الفصل الأول

في تخطيط «باريس» من جهة وضعها الجغرافي، وطبيعة أرضها، ومزاج إقليمها وقطرها

اعلم أن هذه المدينة تسمى عند الفرنسيس «باري» (بالباء الفارسية التي تلفظ بين الفاء والباء) ولكن يكتب هذا الاسم «باريس» ولا ينطق بالسين أبدًا فيه، كما هو عادة الفرنساوية من أنهم يكتبون بعض الحروف ولا يلفظون بها أبدًا، خصوصًا حرف السين في آخر بعض الكلمات؛ فإنه لا ينطق به أبدًا مثلاً أتينه (بإمالة التاء) مدينة حكماء اليونان تكتب بالفرنساوية (أتينس) أو (باريز)، وربما قالوا «فارس». وأظن أن الأوفق كتابتها بالسين، وإن اشتهر على ألسنة غير أهلها قراءتها بالزاي، ولعل ذلك إنما نشأ عن أن السين في اللغة الفرنساوية قد تقرأ زايًا في بعض الأحيان ببعض شروط، وإن كانت مفقودة هنا إلا في حال النسبة فإن النسبة إلى «باريس» عند الفرنسيس بارزياني، وهذا بعينه هو السبب؛ لأن النسبة ترد الأشياء إلى أصولها، ولكن هذه القاعدة في النسبة العربية، والنسبة هنا أعجمية، وقد مشيت في بعض أشعاري التي أنشدتها فيها كتابتها بالسين.

حيث قلت:

لئن طلقت باريسًا ثلاثا
فما هذا لغير وصال مصر
فكل منهما عندي عروس
ولكن مصر ليست بنت كفر!

وقلت:

لقد ذكروا شموس الحسن طرا
وقالوا إن مطلعًا بمصر

•••

ولكن لو رأوها وهي تبدو
بباريس لخصوها بذكر

وسميت بذلك؛ لأن طائفة من قدماء الفرنساوية كانت على نهر السين تسمى، (الباريزيين)، ومعناها في اللسان القديم الفرنساوي سكان الأطراف والحواشي، وليس هذا الاسم منقولاً عن «باريس» اسم رجل شهير كما قاله بعضهم.

ثم إن هذه المدينة من أعمر مدائن الدنيا، ومن أعظم مدائن الإفرنج الآن، وهي كرسي بلاد الفرنسيس، وقاعدة ملك فرنسا، وسيأتي تفصيل ذلك في محله.

وهي موضوعة في التاسعة والأربعين درجة وخمسين دقيقة من العرض الشمالي، يعني أنها بعيدة عن خط الاستواء جهة الشمال بهذا القدر.

وأما طولها فإنه يختلف، فإذا اعتبرنا خط نصف النهار الذي ينسب إليه الفرنساوية أطوال سائر الأماكن، وهو خط نصف النهار المرسوم في رصدهم السلطاني، وهو يمر بباريس، فهو حينئذ مبدأ الأطوال على حساب الفرنساوية، كان طولها صفرًا، وأما إذا حسبنا على خط نصف النهار الذي كان يأخذ بطليموس الأطوال منه، ولا يزال١ إلى الآن مبدأ أطوال بعض الأمم، كأهل «الفلمنك» وهو خط نصف نهار «الجزائر الخالدات» ببحر المغرب، كانت باريس في عشرين درجة تقريبًا من الطول الشرقي.
ولنذكر لك هنا كيفية معرفة درجتي الطول والعرض في٢ مكان من الأمكنة، وثمرة ذلك، وإن كان يخرجنا عما نحن بصدده فنقول: اعلم أن علماء الهيئة قد أوضحوا بالأدلة كروية الأرض، وإنها غير صادقة التكوير، ثم صنعوا على هيئتها صورة، وسموها صورة الأرض.

ولإمكان تقسيم الأرض، وتسهيل معرفتها، توهموا فيها دوائر أنصاف نهار ودوائر متوازية، ومحورًا وقطبين ورسموها على صورتها المصطنعة؛ فمحور الكرة الأرضية هو الخط الموازي لمحور الفلك، وطرفاه هما القطبان، ويسمى أحدهما القطب الشمالي، والآخر القطب الجنوبي، ودوائر أنصاف النهار هي الدوائر التي تعبر من أحد القطبين إلى الآخر، وعلة تسميتها بذلك أنه إذا كانت الشمس في سمت رأس محل يمر عليه هذا الخط وقت الظهر بذلك المحل، ومركز هذه الدوائر هو مركز الأرض.

