الفصل التاسع

نظرية الكم وبِنية المادة

خضع مفهوم المادة في تاريخ التفكير البشري لعددٍ كبير من التغيُّرات. ثمة تفسيراتٌ له مختلفة في النُّظم المختلفة. ولا تزال كل هذه المعاني المختلفة موجودة بدرجةٍ صغُرت أو كبُرت فيما نمنحه الآن من معنًى لكلمة «المادة».

في بحثِهم عن مبدأٍ موحَّد في التحوُّل الجامع للأشياء جميعًا، شكَّل الفلاسفة الإغريق القدامى — من طاليس وحتى الذرِّيِّين — شكَّلوا مفهوم المادة الكونية، جوهر كلِّي يَخْبر كلَّ هذه التحوُّلات، منه تنشأ كل الأشياء الُمفردة وإليه تحُول ثانية. ولقد توحَّدت هذه المادة — جزئيًّا — بموادَّ مُعيَّنة كالماء والهواء والنار، جزئيًّا فقط، فليس لها صفة جوهر أُخرى سوى أنْ تكونَ المادة التي تُصنَع منها كل الأشياء.

وفيما بعد، وفي فلسفة أرسطو، فُكِّر في المادة من ناحية العلاقة بين الصورة والمادة. فكلُّ ما نُحِسُّه في العالم من ظواهر حولَنا هو مادة قد اتخذت صورة، والمادة ذاتها ليست واقعًا، إنما هي إمكان بوتنشيا. إنها توجَد فقط عن طريق الصورة. «فالجوهر» في العملية الطبيعية — وهكذا أسماه أرسطو — يتحوَّل مِن مجرد إمكانٍ إلى صورة، فإلى واقع. والمادة عند أرسطو ليست بالتأكيد مادة بذاتها، كالماء أو الهواء، لا ولا هي مجرد فضاء فارغ، إنما هي نوعٌ من القوام المادي الغامض غير المُحدد، ينتظم إمكانية التحوُّل إلى واقِع عن طريق الصورة، والأمثلة النموذجية لهذه العلاقة بين المادة والصورة في فلسفة أرسطو، هي العمليات البيولوجية التي تتشكَّل فيها المادة لتُصبح كائناتٍ حية، ثم نشاط الإنسان في البناء والتشكيل … إن التمثال كامن في الرخام قُبيل أن ينحته المثَّال.

وبعد ذلك بكثير، وبدءًا بفلسفة ديكارت، أخذت المادة في مقابلة الذهن كان هناك الوجهان المُتتامَّان للعالم: «المادة» و«الذهن»، أو كما سماهما ديكارت «الشيء المُمتد» و«الشيء المُفكر». ولمَّا كانت القواعد المنهجية الجديدة للعلوم الطبيعية — لا سيما الميكانيكا — قد استبعدت ردَّ أيٍّ من الظواهر المادية إلى القوى الروحية، فمن الممكن اعتبار المادة ذاتها واقعًا مستقلًّا عن الذهن وعن أية قوى خارقة. كانت «المادة» في هذه المرحلة مادة «قد صُورت»، وفُسِّرت عملية التصوير كسلسلةٍ عِليَّة من التفاعُلات الميكانيكية، وفقَدَت كل علاقاتها بالرُّوح الخامِلة في الفلسفة الأرسطية، ومِن ثَم أصبحت الثنائية بين المادة والصورة، ولا علاقة لها بالموضوع، وما زال مفهوم المادة هذا هو الذي يُشكل الأساس في استخدامنا الحالي لكلمة «مادة».

وأخيرًا، لعبت ثنائية أُخرى دورًا ما في العلوم الطبيعية للقرن التاسع عشر، الثنائية بين المادة والقوة: المادة هي ما تعمل عليه القوى، أو المادة يُمكن أن تُنتِج القوى. فالمادة مثلًا تُنتج قوة الجاذبية، وهذه القوة تعمل على المادة، المادة والقوة وجهان للعالَم المادي مُتميِّزان عن بعضهما. أما بالنسبة لاحتمال أن تكون القوى قوى تصويرية، فإنَّ هذا التمييز يقترِب من التمييز الأرسطي بين المادة والصورة. من ناحية أخرى سنجد في آخر التطورات في الفيزياء الحديثة أن هذا التمييز قد انتهى، لأن كل مجال للقوى يحمل طاقة، وهو إلى هذا المدى يؤلِّف مادة، فلِكُلِّ مجالٍ من مجالات القوى نوعٌ مُعيَّن من الجُسيمات الأولية، لها أساسًا نفس خصائص كل الوحدات الذرية الأخرى للمادة.

عندما تقوم العلوم الطبيعية بدراسة مشكلة المادة، فإنها تقوم بذلك فقط مِن خلال دراسة صُوَر المادة. والتحوُّليَّة والتنوُّع اللانهائي لصُوَر المادة لا بدَّ أن يكونا الموضوع المباشر للاستقصاء، ولا بدَّ أن تُوجَّه الجهود نحو إيجاد بعض القوانين الطبيعية، بعض المبادئ الموحَّدة التي يمكن أن تخدمَ كدليلٍ خلال هذا المجال الفسيح. وعلى هذا فإن العلوم الطبيعية — والفيزيقا بالذات — قد ركَّزت اهتمامَها ولفترةٍ طويلة على تحليل بنيةِ المادة، وتحليل القوى المسئولة عن هذه البنية.

أصبحت التجربة هي المنهج الأساسي للعلوم الطبيعية منذ عهد جاليليو. يُمكِّننا هذا المنهج من العبور من الخبرة العامة إلى الخبرة النوعية، من أن نفرد الوقائع المُميزة في الطبيعة التي يمكن منها دراسة «قوانين» هذه الطبيعة بشكلٍ أكثر مباشرة من الخبرة العامة. فإذا أردْنا أن ندرس بِنية المادة فعلَينا أن نقوم بالتجارب على المادة. علينا أن نُعرِّض المادة لأقسى الظروف حتى يُمكن أن ندرس تحوُّلاتها، على أمَل أن نصِل إلى الملامح الجوهرية للمادة، الملامح التي تدوم تحت كلِّ التغيُّرات الظاهرة.

