الفصل الرابع

في عادة سكنى أهل باريس وما يتبع ذلك

من المعلوم أن البلدة أو المدينة تبلغ من الحضارة على قدر معرفتها، وبعدها عن حالة الخشونة والتوحش، والبلاد الإفرنجية مشحونة بأنواع المعارف والآداب التي لا ينكر إنسان أنها تجلب الأنس وتزين العمران، وقد تقرر أن الملة الفرنساوية ممتازة بين الأمم الإفرنجية بكثرة تعقُّلها بالفنون والمعارف، فهي أعظم أدبًا وعمرانًا والبنادر أولى في العمارات عادة من القرى والضِياع. والمدن العظمى أولى من سائر البنادر وتحت المملكة أولى من سائر ما عداها من مدن تلك المملكة؛ فحينئذ لا عجب أن قيل: إن باريس التي هي قاعدة ملك الفرنسيس من أعظم بلاد الإفرنج بناء وعمارة، وإن كانت عماراتها غير جيدة المادة، فهي جيدة الهندسة والصناعة، على أنه ربما يقال أيضًا: أن مادتها جيدة إلا أنها ناقصة؛ لعدم كثرة حجر الرخام فيها، ولخلوها عن بعض أشياء آخر — كيف لا؟ وأساس حيطانها من أحجار النحاتة، وكذلك الحيطان الخارجية، وأما الداخلية ذاتها تتخذ من الخشب الجيد في الغالب، وأما عواميدها فهي غالبًا من النحاس، فقل إن كانت من الرخام، كما أن تبليط الأرض يتخذ من حجر البلاط، وقد يكون من الرخام الأسود مع البلاط؛ وذلك أن الطرق دائمًا مبلطة بحجر البلاط المربع، والحيشان مبلطة بالبلاط المذكور، والقيعان بالآجر أو بالخشب، أو بالمرمر الأسود مع البلاط المشغول، وجودة الحجر أو الخشب تختلف باختلاف يسار الإنسان.

ثم إن حيطان الغرفات والأرض من خشب كما تقدم، وهم يطلونه بالطلاء، ثم يسترون الحيطان بورق منقوش نقشًا نظيفًا، فهو أحسن من عادة تبييض الحيطان بالجير، فإن الورق لا يعود منه شيء على من مس الجدار، بخلاف الجير، بل وهو أهون مصرفًا وأعظم منظرًا وأسهل فعلا خصوصًا في (أوضاتهم) المزينة بأنواع من الأمتعة التي لا يمكن الإفصاح عنها، غاية ما يقال: إن الفرنساوية يحاولون أضعاف نور (الأرض) بوضع الستائر الملونة، خصوصًا الخضراء، وأرض أوضهم مبلطة بخشب أو بنوع من القرميد الأحمر، ويحكون أرض (الأوضة) كل يوم بالشمع الأصفر، المسمى عندهم شمع الحك، وعندهم حكّاكون بالأجرة، معدون لذلك بالخصوص، وتحت أسرتهم، المكسوَّة بالمخيشات وبالمشرجات وغيرها، سجادات عظيمة يطئونها بالنعال، وفي كل (أوضة) مدخنة للنار، وهي على شكل صفة القلل مرخمة بجيد الرخام، وفوقها ساعة «بشتختة»١ وحول الساعة من الجهتين آنية من تقليد الرخام الأبيض، أو من البلور، فيها أزهار أو تقليد أزهار، وحول هذا من الجهتين القناديل الإفرنجية الدولابية التي لا يدرك صورتها حقيقية إلا من رآها موقودة، وفي غالب (أوضهم) آلات الموسيقى المسماة «البيانو» (بكسر الباء وضم النون)، فإذا كانت (الأوضة) أوضة شغل وقراءة ففيها طاولة مشتملة على آلات الكتابة وغيرها، مثل سكاكين قطع الورق المصنوعة من العاج أو البقس٢ أو غيرهما، وأغلب (الأوض) مشحونة بالصور، خصوصًا صور الأقارب، وفي (أوضة) الشغل أيضًا قد توجد صورة «عجيبة» وأشياء من غرائب ما كان عند القدماء على اختلافهم.

وربما رأيت على طاولة الشغل أوراق الوقائع على اختلاف أجنساها، وربما رأيت كذلك في (أوض) الأكابر (النجفات) العظيمة التي توقد بشموع العسل، وربما رأيت أيضًا في (أوضهم) في يوم تبقى الناس طاولة وعليها جميع الكتب المستجدة والوقائع وغيرها لتسلية من أراد من الضيوف أن يسرح ناظره، وينزه خاطره في قراءة هذه الأشياء، وهذا يدل على كثرة اهتمام الفرنساوية بقراءة الكتب، فهي أنسهم.