ولما الدوائر المتوازية فهي الدوائر الواقعة أعمدة على دوائر أنصاف النهار، وهي التي بينها وبين مركزها تواز على محور الأرض، (ص ٤٥) وأعظمها دائرة الاستواء وهي الدائرة العظمى السنوية البعد من القطبين، وهي تنصف الكرة نصفين أحدهما النصف الشمال، والآخر النصف الجنوبي، ثم إن دوائر أنصاف النهار. والدوائر المتوازية كسائر الدوائر، تنقسم إلى ثلاثمائة وستين درجة وكل درجة تتجزأ إلى ستين دقيقة، وكل دقيقة إلى ستين ثانية، وكل ثانية إلى ستين ثالثة، وهكذا.

وللإفرنج تقسيم آخر جديد، وهو: أن الدائرة تنقسم إلى أربعة أرباع، وكل ربع يتجزأ مائة، تسمى درجات مثينية، وكل درجة مائة دقيقة مثينية، وكل دقيقة مائة ثانية كذلك، وهكذا. وهذا نشأ عن استعمالهم الحساب الأعشاري، والحساب المتري، والأول أشهر استعمالا، وبهذه الدوائر العظمى يتحدد الطول والعرض؛ وذلك أن العرض هو بعد الدائرة متوازية عن المتوازية التي هي دائرة الاستواء، فإن أخذته جهة الشمال كان عرضًا شماليًا، ونهايته تسعون درجة، وإن كان جهة الجنوب فجنوبي، ونهايته كذلك، وأما الطول فهو بعد خط نصف النهار عن خط نصف نهار آخر مصطلح على أنه أولى، وهو شرقي، وقدره مائة وثمانون درجة، وغربي وقدره كذلك، وقد وضع أصحاب الجغرافيا في الكرة٣ أو الخرطات على كل دائرة متوازية ما تبعد به من الدرجات عن دائرة الاستواء، كما جعلوا على كل دائرة نصف نهار عدد درج بعدها من دائرة نصف النهار الأولية.

وقد رسم كما أسلفناه «بطليموس» الحكيم دائرة نصف النهار الأولية في «الجزائر الخالدات»، فلما انكشفت بلاد أمريكة اختار الإفرنج أن يجعل كل قطر من الأقطار خط نصف نهارهم الأولي ببلادهم، لينسبوا إليها ما عداها، كما صنع الفرنساوية، فإنهم جعلوا خط نصف نهارهم الأولي في مدينة باريس، وبقيت منهم أمم كالفلمنك على أخذ الأطوال من جزيرة الحديد بالجزائر الخالدات.

وفي الواقع أن الأولى، كما هو الظاهر، اتخاذ مبدأ أطوال مشترك لجميع الأمم ينسب إليه ما عداه، ويكون في قطر لا عمار بعده معلوم أو ممتاز بمزية؛ كمكة المشرفة، ثم إن كيفية تحديد أن الشمس أو الأرض، كما يقوله الإفرنج، تقطع حركتها اليومية في أربع وعشرين ساعة فهي تقطع من الدائرة التي ترسمها في سيرها خمس عشرة (ص ٤٦) درجة في كل ساعة فتقطع درجة كل أربع دقائق يعني أنه إذا دخل وقت الظهر في القاهرة مثلاً فلا يدخل وقته في المكان الذي يبعد عنها جهة الغرب بخمس عشرة درجة إلا بعد ساعة ويدخل بعد ساعتين، فيما يبعد عنها بثلاثين درجة، وهلم جرا، وبعكس ذلك في المكان الذي يبعد عنها جهة المشرق، فإنه إذا كان الظهر في القاهرة يكون قد مضى ساعة بعد الظهر في المكان الذي يبعد عنها جهة المشرق بخمس عشرة درجة، ويكون مضى ساعتان فيما يبعد عنها في هذه الجهة بثلاثين درجة إلى آخره.

