الخاتمة

في رجوعنا من باريس إلى مصر، وفي عدة أمور مختلفة
من المعلوم أن نفس القارئ لهذه الرحلة تتطلع إلى معرفة نتيجة هذا السفر الذي صرف عليه مصاريف لم تسبق لأحد، ولا سمع بها في التواريخ عند سائر الأمم، وإنما تسطيرها؛ لأنها أنجبت علماء منهم من وصل إلى رتبة أساطين الإفرنج، فهم ما بين مدبر للأمور الملكية، حائز كمال الرتبة في السياسات المدنية، كحضرة صاحب البراعة واليراعة رب الطالع السعيد، وذي١ النجابة والرأي السديد، عبدي أفندي، وما بين متمكن في معرفة إدارة الأمور العسكرية، راق فيها إلى درجة علية، وما بين رباني بسائر الأمور البحرية، أو خبير بالطب، أو بالكيميا الصحيحة المرضية، وبصير بالطبيعيات، وماهر في علم الزراعة والنباتات، ومنهم فائق الأقران في الفنون والصنائع، وحريٌّ بفتح (فبريقات) تشتهر ببراعته بغير منازع، ولولا خوف الإطالة لذكرت جميع من ظفر بقصده من الأفندية، على حسب حوزه للمراتب العلية، ولعمري لا أستطيع عدم التعرض لعدة أشخاص قد بلغ فضُلهم الغاية في الامتياز، غير أنني أسلك في ذكرهم غاية الإيجاز، كيف لا أقول إن حضرة مصطفى مختار بيك أفندي قد بلغ درجة كبار الفرنساوية، في علم إدارة المهمات العسكرية، وقد حاز مرتبة سامية من العلوم وتمكن من المنطوق منها والمفهوم، ولا شك أنه ممتاز بالعلوم التدبيرية، وجامع لمعارف الديار الإفرنجية، وسع الله به دائرة المعارف، بممالك مصر والشام، وليس كل من اكتسب المعارف، يصدر عنه عمل اللطائف، قال الشاعر:
وعادة السيف أن يزهو بجوهره
وليس يعمل إلا في يدَي بطل

وأما حضرة حسن بك أفندي، وكذا الأفندية البحريون، ففضلهم وكمال علومهم ثابت بالبرهان، يدل عليه امتيازهم بين الأقران، شهرة اصطفان أفندي غنية أيضًا عن البيان، فقد حاز من العلوم ما حاز، وفاز من الفنون بما فاز، ولا ينكر فهم «الطين أفندي» في جميع أنواع العرفان، ولا خليل أفندي محمود، وتعلم أحمد أفندي يوسف مشهود غير مجحود، وبالجملة فالجل من الأفندية حصل المرام، ورجع لنشر هذا بديار الإسلام.

ولنذكر هنا رجوع العبد الفقير إلى مصر ليتم غرض هذه الرحلة فنقول: خرجنا من باريس في شهر رمضان سنة ١٢٤٦ وسرنا نقصد مرسيليا، لنركب البحر ونرجع إلى إسكندرية، فمررنا على مدينة «فنتنبلو» بقرب باريس بها قصر سلطاني، وهذا القصر شهير بأن نابليون نزل فيه عن سلطنة فرنسا، وخلعها عنه سنة ١٨١٥ من الميلاد، ويشاهد به عمود على شكل الهرم مبني من الحجارة، والقصد منه أنه تبقى آثاره، لتذكر رجوع «البربون» في فرنسا، فنجد مرسومًا عليه أسماؤهم وتاريخ ولادتهم، وغير ذلك، وفي هذه الفتنة الأخيرة محا الخلق هذه الأسامي، فلا يشاهد منها إلا الآثار، وهكذا عادة الزمان، في تلونه بجميع الألوان، وغدره وفتكه بقوم، وإقباله على آخرين قبل تمام يوم، قال الشاعر:

قتلت صناديد الرجال فلم أدع
عدوًا ولم أمهل على جيشه خلقًا
وأخليت دار الملك بعد ملوكهم
فشردتهم غربًا وبددتهم شرقًا
فلما بلغت النجم عزًا ورفعة
وصارت رقاب القوم أجمع لي رقا
رماني الردا سهمًا فأخمد جمرتي
فها أنا ذا في حفرتي عاطلاً ملقى

وكتابة تلك الرسوم من عادة الإفرنج، تأسيًا بالسلف من أهالي مصر وغيرهم، فانظر إلى بناء أهل مصر للبرابي وأهرام الجيزة، فإنما بنوها لتكون آثارًا ينظر بعدهم إليها من رآها.

