الفصل الحادي عشر

الزمان

(١) القرن والتاريخ

يُتهم الوعي العربي عادة بأن وعيه بالزمان غائب؛ لذلك يخاطر العرب بأن يكونوا خارج التاريخ. في حين أن الغرب هو الذي وضع فلسفة التاريخ في عصوره الحديثة. وإذا حضر الزمان فإنه يكون حضورًا ماضويًّا، الإحساس بالعصر الذهبي الأول والحنين إليه والرغبة في العودة إليه هربًا من الحاضر ويأسًا منه. وإن حضر الحاضر فالأفعال في الزمان تتسم بعدم الدقة والتحديد. «سأمر عليك غدًا» دون تحديد الوقت بالدقة. تضطرب مواعيد الطائرات والقطارات، ولا تُؤدَّى الأعمال في أوقاتها كما تريد الشريعة في العبادات. فكل أعمالها في الزمان، الصلاة والصيام والحج والزكاة. بل إن التشهد هو فعل وقتي يتم في كل لحظة يحتاج الأمر فيه إلى شهادة. الصلاة خمس مرات يوميًّا يتم أداؤها في أوقاتها لا قضاءً خارج أوقاتها، وعلى الفور وليس على التراخي، والزكاة على الأقل مرتين في العام أيام العيدين. والصوم والحج مرة في العام في وقت معلوم. ولو سئل العربي في أي مرحلة من التاريخ هو يعيش؟ لاستعصت الإجابة، هل هو في العصر الوسيط أم في العصر الحديث؟ هل هو في عصر الإصلاح الديني أم في عصر النهضة؟ هل هو في عصر الثورة أم في عصر الثورة المضادة؟ هل هو في عصر الإفلاس التاريخي أم في عصر التراكم التاريخي لمرحلة قادمة؟

وفي القرآن الكريم مفاهيم عديدة للزمان. الزمان الكوني مثل الليل والنهار، والفجر والضحى والعصر، والشروق والغروب، واليوم والغد، والساعة والآن، والدهر والعهد. ومن ضمن هذه المفاهيم «القرن».

وقد ورد لفظ «القرن» في القرآن الكريم عشرين مرة، ثلاث عشرة مرة جمعًا وسبع مرات بالمفرد مما يدل على أن القرن قرون، وأن القرون أعمار الشعوب وأزمان الأمم، فالشعوب لا تعيش زمانًا واحدًا، والأمم لا تعيش قرنًا واحدًا.

والمعنى الأول في مفهوم القرن هو انهيار الزمان وهلاك الأمم أي انهيار التاريخ بعد قيامها ونهضتها، فالتقدم ليس دائمًا، أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ، تلك سنة التاريخ، ومهما بلغت الأمة من غنًى وثروة وحضارة فإنها لا تبقى إلى الأبد. ففي الغنى فسادها وهلاكها كما هو الحال في المجتمعات الرأسمالية، وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا. ومهما بلغ قوم من قوة وبطش إلا أنهم أيضًا يهلكون، فالقوة ليست دائمة، والبطش ليس مستمرًّا، وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا. وذلك مثل المجتمعات العدوانية، النازية والفاشية والصهيونية. ومهما بلغ شعب من عدد وكثرة إلا أنه يهلك أيضًا، فالكم لا يغني عن الكيف، أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا. فقد انهارت الصين القديمة، وتنهض من جديد الصين الحديثة. ومن يدري ما مصير هذا الفائض من الإنتاج الذي يغزو العالم.

وفي نفس الوقت الذي تنهار فيه الأمم تنشأ من جديد. نشأة ثم انهيار، وانهيار ثم قيام من جديد، ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ. وقد تطول هذه النشأة والقيام والنهضة ولكن مآلها إلى الانهيار، وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ. فتختلف أعمار الحضارات بين القصر والطول. الحضارة الإسلامية في فترتها الأولى دامت سبعة قرون، من القرن الأول حتى الثامن، عصر ابن خلدون. والحضارة الغربية الحديثة دامت أيضًا سبعة قرون، من القرن الرابع عشر، عصر إحياء الآداب القديمة، حتى القرن العشرين وأزمته وعدميته. كما دامت الحضارة اليونانية القديمة سبعة قرون من القرن الخامس قبل الميلاد حتى القرن الثاني بعده في العصر الهللينستي.