فلنذكر هنا — حينئذٍ — متى يكون الظهر في «باريس» إذا كان الظهر في أصول البلاد الغربية منها والشرقية، وبذلك يفهم بعدها عن هذه البلاد، فيقال: إذا كان وقت الظهر في مصر القاهرة لا يدخل وقته في «باريس» إلا بعد مضي ساعتين إلا أربع دقائق، وإذا كان الظهر في «إسلامبول» كان في «باريس» بعد مضي ساعة وست وأربعين دقيقة، وإذا كان في بغداد كان دخوله في باريس بعد ساعتين وثمان وأربعين دقيقة وفي حلب إذا دخل الظهر لا يدخل في «باريس» إلا بعد ساعتين وثلث، وإذا دخل الظهر في الجزائر لا يدخل في باريس إلا بعد أربع دقائق تقريبًا، وإذا دخل في «تونس» فيدخل في «باريس» بعد مضي نص ساعة ودقيقتين، ووقت الظهر في «أصفهان» يدخل في «باريس» بعد مضي ثلاث ساعات واثنتين وعشرين دقيقة، وإذا كان في مدينة «بكين» (بكسر الباء والكاف) كرسي ملك الصين، يكون في «باريس» سبع ساعات وإحدى وأربعون دقيقة، وفي مدينة الباب الأبواب٤ تكون ساعة وثماني وأربعون دقيقة، وفي مدينة «رومة الكبرى نصف ساعة وثماني دقائق وهذه البلاد على الشرق من مدينة «باريس».

وأما البلاد التي على غربيها فإذا كان الظهر في مدينة «مدريد» كرسي ملك الأندلس؛ فإنه يكون فات وقته في «باريس» بأربع دقائق وإذا كان في مدينة «أشبونة» كرسي البرتوغال فإنه يكون فات وقته في باريس بخمس دقائق ونصف، وإذا دخل وقته في «فيلادلفيا» بكسر الفاء، وسكون الياء، وفتح اللام، وكسر الدال المهملة، وسكون اللام، وكسر الفاء) مدينة بأمريكة، فإنه يكون قد مضى بعده في «باريس» خمس (ص ٤٧) ساعات وثلاث عشرة دقيقة، وإذا كان وقته في مدينة «ريوجانيرو» (بكسر الراء وضم الباء، وكسر النون، وسكون الياء) كرسي سلطنة «إبريزيلة» في أمريكة، فهو ثلاث ساعات تقريبًا، وإذا كان نصف النهار في جزيرة «كنفو» في «أمريكة الموسقو» يكون نصف الليل في «باريس» فإنهما متقاطران.

والمسافة بين «باريس» و«إسكندرية» سبعمائة وتسعة وستون فرسخًا فرنساويًا، وبينها وبين القاهرة ثمانمائة وتسعة فراسخ، وبينها وبين مكة المشرفة سبعمائة وأربعون فرسخًا، وبينها وبين «إسلامبول» خمسمائة وستون فرسخًا، وبينها وبين حلب ثمانمائة وستة وستون فرسخًا، وبينها وبين طمراكش سبعمائة وخمسة وعشرون فرسخًا، وبينها وبين «تونس» ثلاثمائة وسبعون فرسخًا، وبينها وبين مدينة «لوندرة» كرسي الإنكليز مائة فرسخ، وبينها وبين مدينة «بتربرغ»٥ كرسي الموسقو خمسمائة وستة وأربعون فرسخًا، وبينها وبين مدينة «موسقو» كرسي الموسقوبية القديم ستمائة فرسخ وبينها وبين مدينة «رومة» كرسي البابا ثلاثمائة وخمسة وعشرون، وبينها وبين مدينة «بجة»٦ كرسي النيمسا ثلثمائة وخمسة وعشرون أيضًا، وبينها وبين مدينة «نابلي» ثلاثمائة وأربعة وثمانون فرسخًا.
وارتفاعها بالنسبة لسطح البحر المحيط ثماني عشرة قامة، ومن المعلوم أنها من بلاد المنطقة المعتدلة، فليست في غاية الحرارة، ولا في غاية البرودة، فإن أقصى درجات الحر فيها إحدى وثلاثين درجة ونصفًا، وهذا نادر. والحر الأوسط تسع وعشرون درجة، وأقصى درجات البرد بها في الغالب اثنتا عشرة درجة، وندر بلوغه ثماني عشرة،٧ والبرد الأوسط سبع درجات.