ولنذكر لك آراء الإفرنج فيها، وما ظهر لهم بعد البحث التام حتى تقابله بما ذكره المؤرخون فيها من الأوهام. فنقول: ملخص كلام الإفرنج: إن الذي بناها هو ملوك مصر، وأنه اختلف في زمن بنائها، فبعضهم زعم أنها بنيت من منذ ثلاثة آلاف سنة، وأن الباني لها ملك يقال له: «قوف»٢ وبعضهم قال إن الباني لها ملك يقال له: «خميس» و«خيوبس»، والأظهر أن أحجارها منحوتة من صعيد مصر لا من البحيرة، وقال بعضهم: إن مدة بنائها لم تكن أزيد من ثلاثة وعشرين سنة، وأن العملة الذين بنوها كانوا ثلثمائة وستين ألف نفس، ولكن بمصاريف عظيمة، حتى إن ما صرف على البصل والكراث للعملة يبلغ على ما قاله «بلنياس» نحو عشرين مليونًا من القروش المصرية، ثم إن هذه الأهرام تنسب إلى أحد ملوك الفراعنة، وأنه أعد الهرم الأكبر ليضم جثته، والآخرين لدفن زوجته وبنته، فلم يدفن هو في الأول، بل بقي هذا الهرم الآن مفتوحًا. وأما الهرمان الآخران فدفنت فيهما بنته وزوجته، وسُدّا سدًا محكمًا، هذا ما حكاه الإفرنج في شأن الأهرام، وما قيل في عظم بناء الهرمين العظيمين:
خليلي ما تحت السماء بنية
يشابه بنياها بنا هرمي مصر
بناء يخاف الدهر منه وكل ما
على الأرض يخشى دائمًا سطوة الدهر

وقال بعضهم في الأهرام، مضمنًا عجز بيت من معلقة طرفة:

لقد بت بالأهرام حول أحبة
جفوني ببرد يابس وتجلد
يقول بها صحبي لبرد جليدها
وهجري: لا تهلك أسى وتجلد

قال السيوطي في منتهى العقول: إنه يتعجب من قول العلماء: إن أعجب ما في مصر الأهرام، مع أن البرابي بالصعيد أعجب منها، والبرابي هي المشهورة عند العامة بالمسلات، ولغرابتها نقل منها الإفرنج اثنتين إلى بلادهم: إحداهما نقلت إلى رومة في الزمن القديم، والأخرى نقلت إلى باريس في هذا العقد.

وأقول: حيث إن مصر أخذت الآن في أسباب التمدن، والتعلم على منوال بلاد أوروبا فهي أولى وأحق بما تركه لها سلفها من أنواع الزينة والصناعة، وسلبه عنها شيئًا بعد شيء يعد عند أرباب العقول من اختلاس حلي الغير للتحلي به، فهو أشبه بالغصب، وإثبات هذا لا يحتاج إلى برهان؛ لما أنه واضح البيان. وقد صنع نابليون في باريس عمودًا مفرغًا من المدافع التي سلبها من الموسقو والنمسا، وقد حاول الموسقو إسقاطه حين حلولهم بباريس، فما ظهر إلا عجزهم عن ذلك.

ثم بعد أن جزنا «فنتنبلو» شاهدنا مدينة «تيمور»٣ بعد سير أربع ساعات من «فنتنبلو» وهي على عشرين ساعة من باريس، ثم بعدها مررنا على مدينة «كونة»٤ على شط نهر «ألورة»٥ وهي مدينة تصنع فيها الهلاليب للمراكب السلطانية، ثم على مدينة «مولن»،٦ وبها كثير من أولاد العرب الذين صحبوا الفرنساوية من مصر إلى فرنسا ثم سرنا حتى وصلنا مدينة «رونتة»٧ وهي على سبعة وتسعين فرسخًا فرنساويًا على جنوب باريس، قبل الوصول إلى مدينة «ليون»٨ بثلاثة عشر فرسخًا، وأهلها تسعة آلاف نفس، وبها ديوان مشورة «للفبريقات: ومشورة للزراعة، وكتبخانة٩ ومخزن آلات طبيعية وهندسة، وبها قنطرة ظريفة على نهر «لوار» ورصيف مشهور، وهي ساحل لمركز تجارات «ليون» وغيرها من سائر أنواع البضائع، وبأراضيها مقاطع الرخام.

ونهر طلوارة يمكن المسير فيه بقرب هذه المدينة: وهذه المدينة غير مدينة «روان» البعيدة عن باريس جهة الشمال بثلاثين فرسخًا، والتي يمر بها السين، والتي هي من إقليم «نورمنديا».

ثم وصلنا إلى مدينة ليون — وقد تقدم الكلام عليها — ثم وصلنا إلى مدينة «أورغون»١٠ التي على جنوب باريس بمائة وثمانية وسبعين فرسخًا فرنساويًا وهي في سفح جبل — شهيرة بكون نابليون حال عبوره بها تخفى؛ خوفًا من أهلها، وما زلنا نمر ببلاد حتى وصلنا إلى «مرسيليا» وقد تقدم الكلام عليها مستوفى.١١ ومنها نزلنا في سفينة تجارية، وسرنا قاصدين إسكندرية، ولا حاجة أيضًا إلى ذكر ما شاهدناه؛ لأنه عين ما سبق في المقصد — غاية ما نقول: إن كل من يعرفني من الفرنساوية طلب مني أنني بمجرد دخول إسكندرية أذكر ما يقرع فكرتي مما أستغربه لبعد عهد من مصر، ولرؤيتي خلافه في بلاد الإفرنج، وتعودي على مشاهدة غيره يظهر لي غرابة ما أراه أول وهلة، حين وصولي، فوعدت، ووفيت.
هذا حاصل ما كان لخصته،١٢ حسب الإمكان، فلم يبق علينا حينئذ إلا ذكر خلاصة هذه الرحلة، وما دققت فيه النظر وأمعنت فيه الفكر، فأقول: ظهر لي بعد التأمل في آداب الفرنساوية وأحوالهم السياسية أنهم أقرب شبهًا بالعرب منهم للترك، ولغيرهم من الأجناس، وأقوى مظنة القرب بأمور، كالعرض والحرية والافتخار، ويسمون العرض شرفًا، ويقسمون به عند المهمات، وإذا عاهدوا عاهدوا عليه، ووفوا بعهودهم، ولا شك أن العرض عنه العرب العرباء أهم صفات الإنسان، كما تدل على ذلك أشعارهم، وتبرهن عليه آثارهم. قال الشاعر:
وإني لحلو للصديق، وإنني
لمر لذي الأضغان أبدى له بغضي
وإنني لأستغني فما أبطر الغنى
وأبذل ميسورًا لمن يبتغي قرضي
وأعسر أحيانًا فتنفذ عسرتي
وأدرك ميسور الغنى ومعي عرضي

