المقدمة

الباب الأول

في ذكر ما يظهر لي من سبب ارتجالنا إلى هذه البلاد، التي هي ديار كفر وعناد، وبعيدة عنا غاية الابتعاد، وكثيرة المصاريف؛ لشدة غلو الأسعار فيها غاية الاشتداد.

أقول: إن هذا يحتاج إلى تمهيد، وهو أن الأصل في الإنسان الساذجية، والخلوص عن الزينة، والوجود على أصل الفطرة، لا يعرف إلا الأمور الوجدانية، ثم طرأ على بعض الناس عدةُ معارف لم يسبق بها، وإنما كشفت له بالصدفة والاتفاق، أو بالإلهام والإيحاء. وحكم الشرع أو العقل بنفعها، فاتبعت وأبقيت.

مثلاً: كان في أوائل الزمن، يجهل بعض الناس تنضيج المطعومات بالنيران؛ لجهل النار بالكلية عندهم، ويقتصرون على الغذاء بالفواكه أو بالأشياء المنضجة بالشمس، أو أكل الأشياء النيئة، كما هو باق في بعض البلاد المتوحشة إلى الآن، ثم حصل اتفاقًا أن بعضهم رأى خروج شرارة نار من الصوان، بمصادمة حديدة أو نحوها، ففعل مثل ذلك، وقدم وأخرج النار وعرف خاصيتها، وكان (ص ٧) في الناس من يجهل الصبغ والتلوين للثياب باللون الأرجواني مثلاً، فرأى بعضهم كلبًا أخذ محارة من البحر، وفتحها وأكل ما فيها، فاحمر حنكه، وتلون بما فيها، فأخذوها، وعرفوا منها صناعة الصباغة بهذا اللون، كما يحكى ذلك عن أهالي «صور» ببر الشام.

وكانت الناس في أول الأمر تجهل ركوب البحر، ثم بإلهام إلهي، أو باتفاق بشري، عرفوا أن من خواص الخشب السبح على وجه الماء، فصنعوا السفينة، ثم تبحروا في السفن، وعمروها، ونوعوها أنواعًا، فكانت أولاً صغيرة للتجارات، ثم ترفعوا فيها، حتى صلحت للجهاد والحرب، وقس على ذلك ما أشبهه، من المحاربة بالسهام والرماح أولاً، ثم بعد ذلك بالسلاح، ثم بالمدافع والأهوان.

وقد كانت الناس في أول الزمن تعبد الشمس والقمر والنجوم وغير ذلك، ثم بإلهام الله تعالى، وبإرساله الرسل صاروا يعبدون١ إلهًا واحدًا، فكلما تقادم الزمن في الصعود، رأيت تأخر الناس في الصنايع٢ البشرية والعلوم المدنية، وكلما نزلت، ونظرت إلى الزمن في الهبوط رأيت في الغالب ترقيهم وتقدمهم في ذلك، وبهذا الترقي، وقياس درجاته، وحساب البُعد عن الحالة الأصلية، والقرب منها، انقسم سائر الخلق إلى عدة مراتب:
  • المرتبة الأولى: مرتبة الهمل المتوحشين.
  • المرتبة الثانية: مرتبة البرابرة الخشنيين.
  • المرتبة الثالثة: مرتبة أهل الأدب والظرافة، والتحضر والتمدن، والتمصر المتطرفين.

مثال المرتبة الأولى: همل بلاد [المتوحشين] الذين هم دائمًا كالبهائم السارحة، لا يعرفون الحلال من الحرام، ولا يقرءون، ولا يكتبون، ولا يعرفون شيئًا عن الأمور المسهلة للمعاش، أو النافعة للمعاد، وإنما تبعثهم الوجدانية على قضاء شهواتهم كالبهائم، فيزرعون بعض شيء، أو يصيدونه، لتحصيل قوتهم، ويخصون بعض أخصاص أو خيام، للتوقي من حر الشمس ونحوه.

ومثال المرتبة الثانية: عرب البادية، فإن عندهم نوعًا من الاجتماع الإنساني، والاستئناس، والائتلاف، معرفتهم الحلال من الحرام، والقراءة والكتابة وغيرها، وأمور الدين، ونحو ذلك غير أنهم أيضًا لم تكمل عندهم درجة الترقي في أمور المعاش، والعمران، والصنائع البشرية، والعلوم العقلية والنقلية، وإن عرفوا البناء، والفلاحة، وتربية البهائم، ونحو ذلك.

ومثال المرتبة (ص ٨) الثالثة: بلاد مصر، والشام، واليمن، والروم، والعجم، والإفرنج والمغرب، وسنار، وبلاد إفريقية٣ على أكثرها، وكثير من جزائر البحر المحيط، فإن جميع هؤلاء الأمم أرباب عمران وسياسات، وعلوم وصناعات، وشرائع وتجارات، ولهم معارف كاملة في آلات الصنائع، والحيل على حمل الأشياء الثقيلة بأخف الطرق ولهم علم بالسفر في البحور، إلى غير ذلك.

وهذه المرتبة الثالثة تتفاوت في علومها وفنونها، وحسن حالها، وتقليد شريعة من الشرائع، وتقدمها في النجابة والبراعة في الصنائع المعاشية.

مثلاً: البلاد الإفرنجية قد بلغت أقصى مراتب البراعة في العلوم الرياضية، والطبيعة، وما وراء الطبيعة أصولها وفروعها، ولبعضهم نوع مشاركة في بعض العلوم العربية، وتوصلوا إلى فهم دقائقها وأسرارها، كما سنذكره، غير أنهم لم يهتدوا إلى الطريق المستقيم، ولم يسلُكوا سبيل النجاة، ولم يرشدوا إلى الدين الحق، ومنهج الصدق.

