الفصل السابع

في منتزهات مدينة باريس

اعلم أن هؤلاء الخلق؛ حيث إنهم بعد أشغالهم المعتادة المعاشية لا شغل لهم بأمور الطاعات، فإنهم يقضون حياتهم في الأمور الدنيوية، واللهو، واللعب، ويتفننون في ذلك تفننًا عجيبًا.

فمن مجالس الملاهي عندهم محال تسمى «التياتر»١ (بكسر التاء المشددة، وسكون التاء الثانية)، «والسبكتاكل»٢ وهي يلعب فيها تقليد سائر ما وقع، وفي الحقيقة أن هذه الألعاب هي جد في صورة هزل، فإن الإنسان يأخذ منها عبرًا عجيبة؛ وذلك لأنه يرى فيها سائر الأعمال الصالحة والسيئة، ومدح الأولى، وذم الثانية، حتى إن الفرنساوية يقولون: إنها تؤدب أخلاق الإنسان وتهذبها، فهي وإن كانت مشتملة على المضحكات، فكم فيها من المبكيات، ومن المكتوب على الستارة التي ترخى بعد فراغ اللعب باللغة اللاطينية ما معناه باللغة العربية: «قد تصلح العوائد باللعب».

وصورة هذه «التياترات» أنها بيوت عظيمة لها قبة عظيمة، وفيها عدة أدوار كل دور له (أود) موضوعة حول القبة من داخله، وفي جانب من البيت مقعد متسع يطل عليه من سائر هذه (الأود) بحيث إن سائر ما يقع فيه يراه من هو في داخل البيت، وهو منور (بالنجفات) العظيمة، وتحت ذلك المقعد محل للآلاتية، وذلك المقعد يتصل بأروقة فيها سائر آلات اللعب، وسائر ما يصنع من الأشياء التي تظهر، وسائر النساء والرجال المعدة للعب، ثم إنهم يصنعون ذلك المقعد كما تقتضيه اللعبة، فإذا أرادوا تقليد سلطان مثلاً في سائر ما وقع منه، وضعوا ذلك المقعد على شكل (سراية) وصوروا ذاته، وأنشدوا أشعاره، وهلم جرا. ومدة تجهيز المقعد يرخون الستارة لتمنع الحاضرين من المنظر، ثم يرفعونها ويبتدئون باللعب، ثم إن النساء اللاعبات، والرجال يشبهون العوالم في مصر.

واللاعبون واللاعبات بمدينة باريس أرباب فضل عظيم، وفصاحة، وربما كان لهؤلاء الناس كثير من التآليف الأدبية والأشعار، ولو سمعت ما يحفظه اللاعب من الأشعار وما يبديه من التوريات في اللعب، وما يجاوب به من التنكيت والتبكيت لتعجبت غاية العجب.

ومن العجائب أنهم في اللعب يقولون مسائل من العلوم الغريبة والمسائل المشكلة ويتعمقون في ذلك وقت اللعب، حتى يظن أنهم من العلماء، بل الأولاد الصغار التي تلعب، تذكر شواهد عظيمة من علم الطبيعيات ونحوها، ثم إنهم يبتدئون اللعب بآلات الموسيقى،٣ ثم يلعبون ما يريدون لعبه، واللعبة التي تظهر تكتب في ورقة وتلصق في حيطان المدينة، وتكتب في التذاكر اليومية ليعرفها الخاص والعام وفي الليلة يلعبون اللعبات، وبعد فراغ كل لعبة ترخى الستارة، فإذا أرادوا مثلاً لعب شاه العجم ألبسوا لاعبًا لبس ملك العجم، وأحضروه وأجلسوه على كرسي.. وهكذا.

وهذه (السبكتاكلات) يصورون فيها سائر ما يوجد، حتى إنهم قد يصورون فرق البحر لموسى عليه السلام، فيصورون البحر ويجعلونه يتماوج حتى يشبه البحر شبهًا كليًا، وقد رأيت مرة في الليل أنهم ختموا (التياتر) بتصوير شمس وتسييرها، وتنوير (التياتر) بها حتى غلب نور هذه الشمس على نور النجف، حتى كان الناس في الصباح، ولهم أشياء أغرب من هذا، وبالجملة (التياتر) عندهم كالمدرسة العامة، يتعلم فيها العالم والجاهل.

وأعظم (السبكتاكلات) في مدينة باريس المسماة «الأوبرة» (بضم الهمزة وتشديد الباء المكسورة، وفتح الراء) وفيها أعظم (الآلاتية) وأهل الرقص، وفيها الغناء على الآلات والرقص بإشارات كإشارات الأخرس، تدل على أمور عجيبة، ومنها (تياتر) تسمى: «كوميك» فيغنى فيها الأشعار المفرحة.