كان هذا هو موضوع الكيمياء في العهود المبكرة للعلوم الطبيعية الحديثة. ولقد أدَّى هذا المَسعى — مُبكرًا نِسبيًّا — إلى مفهوم العنصر الكيماوي. سُمِّي الجوهر الذي لا يُمكن أن يُفكك أو يتحطَّم إلى مدًى أبعدَ بأيِّ وسيلةٍ متاحة أمام الكيماوي — الغليان، الحرق، الإذابة، المزج بجواهر أخرى — سُمِّي عنصرًا. كان تقديم هذا المفهوم خطوةً أولى، بل وأهم خطوة، نحو تفهُّم بِنية المادة. لقد اختُزل التنوع الهائل من الجواهر — على الأقل — إلى عددٍ أقل نسبيًّا من جواهر أكثر أوَّلية، أو «عناصر»، وبذا أمكن إقامة نوعٍ من النظام بين الظواهر المُتبايِنة للكيمياء. واستخدمت كلمة «ذرة» بناء على ذلك لتعني أصغر وحدةٍ من المادة تنتمي إلى العنصر الكيماوي. أما أصغر جُسيم من المُركَّب الكيماوي يمكن اقتناصه، فمِن الممكن تصوُّره كمجموعةٍ من ذراتٍ مختلفة. فأصغر جُسيم لعنصر الحديد، مثلًا، هو ذرة الحديد، وأصغر جُسيم للماء هو جزيء الماء، الذي يتركَّب من ذرة أكسجين واحدة وذرتَين أيدروجين.

أما الخطوة الثانية، والتي تكاد توازي الأولى أهميةً، فكانت اكتشاف حفظ الكتلة في العمليات الكيماوية. فعلى سبيل المثال، عندما يُحرَق عنصر الكربون إلى ثاني أكسيد الكربون فإن كتلة ثاني أكسيد الكربون تساوي حاصل جمع كتلتي الكربون والأكسجين قبل عملية الاحتراق. كان هذا هو الاكتشاف الذي أضفى المعنى الكمِّي على مفهوم المادة: مِن المُمكن أن تُقاس المادة عن طريق كُتلتها، بعيدًا عن خصائصها الكيماوية.

وفي خلال الفترة التالية — ومُعظمها بالقرن التاسع عشر — اكتُشِف عددٌ من العناصر الكيماوية الجديدة. ولقد وصل هذا العدد الآن إلى مائة عنصر. بيَّنَ هذا التطوُّر بجلاءٍ أن مفهوم العنصر الكيماوي لم يصِل بعدُ إلى النقطة التي عندَها يُمكننا تفهُّم وحدة المادة. لم يكن يُرضينا أن نعتقِد بوجود عددٍ كبير جدًّا من أنواع المادة، تختلف وصفيًّا دونما علاقةٍ بينها.

ظهرت في بداية القرن التاسع عشر بعض الشواهد على وجود علاقة تربط ما بين العناصر المختلفة، وذلك في حقيقة أن الأوزان الذرية للعناصر المُختلفة كثيرًا ما تبدو مضاعفاتٍ كاملة لوحدةٍ صُغرى تقترب من الوزن الذري للأيدروجين، وكان ثمة إشارة أخرى في تشابُه السلوك الكيماوي لبعض العناصر، تقود إلى نفس الاتجاه. لكن الأمر يتطلَّب اكتشاف قوًى أكبر بكثيرٍ من تلك الخاصة بالعمليات الكيماوية قبل أن يُمكننا حقًّا أن نوطد علاقة بين العناصر المختلفة؛ ومن ثَم إلى توحيد للمادة أكثر قربًا.

ولقد عُثر على هذه القوى بالفعل في العملية الإشعاعية التي اكتشفها بيكريل سنة ١٨٩٦م. قام رذرفورد وكوري وآخرون باستقصاءات مُتعاقبة أوضحت تحوُّل العناصر في العملية الإشعاعية، تُبعَث جُسيمات ألفا في هذه العمليات كشظايا مِن الذرَّات لها طاقة تبلُغ نحو مليون ضِعف طاقة جُسيم ذرِّي مُفرد في عملية كيماوية. وعلى هذا فمِن المُمكن أن تُستخدَم هذه الجُسيمات كأدواتٍ جديدة لتفحُّص البنية الداخلية للذرة. وكانت النتيجة هي النمَط النووي للذرة الذي قدَّمه رذرفورد عام ١٩١١م، بناء على تجاربه على استطارة أشعَّة ألفا. كان أهم ملامح هذا النمط الشهير هو فصل الذرة إلى جزأين مُتميِّزَين تمامًا: نواة الذرة، والقشرة المُحيطة من الإلكترونات. لا تحتل النواة بوسط الذرة إلَّا جزءًا غايةً في الصِّغَر مِن الحيِّز الذي تَشغله الذرة (فقُطرها يبلغ نحو واحدٍ من مائة ألف مِن قُطر الذرة)، لكنها تحمِل كلَّ كتلة الذرة تقريبًا، وتُحدِّد شحنتها الموجبة — وهي مُضاعف كامل لِما يُسمَّى الشحنة الأولى — عدد الإلكترونات المُحيط (فالذرة ككلٍّ لا بدَّ أن تكون متعادلة كهربيا)، كما تُحدِّد شكل مداراتِها.