كما أن البلاد الإسلامية قد برعت في العلوم الشرعية والعمل بها، وفي العلوم العقلية، وأهملت العلوم الحكمية بجملتها، فلذلك احتاجت إلى البلاد الغربية في كسب ما لا تعرفه، وجلب ما تجهل صنعه؛ ولهذا حكم الفرنج بأن علماء الإسلام إنما يعرفون شريعتهم ولسانهم، يعني ما يتعلق باللغة العربية، ولكن يعترفون لنا بأنا كنا أساتيذهم في سائر العلوم، وبقِدَمنا٤ عليهم.
ومن المقرر في الأذهان، وفي خارج الأعيان أن الفضل للمتقدم، أو ليس أن المتأخر يغترف من فضالته،٥ ويهتدي بدلالته، وما أحسن قول الشاعر:
ومما شجاني أنني كنت نائمًا
أعلل من فرط الكرى بالتنسم
إلى أن بكت ورقاء في غصن أيكـ
ـة تردد مبكاها بحسن الترنم
فلو قبل مبكاها بكيت صبابة
بسعدي شفيت النفس قبل التندم
ولكن بكت قبلي، فهيج لي البكا
بكاها، فقلت الفضل للمتقدم

ويعجبني أيضًا قولهم في هذا المعنى عند المكافأة:

أنا الشجاع الذي قد كنت في ظمأ
وسط الهجير على الرمضاء في الوادي
فجدتُ بالماء، فضلاً منك مبتدئًا
بغير قل، فأشفي غُلة الصادي
هذا جزاؤك منا، لا نمن به
فضلاً بفضل، وكان الفضل للبادي
(ص ٨، ٩) فإننا كنا في زمن الخلفاء العباسيين أكمل سائر البلاد، تمدنا، ورفاهية، وتربية زاهرة زاهية، وسبب ذلك أن الخلفاء كانوا يعينون العلماء وأرباب الفنون وغيرهم، على أن منهم من كان يشتغل بها بنفسه، فانظر إلى المأمون بن هارون الرشيد، فإنه زيادة عن إعانة ميقاتية٦ دولته كان يشتغل بنفسه بعلم الفلك، وهو الذي قد حرر ميل دائرة فلك البروج على دائرة الاستواء، فوجده بالامتحان ثلاثًا وعشرين درجة، وخمسة وثلاثين دقيقة، وغير ذلك.
وقد أعان «جعفر المتوكل» من العباسية «اصطفان»٧ على ترجمة الكتب اليونانية؛ ككتاب «ذيسقوريدس» في الأدوية.

وكذلك الملك «عبد الرحمن الناصر» صاحب الأندلس، فإنه طلب من ملك «قسطنطينية» المسمى «أرمانيوس» أن يبعث إليه رجلاً يتكلم باللسان اليوناني واللاطيني ليعلم له عبيدًا يكونون مترجمين عنده، فبعث له راهبًا يسمى: «نقولا» على غير ذلك.

فمن هنا تفهم أن العلوم لا تنتشر في عصر إلا بإعانة صاحب الدولة لأهله، وفي الأمثال الحكمية: «الناس على دين ملوكهم».

وقد تشتت عز الخلفاء، وانهدم ملكهم، فانظر إلى الأندلس، فإنها بأيدي النصارى الأسبانيول، من نحو ثلاثمائة وخمسين سنة.

وقد قويت شوكة الإفرنج ببراعتهم، وتدبيرهم، بل وعدلهم ومعرفتهم في الحروب، وتنوعهم واختراعهم فيها، ولولا أن الإسلام منصور بقدرة الله — سبحانه وتعالى — لكان كلاشيء، بالنسبة لقوتهم وسوادِهم، وثروتهم، وبراعتهم وغير ذلك. ومن المثل المشهورة: «إن أعقل الحكام أبصرَهم بعواقب الأمور».

ولهذا تنبه (المتولي) على بلاد مصر — القاهرة — أن يرجع إليها شبابها القديم، ويحيي رونقها الرميم، فمن مبدأ توليته وهو يعالج في مداواة دائه، الذي لولاه كان عضالاً، ويصلح فسادها الذي قد كاد يكون زواله محالاً، ويلتجئ إليه أربا لفنون البارعة، والصنائع النافعة، من الإفرنج، ويغدِق عليهم فائض نعمته، حتى إن العامة بمصر، وبغيرها، من جهلهم يلومونه في أنفسهم غاية اللوم؛ بسبب قبوله٨ الإفرنج، وترحيبه بهم، وإنعامه عليهم، جهلاً منهم بأنه إنما يفعل ذلك لإنسانيتهم وعلومهم، لا لكونهم نصارى؛ فالحاجة دعت إليه، ولله در من قال:
إن المعلم والطبيب كلاهما
لم يبذلا نصحًا إذا لم يُكرما٩
فاصبر لدائك إن جفوت طبيبه
واصبر لجهلك إن جفوت معلما

ولا يتأتى لإنسان أن ينكر أن الفنون والصنائع الغربية بمصر قد برعت الآن، بل وقد أجدت بعد أن لم تكن، ويرجى بلوغُها درجة كمال وفوقان، فما أنفقه (الوالي) على ذلك كان في محله اتفاقًا، فانظر إلى «الورش» والمعامل والمدارس ونحوها، وانظر إلى ترتيب أمر العساكر الجهادية من «ألايات» ومدارس حربية، فإنه من أحسن ما صنعه، وأحق ما يؤرخ من فعل الخيرات، ولا يمكن إدراك ضرورية هذا النظام إلا لمن رأى بلاد الإفرنج، أو شاهد الوقائع.

وبالجملة والتفصيل، [فإن الوالي] آماله دائمًا متعلقة بالعمار، ومن الحكم المعروفة «العمارة كالحياة، والخراب كالموت، وبناء كل [إنسان] على قدر همته.

وقد سارع (الوالي) في تحسين بلاده، فأحضر فيها ما أمكنه إحضارُه من علماء الإفرنج، وبعث ما أمكنه بعثه من مصر إلى تلك البلاد، فإن علماءها أعظم من غيرهم في العلوم الحكمية. وفي الحديث: «الحكمة ضالة المؤمن يطلبها ولو في أهل الشرك». قال بطليموس الثاني: «خذوا الدر من البحر، والسمك من الفأرة، والذهب من الحجر، والحكمة ممن قالها». وفي الحديث: «اطلب العلم ولو بالصين» ومن المعلوم أن أهل الصين وثنيون وإن كان المقصود من الحديث السفر إلى طلب العلم، وبالجملة حيثما أمن الإنسان على دينه، فلا ضرر في السفر، خصوصًا لمصلحة مثل هذه المصلحة.

ولعل هذا كله مطمح نظر (الوالي) في هذه الإرسالية وغيرها من الإرساليات المتتالية المتسلسلة١٠ فثمرة هذا السفر تحصل — إن شاء الله — بنشر هذه العلوم والفنون الآتية في الباب الثاني، وبكثرة تداولها، وترجمة كتبها وطبعها في مطابع ولي النعم.