وبها (تياتر) تسمى: «التياتر الطليانية» وبها أعظم (الآلاتية)، وفيها تنشد الأشعار المنظومة باللغة الطليانية، وهذه كلها من (السبكتاكلات) الكبيرة، وفي باريس «سبكتاكلات» أخرى وهي مثل تلك إلا أنها صغيرة.

وهناك أيضًا (سبكتاكلات) يلعبون فيها الخيل والفيلة ونحوها، ومنها (التياتر) المسماة «تياتر فرنكوني» (بكسر الفاء وفتح الراء وسكون النون وضم الكاف وكسر النون الثانية)، وفيها فيل مشهور بالألعاب الغريبة معلم تعليمًا عجيبًا.

وكما أن أكبر (التياترات) «الأوبرة» فأصغرها (تياتر) تسمى: تياتر «الكمت» وهي معدة لنزاهة الصغار كالحاوي في مصر «والكمت» اسم معلم هذه السبكتاكل٤ وكل اللاعبين (ص ٩٧) واللاعبات صغار السن، وهذه (التياتر) يوجد بها كثير من الشعبيثيات) و(السيم)٥ ونحوها، ولو لم تشتمل (التياتر) في فرانسا على كثير من النزعات الشيطانية لكانت تعد من الفضائل العظيمة الفائدة، فانظر إلى اللاعبين بها فإنهم يحترزون ما أمكن عن الأمور التي يفتتن بها المخلة بالحياء، ففرق بعيد بينهم وبين عوالم مصر، وأهل السماع ونحوهم.

ولا أعرف اسمًا عربيًا يليق بمعنى (السبكتاكل) أو (التياتر) غير أن لفظ (سبكتاكل) معناه منظر أو منتزه أو نحو ذلك، ولفظ (تياتر) معناه الأصلي كذلك، ثم سمي بها اللعب ومحله، ويقرب أن يكون نظيرها أهل اللعب المسمى خياليًا، بل الخيالي نوع منها.

وتشتهر عند الترك باسم (كمدية) وهذا الاسم قاصر إلا أن يتوسع فيه، ولا مانع أن تترجم لفظة (تياتر) أو (سبكتاكل) بلفظة: خيالي، ويتوسع في معنى هذه الكلمة، ويقرب من تصوير (السبكتاكل) أو هو منها مواضع، يصور فيها للإنسان منظر بلد أو أراض أو نحو ذلك؛ فمن ذلك (بانورمه)٦ وهو محل تنظر فيه فترى المدينة التي تريد تصويرها، ففي صورة مصر ترى كأنك على منارة السلطان حسن مثلاً والرميلة تحتك، وباقي المدينة، ومنها (كسمورمه)،٧ وفيه صورة بلدة ثم أخرى وهكذا. ومنه (ديورمه٨) وفيه صورة دار، ومنها (أورانومه٩) وفيه صورة الفلك الأعظم، وسائر ما يحتوي عليه مصورًا على مذهب الإفرنج، فالمتفرج فيه يمكنه أن يطالع علم الفلك، ومنها (أوروبرمه١٠) وفيه صورة بلاد الإفرنج.

ومن المتنزهات محال الرقص المسماة «البال» وفيه الغناء والرقص، وقل إن دخلت ليلاً في بيت من بيوت الأكابر إلا وسمعت به الموسيقى والمغنى، ولقد مكثنا مدة لا نفهم لغنائهم معنى أصلاً، لعدم معرفتنا بلسانهم، ولله در من قال في مثل هذا الأمر:

ولم أفهم معانيها، ولكن
شجت كبدي، فلم أجهل شجاها
فكنت كأنني أعمى معَنَّى
يحب الغانيات ولا يراها

(البال) قسمان: (بال) عام، ويدخله سائر الناس، (كالبال) في القهاوي والبساتين، (وبال) خاص، وهو أن يدعو الإنسان جماعة للرقص والغناء والنزهة ونحو ذلك؛ كالفرح في مصر، و(البال) دائمًا مشتمل على الرجال والنساء، وفيه وقدات عظيمة، وكراسيّ للجلوس.

والغالب أن الجلوس للنساء ولا يجلس أحد من الرجال إلا إذا اكتفت النساء، وإذا دخلت امرأة على أهل المجلس، ولم يكن ثم كرسيّ خال قام لها رجل وأجلسها، ولا تقوم لها امرأة لتجلسها، فالأنثى دائمًا في المجالس معظمة أكثر من الرجل، ثم إن الإنسان إذا دخل بيت صاحبه، فإنه يجب عليه أن يحيي صاحبة البيت قبل صاحبه، ولو كبر مقامه ما أمكن، فدرجته بعد زوجته أو نساء البيت.

