الفصل الخامس

في ذكر ما قرأته من الكتب في مدينة، «باريس» وفي كيفية الامتحانات، وفيما كتبه لي «مسيو جومار»، وفيما كتب من خلاصة الامتحان الأخير، في الوقائع العلمية، وأذكر هنا ما قرأته مرتبًا بهذا الترتيب، وإن تكرر مع ما سبق

(١) تعليم أصول نحو اللغة الفرنساوية

كان خروجنا من الكونتينة في السابع والعشرين من شهر شوال سنة ١٢٤١، وبعد أيام قليلة في مرسيليا ابتدأنا في التهجي والقراءة، وبعد نحو أربعين يومًا تعلمنا الحروف الفرنساوية والتهجي، ووصلنا «باريس» في شهر محرم، فرجعنا ثانيًا للابتداء في أصول الهجاء، واشتغلنا بذلك نحو شهر، ثم ابتدأنا جميعًا في قراءة أجرومية «تومند»١ في نحو اللغة الفرنساوية، وكان المعلم يضيف إليها من أجرومية أخرى ما يحتاج إليه الحال فلما خرجت من بيت (الأفندية) قرأت مع «مسيو شواليه» أجرومية أخرى، ومع معلم آخر يسمى «لمونري»٢ أجروميتين، وفي كل من البيتين، يعني بيت (الأفندية) وبيت المعلم كنت أشتغل بالإعراب النحوي، والإعراب المنطقي — يعني تطبيق الكلام على قواعد النحو وقواعد المنطق — وبالإملاء والإنشاء والقراءة، وما زلت على ذلك ثلاث سنوات.

(٢) علم التاريخ

ابتدأنا في بيت (الأفندية) حين كنا معًا بكتاب «سير فلاسفة اليونان» فقرأناه، وتممناه، ثم ابتدأنا بعده في كتاب تاريخ عام مختصر مشتمل على سير قدماء المصريين والعراقيين، وأهل الشام، واليونان، وقدماء العجم، والرومانيين، والهنود، وفي آخره نبذة مختصرة في علم «الميثولوجيا»٣ يعني علم جاهلية اليونان وخرافاتهم، ثم قرأت عند «مسيو شواليه» كتابًا يسمى: «لطائف التاريخ»٤ يتضمن قصصًا وحكايات ونوادر، ثم بعده قرأت كتابًا يسمى «سير أخلاق الأمم وعوائدهم وآدابهم»٥ ثم تاريخ سبب عظم دولة قياصرة الروم وانقراضها٦ ثم كتاب رحلة «الخرسي» الأصغر إلى بلاد اليونان٧ ثم قرأت كتاب «سيغر»٨ في التاريخ العام، ثم سيرة نابليون، ثم كتابًا في علم التواريخ والأنساب، ثم كتابًا يسمى «بانوراما العلم»٩ يعني مرآة الدنيا، ثم رحلة صنفها بعض المسافرين في بلاد الدولة العثمانية، ثم رحلة في بلاد الجزائر.

(٣) علم الحساب والهندسة

قرأت في الحساب «بزوت»،١٠ وفي الهندسة المقالات الأربع الأول من كتاب لوجندره.١١

(٤) علم الجغرافيا بأنواعها

قرأت مع «مسيو شواليه» كتاب جغرافية يشتمل على الجغرافية التاريخية والطبيعية والرياضية والسياسية، ثم قرأت رسالة أخرى في الجغرافية، يعني معجم البلدان، ثم قرأت الكتاب الأول بعينه مع معلم آخر غير «مسيو شواليه»، وقرأت أيضًا مع «مسيو شواليه»، جملاً عظيمة من جغرافية «ملطبرون»١٢ ورسالة ألفها التعليم بنته في هيئة الدنيا، وقرأت وحدي مؤلفات عديدة في هذا الفن.

(٥) فن الترجمة

ترجمت مدة إقامتي في فرنسا اثني عشر كتابًا وشذرة يأتي ذكرها في آخر هذا الكتاب، يعني اثني عشر مترجمًا بعضها كتب كاملة، وبعضها نبذات صغيرة الحجم.

(٦) كتب في فنون مختلفة

قرأت كتابًا في علم المنطق الفرنساوي مع «مسيو شواليه» و«مسيو المونري» وعدة مواضع من كتاب «ليبرتروايال»١٣ من جملتها المقولات وكتابًا آخر في المنطق يقال له كتاب «قندلياق» غير١٤ فيه منطق أرسطو.

وقرأت مع «مسيو شواليه» كتابًا صغيرًا في المعادن وترجمته.