فينبغي لأهل العلم حيث جميع الناس على الاشتغال بالعلوم والفنون، الصنائع النافعة، وليس هذا الزمان قابلاً لأن يقال فيه كما قال بهاء الدين أبو حسين العاملي في صرف العمر في جمع كتب العلم وادَّخارها ومطالعتها، في شعره:

على كتب العلوم صرفت مالك
وفي تصحيحها أتعبت بالك
وأنفقت البياض مع السواد
إلى ما ليس ينفع في المعاد
تظل من المساء إلى الصباح
تطالعُها، وقلبك غير صاح
وتصبح مولعًا من غير طائل
بتحرير المقاصد والدلائل
وتوضيح الخفا في كل باب
وتوجيه السؤال مع الجواب
لعمري، قد أضلتك الهداية
ضلالاً ما له أبدًا نهاية
وبـ«المحصول» حاصلك الندامة
وحرمان إلى يوم القيامة
وتذكرة «المواقف» والمراصد
تسد عليك أبواب المقاصد
فلا ينجي النجاة من الضلالة
ولا يشفي الشفاء من الجهالة
وبالإرشاد لم يحصل رشاد
وبالتبيان ما بان السداد
وبالإيضاح أشكلت المدارك
وبالمصباح أظلمت المسالك
وبالتلويح ما لاح الدليلُ
وبالتوضيح ما اتضح السبيل
صرفت خلاصة العمر العزيز
على تنقيح أبحاث الوجيز١١
بهذا الأمر صرف العمر جهلُ
فقم واجهد فما في الوقت مهلُ
ودع عنك الشروح مع الحواشي
فهن على البصائر كالغواشي١٢

وقوله:

أيها القوم الذي في المدرسة
كل ما حصلتموه وسوسه
فكركم إن كان في غير الحبيب
ما له في النشأة الأخرى نصيب
فاغسلوا بالراح عن لوح الفواد
كل علم ليس ينجي في المعاد

لأن هذا مقال من تجرد عن الدنيا، وانهمك على الآخرة، أو من اشترى العلوم بأغلى ثمن، فبخس صفقتها حادث الزمن.

الباب الثاني من المقدمة

[يتعلق بالعلوم والفنون المطلوبة، والحرف والصنائع المرغوبة]

ولنذكر لك هنا الصنائع المطلوبة، لتعرف أهميتها، ولزومها في أي دولة من الدول، وهذه الفنون إما واهية في مصر، أو مفقودة بالكلية.

وهي قسمان: قسم عام للتلامذة، وهو: الحساب، والهندسة، والجغرافيا، والتاريخ، والرسم، وقسم خاص (ص ١٢) متوزع عليهم، وهو عدة علوم:
  • العلم الأول: علم تدبير الأمور الملكية، ويتشعب عنه عدة فروع: الحقوق الثلاثة التي يعتبرها الإفرنج، وتسمى بالنواميس. وهي الحقيق الطبيعية، والحقوق البشرية، والحقوق الوضعية، وعلم أحوال البلدان مصالحها وما يليق بها، وعلم الاقتصاد في المصاريف وعلم تدبير المعاملات والمحاسبات، والخازندارية وحفظ بيت المال.
  • العلم الثاني: علم تدبير العسكرية.
  • العلم الثالث: علم القبطانية، والأمور البحرية.
  • العلم الرابع: فن معرفة المشي في مصالح الدول،١٣ يعني علم السفارة، ومنه (الإيلجبة)،١٤ وهي رسالة البلدان. وفروعه: معرفة الألسن، والحقوق، والاصطلاحات
  • العلم الخامس: فن المياه،١٥ وهو صناعة القناطر، والجسور، والأرصفة، والفساقي، ونحو ذلك.
  • العلم السادس: الميكانيقا،١٦ وهي آلات الهندسة، وجر الأثقال.
  • العلم السابع: الهندسة الحربية.
  • العلم الثامن: فن الرمي بالمدافع وترتيبها، وهي فن (الطوبجية).
  • العلم التاسع: فن سبك المعادن، لصناعة المدافع والأسلحة وغيرها.
  • العلم العاشر: علم الكيميا، وصناعة الورق، والمراد بالكيميا معرفة تحليل الأجزاء وتركيبها، ويدخل تحتها أمور كثيرة؛ كصناعة البارود والسكر وليس المراد بالكيميا حجر الفلاسفة، كما يظنه بعض الناس، فإن هذا لا تعرفه الإفرنج، ولا تعتقده أصلاً.
  • العلم الحادي عشر: فن الطب، وفروعه: فن التشريح، والجراحة، وتدبير الصحة، وفن معرفة مزاج المريض، وفن البيطرة؛ أي معالجة الخيل وغيرها.
  • العلم الثاني عشر: علم الفلاحة، وفروعها: معرفة أنواع الزروع وتدبير الخلا بالبناء اللائق به، وغيرها، ومعرفة ما يخصه من آلات الحراثة المدبر للمصاريف.
  • العلم الثالث عشر: علم تاريخ الطبيعيات، وفروعه: الحيوانات، ومرتبة النباتات، ومرتبة المعادن.
  • العلم الرابع عشر: صناعة النقاشة، وفروعها، فن الطباعة، وفن حفر الأحجار ونقشها، ونحوها.
  • العلم الخامس عشر: فن الترجمة، يعني ترجمة الكتب، وهو من الفنون الصعبة، خصوصًا ترجمة الكتب العلمية، فإنه يحتاج إلى معرفة اصطلاحات أصول العلم المراد ترجمتها، فهو عبارة عن معرفة اللسان المترجم عنه وإليه، والفن المترجم فيه.

فإذا نظرت بين الحقيقة (ص ١٣، ١٤) رأيت سائر هذه العلوم المعروفة معرفة تامة لهؤلاء الإفرنج ناقصة أو مجهولة بالكلية عندنا، ومن جهل شيئًا فهو مفتقر لمن أتقن ذلك الشيء، وكلما تكبر الإنسان عن تعلمه شيئًا مات بحسرته، فالحمد لله الذي (أنقذنا) من ظلمات جهل هذه الأشياء الموجودة عند غيرنا، وأظن أن من له ذوق سليم، وطبع مستقيم يقول كما أقول، وسأذكر بعضها بالاختصار في آخر الكتاب إن شاء الله تعالى، وهو المستعان.