وهتك العرض: هو ما يعبر به عندهم بالسبة والعار، قال الشاعر:

تعيرنا أنا قليل عدادنا١٣
فقلت لها إن الكرام قليل
وما ضرنا أنا قليل وجارنا
عزيز، وجار الأكثرين ذليل
يقرب حب الموت آجالنا لنا
وتكرهه آجالُهم فتطول
وإنا لقوم ما نرى القتل سُبة
إذا ما رأته عامر وسلول
إذا سيد منا خلا قام سيد
قؤول لما قال الكرام فصول
سلي عن جهلت الناس عنا وعنهم
فليس سواء عالم وجهول
ولا يظن بهم أنهم لعدم غيرتهم على نسائهم لأعرض لهم في ذلك؛ حيث إن العرض يظهر في هذا المعنى أكثر من غيره؛ لأنهم وإن فقدوا الغيرة، لكنهم إن علموا عليهن شيئًا كانوا شر١٤ الناس عليهن، وعلى أنفسهم، وعلى من خانهم في نسائهم، غاية الأمر أنهم يخطئون في تسليم القياد للنساء، وإن كانت المحصنات لا يخشى عليهن شيء كما قال الشاعر:
إذا غاب عنها البعل لم تفش سره
وترضي إياب البعل حين يؤوب

قال الزمخشري، عند قوله تعالى: حكاية عن قول العزيز: وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ: ما كان العزيز إلا حليمًا، وقيل: إنه كان قليل الغيرة، قال الشيخ أثير الدين أبو حيان، في تفسير هذه الآية الكريمة: وتربة مصر اقتضت هذا يعني قلة الغيرة، وأين هذا مما جرى لبعض ملوك بلادنا، وهو أنه كان مع ندمائه الخصيصين به في مجلس أنس وجارية تغني وراء الستارة فاستعاد بعض جلسائه بيتين من الجارية، وكانت قد غنت بهما، فما لبث أن جيء برأس الجارية مقطوعًا في طشت، وقال له الملك استعد البيتين من هذا الرأس، فسقط مغشيًا عليه، ومرض مدة حياة ذلك الملك! أقول: وأين غيرة هذا الملك من غيرة عبد المحسن الصوري على محبوبه، حيث قال:

تعقلته سكران من خمرة الصبا
به غفلة عن لوعتي ونحيبي
وشاركني في حبه كل ماجد
يشاركني في مهجتي بنصيب
فلا تلزموني غيرة ما ألفتها
فإن حبيبي من أحب حبيبي

انتهى «سكردان ابن حجلة صاحب ديوان الصبابة» وبالجملة فسائر الأمم تتشكى من النساء ولو العرب، قال الشاعر:

لقد باليت مظعن أم أوفى
ولكن أم أوفى لا تبالي

وقال آخر:

فإن تسألوني بالنساء فإنني
بصير بأدواء النساء طبيب
إذا شاب رأس المرء أو قال ماله
فليس له في ودهن نصيب
يردن ثراء المال حين علمنه
وشرخ الشباب عندهن عجيب
وحيث إن كثيرًا ما يقع السؤال من جميع الناس على حالة النساء عند الإفرنج كشفنا عن حالهن الغطاء، وملخص ذلك أيضًا:
إن وقوع اللخبطة١٥ بالنسبة لعفة النساء لا يأتي من كشفهن أو سترهن، بل التربية الجيدة والحسيسة والتعود على محبة واحد دون غيره، وعدم التشريك في المحبة والالتئام بين الزوجين، وقد جرب في بلاد فرنسا أن العفة تستولي على قلوب النساء المنسوبات إلى الرتبة الوسطى من الناس دون نساء الأعيان والرعاع، فنساء هاتين المرتبتين يقع عندهم الشبهة كثيرًا، ويتهمون في الغالب، فكثيرًا ما كانت تتهم الفرنساوية نساء العائلة الملكية المسماة «البربون»، على أن مما يقوي كلامهم ما وقع لزوجة ابن ملك فرنسا المعزول التي هي أم «الدوك دوبردو» الذي خلع عليه جده المملكة بعد عزله، ولم يقبله الفرنساوية، وقالوا إن هذا الولد ابن زنا، فإن أمه ولدت ولدًا آخر من الزنا، وادعت أنها تزوجت سرًا، فانكسر بذلك ناموسها، وبعد أن كانت تطلب مملكة فرنسا لابنها الأول، وكانت آخذة في أسباب توليته، وكان يخشى منها وقوع شيء في المملكة — سقطت من الأعين، وبعد أن وقعت في يد الفرنساوية، وكان يظن هلاكها، تركوا سبيلها قائلين: إنها صارت مهملة ورجعت إلى أهلها بولدها الأخير.