أما التمييز بين نواة الذرة وقِشرتها الإلكترونية فقد أعطى على الفور تفسيرًا صحيحًا لحقيقةِ أنَّ العناصر الكيماوية في الكيمياء هي الوحدات الأخيرة للمادة، وأن تحوُّل مادةٍ إلى أخرى يتطلَّب قوًى أكبر بكثير جدًّا. ترجع الروابط الكيماوية بين الذرات المتجاورة إلى تفاعُل القشرات الإلكترونية، وطاقة هذه التفاعُلات صغيرة نسبيًّا. فالإلكترون الذي يُعَجَّل في أنبوبة تفريغٍ بجهدٍ لا يزيد عن بضع فولتات، له مِن الطاقة ما يكفي لإثارة القشرة الإلكترونية لتبثَّ الإشعاع، أو لتحطيم الرابطة الكيماوية في جزيء. لكنَّ السلوك الكيماوي للذرة، وإن تألَّف من سلوك القشرات الإلكترونية، فإنما تُحدده شحنة النواة. إن علينا أن نُغير النواة إذا أردْنا أن نُغير الخصائص الكيماوية، وهذا يتطلَّب طاقاتٍ أكبر بنحو مليون ضعف.

على أن النموذج النووي لا يُمكن أن يفسر ثبات الذرة — إذا ما أُخذ على أنه نظام يخضع لميكانيكا نيوتن. وكما ذكَرْنا في فصلٍ سابق، فإن تطبيق نظرية الكمِّ على هذا النموذج من خلال عمل بوهر، هو وحده ما يُمكن أن يُفسِّر حقيقة أن ذرة الكربون مثلًا، بعد أن تتفاعل مع ذراتٍ أخرى، أو بعد أن تُطلِق الإشعاع، فإنها في النهاية تظلُّ دائمًا ذرة كربونٍ لها نفس الأغلفة الإلكترونية التي كانت لها. يُمكن أن نُفسر هذا الثبات ببساطةٍ عن طريق تلك الملامح من نظرية الكمِّ التي تحُول دون أن نصِف بِنية الذرة وصفًا بسيطًا موضوعيًّا في المكان والزمان.

بذا أصبح لدَينا في النهاية أساسٌ أوليٌّ لتفهُّم المادة. فمِن المُمكن أن نُفسر الخصائص الكيماوية للذرة، وغيرها من الخصائص بتطبيق البرنامج الرياضي لنظرية الكمِّ على القشرة الإلكترونية. ومن هذا الأساس قد نُحاول أن نمدَّ تحليل بنية المادة في اتجاهَين متضادَّين؛ فقد ندرس تفاعل الذرات وعلاقتها بالوحدات الأكبر كالجزيئات والبلورات والأشياء الحيوية. وقد نُحاول، عن طريق البحوث في نواة الذرة ومكوناتها، أن ننفُذ إلى الوحدة النهائية للمادة. ولقد مضت البحوث في كِلا الاتجاهين في العقود الأخيرة، وسنحاول في الصفحات التالية أن نُلقي الضوء على دور نظرية الكمِّ في هذَين المجالَين.

والقوى بين الذرات هي أساسًا قوًى كهربية، انجذاب الشحنات المُتضادة وتنافُر الشحنات المُتماثلة. تجذب النوايا الإلكترونات، وتتنافَر عن بعضها. لكنَّ هذه القوى لا تعمَل وفقًا لقوانين ميكانيكا نيوتن، وإنما وفقًا لقوانين ميكانيكا الكم.

وهذا يقود إلى نمطَين مختلفَين لربط الذرات. في النمط الأول يمرُّ إلكترون مِن ذرةٍ إلى الذرة الأخرى، مثلًا، ليسدَّ النقص في غلافٍ إلكتروني مُقفل تقريبًا. في هذه الحالة تُصبح الذرتان في النهاية مشحونتَين وتُشكِّلان ما يُسميه الفيزيائي الأيونات. ولمَّا كانت شحنتاهما مُتضادَّتَين فإنهما تجذبان بعضهما بعضًا.

أما في النمط الثاني، فهناك إلكترون ينتمي لكِلتا الذرتَين بطريقةٍ تُميز نظرية الكم. فإذا استخدمنا صورة مدار الإلكترون، فقد نقول إن الإلكترون يدور حول النواتَين ليقضيَ وقتًا متساويًا في كلٍّ من الذرتَين. وهذا النمط الثاني من الارتباط ينسجِم مع ما يُسميه الكيماويون رابطة التكافؤ.

وهذان النمطان من القوى، وقد يحدثان بأيِّ مزيج، يتسبَّبان في تشكيل تجمُّعات مختلفة من الذرات، ويبدو أنهما مسئولان في نهاية المطاف عن كل البِنى المُعقدة من المادة، التي هي مجال دراسات الفيزياء والكيمياء. يحدُث تشكيل المركبات الكيماوية من خلال تشكيل مجاميع مُقفلة صغيرة من الذرات المختلفة، كل مجموعة تُمثل جُزيئًا مِن جُزيئات المركَّب. أما تكوين البلورات فيرجع إلى ترتيب الذرات في شبيكات منتظمة. وتتشكل المعادن عندما تُعبَّأ الذرات في إحكام بحيث يُمكن لإلكتروناتها الخارجية أن تترك قِشرتها وأن تجُول خلال البلورة بأكملها. وترجع المغناطيسية إلى حركة لفِّ الإلكترونات، وهلمَّ جرًّا.

يُمكننا في هذه الحالات أن نستبقي الثنائية بين المادة والقوة، إذ نستطيع أن نعتبر النوايا والإلكترونات شظايا من المادة حفِظَتها القوى الكهرومغناطيسية سويًّا.