الباب الثالث من المقدمة

[في ذكر وضع البلاد الإفرنجية، ونسبتها إلى غيرها من البلاد، ومزية الأمة الفرنساوية على من عداها من الإفرنج، (وبيان وجه الحكمة في) إرسالنا (إليها)، دون ما عداها من ممالك الإفرنج.]

فنقول: اعلم أن الجغرافيين من الإفرنج قسموا الدنيا — من الشمال إلى الجنوب، ومن المشرق إلى المغرب — خمسة أقسام، وهي: بلاد أوروبا (بضم الهمزة والراء وتشديد الباء) وبلاد (آسيا «بكسر السين»)، وبلاد «الأفريقة»، وبلاد «الأمريقة «وجزائر البحر المحيط المسماة «الأوقيانوسية».

فبلاد «أوروبا» محدودة جهة الشمال بالبحر المتجمد، المسمى: ببحر الثلج الشمالي، وجهة الغرب ببحر الظلمات المسمى: البحر المظلم، والبحر الغربي، وجهة الجنوب ببحر الروم، المسمى: البحر المتوسط والأبيض، وبلاد «آسيا» وجهة الشرق ببحر «الخزر»، (بضم الخاء والزاي، آخره راء)، ويقال له: بحر الحَزَز، (بحاء مهملة مفتوحة، ثم زايين معجمتين، أولاهما مفتوحة)، ويسمى أيضًا: بحر جرجان وبحر طبرستان، وببلاد آسيا.

فحينئذ بلاد أوروبا تقال على بلاد الإفرنج، وبلاد الأروام، وبلاد قسطنطينية، وبلاد الخزر،١٧ والبلغار، والأفلاق، والبغدان،١٨ والسرب، وغيرهما.

وهي نحو ثلاث عشرة أرضًا، أي ولاية أصلية: أربعة منها في الشمال: وهي بلاد الإنكليز، وبلاد «دانيمرق»، (بكسر النون وفتح الميم، وسكون الراء)، وبلاد «أسوج»، (بفتح الهمزة،، وسكون السين، وكسر الواو)، وبلاد «الموسقو».

وستة في الوسط، وهي: «بلاد الفلمنك»، وبلاد الفرنسيس، وبلاد «السويسة» وبلاد «النيمسة»، وبلاد البروسية (بضم الباء)، وبلاد «جرمانية» المتعاهدة.

وثلاثة في الجنوب، وهي: بلاد (ص ١٤، ١٥) إسبانيا مع «البورتوغال» وبلاد «إيطاليا»، وبلاد «الدولة العلية العثمانية» في بلاد «أوروبا» التي هي: بلاد الأروام، والأرناؤط والبشتاق، والسرب، (بالباء أو الفاء)، وبالبلغار، والأفلاق، والبغدان (بضم الباء، وسكون الغين).

فمن ذلك تعلم أن تفسير بعض المترجمين بلاد أوروبا وبلاد الإفرنج فيه قصور، اللهم إلا أن تكون بلاد الإفرنج تطلق على ما يعم بلاد الدولة العلية، ولكن يناقض ذلك أن (مترجمي) الدولة العثمانية يقصرون بلاد «أفرنجستان» على ما عدا بلادهم من بلاد أوروبا، ويسمون بلادهم ببلاد الروم، وإن كانوا يعممون أيضًا في لفظ الروم، فيريدون به بعض الأحيان ما يعم بلاد الإفرنج، وبعض البلاد الداخلية في حكمهم من بلاد «آسيا».

وبلاد «آسيا» محدودة أيضًا جهة الشمال بالبحر المتجمد الشمالي، وجهة الغرب ببلاد «أوروبا» و«الأفريقية». وجهة الجنوب ببحر الهند، وبحر الصين، وجهة الشر ببحر الجنوب المحيط، وببحر بِهرنغ.١٩ (بكسر الباء، وسكون الهاء، وفتح الراء، وسكون النون، وبالغين أو الكاف).

وهي تنقسم أيضًا إلى عشر أراض أصلية: واحدة جهة الشمال، وهي بلاد «سبير».

وسبعة في الوسط، وهي: بلاد الدولة العلية العثمانية التي هي «الشام»، و«أرمينية»، «كردستان» و«بغداد» و«البصرة»، و«قبرص»، وغيرها، ثم بلاد العجم، وبلاد «بلوجستان» وبلاد «قابولستان»، و«أفغهانستان» وبلاد «التتار الأكبر»، وبلاد الصين، وبلاد «يابونيا».٢٠

واثنان في الجنوب، وهي: بلاد العرب، وبلاد الهند؛ فبلاد الحجاز، وبلاد الوهابية تحت حكم الدولة العلية، وبلاد اليمن تحت حمايتها، وبلاد عمَّان مستقلة، وكلها أقاليم جزيرة العرب.

فهذه هي ولايات آسيا.

ثم بلاد «الأفريقية»، وهي محددة جهة الشمال ببحر الروم، وجهة الغرب بالبحر الأطلنتيقي، المسمى: بحر الظلمات ويسمى بحر المغرب، وجهة الجنوب بالبحر المحيط الجنوبي، وجهة الشرق ببحر الهند، «وببغاز باب المندب» وببحر «القلزم»، المسمى: البحر الأحمر، وببلاد العرب.

ويمكن تقسم «الأفريقية» إلى ثمان أراض أصلية: اثنتان في الشمال، وهي: بلاد المغاربة، وبلاد مصر.

وأربعة في الوسط، وهي: «السينيغبينيا»،٢١ وبلاد «الزنج»، وبلاد «النوبة، وبلاد «الحبشة».
واثنتان في الجنوب وهما: بلاد «غينا» وبلاد «كفرية».٢٢

فهذا ما يسمى الآن عند الإفرنج: بلاد أفريقية، وإن كانت «إفريقية» في الأصل بلدة (ص ١٦) معلومة جهة «تونس» وما حواليها، ثم أضيف إلى بلاد أوروبا ما قاربها من الجزائر، وكذلك لبلاد «آسيا» و«أفريقية» وهذه الأقسام الثلاثة يعني «أوروبا» و«آسيا» و«أفريقية» تسمى: الدنيا القديمة. أو الأرض القديمة، يعني المعروفة للقدماء.