وقرأت كثيرًا من كتب الأدب فمنها مجموعة١٥ «نويل» ومنها عدة مواضع من ديوان «ولتير»١٦ وديوان «رسين»١٧ وديوان «رسو»١٨ خصوصًا مراسلاته الفارسية التي يعرف بها الفرق بين آداب الإفرنج والعجم، وهي أشبه بميزان بين الآداب المغربية والمشرقية، وقرأت أيضًا وحدي مراسلات إنكليزية صنفها «القوتة شستر فيلد»١٩ لتربية ولده وتعليمه، وكثيرًا من المقامات الفرنساوية، وبالجملة فقد اطلعت في آداب الفرنساوية على كثير من مؤلفاتها الشهيرة.
وقرأت في الحقوق الطبيعية مع معلمها كتاب «برلماكي» وترجمته وفهمته فهمًا جيدًا، وهذا الفن عبارة عن التحسين والتقبيح العقليين، يجعله الإفرنج أساسًا لأحكامهم السياسية المسماة عندهم شرعية، وقرأت أيضًا مع «مسيو شواليه» جزأين من كتاب يسمى «روح الشرائع»٢٠ مؤلفه شهير بين الفرنساوية يقال له «منتسكيو» وهو أشبه بميزان بين المذاهب الشرعية والسياسية، ومبني على التحسين والتقبيح العقليين، ويلقب عندهم بابن خلدون الإفرنجي، ما أن ابن خلدون يقال له عندهم أيضًا: «منتسكيو الشرق» أي «منتسكيو الإسلام» وقرأت أيضًا في هذا المعنى كتابًا يسمى «عقد التأنس والاجتماع الإنساني»٢١ مؤلفه يقال له «روسو» وهو عظيم في معناه.
وقرأت في الفلسفة تاريخ الفلسفة تاريخ الفلاسفة المتقدم المشتمل على مذاهبهم وعقائدهم وحكمهم ومواعظهم، وقرأت عدة مال نفيسة في معجم الفلسفة «للخواجة ولتير» وعدة محال في كتب فلسفة «قندلياق».٢٢

وقرأت في فن الطبيعة رسالة صغيرة مع «مسيو شواليه» من غير تعرض للعمليات.

وقرأت في فن العسكرية من كتاب يسمى «علميات ضابطان عظام» مع «مسيو شواليه» مائة صحيفة، وترجمتها.

وقرأت كثيرًا في كازيطات العلوم اليومية والشهرية، وفي «كازيطات»٢٣ السياسات اليومية التي تذكر كل يوم ما يصل خبره من الأخبار الداخلية والخارجية المسماة «البوليتيقة» وكنت متولعًا بها غاية التولع وبها استعنت على فهم اللغة الفرنساوية وربما كنت أترجم منها مسائل علمية، وسياسية، خصوصًا وقت حرابة الدولة العثمانية مع الدولة الموسقوبية.
ولنذكر لك هنا ترجمتنا رسالة فرضية من فرنساوي متطوع بالخدمة في معسكر «الموسقو»، حررها من مدينة «شملا» القريبة من جبل «بلقان» إلى بعض أمراء الألوية بمدينة «باريس» تاريخها اثنان وعشرون من يوليه الإفرنجي سنة ١٨٢٨ من الميلاد:

«اعلم يا محبنا أن هذه أول مرة التحم فيها صفنا مع الصفوف الإسلامية من منذ وصولنا إلى العساكر الموسقوبية، ثم إن سائر ما رأيته مما يذهل العقول ويحير الألباب، تقصر عنه العبارة، كيف وهو أمر غريب! بالنسبة إلى مثلي، فلو كنت مثل جنابكم من العسكر المتمرن على الحروب سافرت في غزوة مصر، ورأيت واقعة أبي قير، وحصار مدينة عكا لما حار لبي حين رأيت شيئًا جديدًا لم أكن عاينته قبل ذلك، مما يكل عنه الوصف، ولكن تأمل يا أخي في أمري حيث إني قد كنت في خفر مليكنا، وخرجت من مكتب «سنسير» ولم أحضر من الوقائع إلا وقعة الأندلس، فلم أشعر إلا أن وجدت نفسي قدام جبل «بلقان» بعد أن جبت البراري والقفار، وعاينت المشاق بتهديد أهلها لنا وتخلصهم منا، وإدهاشهم لجيوشنا، وانظر في استعجابي وذهاب صوابي حين خرجت الفوارس التركية متصافة صفوفًا عجيبة للحروب الإسلامية بأعلى «شملا» وقد وصل إلى شريف علمكم من دفتر علم «الموسقو» تفصيل هذه الواقعة، وشر أحوال الجمع الغفير من عساكرنا، والخبر بأنها صارت ضائعة، وقد شاهدت بعيني رأسي سوء ميتة «الميرالاي باردي الموسقوبي» بحالة رديئة؛ حيث انقسم نصفين بضربة مدفع تركية، ومن الآن فقط ظهرت صعوبة هذه الحرابة، وطول مدتها لا يعد من الغرابة، وإن كان بعساكرنا شجاعة وصلابة في الحروب، فعساكر الإسلام لها مصادمة قوية بمعزل عن الهروب، وهذه المصادمة هي التي تستهل الخطر، وتخترق المانع لبلوغ الوطر، ينتج منها ثمرتان: الأولى: أنها تلقي الحيرة في عقول الرجال، والثانية: أن عاقبتها دائمًا تفرغ الفزع في قلوب الأعداء، ولو كانوا من الأبطال، ولو شاهدت عيناك ما شاهدته من أن الفرسان العثمانية تروع (ص ١٦٢) الإنسان بمجرد منظرها المرعب، وبسرعة اقتحامها المدهش المعجب، ومشيها على صوت الألحان الوحشية، وصهيل الخيول الكردية، ونزولها كالصواعق على المشاة الموسقوبية لحكمت مثلي بأن هذه الحرابة تطول، وأن اضطرام نارها قل أن يزول، أو ليس أن للدولة العثمانية فرسانًا عظيمة مرتبة بترتيب عجيب، وهمة عليه بنظام غريب؟ أو هل ينكر أحد أن رجالهم متمرنون على ركوب الخيل، وأن خيولهم على أصل خلقتهم الوحشية طائعة لسيدها في الإقدام والإحجام، يبلغ عليها في الحرابة المقصود والمرام؟ فيا ويح العساكر القرابة التي يلتحم صفها بصف هذه الخيول المركوبة لهؤلاء الفحول الذين لهم زيادة عن قوتهم الجهادية، دعامة غيرتهم الإسلامية والوطنية، وهذه مزية لا توجد يقينًا في عساكر «الموسقو»، ثم ازدحام الخلائق في أوقات الحروب له تدبير صحيح، ولكن في هذه الواقعة لا يجهل إنسان ولو كان من «القزاق» أن الفخر لعساكر الإسلام، وهذا الخبر ربما ظهر لك أنه عجيب من مثلي، خصوصًا وأنا قد جئت متطوعًا في عسكر «الموسقو»، لأشاركهم في اقتحام الأخطار، وأقتسم معهم الفخار، ولكن لما وصلت إلى هنا ظهر لي أن الظن قد خاب، وأني قد حدت عن الصواب، ورأيت أعداءنا الذين كنا نتهمهم بحقارة الرتبة والرداءة هم الليوث الضراغم، ليس لهم شيء من الدناءة، بل هم أقرب إلى قبول التأدب والظرافة من الإفرنج.

واعلم يا أخي أن غيرتي على خلاص الأروام من يد العثمانية لم تنقص شيئًا، ولكن أقول ليت شعري، هل تلزم الغارة على إسلامبول في خلاصهم؟ أو ليس مما يتحسر عليه أن ما خسرناه في أخذ مدينة «إبرائل» من العساكر كان يكفي وحده في فك أسر الأروام وتحرير رقابهم، وتقليل سفك دمائنا بعساكر الإسلام، وقد أسرنا عن قريب أحد ضباط العساكر العثمانية، وكان شابًا بديع الصورة كثير الجروح، فعفا عساكرنا عن قتله ولم يكن ذلك لغيره، ورقوا لملاحته وجراحته، فخاطبته باللغة الإيطاليانية، ففهم مقالي وأجاب سؤالي، وأخبرني بأن أباه له من العمر الآن ثمانون سنة، وله إخوان في خدمة حسين باشا لا يشك في نصرة الدولة العثمانية، بل يقول: إن الترك يصلون إلى موسقو، واعلم يا أخي أن في «شملا» نحو مائتي ألف محارب، ويتجدد عليها كل يوم، وسلطانهم بكل عظيم عن يقين، وها أنا الآن أطوي لك كتابي لأضع قدمي في ركابي، فالآن عساكر الأعداء تحارب في طليعة جيشنا، وأنا بين دوي ألحان الترك، وعجيج أصوات الروس غريق، وهذه حرابة مهولة إن نظرت بعين التحقيق.

١  Charies-François thomond: Eléments وقد كتب اسمه في المطبوعة (لومند) de la Grammaire françsia.
٢  Lomonry.
٣  Mythologie.
٤  Les Agrements de L’histoire.
٥  Les Moeurs des Peuples Leurs habitudes et leur Savoir Vivre par Dipping.
٦  L’Histoir de la Cause de La grandeur et de La Décadence de L’Empire des Césars Romains, Par montetesquieu.
٧  Voyage du trés Jeune Anacharsis en Grèce.
٨  Ségur.
٩  Panorama du Monde.
١٠  Etienne Bezout: Traité d’arithmétique.
١١  Legendre: Eléments de Géometrie.
١٢  Malte-Brun.
١٣  La Porte-Royale.
١٤  Condilliac.
١٥  Noel.
١٦  Votaire.
١٧  Racin.
١٨  Rousseau: Les Lettres Persanes.
١٩  Le Comte Chesterfield.
٢٠  L’esprit des Lois.
٢١  Le Contral Social.
٢٢  Condiliac.
٢٣  أي الصحف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