بهذه الطريقة وصلت الفيزياء والكيمياء إلى وحدة تكاد تكون كاملة بالنسبة لعلاقتهما ببِنية المادة. لكن البيولوجيا تتعامل مع بِنًى من نوع أكثر تعقيدًا، ونمَط يختلف بعض الشيء. فبالرغم من كمال الكائن الحي، فمِن المؤكد أنَّنا لا نستطيع أن نضع خطًّا فاصلًا واضحًا يفصل المادة الحيَّة عن غير الحية. ولقد وفَّر لنا التقدُّم في البيولوجيا عددًا كبيرًا من الأمثلة التي يمكن منها أن نرى وظائف بيولوجية مُعينة تتمُّ عن طريق جُزيئات خاصة كبيرة جدًّا، أو مجاميع أو سلاسل من هذه الجزيئات، وأن ثمَّة اتجاهًا متزايدًا في البيولوجيا الحديثة لتفسير العمليات البيولوجية كنتائج لقوانين الفيزياء والكيمياء. لكنَّ طبيعة الثبات الذي تُظهره الكائنات الحية تختلف بعض الشيء عن طريق ثبات الذرَّات أو البلورات. إنه ثبات العملية أو الوظيفة لإثبات الصورة، وليس ثمَّة من شك في أن قوانين نظرية الكم تلعب دورًا هامًّا للغاية في الظواهر البيولوجية. وعلى سبيل المثال، فإن تلك القوى الخاصة الكمَّاتية-النظرية التي لا يُمكن أن توصَف إلا بصورةٍ غير دقيقة، عن طريق مفهوم التكافؤ الكيماوي، هذه القوى جوهرية تمامًا لتفهُّم الجُزيئات العضوية الضخمة وأنماطها الهندسية المُختلفة. والتجارِب التي أُجريت على الطفرات البيولوجية الناتجة عن الإشعاع تُبين ملاءمة القوانين الإحصائية الكمَّاتية-النظرية، كما تُبيِّن وجود آلياتٍ مُضَخَّمة. والتشابُه القريب بين عمَل جهازنا العصبي وأداء الحاسبات الإلكترونية الحديثة يؤكِّد مرةً أخرى أهمية العمليات الأولية المُفردة في الكائنات الحية. لكنَّ هذا كلَّه لا يُثبت أن الفيزياء والكيمياء، ومعهما مفهوم التطوُّر، ستُقدِّم يومًا ما وصفًا كاملًا للكائنات الحية. لا بدَّ أن تُجرى بحوث العمليات البيولوجية بحذَرٍ شديد، مقارنةً بمَثيلاتها في الفيزياء والكيمياء. ولقد يكونُ من الصحيح — كما يقول بوهر — أنَّنا لا نستطيع أن نُقدِّم وصفًا للكائنات الحيَّة يَعتبره الفيزيائي تامًّا، لأن ذلك يتطلَّب تجارب تدخُل بشدة في الوظائف البيولوجية. وصفَ بوهر هذا الوضع بقوله: إنَّنا في البيولوجيا إنما نهتمُّ بتجليَّات الإمكانات في تلك الطبيعة التي تنتمي إليها، لا بنتائج التجارِب التي يُمكن أن نُجرِيَها نحن. ووضع التتامِّ هذا الذي تُلمِع إليه هذه الصياغة يتجلَّى في اتجاهٍ بمناهج البحث البيولوجي الجديد يستغلُّ كلَّ مناهج ونتائج الفيزياء والكيمياء، كما يرتكِز، مِن ناحيةٍ أخرى، على مفاهيم تُشير إلى ملامح الطبيعة العضوية التي لا تتضمَّنها الفيزياء والكيمياء — كمفهوم الحياة نفسها.

تَعقَّبنا حتى الآن تحليل بنية المادة في اتجاهٍ واحد، من الذرة إلى التراكيب الأعقد المُؤلَّفة من عديدٍ من الذرات، من الفيزياء الذرية إلى فيزياء الأجسام الجامِدة. علينا الآن أن نلتفِت إلى الاتجاه المُضاد فنتبع خطَّ البحث من الأجزاء الخارجية للذرة إلى أجزائها الداخلية، مِن النواة إلى الجُسيمات الأولية. وهذا هو الخط الذي يُحتمَل أن يقود إلى وحدة المادة. هنا لن نخشى أن تُحطِّم التجارب خصائصَ البِنى. وعندما نُحدد المهمة في اختبار الوحدة النهائية للمادة، فقد تُعرَض المادة إلى أقوى القُوى المُمكنة، إلى أقسى الظروف تطرفًا، حتى نرى إن كان من المُمكن أن تتحوَّل أي مادةٍ إلى مادةٍ أخرى في نهاية المطاف.

وأولى الخطوات في هذا الاتجاه هو التحليل التجريبي لنواة الذرة. في المرحلة الأولى لهذه الدراسات — والتي شغلت تقريبًا العقود الثلاثة الأولى من هذا القرن — كانت الأدوات الوحيدة المتاحة للتجارب على النواة هي جُسيمات ألفا التي تبثُّها الأجسام المُشعَّة. ولقد نجح رذرفورد عام ۱۹۱۹م، بمساعدة هذه الجُسيمات، في تحويل نوايا العناصر الخفيفة، فتمكَّن مثلًا من تحويل نواة نتروجين إلى نواة أكسجين، بإضافة جُسَيم ألفا إلى نواة النتروجين وطرد بروتونٍ واحدٍ في نفس الوقت. كان هذا أول مثالٍ لعملياتٍ على مستوى النواة تُذكِّرنا بالعمليات الكيماوية، إنما أدَّت إلى التحوُّل الاصطناعي للعناصر. وكان التقدُّم المُهم التالي، كما نعرف، هو التعجيل الاصطناعي للبروتونات بجهازٍ عالي الجُهد إلى طاقاتٍ تكفي لإتمام التحول النووي. وهذا يتطلَّب فُلْطية تبلُغ نحو مليون فولت. ولقد نجح كوكروفت ووالطون في أولى تجاربهما الحاسِمة في تحويل نوايا عنصر الليثيوم إلى نوايا هليوم. فتح هذا الكشف خطًّا جديدًا تمامًا من البحوث، يمكن أن نُسمِّيَه الفيزياء النووية بالمعنى الصحيح، ولقد قاد بسرعة إلى تفهُّمٍ كيفيٍّ لبِنية النواة الذرية.