ومن أغرب ما وقع ببلاد الإفرنج في هذا الأمر، أن ملك الإنكليز «جرجس الرابع» اتهم زوجته بالفاحشة بعد أن عهد منها ذلك المرار العديدة، واشتهرت بذلك عند الخاص والعام، لكونها كانت تسافر ببلاد الإفرنج مع من تريد، ولها في كل محل عشاق، فلما رفع أمرها عند شرعهم، وأقيمت الدعوى كما ينبغي، وقصد بإثبات زناها طلاقها ليتزوج بغيرها، فلم تثبت أمور كافية في الطلاق، فحكم القاضي بإبقائها على عصمته قهرًا عنه، فبقيا متفرقين، ولكن لم يتزوج غيرها، وذاع أمرهما وشاع، ولكن في الحقيقة وإن كان يعتقد فيها ذلك إلا أنه بمجرد القرائن لا بالمشاهدة، ألا لا نثلم عرضه، فمادة العرض التي تشبه الفرنساوية فيها العرب هو اعتبار المروءة وصدق المقال، وغير ذلك من صفات الكمال.

ويدخل في العرض أيضًا العفاف، فإنهم تقل فيهم دناءة النفس، وهذه الصفة من الصفات الموجودة عند العرب، والمركوزة في طباعهم الشريفة، وإن كانت الآن قد تلاشت فيهم، واضمحلت فإنما هو لكونهم قاسوا مشاق الظلم، ونكبات الدهر، وأحوجهم الحال إلى التذلل والسؤال، ومع ذلك فقد بقي منهم من هو على أصل الفطرة العربية، عفيف النفس على الهمة، كما قال الشاعر:

فدعني ونفسي والعفاف فإنني
أخذت عفافي في حياتي ديدني
وأصعب من قطع اليدين على الفتى
صنيعة بر نالها من يدي دني

وأما الحرية التي تتطلبها الإفرنج دائمًا فكانت أيضًا من طباع العرب في قديم الزمان، كما تنطق به المفاخرة التي وقعت بين «النعمان بن المنذر» ملك العرب، «وكسرى» ملك الفرس.

وصورتها: إنه قدم النعمان على كسرى، وكان عنده وفود الروم والهند والصين والعجم والترك وغيرهم، فذكروا من ملوكهم وبلادهم وعماراتهم وحصونهم، فافتخر النعمان بالعرب وفضلهم على جميع الأمم، ولم يستثن فارسًا ولا غيرها.

فقال كسرى، وقد أخذته الغيرة: يا نعمان، لقد فكرت في العرب وفي غيرهم من الأمم ونظرت في حال من يقدم عليَّ من الوفود، فوجدت الروم لها حظ في اجتماع ألفتها، وعظيم سلطانها وكثرة مدائنها، ووثيق دينها.

ورأيت الهند شهيرة الحكماء طيبة الثراء، كثيرة الأنهار، والبلاد والثمار، عجيبة الصناعة، مرونقة الحسان، معمورة بالأهل.

وكذلك الصين عجيبة في اجتماعها، وكثرة صنائع أيديها، وهمتها في الحروب وصنعة الحديد، وأن لها ملكًا يجمعها.

وكذلك الترك مع ما هم عليه من سوء الحال في المعاش، وقلة الريف والثمار والحصون، وما هو رأس عمارة الدنيا من المساكن والملابس، فإن لهم بعد ذلك ملوكًا تضم قاصيهم، وتدبر أمورهم.

ولم أر للعرب شيئًا من ذلك من خصال الخير في أمر دين ولا دنيا، ولا حرمة ولا قوة، ولا عقد، ولا حكمة، مع ما يدل على تدانيها وذلها، وضعف همتها، بحالهم التي هم بها مع الوحوش النافرة، والطيور الحائرة يقتلون أولادهم من الفاقة، ويأكل بعضهم بعضًا من الحاجة، قد حرموا من مطاعم الدنيا ومشاربها وملابسها ولهوها ولذاتها، وأعظم طعام ظفروا به لحوم الإبل التي يعافها كثير من الطيور والسباع؛ لثقلها، وسوء طعمها، وخوف دائها، وإن قرى١٦ أحد ضيفًا اعتدها مكرمة، وإن أطعم لقمة عدها غنيمة، تنطق بذلك أشعارهم، وتفتخر بذلك رجالهم، ما عدا هذه التنوخية التي أسس جدي اجتماعها، وشد مملكتها ومنعها من عدوها، ليجري له ذلك إلى يومنا هذا، فإن لها مع ذلك آثارًا وحصونًا وأموالاً تشبه أموال بعض الناس، لكني أراكم لا تسكنون على ما بكم من الذلة والقلة والفاقة والبؤس حتى تفتخرون، وتريدون أن تنزلوا فوق مراتب الناس.