ويتطلب هذا القيام والانهيار للحضارات إحساس ووعي. فهما ليسا حدثين تاريخيين بل فعلان من أفعال الوعي؛ لذلك تبدأ الآية بفعل، أَلَمْ يَرَوْا، أَوَلَمْ يَعْلَمْ. فهما عبرة وعظة وهداية، أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ، وتدل الآثار عليهم. فالتاريخ وعي وإحساس، وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ.

وهو قانون تاريخي حتمي لا فرار منه، كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ. فعمر التاريخ مثل عمر الأفراد، وزمن الشعوب مثل زمن الأشخاص. ويصدِّق التاريخ هذا القانون لقيام الشعوب وانهيارها منذ القرون الأولى ونشأة الحضارات، قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى. ولا وعد بالبقاء إلى الأبد، أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي. وتاريخ الأنبياء شاهد على ذلك. وهلاك الأمم من بعد نوح، وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ في القرن الأربعين قبل الميلاد ثم تلته قرون عاد وثمود، وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا. ثم قام موسى بالكتاب لينهض من جديد، وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى.

والأمة هي المسئولة عن قيامها وانهيارها بالرغم من حتمية القانون. لكل أمة ذنوبها. وهي المسئولة عن الانهيار، فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ. والظلم أيضًا مسئول، وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا. والفساد أيضًا مسئول مع الذنب والظلم، فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ. ويغيب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للتذكير بالذنب والظلم والفساد.

ليست القضية إذن هي العود إلى العصر الذهبي الأول والحنين إليه في القرون السبعة الأولى بل بداية دورة جديدة للحضارة الإسلامية في القرون السبعة القادمة التي بدأت منذ قرنين من الزمان منذ حركات الإحياء والإصلاح الديني والنهضة الحديثة لإنهاء الانهيار بعد ابن خلدون. ويتطلب ذلك الوعي بقانون التاريخ ثم الحركة فيه، بداية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أي الشهادة على العصر والعمل على تغيير ما فيه من ظلم وفساد، وقهر واستغلال.

(٢) الزمان والدهر

من مفاهيم الزمان الواردة في القرآن الكريم بالإضافة إلى القرن «الدهر». ولم يرد اللفظ إلا مرتين. الأولى بالمعنى المادي الذي فهمه الأفغاني في «الرد على الدهريين» أي المنكرين لله والذين يجعلون الدهر أي الزمان والتاريخ والطبيعة والمادة تأخذ صفات الله وتقوم بأفعاله، ومنها الخلق والبعث، الحياة والممات، وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ. فالدهرية بهذا المعنى إنكار للعلية في الخلق وللغائية في البعث، أي إنكار لبداية الدهر ونهايته، وجعله ممتدًّا في الزمان بلا بداية ولا نهاية، وبالتالي مشاركة الله في صفاته السرمدية. والثانية بمعنى خلق الإنسان بعد خلق الكون، وأن خلق الكون سابق على خلق الإنسان، وأن الإنسان آخر ما خلق الله حتى يجد مكانًا يعيش فيه، وعالمًا يعمل فيه، هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا.

وتكمل السُّنَّة وتفصِّل ما تركه الكتاب مجملًا. فقد ورد اللفظ في السُّنة حوالي خمس عشرة مرة بسبعة معانٍ مختلفة:

  • الأول: الله هو الدهر، وأن سب الدهر هو سب لله «يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر.» فالله هو الخالق والمعيد وليس الدهر، وفي حديث آخر: «لا تسبوا الله فإن الله هو الدهر.» وقد أوله نجيب محفوظ على لسان أحد أبطال رواياته «لا تسبوا الله فإن الله هو الدولة» نظرًا لأن الدولة في عصرنا تقوم بأفعال الله، تحيي وتميت، ترزق وتمنع، تهدي وتضل، وهو الرازق والمعطي «لا تقولوا خيبة الدهر فإن الله هو الدهر»، وهو المعنى الذي يقصده الدهريون طبقًا لفهم الأفغاني.
  • والثاني: الهلاك في الدهر أي في الزمان، «حمراء الشدقين هلكت في الدهر.» أي إن الحياة التي بانت عليها تنتهي بالهلاك، وهو مصير العجوز أي نهاية العمر «تقول عجوز لنا دهرية»، وهو المعنى الشعبي لكلمة «الزمن» وكما ورد في تمثيلية «ليالي الحلمية» في مقدمتها الغنائية «وإيه يفيد الزمن».
  • والثالث: آخر الدنيا أو آخر الحياة قبل البعث، وآخر لحظة في العمر. وأحيانًا يمتد الزمن مجازًا إلى ما بعد الموت أي البعث وبداية الحياة الأخرى: «أف له من شراب آخر الدهر.» وهو الغسلين الذي يشرب منه الكافرون. فالدهر هو زمان الكون وزمان الإنسان في آن واحد.
  • والرابع: تجزئة الدهر إلى أيام وفترات زمانية: «يومًا من الدهر.» فالدهر في نفس الوقت هو كل الزمان وجزؤه، الزمان كله ويوم فيه. يطول أو يقصر: «فمكث فيهم دهرًا طويلًا.» وهو المعنى الوارد في بعض التعبيرات الشعبية مثل: «لم أره منذ دهر.» أي منذ وقت طويل، «مرت عليَّ الأيام دهرًا.» تعبيرًا عن طول المدة والملل من الوقت.
  • والخامس: الدهر وقت لتبليغ الرسالة وحمل الأمانة، والكد والكفاح والسعي فيه: «هل أنت مبلغ عني رسالة مرة من الدهر.» وتظل الرسالة قائمة للتبليغ حتى ولو لم يبقَ من الدهر إلا يوم واحد: «لو لم يبقَ من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلًا.» فالدهر ليس وقتًا صامتًا بل هو منبر للوعي، ومكان له. وتتم الكفارات فيه: «كفارة لما قبلها وذلك الدهر كله.»
  • والسادس: طريقة التعبير عن جمود النساء مهما أحسن الرجال إليهن: «لو أحسنت إلى إحداهن الدهر.» وهو ما يتهم به الحدثيون الفكر الإسلامي القديم بالذكورية نظرًا لوضع المرأة في المجتمع العربي الجاهلي. ويتم تأصيل ذلك في قصة حواء ومسئوليتها عن غواية آدم. فهي التي غوت وأوقعت آدم وأخرجته من الجنة. ثم يمد الخيال الشعبي ذلك ويدفعه نحو المطلق، فيجعل حواء رمزًا للغدر والخيانة: «ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر.»
  • والسابع: وقت الصوم ليس الدهر كله: «ولم يطعم الدهر شيئًا.» ولا ثلثيه: «صوم ثلثي الدهر.» بل نصفه: «لا صوم فوق صوم داود شطر الدهر.»، فلا رهبانية في الإسلام، ولا اعتكافًا ولا زهدًا زائدًا قد يصل إلى حد الغرور أو النفاق.

الدهر مفهوم فلسفي وليس مفهومًا شعبيًّا مثل الزمن بمعنى الدهر. وإن كان الدهر يعني كل الزمان فإن الله هو كل الزمان، لا أول له ولا آخر. وأحيانًا يعني الزمن في الثقافة الشعبية القدر والتاريخ والمصير، وهو حتمي لا فكاك منه. يخضع له الكبير والصغير، البطل والعامي. يتضمن حكمة الشعوب التي يتأسى بها الناس ويجعلونها نبراسًا لحياتهم.

الحس الشعبي مع مفاهيم أخرى للزمان أكثر تداولًا مثل الساعة والوقت، واليوم والسنة، والآن والحين، أي تقاسيم الزمن وإيقاعه الإنساني في الأفعال قبل أن يتماهى مع المفاهيم الجغرافية للزمان مثل الشروق والغروب، والليل والنهار، والضحى والعصر. وقد أقسم الله بها لبيان أهميتها. فالزمن حياة الإنسان، وعمر الكون.

وربما لا يوجد مثل هذا المفهوم «الدهر» في اللغات الأجنبية وفي الثقافة الغربية. هناك فقط مفاهيم الزمان والخلود وباقي المفاهيم الجغرافية الحسية المرتبطة بدوران الأرض. «الدهر» مفهوم ميتافيزيقي وليس مفهومًا شعبيًّا. لذلك عرضه المتكلمون والفلاسفة ورفضوه باعتباره البديل عن الله. والله لا مثيل له ولا شبيه.