ومن المنتزهات جمعية الناس، كضمة١١ مصر، إلا أن فيها دائمًا آلات الموسيقى والغناء والرقص، وبين كل نوبة من المسيقى والغناء يقسم على الحاضرين بعض مطعومات ومشروبات خفيفة. وبالجملة فالموسيقى بالأصالة، والشراب الخفيف بالتبعية هما حظ هذه المجالس، كما قال الشاعر:
هل العيش إلا ماء كرم مصفق١٢
ترقرقه في الكأس ماء غمام
وعود «بنان» حين ساعد شدوه
على نغم الأوتار ناي «زنام»١٣

وقد قلنا إن الرقص عندهم فن من الفنون، وقد أشار إليه المسعودي في تاريخه المسمى: «مروج الذهب» فهو نظير المصارعة في موازنة الأعضاء ودفع قوى بعضها إلى بعض، فليس كل قوي يعرف المصارعة، بل قد يغلبه ضعيف البنية بوساطة الحيل المقررة عندهم، وما كل راقص يقدر على دقائق حركات الأعضاء، وظهر أن الرقص والمصارعة مرجعهما شيء واحد يعرف بالتأمل، ويتعلق بالرقص في فرنسا كل الناس، وكأنه نوع من العياقة والشلبنة لا من الفسق؛ فلذلك كان دائمًا غير خارج عن قوانين الحياء، بخلاف الرقص في أرض مصر، فإنه من خصوصيات النساء؛ لأنه لتهييج الشهوات، وأما في باريس فإنه نمط مخصوص لا يشم منه رائحة العهر أبدًا، وكل إنسان يعزم امراة يرقص معها، فإذا فرغ الرقص عزمها آخر للرقصة الثانية، وهكذا، وسواء كان يعرفها أو لا، وتفرح النساء بكثرة الراغبين في الرقص معهنّ، ولا يكفيهن واحد ولا اثنان، بل يحببن رؤية كثير من الناس يرقصن معهن لسآمة أنفسهن من التعلق بشيء واحد، كما قال الشاعر:

أيا من ليس يرضيها خليل
ولا ألفا خليل كل عام
أراك بقية من قوم موسى
فهم لا يصبرون على طعام

وقد يقع في الرقص رقصة مخصوصة؛ بأن يرقص الإنسان ويده في خاصرة من ترقص معه، وأغلب الأوقات يمسكها بيده، وبالجملة فمسُّ المرأة أيّامّا كانت في الجهة العليا من البدن غير عيب عند هؤلاء النصارى، وكلما حسن خطاب الرجل مع النساء، ومدحهن عد هذا من الأدب، وصاحبة البيت تحيي أهل المجلس.

ومن النزه: المواسم العامة التي تصنع في الصيف، ومبناها على الرقص والآلات، وتسبيب البارود، ونحو ذلك.

ومن المواسم العامة عندهم أيام تسمى أيام (الكرنوال) وتسمى عند قبطة مصر أيام الرفاع،١٤ وهي عدة أيام يرخص لسائر الناس فيها سائر التقليدات والتشكلات، فيتشكل الرجل بشكل امرأة، والمرأة في صورة رجل، ويتراءى (الخواجة) في صورة راع ونحو ذلك، وبالجملة فيباح سائر ما لا يضر براحة المملكة وانتظامها.
ويقول الفرنساوية إن هذه الأيام أيام جنون، ويدور بهذه البلدة فحل أسمن فحول فرنسا، في موكب عظيم مدة أيام الزفر١٥ الثلاثة، ثم يذبحونه ويعطون لصاحبه (بخشيشًا) في نظير تسميته له؛ حتى يسمن سائر الناس عجولهم.
ومن منتزهات باريس الحدائق العظيمة العامة؛ ففي باريس نحو أربعة بساتين كبرى يتماشى فيها العام والخاص، فمنها حديقة (التولري)١٦ التي بها قصر الملك، وهي من أعظم المنتزهات، يدخلها المتجملون من الناس، ويحجز الأسافل من دخولها فكأنها مصداق قول بعض الظرفاء:
لو كنت أملك للرياض صيانة
يومًا لما وصل اللئام ترابها
ومنها حديقة تسمى «الشمزليزه»،١٧ ومعناه بالعربية: رياض الجنة، وهي من أرق المنتزهات وأنضرها، وهي بستان عظيم يبلغ أربعين «أربانًا» و«الأربان» هو قياس يقرب من الفدان، ومع أن طول طريقها نحو ألف قامة، فإنها موضوعة بحيث إنك إذا مددت نظرك رأيت طرفها الثاني قدام عينيك، وفي هذه الروضة العظيمة دائمًا شيء من الملاهي لا يمكن حصره، وسائر أشجار هذا البستان متصافة، متوازية بعضها مع بعض، رتبت بحيث إنه يوجد مدخل من كل الجهات، فهو على سمت الخطوط المستقيمة من سائر الجهات، وفي وسط كل جملة من الأشجار يوجد محل مربع، وهذه الحديثة يتصل أحد جوانبها بنهر السين، وبينها وبينه رصيف، وبجانبها الآخر بيوت بأطراف الخلاء، وفيها كثير من القهاوي (الرسطواطورات)، يعني بيوت الأكل وفيها سائر أنواع الطعام والشراب، وهي مجمع الأحباب والأكابر، وبها كثير من المرامح للخيل، ويدخل فيها الأكابر بالعربات المزينة، وفيها عدة آلاف من الكراسي بالأجرة، يجلس عليها في زمن الربيع نهارًا وفي زمن الصيف ليلاً، وأعظم اجتماع الناس فيها يوم الأحد، فإنه يوم البطالة عند الفرنساوية، وبالجملة فهذه الحديقة محل المواسم والأفراح العامة والزينات، وبها تتماشى سائر النساء الجميلات.١٨