ومعلوم أن درجة الحر تحسب من شروع المتجمدات في الذوبان إلى حد فوران الماء، ودرجات البرد من شروعه في الجمود.

والأغلب فيها عدم صحو الزمن وكثرة الغيوم، بحيث تمكث الشمس في الشتاء عدة أيام لا تنكشف ولا يرى جَرْمها غالبًا، فما كأنها إلا ماتت وعاش الليل، ويحسن هنا قول بعضهم:

قلت والليل مقيم
ودجاه غير ساري
أعظم الخالق أجر الـ
ـخلق في شمس النهار
فلقد ماتت، كما ما
ت غرامي واصطباري٨

وأما المطر، فإنه لا ينقطع في هذه المدينة في سائر فصول السنة، وإذا نزل في الغالب نزل بكثرة؛ فلذلك احتاجوا في دفع ضرره إلى جعل أعالي الدور منحدرة لتنزل منها المياه إلى أسفل الدور، وفي سائر البيوت والطرق مجاري وبالوعات، فترى وقت المطر سائر طرق «باريس» محدودة بمجار؛ كالقناة الجارية المياه، خصوصًا وأرض هذه المدينة مبلطة بالحجر، فلا تتشرب المياه أبدًا، بل تسير إلى هذه المجاري، ومنها إلى البالوعات.

وتغير مزاج الهواء والزمن في «باريس» أمر عجيب، فإنه قد يتغير في اليوم الواحد (ص ٤٩) أو مع ما بعده حال الزمن، مثلاً: يكون في الصباح صحو عجيب لا يظن الإنسان تغيره فلا يمضي نصف ساعة إلا ويذهب بالكلية، ويخلفه المطر الشديد، وقد يكون حر يوم من الأيام أربعًا وعشرين درجة، ولا يصل اليوم الآتي إلى اثنتي عشرة،٩ وهكذا، فقل أن يأمن الإنسان تغير الوقت بهذه البلاد، فمزاجها كمزاج أهلها كما سيأتي.

ومعلوم أنه ينبغي أن يتحفظ الإنسان من ضرر هذا التغير وإن كان هواء «باريس» في الجملة طيبًا مناسبًا للصحة، ومع أن حرها لا يصل إلى حر القاهرة في الغالب فهو غير مألوف أبدًا، ولعل ذلك للانتقال من شدة البرد إلى شدة الحر.

وأما بردها فإنه وإن كان في طاقة الإنسان تحمله من غير عظيم تعب، فإنه لا يمكن للناس الشغل إلا بالتدفئة بالنار؛ فلذلك كان في سائر قهاويها وخاناتها ومعاملها وحوانيتها مداخن مبنية في الأود، ليوقد فيها النار، وهي مرتبة على وجه بحيث لا ينتشر في الأودة دخان الحطب١٠ فإن هذه المداخن نافذة إلى الهواء، فيجذب الهواء الدخان، ويطرده خارج البيت، وفي بعض الأود يصنعون نوعًا من الفرن له باب من الحديد ويلحقون به قصبة من صفيح، وينفذون هذه القصبة في فرجة تتصل بالهواء، فيضعون الخشب في الفرن، ويغلقون باب المحمى فيصعد الدخان جهة القصبة، ومنها يصعد إلى الخلاء فتسخن الفرن وتحمي قصبتها فتسخن الأودة أو الرواق ونحوهما١١ أو عندهم نوع آخر عجيب يسمى «المداخن المسقوبية»١٢ وعادة المدخنة أو الفرن المسماة عند الفرنساوية «بوالا»١٣ أن ظاهرها مطلي طلاء عظيمًا في غاية النظافة، والمدخنة دائمًا مرخمة الجوانب، ولها عرصة من حديد، وهي عند الفرنساوية لحسن صناعتها من زينة المحل فيكتنفونها في الشتاء، ومن أعظم إكرام الضيف عندهم في الشتاء تقريبه جهة النار، ولا عجب في ذلك، نسأل الله إنقاذنا من حر نار جهنم، ولله در القائل:
النار فاكهة الشتاء فمن يرد
أكل الفواكه شاتيًا فليصطل

وأحسن من قال:

دخلت يومًا على صديق
والبرد يفري به الفريا
فأوقد النار قلت كلا
لأنت أولى بها صليا

وبالجملة فالتدفئة في الشتاء عند الفرنساوية جزء من المؤونة، فهذا ما يستعينون به على البرد.