(٣) الوقت والزمان

و«الوقت» أحد مفاهيم الزمان في القرآن الكريم، وهو لفظ في اللغة المتداولة مثل «الوقت فات». وقد ورد اللفظ في القرآن ثلاث عشرة مرة في عدة صيغ اسمية وفعلية. كلها اسمية إلا مرة واحدة فعلية. والاسمية كلها مفرد إلا مرة واحدة «مواقيت» بالجمع. والصيغة الاسمية المثلى «ميقات»، سبع مرات، أي أكثر من النصف، أي وقت الفعل وليس الوقت المجرد. ومن الأسماء مرة واحدة صفة «موقوت» أي لها وقت. ومن الأسماء، مرات أربع مضافة إلى الضمير، ضمير المتكلم أو الغائب الجمع، مما يدل على أن الوقت إنساني مرتبط بالشعور وليس بحركات الأفلاك.

وتدور معاني اللفظ حول خمسة محاور رئيسية:

  • الأول: وقت الصلاة المحدد، إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا، من أجل الإحساس بالوقت وحدوث الأفعال فيه. وهي أفعال الإيمان الضرورية التي تتم في الزمان، على الفور وليس على التراخي، في أول الوقت وليس في آخره، جماعة وليس أفرادًا، أداءً في الوقت وليس قضاءً بعد فوات الوقت. الوقت هنا يعني اللحظة، لحظة الأذان والقيام. ففي اللحظة يتم الاتصال بالخلود. هي اللحظة المتميزة التي ينعزل فيها المؤمن من الحياة الأفقية إلى الحياة الرأسية. هي لحظة التذكر بالواجب الأسمى أثناء أداء الواجبات اليومية. ليس الوقت سواءً. به هذه اللحظات المتميزة لأداء الأفعال والتذكير بأداء الواجبات. على عكس إحساس الموظف بالوقت. يأتي إلى العمل متأخرًا، ويغادر مبكرًا. ويمر وقت العمل دون أداء الواجبات، متكاسلًا، تستوي عنده كل الأوقات. كل الوقت فارغ من العمل، وهو ما يسمى في اللغة الشعبية «وقت الفراغ»، وطرح علماء الاجتماع والتربية مشكلة زائفة، كيفية قضاء أوقات الفراغ.
  • والثاني: مواقيت الهلال وما سمي في الجغرافيا منازل القمر، وتدرجها من الهلال إلى التربيع الأول إلى المنتصف إلى التربيع الثاني إلى البدر ثم تناقصه من البدر إلى الهلال من جديد، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ. فالأهلة ظاهرة طبيعية في الزمان الكوني، ولكن دلالتها ليس في علم الفلك بل في الاسترشاد بها في الحياة الإنسانية في مواقيت بدايات الشهور ووقت الأعياد للصوم والحج بالرغم من ارتباط مواقيت الصلاة بالشروق والغروب، بالشمس وليس بالقمر. فالسؤال عن الموضوع إجابته في علاقة الموضوع بالذات أي إجابة إنسانية وليست إجابة طبيعية رياضية. فالعالم من أجل الذات، وليس من أجل نفسه. والعلوم الرياضية والطبيعية هي في نهايتها علوم إنسانية لأنها مرتبطة بالإدراك والرؤية، والقصد والمنفعة.
  • والثالث: الموعد، موعد اللقاء بين طرفين، تحديد لزمان الفعل. فقد واعد الله موسى أربعين ليلة، وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وهو موعد لقاء الأنبياء مع الله، خاص بموسى الذي كان يريد لقاء الله ورؤيته. فلقاه الله دون أن يُرى، وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ. يُسمع الله صوته ولا يُرى صورته. فالسمع أقرب إلى القلب من البصر. وأقرب إلى التنزيه منه إلى التشبيه. لذلك كان القرآن من الفنون السمعية وليس من الفنون البصرية، أقرب إلى الموسيقى والشعر منه إلى الرسم والتصوير والنحت والزخرفة وجميع الفنون التشكيلية، وهو موقف الرومانسيين من الفن. وهو أيضًا موعد لقاء إنساني مثل موعد لقاء السحرة وفرعون موسى للبرهنة على صدق نبوته، فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، وهو موعد لقاء البشر جميعًا مع الله في اليوم الآخر، قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ.
  • والرابع: حياة الرسل المحددة. فلكل رسول أجل، ولكل نبي عمر. والكل يلتقي بالله يوم القيامة، وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ * لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ. فالنبي له رسالة في زمانه، يبلغها للناس. والله هو الذي يحكم بينه وبين قومه يوم الفصل. فما على الرسول إلا البلاغ. فهو ميت وهم ميتون. وبالرغم من اتصاله بالوحي إلا أنه ليس خالدًا، ولا يشارك الله في الخلود.
  • والخامس: يوم القيامة وهو الاستعمال الأكثر شيوعًا. هو الوقت المعلوم، يوم الفصل، إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا، وهو موعد الناس أجمعين، إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ، وهو الوقت المعلوم بالرغم من أن موعده مجهول. أنظره الله لإبليس بعد أن طلب الوقت لغواية آدم بعد أن رفض السجود له، قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ. ولا يعلم تحديد هذا اليوم إلا الله، قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ.

