍ قبل أن يُفصح للجمهور عن آرائه المخالفة. ليس ثمَّة من حلٍّ بسيط لهذه المشكلة، إذا لم يكن التساهُل وحدَه كافيًا، وربما يأتينا العزاء من حقيقة أنها بالتأكيد مشكلة قديمة تنتمي إلى حياة البشر.
نرجع الآن إلى الاقتراحات المضادة لتفسير كوبنهاجن لنظرية الكم لنُناقش المجموعة الثانية من الاقتراحات، تلك التي تُحاول تغيير نظرية الكمِّ لتصِل إلى تفسيرٍ فلسفيٍّ مختلف. قام جانوسي بأدق المحاولات في هذا الاتجاه؛ أدرك أن الفعالية القوية لميكانيكا الكم تُجبرنا على التخلِّي عن مفهوم الواقع بالفيزيقا الكلاسيكية، وعلى هذا فقد الْتمس تغيير ميكانيكا الكمِّ بطريقةٍ تقترب فيها بِنيتها من بنية الفيزيقا الكلاسيكية، مع بقاء الكثير من النتائج صحيحة. كانت نقطة الهجوم هي ما يُسمَّى «اختزال دفقات الموجات» نعني حقيقة أن الدالَّة الموجية — أو بشكلٍّ أعم، دالَّة الاحتمال — تتغيَّر بشكلٍ متقطع عندما يُدرك المراقب نتيجة القياس. لاحظ جانوسي أن هذا الاختزال لا يمكن استنباطه من المعادلات التفاضُلية للصورية الرياضية، واعتقد أنه يستطيع من هذا أن يَستنتج وجود تناقُض ذاتي في التفسير المُعتاد. من المعروف جيدًا أن «اختزال دفقات الموجات» يظهر دائمًا في تفسير كوبنهاجن عند تمام التحوُّل مِن المُمكن إلى الواقعي. فجأةً تتحوَّل دالة الاحتمال التي تُغطي مجالًا واسعًا من الإمكانيات تتحوَّل إلى مجالٍ أضيقَ بكثيرٍ بسبب حقيقة أنَّ التجربة قد قادت إلى نتيجةٍ مُحددة، حقيقة أن واقعة مُعينة قد حدثت بالفعل. تتطلَّب هذه الصورية أن يُحطَّم ما يُسمى تداخُل الاحتمالات (أهم ما يُميز نظرية الكم من ظواهر) عن طريق تفاعُلات النظام غير المعروفة جزئيًّا واللاعكوسة، مع جهاز القياس وبقية العالم. حاول جانوسي الآن أن يُغير ميكانيكا الكم بإدخال ما يُسمَّى حدود التضاؤل إلى المعادلات بطريقةٍ تختفي معها تلقائيًّا حدود التداخُل بعد زمن متناهٍ. وحتى لو كان هذا يناظر الواقع — وليس من سببٍ يدعو لهذا في التجارب التي أُجريت — فسيبقى لمِثل هذا التفسير عددٌ مِن النتائج المُزعجة، كما أشار جانوس نفسه (على سبيل المثال: الموجات التي تنتشر بسرعةٍ تفوق سرعة الضوء، تبادُل التعاقُب الزمني للسبب والنتيجة … إلخ). وعلى هذا يصعب أن نقبل التضحية ببساطةِ نظرية الكمِّ مِن أجل مثل هذه النظرة، إلَّا إذا أجبرَتنا التجارب على ذلك.