وأما بلاد «أمريكة» أو «أمريقة»، (بالكاف أو القاف) فتسمى: الدنيا الجديدة، وتسمى أيضًا: الهند الغربي، وتسمى في بعض الكتب العربية (عجائب المخلوقات).

وهي إنما عرفت للإفرنج بعد تغلب النصارى على بلاد الأندلس، وإخراج العرب منها، فإن هذا الوقت كان مبدأ للسياحة، وجوب البحر المحيط، واستكشاف البلاد بإعانة الدول لأرباب الأسفار والملاحة.

وأما الآن فقد كانت السياحة تكون عند الإفرنج فنًا من الفنون، فليس كل أحد يحسنها، ولا كان دولة تتقنها؛ وذلك أنه لما كثرت الآلات الفلكية والطبيعية، سهلت الاستكشافات البرية والبحرية، وتداولت الأسفار، واستكشفت الأماكن والأقطار، وضم إلى ما يعرف من قديم الزمان، هذه الدنيا الجديدة التي انتظمت في سلك معرفة أولى العرفان.

ثم زاد الحال باختراع سفن النار، ومراكب البخار، فتقاربت الأقطار الشاسعة، وتزاورت أهالي الدول، وصارت المعاملات والمخالطات بينها متتابعة.

ومما قام مقام آلات السياحة قبل ابتداعها، وناب عن أدوات الملاحة قبل اختراعها، الأنوار المحمدية، والغيرة الإسلامية، بل والمعارف الوافرة في العلوم الرياضية والفلكية والجغرافية، في زمن الخلفاء العباسية، ففتحوا بلاد مصر، والسودان، والمغرب، والعجم، وبلاد قابول، وبخارى، والهند، والسند، وجزائر سيلان، وسومطرة، وبلاد التبت، والصين، وعدة ولايات ببلاد أوروبا، مثل ممالك الأندلس، وصقلية، وبلاد الروم، وغير ذلك.

وتقدمت عندهم العلوم الجغرافية، واشتهر من علماء الجغرافية كثيرون كالمسعودي،٢٣ وابن حوقل،٢٤ والشريف الإدريسي،٢٥ وابن الوردي،٢٦ والسلطان عماد الدين أبي الفدا صاحب حماة.٢٧
ثم لما خمدت عندهم أنوار هذه المعارف، وأهملوها ازدراء لها، أو لسبب آخر، قلت سياحاتهم، وقام مقامهم طوائف الإفرنج، وبرعوا في ذلك، واستفادت الدولة والرعية الفوائد الجسيمة، بالأمور السياسية والتجارية (ص ١٧)، وصيروا الأمم أشباه البهائم إلى ملة النصرانية، وكان الإسلام أولى بتلك المزية، ولقد تصدى (الحاكم)، لإحياء هذه المعارف، التليد منها والطارف، حتى لاحت تباشير بدور٢٨ العلوم، وتلاشت عن المعارف غياهب الأحلاك والغيوم. (شعر):
وإذا رأيت من الهلال نموه
أيقنت أن سيصير بدرًا كاملاً
ثم إن بلاد «الأمريقة» تتصل بستة بحور، فيتصل بها جهة الشمال البحر المحيط المتجمد وبحر بافين،٢٩ ومن جهة الشرق ببحر المغرب، وببحر جزائر «الأنتيلة»،٣٠ وبالبحر المحيط الأكبر، المسمى «أقيانوس»، «وبحر بهرنغ» جهة الغرب.

وهي قسمان: الأمريقة الشمالية، والأمريقة الجنوبية.

فأمريقة الشمالية ست أراض أصلية، وهي: الأمريقة الرسية،٣١ أو المحكومة بالموسقو، وبلاد «أغرونلنده»،٣٢ وبلاد «بريطانية الجديدة»،٣٣ أو بلاد الإنكليز الجديدة، وبلاد «الإيتازونيا»، وهي الأقاليم المجتمعة،٣٤ وبلاد «مكسيك» وبلاد «غواتيمالا».
والأمريقة الجنوبية تسع أراض، وهي: بلاد «كلنبيا» وبلاد «أبريزيلة»،٣٥ وبلاد «برو»، وبلاد «بولوية»،٣٦ وهي: «برو العليا»، وبلاد «براغية»،٣٧ وبلاد «بلاطة»،٣٨ وبلاد «شلي»، (بكسر الشين، وتشديد اللام المكسورة»، وبلاد «إبتاغونيا» (بفتح الباء والتاء، وضم الغين، وكسر النون).
وأما جزائر البحر المحيط، فإنها غربي بلاد الأمريقة، وعلى الجنوب الشرقي من بلاد «آسيا»، وهي محددة «من سائر جهاتها بالبحر المحيط وهي، ثلاثة أجزاء أصلية «النوتازية»٣٩ (بضم النون المشددة، وكسر الزاي).

«والأستورالية»، (بضم الهمزة، وسكون السين، وضم التاء، وكسر اللام) «والبولينيزية»، (بضم الباء، وكسر اللام، والنون والزاي).

«ثم بلاد» أوروبا فيها أربعة بنادر أصلية مشهورة بالتجارة: «إسلامبول» تخت الدولة العلية، و«لوندرة»، (بضم اللام، وسكون النون، وفتح الدال) تخت بلاد الإنكليز، «وباريس» تخت بلاد الفرنسيس، «ونابُلي»، (بضم الباء) ببلاد «إيطاليا».

والبنادر الأصلية ببلاد آسيا أربعة أيضًا: بكين، (بكسر الباء والكاف) قاعدة بلاد الصين، «وقلَقوطة»، (بفتح القاف واللام، وضم القاف)، ويقال «كلكتة»، (بكافين) قاعدة بلاد الهند التي تحت حكم الإنكليز، «وصورة»، ببلاد الهند أيضًا، ويقال: هي التي كانت تسمى: «المنصورة»، «ومياقو»، (ص ١٨) (بكسر الميم، وضم القاف) في بلاد جزيرة «يابونيا».

والبنادر الأصلية ببلاد «الأفريقية» أربعة: «القاهرة» قاعدة مصر، «وسنار» قاعدة حاكم بلاد النوبة، والجزائر، وتونس ببلاد المغاربة.

والبنادر الأصلية ببلاد «أمريقة الشمالية» هي: «مكسيكو» ببلاد «مكسيك» «ونويرق»٤٠ في بلاد «الأيتازونيا»، «وفيلادلفيا»، (بكسر الفاء والدال، وسكون اللام، وكسر الفاء. ومدينة «وسهنغتون»٤١ (بسكون السين، وكسر الهاء، ثم نون ساكنة بعدها غين مكسورة).

