الفصل الرابع

فيما رأينا، من الجبال، والبلاد، والجزائر

قد مررنا على جزيرة «كريد» سابع يوم من سفرنا، ورأينا على بعد جبلها الشامخ المسمى عند اليونان «إيدا» الشهير بالأمور الغريبة في تواريخهم.

ثم في اليوم الثالث عشر منه، رأينا جزيرة «سيسيليا»، (بالمهملتين)، وبعضهم يكتبها بالمعجمتين، وهي مشهورة باللسان العربي باسم «صقالية»، أو «صقلية».

وهذه الجزيرة على الجنوب من بلاد «إيطاليا» منفصلة عنها (بالبغاز) المسمى «بغاز مسينة»، (بفتح الميم، وتشديد السين المكسورة المهملة، وسكون الياء، وفتح النون)، وهي من أعظم جزائر البحر المتوسط وأخصبها؛ ولذلك كانت تسمى في الزمن السابق، «شونة رومة»، وكانت في الأعصر السالفة سببًا لحرب السابق. «شونة رومة»، وكانت في الأعصر السالفة سببًا لحرب الرومانيين مع أهل «قرطاجة»، أي سكان الغرب، ثم انتهى الأمر إلى أن وقعت تحت حكم الرومان، ثم انتقلت منهم إلى ملوك اليونان، ثم فتحها المسلمون، ثم تغلب عليها النصارى (ص ٣٤، ٣٥) «النرمندية»، (بضم النون المشددة وسكون الراء، وفتح الميم وكسر الدال، وفتح الياء المشددة) فرقة من أهل الشمال، وهم سكان إقليم «نرمنديا» الذي هو الآن من أيالات فرنسا، ثم حكمها بعض ملوك الإسبانيول، ثم النيمسا، ثم انتهى الأمر إلى أن كانت جزءًا من مملكة «نابلي الكتان»١ المسماة «بولية»٢ حتى إنها هي و«نابلي» قد يسميان الآن عند الإفرنج «السيسيليتين» بتغليب «سيسيليا» على «نابل».

وفي كتب الجغرافيا أن أهل هذه الجزيرة مائة ألف نفس، ومدنها فوق الجبال وقد رأينا بهذه الجزيرة على بعد، في اليوم الرابع عشر الجبل المسمى «منتثنا» (بفتح الميم وسكون النون، وكسر التاء الفوقية، وسكون الثاء المثلثة) و«منتثنا» كلمة مركبة من كلمتين: إحداهما «منت» معناها: جبل، والأخرى «اثنا» فالأحسن كتابتها هكذا «منت اننا»، وهو مشهور الآن بلفظة «جبيل»، ويظهر لي أن هذا الاسم تحريف «جبل» فهو عربي أدخله المسلمون في هذه الجزيرة، وأطلقوه على هذا الجبل، فبقي بعد خروجهم إلى الآن، وتغير بتحريف أهل هذه الجزيرة له.

وهذا الجبل جبل نار، فإنه يخرج منه بالنهار دخان، وبالليل لهب، وقد يقذف مواد حجرية محترقة.

ثم إن جبال النار تسمى بالإفرنجية «الجبال البلكانية». ويسمى الجبل الناري «بلكان»، (بضم الباء الموحدة، وسكون اللام)، ويقال «ولكان»، (بضم الواو)، وقد صحِّف هذا الاسم بالعربية على لفظة «بركان» بالراء) ولعله تعريب عن لغة أهل الأندلس، ويسمى «طهمة» (بفتح الطاء، وسكون الهاء) كما ذكره السعودي في كتابه المسمى «مروج الذهب».