كان تركيب النواة في الحقِّ بسيطًا للغاية. تتركَّب نواة الذرة من نوعَين فقط مِن الجُسيمات الأوَّلية، أحدهما هو البروتون الذي هو في نفس الوقت نواة الأيدروجين، أم الآخر فيُسمَّى النيوترون، وهذا جُسيم مُتعادل كهربيًّا وله تقريبًا نفس كتلة البروتون. يمكن تمييز كل نواةٍ بعدد البروتونات والنيوترونات التي تكوِّنها. فنواة الكربون العادية على سبيل المِثال تتألَّف من ستة بروتونات وستة نيوترونات، وهناك نوايا كربون أخرى توجَد بتكرارٍ أقلَّ (هي نظائر الأولى) تتألَّف من ستة بروتونات وسبعة نيوترونات … إلخ. وعلى هذا فلقد وصلْنا إلى وصفٍ للمادة ليس به سوى ثلاثِ وحداتٍ جوهرية (بدلًا من العديد من العناصر الكيماوية المُختلفة) هي: البروتون والنيوترون والإلكترون. والمادة جميعًا تتألَّف من ذرات، ومِن ثَم فهي تتكوَّن مِن لَبِنات البناء الجوهرية هذه. لم يكن هذا بعدُ هو وحدة المادة، لكنه بالتأكيد كان خطوةً هامة نحو التوحيد والتبسيط — ولعلَّ هذه الميزة الأخيرة هي الأكثر أهمية. كان الطريق لا يزال بالطبع طويلًا مِن معرفة حجَرَي البناء للنواة إلى التفهُّم الكامل لبِنيتها. لكنَّ المشكلة هنا كانت مختلفة بعض الشيء عن المُشكلة المناظرة في القشرة الخارجية للذرَّة التي حلَّت في أواسط العشرينيات، ففي القشرة الإلكترونية كنَّا نعرف القوى بين الجُسيمات بدرجةٍ عالية مِن الدقة، وكان علينا أن نجد قوانين الديناميكا، وقد وجدناها في ميكانيكا الكم. أمَّا في النواة، فقد كنَّا نستطيع أن نفترِض أن القوانين الديناميكية هي قوانين ميكانيكا الكم، لكن القوى بين الجُسيمات لم تكن معروفةً مُقدَّمًا، وكان من الضروري أن تُستنبَط من الخصائص التجريبية للنوايا. لم تُحَل هذه المشكلة حتى الآن. يبدو أنْ ليس للقوى تلك الصورة البسيطة للقوى الكهروستاتيكية بالقشرة الإلكترونية، ومِن ثَم فإنَّ الصعوبة الرياضية لحساب الخصائص مِن القوى المُعقَّدة، بجانب عدَم دقَّة التجارب، قد جعلَا من التقدُّم أمرًا عسيرًا. لكنَّ المؤكد أنَّنا قد توصَّلنا إلى تفهُّمٍ كيفي لبِنية النواة.

ثم بقِيَت المشكلة الأخيرة: وحدة المادة. فهل لَبِنات البناء الجوهرية هذه — البروتون، النيوترون، الإلكترون — وحداتٌ نهائية للمادة لا تُحطَّم، أي ذرَّات بالمَعنى عند ديموقريطس، لا علاقةَ بينها سوى علاقة القوى التي تعمَل بينها؟ أم هي مجرد صورٍ مختلفة لنفس النوع من المادة؟ هل يُمكن لها أيضًا أن تتحوَّل بعضها إلى بعضٍ، أو ربما أيضًا إلى صُورٍ أخرى مِن المادة؟ إنَّ المعالجة التجريبية لهذه المشكلة تتطلَّب قوًى وطاقاتٍ تُرَكِّز على الجُسيمات الذرية، تزيد كثيرًا عن تلك التي تلزَم لتفحُّص النواة الذرية. ولمَّا كانت الطاقات المُخزَّنة في النوايا الذرية ليست بالضخامة الكافية لتُوفِّر لنا أداةً لِمِثل هذه التجارب، فقد كان على الفيزيائي إمَّا أن يعتمد على قوًى ذات أبعادٍ كونية أو على عبقرية المُهندسين وحِنكتهم.

والواقع أن ثمَّة تقدُّمًا قد حدَث في كِلا الخطَّين. ففي الحالة الأولى، استخدم الفيزيائيُّون ما يُسمى الأشعة الكونية. فالمجالات الكهرومغناطيسية على أسطح النجوم المُمتدة فوق مساحاتٍ هائلة، تستطيع تحت ظروفٍ مُعينة أن تُعجِّل إلكترونات ونوايا ذرية مشحونة. ويبدو أن للنوايا — بِسبب قصورها الذاتي الأعلى — فرصةً أكبر للبقاء بالمجال المُعجَّل لمسافة أطول. فإذا ما تركت في النهاية سطح النجم إلى الفضاء الفارغ فستكون قد تحرَّكت بالفعل خلال جهدٍ يبلغ بضعة آلاف الملايين من الفولتات. ولقد يحدث ثمَّة تعجيل إضافي في المجالات المغناطيسية بين الأنجم. على أية حالٍ يبدو أنَّ النوايا تبقى داخل فضاء المجرَّة لفترةٍ طويلة بسبب مجالاتٍ مغناطيسية مُتباينة، لتملأ في نهاية الأمر هذا الفراغ بما نُسمِّيه الأشعة الكونية. يصِل هذا الإشعاع إلى الأرض من خارجها، وهو يتألَّف عمليًّا من نوايا مِن كل الأنواع — الأيدروجين والهليوم والكثير مِن العناصر الأثقل — نوايا لها طاقات تبلُغ تقريبًا من مائة أو ألف مليون إلكترون فولت، وحتى مليون ضعف هذه القيمة في بعض الحالات النادرة. وعندما تنفُذ جُسيمات هذه الأشعة إلى الغلاف الجوي للكُرة الأرضية، فإنها تصطدم بذرات النتروجين أو الأكسجين بهذا الغلاف أو قد ترتطم بالذرَّات في أي جهازٍ تجريبي مُعرَّض للإشعاع.