الحياة زمان، والعمر لحظة كما يقال في أحد عناوين الأفلام، والأفعال في الأوقات وحركة الأفلاك زمان إنساني، والمواعيد واللقاءات في الزمان، والرسل أحياء ثم أموات، ونهاية الزمان زمان. الزمان محدد في البداية بزمان الخلق، ومحدد بالنهاية بزمان البعث في اليوم المعلوم، والزمان بين البداية والنهاية سواء الزمان الكلي، زمان الخلق أو الزمان الجزئي، عمر الإنسان.

(٤) الزمان والساعة

و«الساعة» أحد مفاهيم الزمان في القرآن الكريم مثل القرن والدهر والوقت، بل إنه قريب من المفهوم الشعبي للزمان بالسؤال عن الساعة أي الوقت. وتوحد اللفظ مع الساعة كآلة تحديد الوقت.

وقد ورد اللفظ في القرآن ثمانيًا وأربعين مرة بثلاثة معانٍ مختلفة:

  • الأول: ساعة الزمن في اليوم والعمر، أربع مرات. وهي الساعة بمعنى ستين دقيقة كما يُقال في التعبير الشعبي «ساعة زمن»، وهو أصغر مدة في الزمن، وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ. وقد يضم أكبر وقت منه. فالزمن شعوري، كيف لا كم، يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ، وهو إحساس في ساعة التوتر الشديد، كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ. فأقصر مدة قد تكون وعاءً شعوريًّا لأكبر مدة.
  • والثاني: الأجل، عمر الإنسان المحدد بالزمان، أربع مرات أيضًا. فإذا جاء الأجل فإنه لا يتأخر ولا يتقدم ساعة واحدة، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ. فالإنسان له موعد محدد في نهاية الزمان، لا يتقدم ولا يتأخر، قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ. والساعة هي تجربة إنسانية، فرح وألم، عسرة ويسرة، لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ. فالساعة ليست وقتًا فارغًا يمر بل هي تجربة شعورية ومعاناة إنسانية.
  • والثالث: يوم القيامة هو يوم الساعة، الساعة الكبرى، الساعة الآخرة، الساعة النهائية، أربعين مرة. الساعة يقين، آتية لا ريب فيها، لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا. يومها يبعث الله ما في القبور، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ. ويظل الشك فيها قائمًا حتى تأتي. فالتصديق بها تجريبي ولكن بعد فوات الأوان، وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً. الساعة يقين مثل يقين الإيمان، إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ. والريب في الساعة ضلال بعيد، إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ. وعد الله حق، ومن ضمن وعده قدوم الساعة يقينًا، وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا. التكذيب بالساعة إذن حكم خاطئ، مجرد ظنون وأوهام، وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً. وجزاء التكذيب بها عذاب سعير، بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا. التكذيب بها نتيجة للكفر، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ. وقد ينشأ التكذيب بالساعة من غرور كاذب وثقة بالنفس زائدة، وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى.

والساعة شيء عظيم، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. لا يدرك خطورتها إلا المؤمنون. فهي نهاية العمر، وآخر الزمان. ولا يوجد بعدها إمكانية للسعي والكد والكدح وإثبات الجدارة وأداء الامتحان.