ومن التوقيعات اللطيفة: الكتاب وعاء مليء علما، وظرف حشى ظرفًا، ومن لك بروضة تقلب في حجر وبستان يحمل في كم، وما أحسن قول بعضهم شعرًا:

دفتري مؤنسي وفكري سميري
ويدي خادمي، وحلمي ضجيعي
ولساني سيفي، وبطشي قريضي
ودواتي عيشي، ودرجي ربيعي

وقال آخر:

لنا جلساء ما يمل حديثهم
ألبَّاء مأمونون غيبًا ومشهدًا
يفيدوننا من علمهم علم ما مضى
وعقلاً وتأديبًا ورأيًا مسددًا
فإن قلت أموات فما أنت كاذب
وإن قلت أحياء فلست مفندًا
ومن كلام بعضهم: نعم المحدث الدفتر، ومن كلام بعض الظرفاء: ما رأيت باكيًا أحسن تبسمًا من القلم. ثم إن جميع هذه التحف يكمل الأنس بها بحضور سيدة البيت — أي: زوجة صاحبه التي تحيي الضيوف أصالة، وزوجها يحييهم بالتبعية — فإن هذه (الأوض) بما احتوت عليه من اللطائف من (أوضنا) التي يحيا فيها الإنسان بإعطاء شبق٣ الدخان من يد خادم في الغالب قبيح اللون.

وأما السقوف فإنها من الخشب النفيس، ثم إن البيت في العادة مصنوع من أربع طبقات، بعضها فوق بعض ما عدا البناء الأرضي، فلا يحسب دورًا وقد يصل إلى سبعة أدوار، وغيرها تحت الأرض من المخادع التي تستعمل أيضًا لربط الخيل، أو المطبخ وذخائر البيت، وخصوصًا النبيذ والخشب للوقود.

ثم إن البيت عندهم كما في بيوت القاهرة، مشتمل على عدة مساكن مستقلة ففي كل دور من أدوار البيت جملة مساكن، وكل مسكن متنافذ (الأوضات)، وقد جرت عادتهم بتقسيم البيوت إلى ثلاث مراتب؛ المرتبة الأولى: بيت عادي. والثانية: بيت لأحد من الكبار، والثالثة: بيوت الملك وأقاربه ودواوين المشورة ونحوها، فالأول يسمى: بيتًا، والثاني يسمى: دارًا، والثالث يسمى: قصرًا أو (سراية).

ويمكن أيضًا تقسيم البيوت من حيثية أخرى إلى ثلاث مراتب أيضًا: المرتبة الأولى: البيوت التي لها حاجب، ولها باب كبير يسع دخول العربة منه، والثانية: البيوت التي داخلها دهاليز ولها بواب، ولا يمكن أن تدخل العربة من بابها، والثالثة البيوت التي لا بواب لها، أي لا مكان للبواب فيها يسكن فيه، ووظيفة البواب في باريس أن ينتظر الساكن إلى نصف الليل، فإذا أراد الساكن أن يسهر في المدينة زيادة عن الليل، فعليه أن ينبه البواب لينتظره، ولكن لا بد أن يعطيه بعض شيء، وليس على الحارات بواب أصلاً، وليس لها أبواب كما في مصر.

ثم إن العقارات بباريس غالية الثمن والكراء، حتى إن الدار العظيمة قد يبلغ ثمنها مليون فرنك، يعني نحو ثلاثة ملايين قروشًا مصرية، ثم إن كراء المساكن في باريس قد يكون لمجرد المسكن، وقد يستأجرها الإنسان بفراشها العظيم وجميع أثاثها وآلاتها.

وآلات البيت عند الفرنسيس هي آلات الطباخة والمأكل بأجمعها، بطقمها المشتمل على الفضيات ونحوها، وآلة الفراش للنوم، وهو في الغالب عدة طراحات؛ إحداها من الريش، وملاية فرشة تتغير كل شهر، وحرامات الغطاء، ثم آلات التجمل، وتلقي الزوار، وهي الكراسي المكسوة بالحرير ونحوه والشزلانات٤ المكسوة كذلك، والكراسي العادية والآلات العظيمة المنظر؛ كالساعات الكبيرة المسماة عندهم: «بندول» وكأواني الأزهار العظيمة، وغيرها من أواني القهوة المموهة بالذهب وكالنجعة المعلقة التي تتقد بالشموع المكررة، وكخزانة الكتب التي لها باب من (القزاز) يظهر منه ما فيها من الكتب جيدة التجليد، وكل إنسان له خزنة كتب، سواء الغني أو الفقير؛ حيث إن سائر العامة يكتبون ويقرءون.

والغالب أن الرجل ينام في (أوضة) غير التي تنام فيها زوجته، إذا تقادم الزواج.