أما الخط الثاني من البحوث فهو إنشاء ماكينات التعجيل الضخمة، وكان نموذجها الأوَّلي هو السيكلوترون الذي أقامه لورانس في كاليفورنيا في أوائل الثلاثينيات. والفكرة الأساسية في هذه الماكينات هي أن تُبقى الجُسيمات المشحونة — وعن طريق مجالٍ مغناطيسي ضخم — تدور عددًا كبيرًا جدًّا مِن المرَّات لكي تدفعها مجالات كهربية، في طريقها، المرةَ بعد المرة. وتُستخدَم في بريطانيا العظمى الآن ماكينات تصِل الطاقة فيها إلى بضع مئات الملايين من الإلكترون فولت، كما تُقام الآن في جنيف ماكينة ضخمة جدًّا مِن هذا الطراز من خلال تعاون اثنتي عشرة دولة أوروبية، ونأمُل أن تصِل الطاقة فيها إلى ۲٥۰۰۰ مليون إلكترون فولت. ولقد بيَّنَت التجارب، التي استَخدَمت الأشعة الكونية أو المُعجِّلات الضخمة، ملامح جديدة مُثيرة للمادة — الإلكترون، البروتون، النيترون — إذ اكتُشِفت جُسيمات أولية جديدة يُمكن تخليقها في هذه العمليات ذات الطاقاتِ الأعلى، لتختفيَ ثانيةً بعد فترةٍ قصيرة. لهذه الجُسيمات الجديدة خصائص تُشبه خصائص الجُسيمات القديمة، سِوى أنها غير ثابتة؛ إذ يبلُغ عمر أكثرِها ثباتًا نحو جزءٍ مِن مليون جزءٍ مِن الثانية، بل ويبلُغ عمر البعض منها واحدًا على ألف من هذا. ولقد عُرِف حتى الآن نحو ٢٥ جُسيمًا مُختلفًا، وكان آخِرُها هو البروتون السالب.

تبدو هذه النتائج للوهلة الأولى وكأنها تقود بعيدًا عن فكرة وحدة المادة؛ إذ يبدو عدد الوحدات الأساسية وقد ازداد ثانيةً إلى رقمٍ يُقارب عدد العناصر الكيماوية المختلفة. لكنَّ هذا التفسير ليس صحيحًا، فلقد بيَّنتِ التجارب في نفس الوقت أن الجُسيمات يمكن أن تُخلَق من جُسيمات أخرى، أو ببساطة، مِن الطاقة الحركية لمِثل هذه الجُسيمات، كما أنها يُمكن أن تضمحلَّ ثانية إلى جُسيمات أخرى. والواقع أن التجارب قد أوضحت التحوُّليَّة الكاملة للمادة. فكل الجُسيمات الأولية يمكن، تحت ما يكفي من طاقةٍ عالية، أن تتحوَّل إلى جُسيمات أخرى، كما يمكن تخليقها بسهولةٍ مِن الطاقة الحركية، ويُمكن أيضًا أن تندثِر إلى طاقة، إلى إشعاعٍ مثلًا. وعلى هذا فقد وجَدْنا هذا الدليل النهائي على وحدة المادة. كلُّ الجُسيمات الأولية مصنوعة من نفس الجوهر، الذي قد نُسمِّيه الطاقة أو المادة الكونية. إنها مجرد صور مختلفة يُمكن للمادة أن تظهَر بها.

فإذا قارنَّا هذا الموضوع بالمفاهيم الأرسطية للمادة والصورة، ففي مقدورنا أن نقول إن مادة أرسطو، وهي مجرد بوتنشيا، هي الموازي لمفهوم الطاقة عندنا، تلك التي تُصبح حقيقة واقعة عن طريق الصورة، عندما يُخلَق الجسيم الأوَّلي.

طبيعي أن الفيزياء الحديثة لا تقنع بمجرد الوصف الكيفي للبنية الأساسية للمادة، إن عليها أن تحاول، بالتفحص التجريبي، أن تصل إلى صياغة رياضية للقوانين الطبيعية التي تُحدد «صور» المادة، والجُسيمات الأولية وقواها. لم يعد في مقدورنا أن نضع خطًّا فاصلًا بين المادة والقوة في هذا الفرع من الفيزيقا، لأن كل جُسيم أولي لا يُنتج فقط بعض القوى، ولا تؤثر فيه فقط بعض القوى، إنما هو يُمثل في نفس الوقت مجالًا معينًا مِن القوى والثنائية الكمَّاتية-النظرية للموجات والجُسيمات تجعل الكيان نفسه يبدو مادة ويبدو قوة.

وكل المحاولات التي تمَّت حتى الآن للعثور على وصفٍ رياضي للقوانين الخاصة بالجُسيمات الأولية، كلها قد بدأت من نظرية الكم لمجالات الموجة. ولقد بدأت في أوائل الثلاثينيَّات البحوث النظرية في مثل هذه النظريات. لكن أول الاستقصاءات على هذا الخط قد كشفت عن صعوبات قُصوى، ترجع إلى مزيجٍ مِن نظرية الكم ونظرية النسبية الخاصة. قد يبدو من الوهلة الأولى أن النظريتين — الكم والنسبية الخاصة — تشيران إلى نواحٍ مختلفة للطبيعة بحيث لا تُوجَد ثمة علاقة بينهما، أنه من السهل أن نفي باحتياجات النظريتين في نفس الصورية. على أن التفحُّص الدقيق سيُبيِّن أن النظريتين تتداخلان فعلًا عند نقطة مُعينة، وأن المشاكل كلها تنبع من هذه النقطة.