من بين مَنْ بقيَ من مُعارضي ما يُسمَّى أحيانًا التفسير الأرثوذكسي لنظرية الكم، اتَّخذ شرودنجر موقعًا فريدًا لأنه ينسب «الواقع الموضوعي» ليس إلى الجُسيمات وإنما إلى الموجات، ولأنه ليس مُستعدًّا لتفسير المَوجات على أنها «موجات احتمال فقط». في عمل له تحت عنوان «أثَمَّةَ قفزات كمٍّ؟» حاول أن يُنكر وجود قفزات كمَّاتية على الإطلاق (ربما ارتَبْنا في صلاحية مصطلح «قفزة كم» في هذا الموقع واستبدلنا به مصطلحًا أقلَّ إثارةً هو اللااستمرارية). يوجَد بعمل شرودنجر، بادئ ذي بدء، بعضٌ مِن عدم التفهُّم للتفسير المُعتاد. إنه يُغفل حقيقة أن الموجات في فضاء التشكيل (أو مصفوفات التحويل) هي، وهي فقط، موجات احتمال بالتفسير المُعتاد، أما موجات الإشعاع أو موجات المادة الثلاثية الأبعاد، فهي ليست كذلك. لهذه الأخيرة بالضبط نفس «الواقع» مثل الجُسيمات، ليس لها ارتباط مباشر بموجات الاحتمال ولكن لها كثافة مُستمرة مِن الطاقة وكمية الحركة، كمِثل مجال كهرومغناطيسي في نظرية ماكسويل؛ وعلى هذا فقد أكد شرودنجر أنه من المُمكن تصوُّر أن العمليات في هذه النقطة أكثر استمراريةً مما هي في المُعتاد. لكن هذا التفسير لا يُمكن أن يُزيل عامل اللااستمرارية الذي نجِده في كل مكانٍ بالفيزياء الذرية، وتشهد كلُّ شاشة وميض أو عداد جايجر بوجود هذا العنصر على الفور. وهو موجود بالتفسير المُعتاد لنظرية الكم في التحوُّل مِن المُمكن إلى الواقعي. لم يُقدم شرودنجر ذاته أي اقتراحٍ مضادٍّ عن الكيفية التي ينوي بها تقديم عنصر اللااستمرارية، الملحوظ في كلِّ مكان، بأسلوبٍ يختلف عن أسلوب التفسير المعتاد.
وأخيرًا فإنَّ النقد الذي ظهر في العديد من أبحاث أينشتين ولاوه وغيرهما يُركز على قضية ما إذا كان تفسير كوبنهاجن يسمح بوصفٍ مُتفرد موضوعي للحقائق الفيزيائية. يمكن أن نعرض حُججهم الجوهرية فيما يلي: إن البرنامج الرياضي لنظرية الكم يبدو وصفًا كاملًا كافيًا لإحصائيات الظواهر الذرية، لكن حتى لو كانت تقاريرُه عن احتمالات الوقائع الذرية صحيحةً تمامًا، فإنَّ هذا التفسير لا يصِف ما يحدث واقعيًّا وصفًا مستقلًّا عن المُلاحظات أو بين المُلاحظات. لكن شيئًا ما لا بد أن يحدُث، هذا أمر لا يُمكن الشكُّ فيه. وهذا الشيء لا يلزم أن يُوصَف بصيغة الإلكترونات أو الموجات أو كمَّات الضوء، ومهمة الفيزياء لا تتمُّ دون أن نصِفَه بشكلٍ أو بآخر. لا يمكن أن نقرَّ بأنه يُشير إلى فعل الملاحظة وحدَه. لا بدَّ للفيزيائي أن يُسلِّم أنه في عِلمه إنما يدرس عالَمًا لم يصنعه هو، عالَمًا سيُوجَد دون تغيُّر يُذكر في غير وجوده. وعلى هذا فإن تفسير كوبنهاجن لا يُقدم أي تفهُّم حقيقي للظواهر الذرية.
