الفصل الأول

في ذكر مقدمة يتوقف عليها إدراك علة خروج الفرنساوية عن طاعة ملكهم

اعلم أن هذه الطائفة متفرقة في الرأي فرقتين أصليتين، وهما: الملكية والحرية، والمراد بالملكية أتباع الملك القائلون بأنه ينبغي تسليم الأمر لولي الأمر، من غير أن يعارض فيه من طرف الرعية بشيء، والأخرى تميل إلى الحرية، بمعنى أنهم يقولون: لا ينبغي النظر إلا إلى القوانين فقط، والملك إنما هو منفذ للأحكام على طبق ما في القوانين، فكأنه عبارة عن آلة، ولا شك أن الرأيين متباينان؛ فلذلك كان لا اتحاد بين أهل فرنسا، لفقد الاتفاق في الرأي، والملكية أكثرهم من القسوس وأتباعهم، وأكثر الحربين من الفلاسفة والعلماء والحكماء وأغلب الرعية، فالفرقة الأولى تحاول إعانة الملك، والأخرى ضعفه وإعانة الرعية، ومن الفرقة الثانية طائفة عظيمة تريد أن يكون الحكم بالكلية للرعية، ولا حاجة إلى ملك أصلاً، ولكن لما كانت الرعية لا تصلح أن تكون حاكمة ومحكومة. ويجب أن توكل عنها من تختاره منها للحكم، وهذا هو حكم الجمهورية ويقال للكبار: مشايخ وجمهور.

وشريعة الإسلام التي عليها مدار الحكومة الإسلامية مشوبة بالأنواع الثلاثة المذكورة لمن تأملها وعرف مصادرها ومواردها، فعلن من هذا أن بعض الفرنساوية يريد المملكة المطلقة، وبعضهم يريد المملكة المقيدة بالعمل بما في القوانين، وبعضهم يريد الجمهورية، وقد سبق للفرنساوية أنهم قاموا سنة ١٧٩٠ من الميلاد وحكموا على ملكهم وزوجته بالقتل، ثم صنعوا جمهورية، وأخرجوا العائلة السلطانية المسماة «البربون» من مدينة «باريس» وأشهروهم مثل الأعداء وما زالت الفتنة باقية الأثر إلى سنة ١٨١٠ ميلادية، ثم تسلطن «بونابارته» المسمى: «نابليون» وتلقب بسلطان سلاطين: ثم لما كثرت محارباته وكثر أخذه للممالك وخيف بأسه وبطشه تعاهد عليه ملوك الإفرنج؛ ليخرجوه من المملكة، فأخرجوه منها، مع محبة الفرنساوية له، وأعادوا البربون إلى محلهم رغمًا عن أنف الملة الفرنساوية، فكان أول من تسلطن منهم «لويز الثامن عشر» ولأجل تغريب الناس في حكمه وتمكين ملكه صنع قانونًا بينه وبين الفرنساوية بمشورتهم ورضائهم، وألزم نفسه أن يتبعه ولا يخرج عنه، وهو الشرطة، وقد ذكرناها مترجمة في باب سياسة الفرنساوية ولا شك أن وعد الكريم ألزم من دين الغريم. وقد جعل هذا القانون له ولمن بعده من ورثة مملكة الفرنساوية، وأنه لا يزاد فيه ولا ينقص إلا إذا اتفق عليه الملك وديوان «البير» وديوان وكلاء الرعية، فلا بد من الديوانين والملك، ويقال إنه صنع ذلك على غير مراد أهله وأقاربه وهم يحبون التصرف المطلق في الرعية، ويقال: إنهم تعصبوا عليه، وكان رئيس العصبة أخاه «كرلوس العاشر» حتى إنه اطلع على ما أخفاه له فأبطله: ويقال إن كرلوس العاشر أراد في «كبر لويز الثامن عشر» أن ينقص ذلك القانون، ويرجع إلى طريق إطلاق التصرف، فلم يمكنه ذلك، ثم بعد موت أخيه أظهر «كرلوس» الحيلة، وأبطل ما كان نواه، وأظهر أنه لا يريد شيئًا من ذلك، وجوز لكل إنسان أن يبدي في الكازيطات رأيه بالكتابة من غير أن ينظر فيه قبل طبعه وإظهاره فصدق الناس كلامه واعتقدوا أنه لا يخلف وعده، بل فرحت سائر الرعية بتدبيره ومشيه على القوانين، ثم إنه انتهى أمره إلى أن هتك القوانين التي هي شرائع الفرنساوية وخالفها، وقبل هتكه للشريعة بانت منه أمارات ذلك بمجرد تقليده الوزارة للوزير: «بولنياق» وهو معلوم المذهب والتدبير، يعني أنه يميل إلى كون الأمر لا يكون إلا للملك، ويقال إن هذا الوزير هو ابن زنا، زنت أمه بهذا الملك، فولدته منه، فهو في الحقيقة أبوه، وشهير بالظلم والجور، ومن الحكم التي في غاية الشيوع: أن ظلم الأتباع مضاف إلى المتبوع، وفي الحديث: (من سل سيف الجور سل عليه سيف الغلبة ولازمه الهم)، وقال الشاعر:

من أنصف الناس ولم ينتصف
بفضله منهم فذاك الأمير
ومن يرد إنصافه مثل ما
أنصف أضحى ما له من نظير
ومن يرد إنصافه، وهو لا
ينصفهم فهو الدنيء الحقير

ولما كان هذا الوزير سابقًا «إيلجيًا» ببلاد الإنكليز من طرف الفرنساوية، يعني رسولاً للمصالح بين الدولتين، كانت الفرنساوية تنسب إليه كل ما خالف مذهب الحرية، وكلما شاع عنه أنه راجع إلى فرنسا يظن جميع الناس أنه لا يأتي إلا ليتقلد منصب الوزارة ويغير القوانين؛ فلذلك كان يبغضه سائر أرباب الحرية وأغلب الرعية، وقد عرف الفرنساوية من قبل أن اختياره للوزارة كان مقصودًا لمهم، وقد حصل بعد توليته بنحو سنة.

وقد قلنا فيما سبق: إن ديوان رسل العمالات الذين هم وكلاء الرعية يجتمعون كل سنة للمشورة العمومية، فلما اجتمع هذا الديوان عرضوا على الملك أن يعزل هذا الوزير ومن معه من الوزراء الستة، فلم يصغ لكلامهم أصلاً، وقد رجت العادة أن ديوان المشورة يعمل فيه جميع الأشياء بمقالة أكثر أربابه، وكان المجتمع في هذا الديوان للمشورة في قضية الوزراء أربعمائة وثلاثون نفسًا، منها ثلثمائة لا يرضون بإبقاء الوزراء، ومنهم مائة وثلاثون يحبون إبقاءهم، فكان العدد الأكثر عليهم، والعدد الأقل لهم، فتيقنوا عزلهم، وكان الملك يحب إبقاءهم، لاستعانته بهم على تنفيذ ما أضمره في نفسه فأبقاهم، ثم خرم القانون بعدة أوامر ملكية فكانت عاقبتها خروجهم وإخراجهم له من بلادهم معزولاً، فهو كما قال الشاعر:

لم يدرِ ما يجني عليه القول
ولا لماذا أمره يؤول
يلقي الكلام كيف ما ألقاه
لم يحسن الفكرة في عقباه
وهكذا التهوير في المقال
وصحبة الأشرار والجهال
يخفضك الجاهل أنَّى رفعك
يرديك وهو زاعمٌ أن ينفعك

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