فقال النعمان: أصلح الله الملك.. صدقت، إن هذه الأمة تسمو بفضلها، وبعظم خطبها، وعلو درجتها، إلا أن عندي جوابًا في كل ما نطق به الملك من غير رده عليه، ولا تكذيب له! فإن أمَّنتني من الغضب مما أتكلم به، فعلت.

قال كسرى: [تكلم] وأنت آمن، فقال النعمان: أمّا أمتك فلا تنازع في الفضل لموضعها التي هي به من عقولها وأخلاقها، وبسطة محلها، وبحبوحة عزها، وما كرمها الله تعالى به من ولايتك وولاية آبائك وأجدادك، وأما الأمم التي ذكرت فما من أمة إلا فضلتها العرب بفضلها.

قال كسرى: لماذا؟ قال النعمان: بعزها ومنعتها، وحسن وجوهها وذمتها وبأسها ورياستها وسخائها وحكمة ألسنتها، وشدة عقولها ووفائها.

فأما عزها ومنعتها؛ فإنها لم تزل مجاورة لآبائك وأجدادك الذين فتحوا البلاد، ووطئوا العباد، وأقاموا الملك، وقادوا الجيوش، ولم يطمع فيهم طامع، ولم يزالوا عندهم محترمين، ولا نال أحدًا منهم نائل، بل حصونهم ظهور خيولهم، ومهادهم الأرض، وسقوفهم السماء وإلى جانبهم السيوف، وعدتهم السقُف؛ إذ غيرها من الأمم، إنما عزها بالحجارة والطين والجزائر والبحور والقلاع والحصون.

وأما حسن وجوهها وألوانها، فقد يعرف بذلك فضلهم على الهند المحترقة، والصين المتجمشة، والترك المشوهة، والروم المقترة الوجوه.

وأما أنسابها وأحسابها: فليس أمة من الأمم إلا وقد جهل أباؤها وأصولها، وكثير من أولها وآخرها، حتى إن أحدهم ليسأل عمن وراء أبيه فلا ينسب، ولا يعرفه، وليس أحد من العرب إلا ويسمي آباءه أبا فأبًا أحاطوا بذلك أحسابهم، وحفظوا بذلك أنسابهم، فلا يدخل رجل في غير قومه، ولا ينسب إلى غير نسبه، ولا يدعى إلى غير أبيه.

وأما شجاعتها وسخاؤها: فإن أدناهم رجلاً يكون عنده البكرة والناب، عليها بلغته وحمولته وشبعه وريه، فيطرقه الطارق الذي يغتذى بالفلذة، ويجتزئ١٧ بالشربة، فيعقرها له، ويرضى أن يخرج له عن دنياه كلها فيما يكتسبه من حسن الأحدوثة وطيب الذكر والثناء.

وأما حكمة ألسنتها: فإن الله تعالى أعطاهم أشعارًا، ورونقًا كاملاً، وحسن وزنه وقوافيه، مع معرفتهم بالإشارة وضربهم الأمثال: وبلاغتهم في الصفات ما ليس من ألسنة الأجناس.

ثم إن خيولهم أفضل الخيول، ونساءهم أعف النساء، ولباسهم أحسن اللباس، ومعادنهم الذهب والفضة، وأحجار جبالهم الجزع، ومطاياهم التي لا يبلغ إلا على مثلها سفر، ولا يقطع إلا بمثلها بلد قفر.

وأما دينها وشريعتها، فإنهم متمسكون به أعظم تمسك، وإن لهم أشهرًا حرمًا، وبلدًا محرمًا، وبيتًا محجوجًا، ينسكون فيه مناسكهم، ويذبحون في ذبائحهم، فيلقى الرجل فيه قاتل أبيه وأخيه، وهو قادر على أخذ ثأره منه وإدراك رغمه فيه، فيحجزه كرمه، ويمنعه دينه عن تناوله إياه؛ احترامًا لذلك البيت وتشريفًا له.

وأما وفاؤهم: فإن أحدهم يلحظ اللحظة، فهي عقد لأهلها، لا يرجع عما أضمره في نفسه حتى يبلغه، وأحدهم يرفع عودًا من الأرض، فيكون رهنًا بدينه فلا يطلق رهنه ولا يخفر ذمته؛ خوفًا من الله تعالى، وإن أحدهم يبلغه أن أحدًا استجار به وعسى أن يكون نائيًا عن داره، فيمنع عنه عدوه، ويحميه منه ولو تفنى قبيلته، أو تلك القبيلة التي استجار عليها، وذلك لما أخفر من جواره، وإن أحدهم ليلجأ إليه المحروم، والمحدث عنه، بغير معرفة ولا قرابة فينزلونه عندهم، وتكون أنفسهم وأموالهم دون ماله.

وأما قولك أيضًا الملك، حفظك الله: إنهم يقتلون أولادهم من الحاجة، فإنما يفعله من فعله منهم رغم أنفه حذرًا من العار، وخيفة وغيرة من الأزواج.