ومن العوائد التي لا بأس بها أن قصر ملك فرنسا وقصور أقاربه تنفتح حين خروج السلطان وأقاربه كل سنة إلى الإقامة في الخلاء مدة أشهر، فيدخل سائر الناس للفرجة على بيت الملك وأقاربه، فيرون أثاث البيت وسائر الأشياء الغريبة، ولكن لا يدخل أحد إلا بورقة مطبوعة مكتوب فيها الإذن بدخول شخص أو شخصين أو أكثر، وهذه الورقة توجد عند كثير من الناس، فإذا طلبها الإنسان ممن يعرفه أعطاها له، فترى في البيت ازدحامًا عظيمًا للفرجة على جميع ما في حريم الملك وأقاربه، وقد دخلت ذلك عدة مرات فرأيته من الأمور العجيبة التي ينبغي التفرج عليها، وفيه كثير من الصور التي لا تمتاز عن الناس إلا بعدم النطق، وفيه مصور كثير من ملوك فرنسا وغيرهم، وكل أقارب السلطنة وكل الأشياء الغريبة، وأغلب الأشياء الموجودة في حريم السلطنة مستحسنة من جملة جودة صناعتها لا نفاستها بالمادة؛ مثلاً سائر الفراش كالكراسي والأسرِّة حتى كراسي المملكة مشغولة شغلاً عظيمًا بالقصب المخيش، ومطلية الذهب إلا أنه لا يوجد بها كثير من الأحجار الكريمة كما يوجد ببلادنا ببيوت الأمراء الكبار بكثرة، فمبنى أمور الفرنساوية في جميع أمورهم على التجمل لا على الزينة وإظهار الغنى والتفاخر.

ثم سائر الأغنياء «بباريس» يسكنون في الشتاء في نفس المدينة وقد أسلفنا في ذكر طبيعة إقليم «باريس» أن كل بيت به مداخن تتقد فيها النيران في القيعان (والأود) وأما في مدة الحر، فمن له يسار سكن في الخلاء؛ لأن القصور بالخلاء أسلم هواء من داخل المدينة، ومن الناس من يسافر في بعض بلاد فرنسا أو ما جاورها من البلاد؛ ليستنشق رائحة البلاد الغريبة، ويطلع على البلاد، ويعرف عوائد أهلها، خصوصًا في مدة من السنة تسمى عندهم مدة التعطيل، أو مدة الفراغ، يعني البطالة، حتى النساء فإنهن يسافرن وحدهن، أو مع رجل يتفق معهن على السفر، وينفقن عليه مدة سفره معهن؛ لأن النساء أيضًا متولعات بحب المعارف والوقوف على أسرار الكائنات والبحث عنها، أو ليس أنه قد يأتي منهن من بلاد الإفرنج إلى مصر؛ ليرى غرائبها من الأهرام والبرابي٥ وغيرها، فهن كالرجال في جميع الأمور. نعم قد يوجد منهن بعض نساء غنيات مستورات الحال يمكن من أنفسهن الأجنبي، وهن غير متزوجات فيشعرن بالحمل، ويخشين الفضيحة بين الناس، فيظهرن السفر لمجرد السياحة أو لمقصد آخر ليلدن، ويضعن المولود عند مرضِع بأجرة خاصة ليتربى في البلاد الغريبة، ومع هذا فالأمر ليس بشائع، وبالجملة «ما كل بارقة تجود بمائها» ففي نساء الفرنساوية ذوات العرض، ومنهن من هي بضد ذلك، وهو الأغلب لاستيلاء فن العشق في فرنسا على قلوب غالب الناس ذكورًا وإناثًا وعشقهم معلل؛ لأنهم لا يصدقون بأنه يكون لغير ذلك إلا أنه قد يقع بين الشاب والشابة فيعقبه الزواج.

ومما يمدح به الفرنساوية نظافة بيوتهن من سائر الأوساخ، وإن كانت بالنسبة لبيوت أهل الفلمنك كلاشيء فإن أهل الفلمنك أشد جميع الأمم نظافة ظاهرية، كما أن أهل مصر في قديم الزمان كانوا أيضًا أعظم أهل الدنيا نظافة، ولم يقلدهم ذراريهم وهم القبطة في ذلك.

وكما أن باريس نظيفة فهي خلية أيضًا من السميات، بل ومن الحشرات فلا يسمع بأن إنسانًا فيها لدغته عقرب أبدًا، وتعهد الفرنساوية تنظيف بيوتهم وملابسهم أمر عجيب، وبيوتهم دائمًا مفرحة بسبب كثرة شبابيكها الموضوعة بالهندسة وضعًا عظيمًا يجلب النور والهواء داخل البيوت وخارجها وظرفات٦ الشبابيك دائمًا من (القزاز) حتى إذا أغلقت فإن النور لا يحجب أصلاً، وفوقها دائمًا الستائر: للغني والفقير، كما أن ستائر الفرش التي هي نوع من الناموسية غالبة لسائر أهل باريس.
١  نوع من المناضد الصغيرة ذات الأدراج.
٢  اسم لنوع من الأشجار.
٣  الشبق: أنبوبة مجوفة من عود خشبي يثبت في أحد طرفيها الحجر الذي يوضع فيه التبغ وكانت تستعمل للتدخين في ذلك العصر.
٤  التي يسمى واحدها بالشازلون، أي الكراسي الطوال.
٥  المسلات.
٦  يريد ما يسمى الضرفة: المصراع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