كشفت نظرية النسبية الخاصة عن بِنية للمكان والزمان تختلف بعض الشيء عن البِنية التي كانت تُفترَض عادة منذ ميكانيكا نيوتن. وكان أهم ملامح هذه البنية المُكتشَفة حديثًا هو وجود سرعة قصوى لا يمكن لأي جسمٍ مُتحرك أو أية إشارة مُتحركة أن تتجاوزها — سرعة الضوء. ونتيجة لهذا فإن واقعتَين تحدُثان في نقطتَين متباعدتَين لا يمكن أن يكون بينهما ارتباطٌ علِّيٌّ مباشر إذا كان زمنا وقوعِهما بحيث إن إشارة ضوئية تُطلَق فور وقوع إحداهما عند نقطة، لا تصل إلى النقطة الأخرى إلا بعد أن تكون الواقعة الأخرى قد حدثت هناك، والعكس بالعكس. في هذه الحالة يمكن أن نقول إن الواقعتين متزامنتان. ولمَّا كان من غير المُمكن أن يصِل أي فعل بأي شكلٍ من واقعة عند إحدى نقطتَي الزمن إلى الواقعة الأخرى عند النقطة الأخرى، فإن الواقعتين لا ترتبطان بأي فعلٍ علِّي.

لهذا السبب، فإن أي فعلٍ عن بعد، كمثل قوى الجاذبية بميكانيكا نيوتن، لن يكون متوافقًا مع نظرية النسبية الخاصة. كان على النظرية أن تستبدل بمثل هذا الفعل أفعالًا من نقطة إلى نقطة — من نقطة مُعينة، فقط إلى نقاط في الجوار المتناهي الصغير. والتعبيرات الرياضية الطبيعية جدًّا لِمثل هذا الفعل هي المعادلات التفاضلية للموجات أو المجالات اللامُتغيرة بالنسبة لتحويل لورنتس. فمثل هذه المعادلات التفاضُلية تستبعد أي فعل مباشر بين الوقائع «المتزامنة».

وعلى هذا فإن بنية المكان والزمان بنظرية النسبية الخاصة تقتضي، ضمنًا، حدًّا صارمًا للغاية بين منطقة التزامن، حيث لا ينتقل أي فعل، وبين غيرها مِن المناطق حيث يمكن أن ينتقل فعل مباشر من واقعةٍ إلى أخرى.

من ناحية أخرى، سنجد أن العلاقات اللامُحققية بنظرية الكم تضع حدًّا واضحًا على الدقة التي يمكن أن نقيس بها قياساتٍ مُتزامنة للمواقع وكميَّات الحركة، أو الزمن والطاقة. ولمَّا كان الحد الصارم حقًّا إنما يعني دقة لانهائية بالنسبة للموقع في المكان والزمان، فلا بد أن تبقى كميَّات الحركة والطاقات غير مُحددة على الإطلاق أو لا بدَّ في الواقع لكميات الحركة والطاقات العالية التحكُّمية أن تحدث باحتمالاتٍ واسعة. وعلى هذا فإن أية نظرية تُحاول أن تفي بمتطلَّبات كلٍّ من نظرية النسبية الخاصة ونظرية الكم، لا بد أن تقود إلى متناقضات رياضية ذاتية، إلى انحرافات في منطقة الطاقات وكميَّات الحركة العالية جدًّا. قد لا يبدو تسلسُل هذه الاستنباطات ملزمًا تمامًا، لأن أية صورية من النمط الذي يُهمنا الآن هي صورية غاية في التعقيد، وربما قُدِّمت بعض الإمكانات الرياضية لتجنُّب التعارُض بين نظرية الكم والنسبية، لكن البرامج الرياضية التي جُرِّبت حتى الآن قد قادت بالفعل إلى انحرافات، نعني إلى تناقُضات رياضية، أو لم تُوفِ بكل مُتطلبات النظريتَين. ولقد كان من السهل أن نرى أن الصعوبات تأتي بالفعل عن تلك النقطة التي ناقشناها.

كانت مُثيرة حقًّا تلك الطريقة التي قصُرت بها البرامج التقاربية عن الوفاء بمتطلَّبات النسبية أو نظرية الكم. وعلى سبيل المثال، ثمة برنامج قاد — عندما فُسِّر بلُغة الوقائع الفعلية في المكان والزمان — إلى نوع من انقلاب الزمن. إنه يتنبَّأ بعمليات فيها تُخلَق، فجأةً، جُسيمات في موقعٍ مُعيَّن من المكان، تُوفَّر لها الطاقة، فيما بعد، عن طريق عملية اصطدام أُخرى بين جُسيمات أولية في موقعٍ آخر. يعرِف الفيزيائيون مِن تجاربهم بأن العمليات من هذا القبيل لا تحدُث في الطبيعة، أو على الأقل لا تحدُث إذا ما فصلَت بين العمليتين مسافاتٌ طويلة في الفضاء والزمن. ثمَّة برنامج رياضي آخر حاول تجنُّب الاختلاف من خلال عملية رياضية يُقال لها «إعادة التطبيع»، إذ يبدو من المُمكن أن ندفع باللانهائيات إلى مكانٍ في الصورية لا تتمكن فيه من التدخُّل في توطيد العلاقات المُحدَّدة تمامًا بين الكميات التي يمكن أن تُلاحَظ مباشرة. والواقع أن هذا البرنامج قد قاد إلى تقدُّم محسوس في الديناميكا الكهربية الكمَّاتية، لأنه يُبرر بعض تفاصيل مُثيرة في طيف الهيدروجين لم تكن مفهومة قبلًا. على أن التحليل المُتفحص لهذا البرنامج الرياضي قد جعل مِن المُرجح أن تصبح تلك الكميات، التي لا بد أن تفسر في نظرية الكم العادية على أنها احتمالات، أن تُصبح تحت ظروفٍ مُعينة سلبية في صورية إعادة التطبيع … وهذا سيحول دون الاستخدام المُستقيم للصورية في وصف المادة.