وأما قولك أيها الملك: إن أفضل طعام ظفروا به لحوم الإبل على ما وصفت منها، فما تركوا ما دونها إلا احتقارًا له، فعمدوا إلى أجلها وأفضلها، فكانت مراكبهم ومطاعمهم، من أنها أكثر البهائم لحومًا، وأطيبها شحومًا، وأرقها ألبانًا، وأقلها غائلة، وأحلها مضغة، وإنه لا شيء من اللحوم يفاخر لحمها إلا استبان فضلها عليه.

وأما محاربتهم وأكلهم بعضهم بعضًا، وتركهم الانقياد إلى رجل واحد يسوسهم ويدبر أمرهم، فإنما يفعل ذلك من الأمم من علمت الضعف من أنفسها، وتخوفت من نهوض عدوها عليها، فإنهم يحتاجون إلى ملك، يدبر أمرهم، ويكون رجلاً من أعظمهم شأنًا وقدرًا، ويكونون معترفين بشرفه على سائرهم فينقادون إليه بأزمَّتهم، وينقادون إلى أمره.

وأما العرب: أيها الملك، فإن كثيرًا فيهم، لعظم كرمهم ووقائهم، ودينهم، وحكمة ألسنتهم، وسخاء نفوسهم يقولون: إنهم ملوك بأجمعهم مع رفعتهم، فلا ينقاد أحد إلى الآخر فإنهم أشراف.

وأما اليمن، التي وصفها الملك: فإن آباءك وأجدادك أعلم بصاحبها لما أتاه ملك الحبشة في مائتي ألف، وتغلب على ملكه وجاء إلى بابك وهو مستصرخ ذليل حقير مسلوب فلم يجره أحد من أجدادك ولا آبائك، فاستجار بالعرب فأجاروه، ولولا ما وتر به من بلية العرب لمال إلى نقص، ولم يرجع إلى محله، ولولا أنه وجد من يجيد معه الطعان بقتل الأحرار، وتبدد شمل الكفار، وبذبح العبيد الأشرار لم يرجع إلى اليمن.

قال: فعجب كسرى مما جاء به النعمان، ثم قال له: إنك لأهل لموضعك من الرياسة، ولأهلك ولأهل إقليمك، ولما هو أفضل منه ثم كساه وأنعم عليه، وأعطاه أشياء جليلة ثم سيَّره إلى موضعه من الحيرة، ثم بعدُ سيّر إليه وقتله.

والتنوخية فرقة من اليمن، وقال المتنبي على لسان بعضهم:

قضاعة تعلم أني الفتى الـ
ـذي ادخرت لصروف الزمان
ومجدي يدل بني خندف
على أن كل كريم يمان
أنا ابن اللقاء أنا ابن السخاء
أنا ابن الضراب أنا ابن الطعان
أنا ابن الفيافي أنا ابن القوافي
أنا ابن السروج أنا ابن الرعان
طويل النجاد طويل العماد
طويل القناة طويل السنان
حديد اللحاظ حديد الحفاظ
حديد الحسام حديد الجنان
يسابق سيفي منايا العباد
إليهم كأنهم في رهان
يرى حده غامضات القلوب
إذا كنت في هبوة لا أراني
سأجعله حكمًا في النفوس
ولو ناب عنه لساني كفاني

وعن أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال: حضر رجل من أهالي مصر إلى عمر بن الخطاب، وجعل يشكو من عمرو بن العاص، فقال: يا أمير المؤمنين إن هذا مقام العائذ.

فقال عمر: لقد عذت فما شأنك؟ قال تسابقت بفرسي أنا وابن عمرو بن العاص فسبقته، فحمل عليَّ بسوط في يده، وجعل يقنعني بالسوط، ويقول لي: أنا ابن الأكرمين، وبلغ ذلك لعمرو بن العاص فخشي أن آتيك لأشتكي ولده وحبسني فتفلت من الحبس، وها أنا قد أتيتُك.

قال: فكتب كتابًا: من عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص، إنه إذا أتاك كتابي هذا فاحضر الموسم — يعني الحج — أنت وابنك، ثم التفت إلى المصري، وقال له: قم حتى يأتي غريمك، فلما حضر عمرو بن العاص وابنه الحجَّ وجلس عمر بن الخطاب وجلسوا بين يديه، وشكى المصري كما شكى أول مرة، فأومأ عمر بن الخطاب، وقال له: خذ الدرة وانزل بها عليه: قال: فدنا المصري من ابن عمرو بن العاص، ونزل عليه بها.

وعن أنس: قال: والله لقد ضربه، ونحن نشتهي أن يضربه، فلم يزل يضربه حتى استحببنا أن لا يضربه؛ وذلك من كثرة ما يضربه، وعمر (رضى الله عنه) يقول: اضرب ابن الأكرمين.

قال عمرو بن العاص: قد شفيت يا أمير المؤمنين، قال عمر بن الخطاب للمصري: انزع عمامته، وضع الدرة على صلعة عمرو، فخاف المصري من ذلك، وقال يا أمير المؤمنين قد ضربت من ضربني فما لي أضرب من لم يضربني.

فقال عمر (رضى الله عنه): والله لو فعلت لما منعك أحد.

ثم التفت (رضى الله عنه): وقال لعمرو بن العاص: متى استعبدتم١٨ الناس وقد ولدتهم أمهاتهم١٩ أحرارًا. انتهى.