وأربعة في «أمريقة الجنوبية»، وهي: «ريوجانير» (بكسر الراء، وضم الياء وكسر النون) في بلاد «أبريزيلة» «وبنو سيرس»، (بكسر الباء والسين والراء) في بلاد «بلاطة»، «وليمة»، (بكسر اللام) في بلاد «برو»، «وقيطو»، (بكسر القاف) في بلاد «غرناطة الجديدة».

وفي بلاد البحر المحيط بندران شهيران، وهما: مدينة «بتاويا»، بندر جزيرة «جاوة»، ومدينة «مانيلة»، الواقعة في جزيرة «مانيلة» إحدى جزائر «فيليبينة» فهذه المدينة هي قاعدة جميع هذه الجزائر.

ثم إن بلاد «أوروبا» أغلبها نصارى، وبلاد الدولة العلية هي بلاد الإسلام بهذه القطعة.

وأما بلاد «آسيا» فإنها منبع بلاد الإسلام، بل وسائر الأديان، وهي أوطان الأنبياء والمرسلين، وبها نزلت سائر الكتب السماوية، وهي تتضمن أشرف الأماكن والأرض المباركة، والمساجد التي لا تشد الرحال إلا إليها، وفيها منشأ ومضم عظام سيد الأولين والآخرين، والصحابة، وهي منشأ الأئمة الأربعة (رضي الله تعالى عنهم) لأن منشأ الإمام الشافعي (رضي الله عنه) غزة، ومنشأ الإمام مالك (رضي الله عنه) المدينة المشرفة، ومنشأ الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان الكوفة، ومنشأة الإمام أحمد بن حنبل بغداد، التي كانت (كما قيل) في أيام الخلفاء، بالنسبة للبلاد، كالأستاذ في العباد، وكلها من بلاد «آسيا».

وبها، يعني ببلاد «آسيا» العرب، وهم أفضل القبائل على الإطلاق، ولسانهم أفصح الألسن باتفاق، وفيهم بنو هاشم، الذين هم مُلَح الأرض، وزُبَدة المجد، ودرع الشرف.

ومما يدل على فضلها أن بها الأماكن المفضلة؛ كالقبلة، التي يجب على كل إنسان أن يتوجه إليها خمس مرات في اليوم والليلة، والمدينتين اللتين نزل بهما القرآن العظيم، ففضائلها لا تحصى، وآثار أهلها لا تستقصى، قال بعض أهلها:

عطفة، يا جيرة «العلم»٤٢
يا أهيل الجود والكرم
نحن جيران لذا «الحرم»
حرم الإحسان والحسن

•••

نحن أقوام به سكنوا
وبه من خوفهم أمنوا
وبآيات الكتاب عنوا
فاتئد فينا أخا الوهن
نعرف «البطحا»، وتعرفنا
و «الصفا» و«البيت» يألفنا
ولنا «المعلى»، «وخيف» منى
فاعلمن هذا، وكن، وكن
ولنا خير الأنام أب
و«عليّ المرتضى» حسب
وإلى «السبطين» ننتسب
نسبًا ما فيه من دخن٤٣

ومع إن الإسلام قد تولد فيها، وانتشر منها إلى غيرها، ففيها جزء عظيم باق على الاتباع أو الكفر؛ كبلاد الصين، وبعض بلاد الهند، وجزء سالك في إسلامه طريق الضلال، كروافض العجم.

وأما بلاد «أفريقية» فإنها تشتمل على أعظم البلاد؛ كبلاد مصر التي هي من أعظم البلاد وأعمرها، وهي أيضًا عش الأولياء والصلحاء والعلماء، وكبلاد المغرب التي أهلها أهل صلاح وتقى وعلم وعمل، وإن شاء الله يمتد بها الإسلام.

وأما «أمريقة» فهي بلاد كفر؛ وذلك أنها كانت عامرة في الأصل بهمل عبدة الأصنام، فتغلب عليها الإفرنج لما قويت شوكتهم في الفنون الحربية، ونقلوا إليها جماعة من بلادهم، وأرسلوا إليها قسيسين، فتنصر كثير من أهلها، فالآن بلاد «أمريقة» غالبها نصارى إلا الهمل، فهم وثنيون ولم يوجد بها دين الإسلام، وسببه قوة الإفرنج في علم ركوب البحر، ومعرفتهم العلوم الفلكية والجغرافية، ورغبتهم في المعاملات والتجارات، وحبهم للسفر، قال الشاعر:

إن العلا حدثتني، وهي صادقة
فيما تحدث: أن العز في الثقل
لو أن في شرف المأوى بلوغ منى
لم تبرح الشمس يومًا دارة الحمل

وقال آخر:

قلقل ركبك للفلا
ودع الغواني والقصور
فمحالفو أوطانهم
أمثال سكان القبور
لولا التغرب ما ارتقت
درر البحور إلى النحور

وقال الحريري:

لجوبُ البلاد مع المتربة
أحبُّ إلي من المرتبة

وقال غيره:

قم واغترب في البلاد مجتهدًا
فمن ثوى في بلاده هانا
كبيدق لا يزال محتقرًا
حتى إذا سار فرزانا٤٤

وقال:

أنفق من الصبر الجميل، فإنه
لم يخش فقرًا منفقٌ من صبره
والمرء ليس ببالغ في أرضه
كالصقر ليس بصائدٍ في وكره

ومن المعلوم أن الدر والمسك لا يشرفان ما لم يفارقا وطنهما ومعدنهما، وكل هذا لا ينافي أن حب الوطن من شعب الإيمان؛ لأن المقصود السياحة، والأخذ في أسباب طلب الرزق، وهذا لا يمنع من تعلق الإنسان بوطنه ومسقط رأسه، فإن هذا أمر جبِلِّي، قال الشاعر:

يا بعيد الدار عن وطنه
مفردًا يبكي على شجنه
كلما جد الرحيل به
زادت الأسقام في بدنه

وقال غيره:

ولقد زاد الفؤاد شجى
طائر يبكي على فننه
شفه ما شفني، فبكى
كلنا يبكي على سكنه

ولا ينافي أيضًا هذا الأمر مادة التوكل والاعتماد على المولى، كما يفهم من كلام الشاعر في قوله:

لقد علمت، وما الإسراف من خلقي
أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى إليه، فيعييني تطلبه
ولو قعدت أتاني ليس يعييني٤٥

وقول الآخر:

اقنع بأيسر رزق أنت نائله
واحذر، ولا تتعرض للإرادات
فما صفا البحر إلا وهو منتقص
وما تكدر إلا في الزيادات

فإن هذا معناه التسلية لمن لا يحب الأسفار، أو النهي عن السفر للطمع.