وفوهة البركان تسمى بالفرنساوية: «كراتيرة»٣ (بكاف وتاء فوقية مكسورتين، وفتح الراء الثانية)، ولا يوجد جبل نار غالبًا إلا في الجزائر.
وقد ذكر أرباب رصد هذا الجبل أن ارتفاعه على ظهر سطح البحر المحيط ألف وتسعمائة قدم وثلاث٤ أقدام، وأن دورة قاعدة نحو خمسة وخمسين فرسخًا فرنساويًا ودائرة فوهته ربع فرسخ.
ثم إن العادة أن جبل النار يهيج، ثم يسكن، ثم يهيج. وقد يمكث مدة مطفيًا حتى يظن الناس خموده بالكلية، ثم يهيج ثانيًا بعد مضي مدى أعصر، وقد هاج «جبل أثنا» إحدى وثلاثين مرة، ومنها هيجانه سنة ألف وثمانمائة وتسع٥ بتاريخ الإفرنج، وأعظم هيجانه ما كان سنة سبعمائة وثلاث وتسعين؛ حيث (ص ٣٤) خرب مدينة «كابان»، وأهلك ثمانية عشر ألف نفس.
وعلامة هيجان البراكين شدة العجيج والفرقعة والدوي تحت الأرض، وابتداء التدخين، أو ازدياده، قال بعض الطبائعية:٦ «إننا إذا قابلنا حوادث الزلازل بحوادث البراكين رأينا كأن هاتين الحادثتين معلولتان لعلة واحدة، وهي النيران التي تحت الأرض أي المحتقنة في باطنها، إلا أن آثار الزلازل أوسع من آثار البراكين، يعني أن آثار الزلازل تظهر في متسع عظيم من الأرض، بخلاف آثار جبال النار فلا تمتد إلا بجوار قرب جبل النار».

وقد جرت العادة أيضًا أن الزلزلة تعظم بقدر البعد عن البركان وعلل ذلك بعضهم بقوله: إن النار التي تحت الأرض تحاول منفسًا، لتخرج منه، فإن كان في الأرض بركان فإنها تخرج منه، فتذهب قوة النار، فتتفقد الزلزلة، بخلاف الأرض الخالية عن البراكين، فإن النيران تحاول منفسًا فيها، فلا تجده، فترتج الأرض بذلك.

وقال بعض الحكماء أيضًا: إن كلاً من الحوادث البركانية والزلازل، صادر عن جاذبية المحاكة، المسماة بالفرنساوية: «إلاكتريسته»،٧ بكسر الهمزة، وسكون الكاف، وكسر التاء والراء، وكسر السين، وفتح التاء)، المسماة: «الرسيس»، (بفتح الراء المشددة، وكسر السين) التي هي خاصة الكهرباء عند حكها.

قال بعضهم في رد هذا القول: «إنه ينافي ما اعتمده بعض الحكماء في بناء الأرض، ونظم طبقات صخورها».

ومن القواعد المقررة أن ثوران البركان يغلب كلما قل علوه، ويقل كلما عظم العلو، وهذا ما جرت به العادة. والله سبحانه وتعالى أعلم.

وفي اليوم الخامس عشر رسونا على مدينة «مسينة»، لم نخرج من السفينة أبدًا؛ لأنهم لا يمكنون من يجيء من البلاد الشرقية إلى بلادهم أن يدخلها إلا بعد (الكرتنة)، وهي: مكث أيام معلومة، لإذهاب رائحة الوباء. ولكنهم يجيئون للإنسان بسائر ما يحتاج، ويناولهم الثمن، فيضعونه في إناء فيه خل ونحوه، مع التحفظ التام. (راجع الفصل الأول من المقالة الثانية).

وقد تزودنا من هذه المدينة ما احتجنا إليه، من الفواكه، والخضراوات والمياه العذبة.. إلى آخره، وأقمنا بموردتها خمسة أيام وشاهدنا من بُعد قصورها العالية وهياكلها الشامخة السامية ورأيناها توقد قناديلها ووقداتها قبل أن يدخل وقت الغروب، وتمكث بعد شروق الشمس.

(ص ٣٥، ٣٦) والظاهر أن مدة مرورنا بها كانت عيدًا؛ حيث إننا سمعنا بها أصوات النواقيس مدة إقامتنا، حتى إن ضربهم النواقيس مطرب جدًا.

وقد صنعت في ليلة من هذه الليالي، في المحادثة مع بعض الظرفاء مقامة ظريفة، مضمونها ثلاثة معان:

الأول: المجادلة في أنه لا مانع من أنه الطبيعة السليمة تميل إلى استحسان الذات الجميلة مع العفاف، وأنشأت في ذلك حملة شواهد لطيفة، وأنشأت فيه قولي:
أصبو إلى كل ذي جمال
ولست من صبوتي أخاف
وليس بي في الهوى ارتياب
وإنما شيمتي العفاف
الثاني: سكر المحب من معاني خمر عين محبوبه، واستغناؤه عن الراح براحته، وأنشأت فيه هذا المعنى قولي:
قد قلت لما بدا، والكأس في يده
وجوهر الخمر فيها شبه خديه
حسبي نزاهة طرفي في محاسنه
ونشوتي من معاني سحر عينيه
الثالث: في تأثر النفس بضرب الناقوس، إذا كان من يضرب الناقوس ظريفًا يحسن ذلك، وقد أنشدت في هذا المعنى قول الشاعر:
مذ جاء يضرب بالناقوس قلت له
من علَّم الظبي ضربًا بالنواقيس
وقلت للنفس: أيُّ الضرب يؤلمكي
ضرب النواقيس، أم ضرب النوى؟ قيسي

وذيلتها ببعض أبيات مجنسة، والبحث في معناها، ونوع تجانيسها، بالجواب عن بعض ألغاز نحوية.. إلى آخره، وليس هذا محل بسط الكلام في ذلك.

ثم سرنا من هذه المدينة اليوم المتمم العشرين من مدة سفرنا، سرنا حتى حاذينا جبل النار، وجاوزناه.

وفي اليوم الرابع والعشرين جاوزنا مدينة «نابلي»، وقد كانت قديمًا تسمى باللغة التركية «بولية»، وتعديناها بنحو تسعين ميلاً، فانعكس الريح، وصار قدام السفينة، هابًا من المقصد لا إليه؛ لأنه من جهة الهواء. ويعجبني قول بعضهم:

ومهفهف عني يميل، ولم يمل
يومًا إليَّ، فقلت من ألم النوى:
لم لا تميل إليَّ يا غصن النقا؟
فأجاب: كيف وأنت من جهة الهوا؟!

وقول الصلاح الصفدي:

تقول له الأغصان إذ هز عطفه:
أتزعم أن اللين عندك قد ثوى؟
فقم، نحتكم في الروض عند نسيمه
ليقضي على من مال منا مع الهوى

فبانعكاس الريح، رجعنا إلى مدينة «نابلي» بعد أن جاوزناها، ورسونا عندها، ولم ندخلها لما تقدم.

وهي من المدن العظمى ببلاد الإفرنج، وملكها يحكم على بلاد جزيرة «صقلية» المتقدمة، ومدينة «نابلي» هي كرسي هذا الملك، وقد تسمى باللغة العربية، «نابلي الكتان»،٨ (بفتح الهمزة، وكسر اللام، وسكون الكاف).

وقد كانت مملكة «نابلي» في يد الإسلام، ومكثت نحو مائتي سنة، ثم تغلبت عليها النصارى النورمندية، هي ومملكة «صقلية» ولم تزل إلى الآن في أيدي النصارى الإيطاليانية، حتى إنها تسمى: بلاد إيطاليا الجنوبية.

وقد أسفنا أن مدينة «نابلي» هي إحدى (البنادر) الأربعة الأصلية بالبلاد الإفرنجية.

ثم رأينا في اليوم التاسع والعشرين جزيرة «قرسقة»، (بضم القاف، وسكون الراء وضم السين، وفتح القاف) التي هي في حكم الفرنسيس، وتسمى الآن: جزيرة «قرس»، وقد فتحها المسلمون، ولم يمكثوا فيها زمنًا طويلاً، وهي وطن «نابليون»، (بضم الباء، وسكون اللام، وبالياء) الشهير باسم «بونابارته» الذي تغلب على مصر في غزوة الفرنساوية، ثم تولى سلطنة فرنسا، مع أن أباه كان رئيسًا في «الطوبجية).

وفي اليوم الثالث والثلاثين رسونا على فرضة «مرسيليا»، فكانت مدة مكثنا في البحر ثلاثة وثلاثين يومًا، ومنها مكثنا خمسة أيام قدام «مسينة»، (بفتح الميم، تشديد السين المكسورة، وفتح النون)، ونحو يوم قدام «نابلي»، وتأخرنا كثيرًا بلعب الرياح.. ولولا ذلك لوصلنا في أقل من هذه المدة بشيء يسير.

١  بإضافة «نابلي» إلى الإقليم الذي فيه ويسمى: قطانيا.
٢  Pouille.
٣  Cratére.
٤  في الأصل: (ثلاثة) وهو خطأ.
٥  فى الاصل: تسع.
٦  الطبائعية: علماء الجيولوجيا.
٧  Electricité.
٨  راجع ص ٩١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