فمنه يفهم أن الحرية أيضًا من طباع العرب من قديم الزمان.

هذا، ولا ينبغي لنا أن نختم هذه الرحلة من غير أن نشكر محاسن من ساعد الوالي في نجاح مقصوده من ترتيب أمور التلامذة وتعليمهم بمدينة باريس محب البلاد المصرية وأهلها «الخواجة جومار» فإنه يسعى بهمته ورغبته في تنفيذ مقصد الوالي ويسارع في المصلحة بلا إنكار فكأنه من أبناء مصر البارين بها فهو جدير بأن ينظم في سلك المحبين.

ومما يدل على ذلك غاية الدلالة ما ذكره في روزنامته، التي ألفها، لاستعمال مصر والشام سنة ألف ومائتين وأربع وأربعين من الهجرة، فإنه ذكر فيها أنه إن صدرت له إرادة [من الوالي] ليؤلفن كل عام روزنامة بهذا الوضع؛ ليعين على حسن تمدن الآيالات المصرية، فمن جملة ما قاله في مقدمته أنه يذكر في هذه الروزنامة عدة أمور:
  • الأمر الأول: الدلالة على تقدم الحرف والصنائع اللازمة لمصر من أولها لآخرها.
  • الثاني: تجارة أهالي أوروبا وآسيا وأفريقية كقوافل بلاد البربر ودارفو وسنار وبلاد الحجاز، ومقابلة الأقيسة والمكاييل والموازين المختلفة باختلاف البلاد المستعملة هي فيها.
  • والثالث: ذكر أمور الزراعة فإنها كانت سببًا في سالف الأعصر في غنى أهل مصر؛ فلهذا ينبغي أن تكون أول ما تهتم به الدولة في مملكة مصر الطيبة التربية والزراعة كثير الفروع المهمة، فمن ذلك علم توفير المصاريف الخلانية، ويتشعب عنه إصلاح المزارع، والمروج المستحدثة المدبرة وتتميم زراعة القطن والنيلة والعنب والزيتون والتوت واستخراج دقيق النيلة، واستخراج أنواع كثيرة من الزيوت، ومعرفة تربية النحل ودود القز، ودود الصباغة، وتعهد الحيوانات الأهلية، وتحسين الحيوانات البلدية بعزلها عن غيرها كالخيل والمعز، وحيوانات الأصواف، وجلب البهائم البرانية ومعرفة طِب البهائم، ومعالجة أمراضها كمرض «السواف» وحفظ الحبوب من السوسة، وغرس الأشجار، وترتيبها بحافات الطرق، وخدمة البساتين وسائر الأبنية الخلائية المناسبة لمصالح الزراعة. وفي مادة الزراعة نذكر الترع والخلجان المعدة لسقي الأراضي وللأسفار، وكذلك نذكر الطرق والجسور والقناطر في السهول والجبال المعدة لتوصيل الميال، فهذه كلها تذكر في الفلاحة.
  • الرابع: نتكلم على أمور مختلفة من علوم الطبيعة ومن علم المواليد الثلاثة، ومن العلوم الرياضية وهناك نتكلم على المادة المغناطيسية التي تستعملها الأطباء في معالجة الشلل ونحوه، وكذلك القوة الكهربائية، والحرارة الكروية، والحوادث السماوية، والندى، والمطر الذي يحدث بين المدارين، وكذلك نتكلم على أحجار الصواعق، وعلى جبال النار المسماة بالبركانية، وعلى الآلات الطبيعية كميزان الزمان، وميزان الحر، وميزان الرطوبة، ووقاية الرعد، والنظارات الفلكية، والنظارات المعظمة للأشياء الدقيقة التي لا يدركها النظر.

    ونتكلم أيضًا على علم المعادن واستخراجها وقطع الحجارة من مقاطعها، وعلى علم الحشائش الطبية، والنباتات المستعملة في الفنون والصنائع، وعلى البهائم النافعة، وعلى علم الجبر والمقابلة والهندسة.