وأما ما يستعينون به على التوقي من ضرر المطر فهو المظلات المسماة في مصر بالشمسيات، يعني وقايات الشمس، وتسمى تلك عند الفرنساوية وقاية المطر، وفي الحر تمشي النساء بالشمسيات، ولا يمكن للرجال ذلك أبدًا.

وأرض هذه المدينة مفلحة دسمة مثمرة، فكيف لا وما من بيت من البيوت الوافرة إلا وبه بستان عظيم الأشجار والخضراوات وغيرها؟ وأغلب النباتات الغريبة يوجد بهذه البلدة، فإنهم يعينون بتطبيع١٤ النباتات كالحيوانات الغريبة ببلادهم، ومثلاً شجر النخل لا يخرج إلا في الأقاليم الحارة، ومع ذلك صنع الفرنساوية كل الحيل، حتى زرعوا منه شيئًا، وإن كان لا يثمر، إلا أنه ينفعهم في الجوع إليه عند قراءتهم في علم النباتات، وقد اشتهر عندنا أن النخل لا يوجد إلا ببلاد الإسلام، ويرد عليه أنه عند كشف بلاد أمريكة وجدوا بها نخلاً غير منقول، كما هو الظاهر من بلادنا، فانظر هذا مع قول الفاضل القزويني في كتابه عجائب المخلوقات، وغرائب الموجودات ما نصه، نخل شجرة مباركة عجيبة، من عجائبها أنها لا تنبت إلا في بلاد الإسلام انتهى. ولعل النخل الموجود في غير بلاد الإسلام نوع مخصوص يصدق عليه اسم النخل عند أهل النباتات، والمقصور على بلاد الإسلام نخل التمر، لمناسبة مزاج١٥ قطرها فتأمل.

وبقرب أرض باريس عين ماء معدني باردة الماء.

ويشقها نهران أحدهما — وهو الأعظم والأشهر — يقال له: نهر السين بفتح السين) والآخر نهر «غوبلان» قال بعض علماء الكيميا من الإفرنج: إن أقل المياه خليطًا بالمواد الخارجية «نيل مصر» و«نهر الكنك» ببلاد الهند ونهر «السين» «بباريس» ويتفرع على ذلك اعتبار مائها في فن الطب من الأمور المناسبة لصحة الأبدان، وأنه يحسن تطبيب وطبخ الخضراوات بها دون غيرها، وتحليل الصابون بها للغسل ونحو ذلك.

وفي نهر السين بداخل باريس ثلاث جزائر؛ إحداها تسمى «جزيرة السيتة» وكان بها باريس القديمة «والسيتة» «بكسر السين وسكون الياء وفتح الفوقية» معناها المدينة، فكأنه قيل جزيرة المدينة وشتان بين هذا وبين النيل، والروضة والمقياس، فإن نزهة الإنسان في الروضة والمقياس لا تضاهى؛ لأن الخليج (ص ٥٠) يعبر مصر، والسين يعبر طباريس إلا أن نهر السين بتمامه يشق «باريس» وتجري به١٦ السفن العظيمة الوسق، وبه الأرصفة الجيدة والنظافة على حوافيه، ومع ذلك فنزهته غير سارة وشتان أيضًا بين ماء «النيل» و«السين» من جهة الطعم وغيره؛ فإن ماء النيل لو كانت العادة جرت بترويقه قبل استعماله كما هو العادة في ماء نهر السين لكان من أعظم الأدوية، وأقول أيضًا إنه فرق بعيد بين طعم ماء نهر «السين» وماء العيون والقطوع والسواقي ببلاد صعيد مصر. وبالجملة والتفصيل ففرق بعيد بين تربة مصر «وباريس» ومياههما وفواكههما إلا في نحو الخوخ، وإقليمهما، فلولا نجامة أهل باريس وحكمتهم وبراعتهم، وحسن تدبيرهم، واعتنائهم بتعهد مصالح بلادهم، لكانت مدينتهم كلاشيء، فانظر مثلاً على نهر «السين» فإنه وإن كان نزهة في أيام الحر فإنه قد يبلغ في وقت الشتاء ثماني درجات من الجمود والانعقاد، حتى إنه يمكن أن يداس عليه بالعربات، وانظر إلى أشجار هذه المدينة، فإنها تكون مورقة في أيام الحر، وفي أيام البرد لا تجدها إلا قرعة رديئة المنظر، كأنها حطب مصلب، وهذا في سائر البلاد الباردة، وقال بعضهم في هذا المعنى:
سألت الغصن: لِمْ تعرَى شتاء
وتبدو في الربيع وأنت كاسي؟!
فقال لي: الربيع على قدوم
خلعت على البشير به لباسي