يسهل مرةً أخرى أن نرى أن ما يتطلَّبه هذا النقد هو الأنطولوجيا المادية القديمة. ولكن ماذا ستكون الإجابة من وجهة نظر تفسير كوبنهاجن؟
يمكن القول إن الفيزياء جزء من العلم، ومِن ثَم فإنها تهدف إلى وصف وتفهُّم الطبيعة. وأي صورةٍ للتفهُّم — علمية كانت أو غير علمية — إنما تعتمِد على لُغتنا، على تبادُل الأفكار. إن كل وصفٍ للظواهر، للتجارب ونتائجها، يرتكِز على اللُّغة كسبيلٍ أوحد للاتصال. وكلمات هذه اللغة تُمثِّل مفاهيم الحياة اليومية، وهي مفاهيم هُذِّبت في اللغة العلمية للفيزياء إلى صورة مفاهيم الفيزياء الكلاسيكية. هذه المفاهيم هي الأدوات الوحيدة لاتِّصالٍ لا يشوبُه غموض حول الوقائع، حول إقامة التجارب، وحول نتائجها. وعلى هذا فإذا ما سُئل الفيزيائي أن يُقدم وصفًا لما يحدُث واقعيًّا في تجاربه، فإن كلمات «وصفًا» و«يحدث» و«واقعيًّا» لا تُشير إلَّا إلى مفاهيم الحياة اليومية أو الفيزياء الكلاسيكية. فإذا ما تخلَّى الفيزيائي عن هذا الأساس، فقدَ وسيلة الاتصال غير الغامِض، فلا يستطيع المُضيَّ في عمله. وعلى هذا فإن أيَّ تقريرٍ عمَّا قد «حدث واقعيًّا» هو تقرير صِيغَ في لُغة المفاهيم الكلاسيكية، وهو بطبيعتِه ناقِصٌ بالنسبة لتفاصيل الوقائع الذرية — بسبب الثرموديناميكية والعلاقات اللامُحقَّقية. إن سؤالنا أن نصِف ما يحدُث (في عملية الكمِّ النظرية) بين مُلاحظتَين متعاقبتَين هو — بصفته — تناقُض، لأن كلمة الوصف إنما تعني استخدام المفاهيم الكلاسيكية، بينما لا يُمكن تطبيق هذه المفاهيم على الفضاء بين الملاحظات؛ هي لا تُطبَّق إلَّا عند مواقع الملاحظة.
يجب هنا أن نلاحظ أن تفسير كوبنهاجن لنظرية الكمِّ ليس على الإطلاق وضعيًّا. فبينما تُركز الوضعية على أن عناصر الواقع هي الإدراكات الحسِّية للمُراقِب، فإن تفسير كوبنهاجن يعتبر الأشياء والعمليات التي يمكن وصفُها بلغة المفاهيم الكلاسيكية — نعني الواقعية — أساسًا لأيِّ تفسيرٍ فيزيائي.
في نفس الوقت سنُلاحظ أننا لا نستطيع تجنُّب الطبيعة الإحصائية لقوانين الفيزياء الميكروسكوبية، لأن أية معرفة عن «الواقعي» هي بذات طبيعتها معرفة ناقِصة، بسبب قوانين الكم — النظرية.
ارتكزت أنطولوجيا المادية على الوهْم بأنه من المُمكن في الميدان الذرِّي استقراء نوع الوجود «الحقيقة الواقعة» للعالم من حولنا. غير أن هذا الاستقراء مُستحيل.
ولقد نُضيف بِضع ملاحظات تتعلق بالتركيب الصوري لكل الاقتراحات المُضادة التي أُثيرت حتى الآن ضد تفسير كوبنهاجن لنظرية الكم. لقد وجدَت كل هذه الاقتراحات أنها مُضطرَّة إلى التضحية بالخصائص السيمترية الجوهرية لنظرية الكم (مثلًا: السيمترية بين الموجات والجُسيمات أو بين الموقع والسرعة). لنا إذن أن نفترِض أننا لا نستطيع أن نتفادى تفسير كوبنهاجن إذا كان لخصائص السيمترية هذه — مِثلها مِثل «لا تَغيُّر» لورنتس في نظرية النسبية — أن تُعتبَر ملمحًا حقيقيًّا للطبيعة. وكل التجارب التي أُجرِيَت حتى الآن تُعضِّد هذه الفكرة.