  • الأمر الخامس: يشتمل على جملة فروع من علم توفير المصاريف وسياسة الدولة، وعلى تنبيهات على علم أحوال الممالك والدول، وعلى سبب ثروتها وغنى أهلها، وعلى أحوال المعاش والمعاد وعلى ولادة الذكور والإناث في كل بلدة من البلاد، وعلى الإدارة الملكية، وعلى الأصول العامة المستعملة أساسًا لسياسات الإفرنج، وهي الحقوق العقلية والحقوق القانونية والحقوق البشرية، أي: الحقوق التي للدول بعضها على بعض.
  • السادس: سـيـاسـة الصـحـة العـمـومـيـة والخصوصية، ففي ذلك نتكلم على تلقيح البقري للجدريّ، وعلى الطاعون ومعالجاته، وعلى الأمراض والعوارض العامة وعلى بعض تشريح.
  • السابع: نذكر فيه جملة تعليمات مختلفة من مسائل أدبية وفلسفية ولغات وعلوم مثل علم الفصاحة، وفيه نتكلم أيضًا على المكاتب والمدارس في البلاد المختلفة، ونبذات في تواريخ البلاد خصوصًا مصر، وعلى حكايات ونوادر من غرائب الآداب والبلاغة الإفرنجية والمشرقية، وكذلك نذكر شيئًا من علم المنطق، ونبين الوسائط المسهلة المعلمة بالإيجاز للقراءة والكتابة والحساب، وطرق تعليم هذه الأشياء في أقرب زمن لسائر العامة.
  • الثامن: نبحث فيه عن عدة أشياء متنوعة، وفيه نذكر أخبار التجارة والسفن البحرية وإقامة العربات العامة وتحسين الطرق والترع والخلجان والقناطر المعلقة، والإشارة المسماة تيلغراف — يعني إشارة الأخبار — وجميع الأشغال المتجددة عند الإفرنج، ونضم لذلك لوحات أشكال لكمال الفائدة، وكذلك نرسم خرطات جغرافية وصور النباتات والحيوانات التي تنقل من البلاد الغريبة وتربى في مصر، ونذكر كثيرًا من الأمور التي تتجدد على تداور الأزمان، وبالجملة فنذكر نبذة صغيرة متشعبة من أصول عظيمة ومستفادة من أفواه الثقات سهلة الفهم لسائر الناس، ولا نستعير منها شيئًا من صعاب الكتب انتهى كلامه، ولو ينجز ما وعده به لأنه علق ذلك على الإرادة السنية ولم يصدر له أمر إلى الآن، وبالجملة فهو من المولعين بحب مصر ظاهرًا وباطنًا ومن الراغبين في خدمة الوالي حبًا له ولدولته.

وهذا آخر ما يسره الله — سبحانه وتعالى — في ذكر حوادث السفر لتلك الجهة التي لا ينكر معارفها إلا من لا إنصاف عنده ولا معرفة له، قال الشاعر:

قد تنكر العينُ ضوء الشمس من رمد
وينكر الفم طعم الماء من سقم
والفضل كالشمس لا يخفى على أحد
إلا على أكمه عما يراه عمي

ولا ينبغي أن يمنع ذو الحق حقه، كما قال الشاعر في هذه الأبيات المملوءة من الحكمة:

إذا كنت في حاجة مرسلاً
فأرسل حكيمًا ولا توصه
وإن ناصحٌ منك يومًا دنا
فلا تنأ عنه ولا تقصه
وإن باب أمر عليك التوى
فشاور لبيبًا ولا تعصه
وذو الحق لا تنتقص حقه
فإن القطيعة في نقصه
ولا تذكر الدهر في مجلس
حديثًا إذا كنت لم تحصه
وقص الحديث إلى أهله
فإن الوثيقة في قصه
ولا تحرصن فرب امرئ
حريص مضاع على حرصه
وكم من فتى ساقط عقله
وقد يعجب الناس من شخصه
وآخر تحسبه أنوكا
ويأتيك بالأمر من فصه

ولا أحد يخلص من قال الناس وقيلهم، كما قال الشاعر:

ومن ذا الذي ينجو من الناس سالمًا
وللناس قال بالظنون وقيل

وحيث كان العمل بالنية، والمدار على حسن الطوية؛ فلا معول على من لم يكن نيّر السياسة، ساطع الكياسة، ولا اكتراث إلا بمن رقي رتبة عليه في الرسوم والقوانين وتشبث بالشريعة، وكان فيها ذا رياسة، ودرى أن القصد إنما هو حس أهل ديارنا على استجلاب ما يكسبهم القوة والبأس، وما يؤهلهم لإملائهم الأحكام على هؤلاء الناس.

وبالجملة فنحن الآن على ما كان عليه الأمر في زمن الخلفاء العباسية، كما قال الشاعر:

وأزرق الصبح يبدو قبل أبيضه
وأول الغيث قطر ثم ينهمل

ولبعض أقاربي:

يا من غدا معجبًا مما اقترحت وقد
أضحى يروم مقال العاذل اللاحي
أما رأيت إذا شمسُ الضحى غربت
يلجا الحريض إلى ضوء بمصباح

وقال آخر:

ليس الفتى بفتى لا يستضاء به
ولا يكون له في الأرض آثار

وعلى كل حال فأرجو ممن نظر فيه أن يتصفحه بجملته؛ ليكون على بصيرة مما يقول، فإن المتصفح للكتاب أبصر بمواقع الخلل منه، ولا أقول إلا كما قال الشاعر:

فإليك وشيًا حاكه
في الطُّرس ذو باع قصير
واستر إذا عيب بدا
والله يعفو عن كثير
١  في الأصل «وذو» وهو خطأ.
٢  لعله خوفو.
٣  Nemours.
٤  Cosne.
٥  Loire.
٦  Moulins.
٧  Roanne.
٨  Lyon.
٩  المكتبة هي الكتبخانة.
١٠  La Ville dOrgon.
١١  في الأصل: «مستوفيًا».
١٢  في الأصل: «لخصت».
١٣  الرواية المشهورة: «عديدنا».
١٤  في الأصل: «أشر».
١٥  لعله يريد الاختلاط.
١٦  في الأصل: «أقرى».
١٧  في الأصل «يفتدى بالقادات، ويجترئ» وهو تحريف.
١٨  في الأصل: «متى استعبدت من ناس».
١٩  في الأصل: «وقد ولدتهم أمهم».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