وأما بلاد (ص ٢٢) جزائر البحر المحيط، فإنها قد فتح كثير منها بالإسلام، كجزيرة «جاوة»، فإن أهلها مسلمون، وبالجملة فبلاد «النوتازية» أغلبها إسلام، وندر وجود دين النصرانية فيها.

ومن ذلك كله تعلم أنه يمكن أن أقسام الدنيا الخمسة يصح تفضيل بعضها على بعض، ويعني تفضيل جزء بتمامه على الآخر بتمامه، بحسب مزية الإسلام وتعلقاته، فحينئذ تكون «آسيا» أفضل الجميع، ثم تليها «أفريقية» لعمارها بالإسلام والأولياء والصلحاء، خصوصًا باشتمالها على مصر القاهرة، ثم تليها بلاد «أوروبا» لقوة الإسلام، ووجود الإمام الأعظم، إمام الحرمين الشريفين، سلطان الإسلام فيها، ثم بلاد الجزائر البحرية؛ لعمارها بالإسلام أيضًا مع عدم تبحرها في العلوم كما هو الظاهر، فأدنى الأقسام بلاد «أمريكة»؛ حيث لا وجود للإسلام بها أبدًا، هذا ما يظهر لي، والله أعلم بالصواب.

وهذا كله بالنظر للإسلام، والأمور الشرعية، والشرف الذاتي، فإن المراد بالشرف ما يعم الشرعي وغيره، فلا يقال: أن أغلب ذلك من باب المزية، وهي وحدها لا تستدعي أفضلية.

ولا ينكر منصف أن بلاد الإفرنج الآن في غاية البراعة في العلوم الحكمية وأعلاها في التبحر في ذلك، بلاد الإنكليز، والفرنسيس، والنمسا، فإن حكماءها فاقوا الحكماء المتقدمين، كأرسطاطاليس، وأفلاطون، وبقراط، وأمثالهم، وأتقنوا الرياضيات، والطبيعيات، والإلهيات، وما وراء الطبيعيات أشد إتقان، وفلسفتهم أخلص من فلسفة المتقدمين؛ لما أنهم يقيمون الأدلة على وجود الله تعالى، وبقاء الأرواح، والثواب والعقاب.

فأعظم مدائن الإفرنج مدينة «لوندرة»، وهي كرسي الإنكليز، ثم «باريز»، وهي قاعدة ملك فرنسا، و«باريز» تفضل على «لوندرة» بصحة هوائها، كما قيل، وطبيعة القطر والأهل، وبقلة الغلاء التام.

وإذا رأيت كيفية سياستها، علمت كمال راحة الغرباء فيها وحظهم وانبساطهم مع أهلها، فالغالب عن أهلها البشاشة في وجوه الغرباء، ومراعاة خواطرهم، ولو اختلف الدين؛ وذلك لأن أكثر أهل هذه المدينة إنما له من دين النصرانية الاسم فقط، حيث لا ينتحل دينه، ولا غيرة له عليه، بل هو من الفرق المحسّنة والمقبّحة بالعقل، أو فرقة من الإباحيين الذين يقولون: إن كل عمل يأذن فيه العقل صواب، فإذا ذكرت له دين الإسلام في مقابلة غيره من الأديان أثنى على سائرها، من حيث (ص ٢٣) إنها كلها تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وإذا ذكرته له في مقابلة العلوم الطبيعية قال: إنه لا يصدق بشيء مما في كتب أهل الكتاب؛ لخروجه عن الأمور الطبيعية.

وبالجملة ففي بلاد الفرنسيس يباح التعبد بسائر الأديان، فلا يعارض مسلم في بنائه مسجدًا، ولا يهودي في بنائه بيعة، إلى آخره، كما سيأتي في ذكره سياستها، ولعل هذا كله هو علة وسبب إرسال البعوث فيها هذه المرة الأولى أبلغ من أربعين نفسًا، لتعلم هذه العلوم المفقودة، بل سائر النصارى تبعث أيضًا إليها، فيأتي إليها من بلاد «أمريكة» وغيرها، من الممالك البعيدة، وقد بعث أيضًا عدة طلاب للعلوم ببلاد الإنكليز، لكنهم ليسوا عديدين، وكذلك ببلاد النمسا، وبالجملة فسائر الأمم تطلب العز، وتسعى إليه، كما قال الشريف الرضي: «اطلب العز، فما العز بغال».

ولا أعز من العلوم والفنون تطلبها الولاة والحكام، فإنهم كلما كانوا أجلَّ خطرًا، وجب أن يكونوا أدق نظرًا.

الباب الرابع

[في ذكر رؤساء هذه السفرة]
قد بعث الوالي في السفر إلى بلاد فرنسا ثلاثة رؤساء من أكابر ديوانه، وجعلهم رباط نظر عام على من عداهم، وهم على هذا الترتيب:
  • فأولهم: صاحب الرأي التام، والمعرفة والأحكام، حائز فضيلتي السيف والقلم، والعارف برسوم العرب والعجم. حضرة عبدي أفندي المهردار.
  • والثاني: صاحب الرأي السديد، والطالع السعيد، حضرة مصطفى مختار أفندي الدويدار.
  • والثالث: الحاوي بين العلم والعمل، واليراع والأسل: حضرة الحاج حسن أفندي الإسكندراني، بلغه الله في الدارين الأماني. (آمين).
ثم إن حضرة الأفندية الثلاثة كانوا يتعلمون أيضًا كالباقي، فحضرة الأفندي المهردار سابقًا اشتغل بعلم تدبير الأمور الملكية، وحضرة الأفندي الدويدار سابقًا (يشتغل)٤٦ بعلم تدبير الأمور العسكرية. وحضرة الحاج حسن أفندي يشتغل بعلم القبطانية والهندسة البحرية.