(و) قال بعضهم في وصف يوم برد وأجاد: «في يوم برد جعله الله منه في حمى، ومجال حرب كان الظفر فيه لابن ماء السما، كأنما ماجت الأرض فرحًا لانهلال السحاب، وقويت أوتادها إذ صار لها بالسماء من جبال المطر أمد الأسباب. وكأنَّ السماء قد رأت ما بالأرض من السرور فبعثت تهنيها بصوت الرباب، فلكم تفتحت أعين النور لعيون الغمام الساجمة، ولكم استمرت به مسرة واستقرت به سائمة، ولكم ضحكت الأرض لبكاء السماء بمدامعها، وظهر البشر على وجهها.

وانظر إلى زمن تلك المدينة، فإنه دائمًا معتم في سائر أيام الشتاء وغالب أيام الحر، فإذا تنزه الإنسان ساعة تنكد ساعة أخرى، وذهب حظه بالرعد والبرق، وانهطال المطر والصواعق، إلا أن الثلوج بها ومجاري البالوعات تقي من الوحل المضر، فليست (ص ٥١، ٥٢) كأرض جيلان التي١٧ قال فيها الشاعر:
أقمت بأرض جيلان زمانًا
ولم يك ذاك مني غير جهل
فلم أحصل على خير متاح
سوى سح الغيوث وخوض وحل

وأهلها لا يبالون بذلك. فيقال في سائرة أيامها ما قاله بعضهم في وصف يوم شديد البرد من أنه يوم يجمد خمره، ويخمد جمره، ويخف فيه الثقيل إذا هجر، ويثقل فيه الخفيف إذا هجم. إلا أن الفرنساوية يكثرون من الملاهي في ليالي الشتاء؛ لأنهم يبذلون جهدهم في التوقي من مضارها، نسأل الله تعالى الوقاية من برد الزمهرير، فلو تعهدت مصر وتوفرت فيها أدوات العمران، لكانت سلطان المدن ورئيسة بلاد الدنيا، كما هو شائع على لسان الناس من قولهم: مصر أم الدنيا، وقد مدحتها مدة إقامتي «بباريس» بقصيدة وهي:

ناح الحمام على غصون البان
فأباح شيمة مغرم ولهان
ما خلته مذ صاح إلا أنه
أضحى فقيد أليفه ويعاني
وكأنه يلقي إلي إشارة
كيف اصطباري مذ نأى خلاني
مع أنني والله مذ فارقتهم
ما طاب لي عيشي وصفو زماني
لكنني صب أصون تلهفي
حتى كأني لست باللهفان
وبباطن الأحشاء نار لو بدت
جمراتها ما طاقها الثقلان
أبكي دمًا من مهجتي لفراقهم
وأود ألا تشعر العينان
لي مذهب في عشقهم واريته
ومذاهب العشاق في إعلان
ماذا عليَّ إذا كتمت صبابتي
حتى لو ان الموت في الكتمان
ما أحسن القتلى بأغصان النقا
ما أطيب الأحزان بالغزلان
قالوا أتهوى والهوى يكسو الفتى
أبدًا ثياب مذلة وهوان
فأجبتهم لو صح هذا إنني
أختار ذلي فيه طول زماني
والذل للعشاق غير معرة
بل عين كل معزة للعاني
أصبو إلى من حاز قدًّا أهيفًا
يزري ترنحه بغصن البان
وأحن نحو شقيق تم خده
قد نم فيه شقائق النعمان
ويروقني أبدًا نزاهة مقلتي
في حسن طلعة فاتك فتان
أمسي وأصبح بين شعر حالك
ومنير وجه هكذا الملوان
ولطالما قضيت معْهُ حقبة
ونسيم مصر معطر الأردان
زمن عليَّ به لمصر (فديتها)
حق وثيق عاطل النكران
أو شابهت عيناي فائض نيلها
لم توف بعض شفائه أحزاني
أو لو حكى قلبي بحار علومها
طربًا لما أخلو من الخفقان
ولكم بأزهرها شموس أشرقت
وأنارت الأكوان بالعرفان
فشذا عبير علومهم عم الورى
وسرت مآثرهم لكل مكان
وحوتهمو مصرٌ فصارت روضة
وهمو جناها المبتغى للجاني
قد شبهوها بالعروس وقد بدا
منها «العروسي» بهجة الأكوان
قالوا تعطر روضها فأجبتهم
«عطارها حسن» شذاه معاني
حبر له شهدت أكابر عصره
بكمال فضل لاح بالبرهان
لو قلت لم يوجد بمصر نظيره
لأجبت بالتصديق والإذعان
هذا لعمري إن فيها سادة
قد زينوا بالحسن والإحسان
يا أيها الخافي عليك فخارها
فإليك إن الشاهد «الحسنان»
ولئن حلفت بأن «مصر» لجنة
وقطوفها للفائزين دواني
و«النيل» كوثرها الشهي شرابه
لأبر كل البر في إيماني
وأما مصر فإنها سليمة من مكاره شرد «باريس»، كما إنها خالية أيضًا عن الأمور المحتاج إليها في وقت الحر، مثل الاستعانة على نظرية الزمن، فإن أهل «باريس» مثلا سهل عندهم رش ميدان متسع من الأرض وقت الحر، فإن أهل «باريس» مثلاً سهل عندهم رش ميدان متسع من الأرض وقت الحر، فإنهم يصنعون دنا عظيمًا ذا عجلات، ويمشون العجلة بالخيل، ولهذا الدن عدة بزابيز، مصنوعة بالهندسة تدفع الماء بقوة عظيمة، وعزم سريع، فلا تزال العجلات ماشية، والبزابيز مفتوحة حتى ترش قطعة عظيمة في نحو ربع ساعة، لا يمكن رشحها بجملة رجال في أبلغ من ساعة. ولهم غير ذلك من الحيل، فمصرنا الأولى بهذا لغلبة حرها (قد صار الآن جل ذلك بمصر).١٨

ثم من غرائب نهر «السين» أنه يوجد فيه مراكب عظيمة، فيها أعظم حمامات «باريس» المشيدة البناء وفي كل حمام منها أبلغ من مائة خلوة، وسيأتي ذكرها.

ومن الأمور المستحسنة أيضًا أنهم يصنون مجاري تحت الأرض توصل ماء النهر إلى حمامات أخرى وسط المدينة، أو إلى صهاريج بهندسة مكملة. فانظر أين سهولة هذا مع ملء صهاريج مصر بحمل الجمال، فإن ذلك أهون مصرفًا، وأيسر في كل زمن، وشطوط هذا النهر داخل المدينة، مرصفة بحيطان عظيمة عالية فوق الماء نحو قامتين، يطل المار بجانبها على النهر، وهي محكمة البناء.

وقناطر هذا النهر «بباريس» ست عشرة قنطرة، فمنها قنطرة تسمى قنطرة بستان النباتات، ولها أربعمائة (ص ٥٥) قدم من الطول وعرضها سبعة وثلاثون قدمًا، ولهذه القنطرة خمسة قواصير من الحديد محكمة ومسندة على حجارة من أحجار النحاتة، وقد بنيت هذه القنطرة في خمس سنوات، وصرف فيها ثلاثون مليونًا من الفرنكات، يعني ثلاثين ألف ألف فرنك، وتسمى هذه القنطرة: قنطرة «استرلتز»، سميت بذلك باسم محل غلب فيه «نابليون» ملك «النيمسا والموسقو»، فيقال لهذه الواقعة واقعة: «استرلتز». ويقال لها واقعة موسم تتويج نابليون.

«واسترلتز» بلدة وقعت هذه النصرة بقربها، وهذه النصرة تستحق عند الفرنساوية الذكر الجميل على مر الدهور؛ فلذلك أبدوها ببناء هذه القنطرة، فتسميتها بهذا الاسم للتذكار وبقاء الآثار.

ونهر السين يشق «باريس» نحو فرسخين، وعرضه فيه مختلف؛ فعند القنطرة المتقدمة يكون من الطول مائة وستة وستين مترًا.

وقوة سير مياهه المتوسطة عشرون برمقًا.١٩ في كل ثانية، أو ألف ومائتان في كل دقيقة.