لم نتمكن بعدُ من الحل النهائي لهذه الصعوبات، سيبزغ الحل يومًا ما بعد تجميع مادة تجريبية أدق وأدق عن الجُسيمات الأولية المختلفة عن خلقها ودثورها، عن القوى العاملة بينها. في بحثنا عن الحلول الممكنة للصعوبات، ربما كان علينا أن نتذكَّر أننا لا نستطيع تجريبيًّا أن نستبعد عمليات انقلاب الزمن التي أشرْنا إليها قبلًا، إذا ما كانت تتمُّ فقط داخل مناطق صغيرة جدًّا من الفضاء والزمان خارج مجال أدواتنا التجريبية الحالية. طبيعي أننا سنرغب عن قبول عمليات انقلاب الزمن إذا ما كان ثمة إمكانية فيما بعد أن نتعقَّبها تجريبيًّا بنفس المعنى الذي نتعقَّب به الوقائع الذرية العادية. لكن ربما ساعدَنا هنا تحليل نظرية الكم وتحليل النسبية في أن نرى المشكلة تحت ضوءٍ جديد.

ترتبط نظرية النسبية بثابتٍ كوني في الطبيعة؛ سرعة الضوء. يُحدِّد هذا الثابت العلاقة بين الفضاء والزمان، ومِن ثم فهو مُضَمَّن في أي قانون طبيعي يُحقق متطلبات لاتغيُّر لورنس. ولُغتنا العادية ومفاهيم الفيزياء الكلاسيكية لا تنطبق إلَّا على الظواهر التي تُعتبر سرعة الضوء بالنسبة لها لانهائية، من الناحية العملية.

وعندما نقترِب في تجاربنا من سرعة الضوء، فإن علينا أن نستعدَّ لنتائج لا يمكن تفسيرها بهذه المفاهيم.

ترتبط نظرية الكم بثابتٍ كوني آخر في الطبيعة: كم فعل بلانك. إن الوصف الموضوعي للوقائع في الفضاء والزمان غير مُمكن إلا إذا كنَّا نتعامل مع مواضيع أو عمليات في مجالٍ واسع نسبيًّا يُعتبر ثابت بلانك فيه صغيرًا إلى أبعد الحدود. فإذا ما اقتربت تجاربنا من المنطقة التي يُصبح فيها كم الفعل جوهريا، ولَجْنا إلى تلك الصعوبات مع المفاهيم المعتادة، والتي سبق أن ناقشناها في الفصول الأولى من هذا الكتاب.

لا بدَّ من وجود ثابتٍ كوني آخر في الطبيعة، هذا أمر واضح لأسبابٍ أبعادية بحتة. تُحدد الثوابت الكونية مقياس الطبيعة، الكميات المُميَّزة التي لا يمكن اختزالها إلى كمياتٍ أخرى. يَلزمنا ثلاث وحداتٍ جوهرية على الأقل لنُشكل فئةً كاملة من الوحدات. من السهل تَفهُّم هذا من مُواضعات كمِثل استخدام الفيزيائيين لنظام س – ج – ث (سنتيمتر – جرام – ثانية). فوحدة للطول ووحدة للزمن ووحدة للكتلة تكفي لتشكيل فئة كاملة، لكن لا بد أن تكون لدَينا ثلاث وحدات على الأقل. قد نستبدل بها أيضًا وحدات للطول والسرعة والكتلة، أو وحدات للطول والسرعة والطاقة … إلخ. لكن يلزم وجود ثلاث وحدات أساسية على الأقل. والآن، فإن سرعة الضوء وثابت بلانك للفعل لا يُوفِّران إلَّا وحدتَين من هذه. لا بد من وجود وحدة ثالثة. وبدون نظرية تتضمَّن هذه الوحدة الثالثة لا يمكن بأية حالٍ أن نُحدد الكُتَل وغيرها من خصائص الجُسيمات الأولية. فإذا حكمنا من معرفتنا الحالية عن هذه الجُسيمات، فإن أفضل وسيلة لتقديم هذا الثابت الكوني الثالث ستكون هي افتراض طول كوني قيمتُه نحو ١٠−١٣سم أي أقل قليلًا من أنصاف أقطار النوايا الذرية للضوء. فإذا ما شكَّلنا من مثل هذه الوحدات الثلاث تعبيرًا يوازي الكتلة في أبعاده، فستكون لقيمته نفس مرتبة كُتَل الجسيمات الأولية.
فإذا افترضنا أن قوانين الطبيعة تشمل فعلًا ثابتًا كونيًّا ثالثًا له بُعد الطول ورُتبته ١٠−١٣ فلَنا أن نتوقَّع أن تطبق مفاهيمنا المعتادة فقط على المناطق من الفضاء والزمان الكبيرة بالنسبة لهذا الثابت الكوني. وعلينا أن ننتظر ظواهر لها صفات كيفية جديدة عندما نقترب في تجاربنا من مناطق في الفضاء والزمان أصغر من أنصاف الأقطار النووية. أما ظاهرة انقلاب الزمن التي أشرْنا إليها والتي نتجت فقط عن اعتبارات نظرية، كإمكانٍ رياضي فقد تنتمي إلى هذه المناطق البالغة الصغر. فإذا كان الأمر هكذا فقد لا يمكن ملاحظتها بطريقة تسمح بوصفٍ لها بلُغة المفاهيم الكلاسيكية. ولقد يتضح أن هذه العمليات تخضع للترتيب الزمني المعتاد في المدى الذي يمكن فيه ملاحظتها ووصفها باللغة الكلاسيكية.

لكن كل هذه المشاكل هي موضوع بحوث المُستقبل في الفيزياء الذرية. وقد نأمُل أن يقود المجهود المشترك للتجارب في مجال الطاقة العالية مع التحليل الرياضي، أن يقود يومًا إلى تفهُّمٍ كامل لوحدة المادة، ونعنى بالتفهُّم الكامل أن تظهر صور المادة بالمعنى الأرسطي كنتائج، كحلول لبرنامج رياضي مُغلق يُمثل القوانين الطبيعية للمادة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