وكان لسائر الثلاثة اجتهاد زائد، وتحصيل بالغ، مع أن الأمرية في الغالب تأنف ذلك، وقد كان حكم هؤلاء الثلاثة بالنوبة (ص ٢٤، ٢٥) فكانت نوبة الواحد يومًا، والآخر يومًا آخر وهكذا، فآل الأمر إلى أن صارت شهرًا شهرًا، ثم صار الأفندي المهردار وحده.

ثم إن حضرة الأفندية الثلاثة كان معهم في تدبير الدروس جناب «مسيو جومار» الذي (عين) ناظرًا على الدروس، وهو أحد علماء «الأنستتوت»،٤٧ (بفتح الهمزة، وسكون النون، وكسر السين) أي مشورة٤٨ العلماء وأكابرهم، والذي يتراءى في طبعه ويشاهد منه دائمًا أنه يرغب في الاعتناء بمصالح مصر من جهة نشر المعارف والعلوم فيها، بل وفي سائر بلاد «الأفريقية»، كما يفهم ذلك من حاله، ومما قاله في طالعة «رزنامته»٤٩ التي ألفها سنة ألف ومائتين وأربعة وأربعين من الهجرة: «وشهرة معارف «مسيو جومار» وحسن تدبيره يوقع في نفس الإنسان من أول وهلة تفضيل القلم على السيف؛ لأنه يدبر بقلمه ما لا يدبر غيره بسيفه ألف مرة، ولا عجب؛ فبالأقلام تساس الأقاليم، وهمته في مصالح العلوم سريعة، كثيرة التأليف والاشتغال.

الغالب أن هذه الخصلة في سائر علماء الإفرنج، فإن مثل الكاتب كالدولاب إذا تعطل تكسر، وكالمفتاح الحديد، إذا ترك ارتكبه الصدأ، وجناب «مسيو جومار» يشتغل بالعلوم آناء الليل، وأطراف النهار، وسيأتي ذكره عدة مرات، وسنذكر لك عدة من مكاتيبه التي وصلت بيدي، إن شاء الله تعالى.

وهنا انتهت المقدمة.

١  في المطبوعة: يعبدونه.
٢  في المطبوعة: في الصنايع.
٣  في المطبوعة: أمريقة.
٤  القدم: السبق والتقدم.
٥  الفضالة كالفضلة: البقية.
٦  الميقاتية: هم الذين يحددون الوقت ويبينون ساعات الليل والنهار، لمعرفة أوقات الصلاة.
٧  هو اصطفان بن «بازيل» من تلامذة حنين بن إسحق، وأول من قام بترجمة كتاب Dioscorides في الطب.
٨  في المطبوعة: قبول.
٩  الرواية المشهورة: لا ينصحان إذا هما لم يكرما.
١٠  زيادة في الطبعة الثانية. وليست في الطبعة الأولى.
١١  المقاصد، والدلائل، والمحصول، والمواقف، والمراصد، والنجاة، والإرشاد، والتبيان، والإيضاح، والمصباح، والتلويح، والتوضيح، والوجيز أسماء لكتب شرعية ولُغوية ونحوية.
١٢  الغواشي: جمع غاشية، وهي الغطاء.
١٣  ترجمة لـ La Diplomatie.
١٤  عرف رفاعة (الأيلجية) بأنهم رسل البلاد، ولعلهم الوزراء المفوضون، مأخوذة في الفرنسية من مادة Eligibilité ومنها.
١٥  ترجمة لـ L’Hidraulique.
١٦  الهندسة الحربية.
١٧  تقع إلى الغرب والشمال لبحر قزوين.
١٨  الأفلاق والبغدان يكونون دولة رومانيا الحديثة.
١٩  يفصل بين شبه جزيرة ألاسكا وقارة آسيا.
٢٠  هي اليابان.
٢١  في المطبوعة: السينغنيا.
٢٢  عرفها رفاعة في مقدمة كتاب (قلائد المفاخر) ص ٧٥، فقال: كفرية (بضم الكاف وفتحها) … ولاية في جنوب أفريقية، جهة إقليم زنجبار.
٢٣  جغرافي فقيه، أديب: توفي بدمشق ٥٨٤هـ (١١٨٨م).
٢٤  رحالة جغرافي له كتاب «المسالك والممالك» (توفي نحو سنة ٣٨٠هـ-٩٩٠م).
٢٥  مؤرخ ومن أكابر العلماء بالجغرافيا، ورحالة، له كتاب «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» (٤٩٣-٥٦٥هـ) (١١٠٠-١١٦٥م).
٢٦  توفي سنة ٧٤٩هـ.
٢٧  أمير مؤرخ جغرافي، له «تقويم البلدان» (٦٧٢-٧٣٢هـ) (١٢٧٣-١٢٣٢م).
٢٨  في الأصل «بدو».
٢٩  يفصل بين جرينلاند وأمريكا الشمالية.
٣٠  جزائر كثيرة متناثرة شرق أمريكا الوسطى.
٣١  هي شبه جزيرة «ألاسكا».
٣٢  هي ما تسمى اليوم: «جرين لاند Greenland».
٣٣  Nouvelle-Bretagne-New England.
٣٤  نسميها اليوم بالولايات المتحدة Etas-Units.
٣٥  البرازيل Brasil.
٣٦  بوليفا Bolivie.
٣٧  براجواي Paraguay.
٣٨  دلتا نهر بلانا، وهي جزء من البرازيل.
٣٩  هي إندونيسيا Indonecie.
٤٠  هي. نيويورك New York.
٤١  هي واشنطون Washington.
٤٢  العلم: الجبل.
٤٣  الدخن: الفساد.
٤٤  البيدق: الجندي الراجل، وهو اسم لقطعة في الشطرنج، والفرزان: الوزير، قطعة في الشطرنج أيضًا، يشير الشاعر إلى أن البيدق لا يزال يتحرك في مكانه من قطعة الشطرنج، إلى أن يحل في مكان الوزير. بعد أن يفقده صاحبه، فيكون مطلق الحرية في التحرك كما يشاء يمينًا ويسارًا وإلى الإمام، وإلى الخلف.
٤٥  في المطبوعة «لا يعييني».
٤٦  زيادة ليست في المطبوعة.
٤٧  كلمة فرنسية l’Institut.
٤٨  يريد بمشورة العلماء: مجلسهم.
٤٩  الرزنامة: كلمة تركية بمعنى تقويم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