وسطح أرض «باريس» صنفان؛ فالأول «جبس» والثاني طين، ماء نهر «السين» بعد زيادته، وأرضها مركبة من راقات مختلفة، فالراق الأول مزرعة طينية مرملة ذات حصى. الثاني: طَفل مختلط بجبس وصدف، الثالث: طفل صواني، الرابع: طفل جيري صدفي، الخامس: حجر الجير المخلوط بصدف، السادس: البحر الملح. السابع: طين شبيه بالإبليزي الثامن: من طباشير وجير مفحوم طباشيري.

ثم إن هذه المدينة مشقوقة ومحوطة٢٠ بصوف أشجار مرصوصة على سمت الخطوط المتوازية، لا يخرج بعضها عن بعض أبدًا، وعلى منوالها بطريق «شبرا» وفي «أبي زعبل» و«جهاد أباد»٢١ وهي مورقة في أيام الحر، يستظل المار بها من حر الشمس، وتسمى «البلوار»٢٢ (بضم الباء وسكون اللام) فيوجد في «باريس» (بلوارات) خارجة كالسور للمدينة و(بلوارات) داخل المدينة، ومحيط (البلوارات) الخارجة أبلغ من خمسة فراسخ ونصف، وعدد (بلوارات) «باريس» اثنان وعشرون (بلوارًا).
وفي المدينة عدة فسحات عظيمة تسمى المواضع، يعني الميادين، كفسحة «الرملية»٢٣ بالقاهرة، في مجرد الاتساع، لا في الوساخة، وعدها خمسة وسبعون ميدانًا، ولهذه المدينة أبواب خارجية برانية كباب النصر بالقاهرة، وهي ثمانية وخمسون بابًا وبهذه المدينة أربع قنايات من صنف (ص ٥٢) المسماة عيونًا، وثلاثة دواليب لجري المياه بالنواعير، إلا أنها عظيمة، وستة وثمانون صهريجًا، ومائة وأربع عشرة حنفية على الطرق.
ومما يدل على عمارة هذه المدينة كون أهلها دائمًا في الزيادة البينة، وأرضها في الاتساع، وعماراتها في التكميل والتحسين، وهمتهم٢٤ جميعًا في توسيع دائرتها بالأبنية العظيمة، لإعانة ملوكهم على ذلك برفع عوايد البيوت المستحدثة على التنظيم الجديد مدة من الزمن، قال الشاعر:
إن البناء إذا تعاظم شأنه
أضحى يدل على عظيم الشأن

وبذلك يكثر أهلها، فإن أهلها الآن — يعني أهل الاستطيان بها — فوق مليون من الأنفس، ومحيطها سبعة فراسخ فرنساوية، ومطايا هذه المدينة — كغيرها من بلاد فرانسا — العربات، إلا أنه يكثر فيها ذلك ويتنوع، ولا تزال تسمع بها قرقعة العربات ليلاً ونهارًا بغير انقطاع، وسيأتي تفصيل ذلك في غير هذا المحل.

١  في المطبوعة: «ولا زال».
٢  فيها: «من؟».
٣  الأصل: «الأكرة».
٤  وتسمى باب الأبواب، وهي بحر قزوين.
٥  Pélershourg.
٦  هي مدينة فيينا.
٧  المطبوعة: «ثمانية عشر».
٨  هنا في الأصل المطبوع أبيات من الشعر فيها استطراد عن الموضوع والمشروع.
٩  في المطبوعة: (اثني عشر).
١٠  يقصد الوقود من فحمٍ ونحوه.
١١  في المخطوطة «ونحوها».
١٢  المسقوبية أي الموسكوفية.
١٣  Poéles.
١٤  هو ما يسمى بأقلمة النباتات.
١٥  المزاج: المناخ.
١٦  المطبوعة: «بها».
١٧  في المطبوعة: «الذي».
١٨  تعليق زاده على النص بعد عودته إلى مصر.
١٩  البرمق: الإصبع بالتركية.
٢٠  في المطبوعة: «ومحتاطة».
٢١  كذا في المطبوعة وهي أشبه بأن تكون اسم بلد بالهند.
٢٢  Boulevard.
٢٣  كنت نحت القلعة.
٢٤  في المطبوعة: وهم ثم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