ومن المتنزهات المحال المسماة «البلوار»، وهي الأشجار المتصافة المتوازية، وقد أسلفنا بيانها، وهي محل يتماشى فيها سائر الناس، في سائر الأيام، وفيه أعظم قهاوي باريس، وتدور فيه الآلاتية المتنقلون بآلاتهم، وفيه كثير من محال (التياترات)، وبه أيضًا تدور النساء اللواتي يتعرفن بالرجال، سيِّما بالليل، فهو في جميع الليالي، وفي ليلة الاثنين، يحوي كثيرًا من الناس، فترى فيه كل عاشق مع معشوقته، ذراعه في ذراعها إلى نصف الليل، ويصلح هنا قول الشاعر:

لا تلقَ إلا بليلٍ من تواصله
فالشمس نمامة والليل قواد
كم عاشق وظلام الليل يستره
لاقى الأحبة والواشون رقاد

وقال آخر:

أيها الليل طر بغير جناح
ليس للعين راحة في الصباح
كيف لا أبغض الصباح وفيه
بان عني أولو الوجوه المِلاح

ولا يمدح الليل إذا من ترقب فيه وصال محبوبه، وتفقد فيه نيل مطلوبه، بخلاف من كثر فيه حرقه، وزاد أرقه، وطال سهاده، وطار رقاده، فإنه يهوى الصباح؛ ليذهب همه ويرتاح، قال الشاعر:

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
بصبح وما الإصباح منك بأمثل
فيا لك من ليل كأن نجومه
على صفحات الجو شُدَّت بيذبل

وقال آخر:

ليلَى وليلي نفى نومي اختلافهما
بالطَّوْل والطُّول، يا طوبى لو اعتدلا
يجود بالطول ليلي كلما بخلت
بالطَّول ليلى، وإن جادت به بخلا

وقال من يشكو من الليل:

يا ليل طل، أو لا تطل
لا بد لي أن أسهرك
لو كان عندي قمري
ما بت أرعى قمرك

وقال آخر مثله:

يا ليل طلْ، يا شوق دُمْ
إني على الحالين صابر
لي فيك أجر مجاهد
إن صح أن الليل كافر

وهذا أيضًا من باب الشكوى.

ومن المنتزهات أيضًا سوق تباع فيه الأزهار، وفي هذا السوق تجد سائر الأشجار والنباتات والأزهار الغريبة النادرة ولو في غير أوانها، حتى إن الإنسان يمكنه أن يجدد بستانًا في يوم واحد بأن يشتري سائر ما يحتاج، ثم يزرعه في يوم، وبالجملة فلا يمكن أن الإنسان يتمتع بهذه المتنزهات إلا بصحة البدن.

١  Le Théàtre.
٢  Le spectacle.
٣  في المطبوع ورسمت «الموسيقى» هكذا كلما ذكرت في الكتاب.
٤  Spectacles.
٥  هي «الشعبثيات»: يريد بها ألوان الشعوذة، ويريد بالسيم: ما يشبه خيال الظل.
٦  Panorama.
٧  Cosmorama.
٨  Diorama.
٩  Uranorama.
١٠  L’europeorama.
١١  الضمة: جماعة يسيرون حول العريس ليلة العرس يغنون ويصفقون.
١٢  المصفق: الشراب المحول من إناء إلى آخر ليصفو.
١٣  بنان وزنام: موسيقيان، والشعر للبحتري في الخليفة المتوكل.
١٤  الأيام السابقة للصيام.
١٥  أكل لحم الطيور، كما يسمى في بعض بلاد مصر إلى اليوم.
١٦  Jardins ies tuileries.
١٧  Chemps-Elysées.
١٨  في المطبوع: الجمالات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