لا يعرف موعدها إلا الله، يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي. يخفيها الله عن البشر حتى يسارعوا في الخيرات، إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى. الله عنده علم الساعة كجزء من علمه مثل نزول الغيث وما تكتم الأرحام، إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ. ومهما سأل الإنسان عنها حُبًّا للاستطلاع أو لمزيد من الاستعداد بناء على الترغيب أو الترهيب فإنه لا يُجاب، يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ. الله وحده هو الذي يعلم علم الساعة، إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ. وعلم الله يقيني لا ريب فيه، وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ. ومع ذلك تأتي الساعة بغتة وعلى غير انتظار ودون توقع، حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا. فاللاشعور هو الذي يتحكم في الشعور، واللامتوقع هو الذي يوجه المتوقع، أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. لذلك على المؤمن أن يستعد وأن يعمل لدنياه كأنما يعيش أبدًا وأن يعمل لآخرته كأنه يموت غدًا، هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً. وإن أتت فإنها تأتي كلمح البصر حتى لا يستعد الناس في آخر لحظة، وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ. هي بعيدة قريبة، غير متوقعة ومتوقعة، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ. فإذا اقتربت انشق القمر وحدث الهول، اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ. والمؤمنون يصفحون الصفح الجميل، وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ. ويشفقون منها ويخشون الله، الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ. والمذنبون يأتيهم العذاب، قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ. فالعذاب لهم مقرون بالساعة، حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ. يخافون وتلتبس عليهم الأمور، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ. ويتفرقون بعد أن كانوا متضامنين، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ. لا يشعرون بها ولا بقيام الساعة لأنها لم تخطر على بالهم في الدنيا، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ. ويخسر المبطلون، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ. ويذوق الطغاة مثل فرعون سوء العذاب، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ. فالساعة موعدهم وهي أدهى وأمر مما كانوا يتوقعون، بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ.

(٥) اليوم بين الماضي والحاضر والمستقبل

من مفاهيم الزمان في القرآن الكريم مع القرن والدهر والوقت والساعة «اليوم»، وهو أكثر ألفاظ الزمان حضورًا في القرآن الكريم، حوالي خمسمائة مرة إلا قليلًا (٤٧٥). معظم الاستعمالات (حوالي ٩١٪) للإشارة إلى المستقبل، يوم القيامة، اليوم الآخر، يوم الفرقان. وله أوصاف أخرى عديدة مثل: عظيم، كبير، أليم، عصيب، محيط، مشهود … إلخ. ويستعمل معرفة وليس نكرة لأنه يوم معلوم في صيغة «اليوم» (٣٤٩ مرة)، ومفردًا وليس جمعًا لأنه لا يوجد إلا يوم واحد. ويُستعمل أحيانًا مضافًا إلى ضمير المخاطب الجمع «يومكم» أو الغائب «يومهم» لأنه يتعلق بالخلق وبالبشر وبالناس، يوم البعث والحساب والجزاء، وهو ما يعبر عنه المثل الشعبي «لك يوم يا ظالم».

ويستعمل لفظ «اليوم» أيضًا في الماضي لإبلاغ نهاية النبوة واكتمالها باستقلال العقل وحرية الإرادة، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا. ويستعمل في القصص عظة وعبرة للصمود في مواجهة الأعداء، وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ. ونقد الفرار حين الزحف والخوف منهم، قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ. وساعة الهزيمة غرورًا بالكثرة، واعتمادًا على الكم دون الكيف، لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ. والأعمال الخاسرة كرماد عصفت به الريح، أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ. وقد جمع فرعون السحرة في يوم معلوم ليتحدى موسى، فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ. وفي الأغاني الشعبية يستعمل أيضًا اللفظ في الماضي في «في يوم من الأيام».

ويستعمل لفظ «اليوم» للإشارة إلى الحاضر وعادة ما يكون بمعنى العبادات والأوامر والنواهي، فالعبادات ثابتة ودائمة عبر الزمان، كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ. وكذلك السبت عند اليهود ونقدهم في خرقهم له، إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ فالحياة أكثر ضرورة وصدقًا من النفاق في العبادة. ولا تكلم مريم يوم نذرها أن تصوم، إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا. وعند المسلمين يوم الحج الأكبر، وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ فالحج موعد سنوي. ويوم الفتح لا ينفع إلا إيمان المؤمنين، قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ. وتكثر استعمالات اللفظ مثنى «يومين»، فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ، أو جمعًا «أيام» تعويضًا عن أيام الصوم في أيام أخرى، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، فاليوم هنا مرة للتكرار. وذكر الله في أيام معدودات، وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ، وهو ما يظهر أيضًا في الأغاني الوطنية مثل «اليوم اليوم، وليس غدًا» لتحرير القدس.

وقد ظهرت هذه الأزمان الثلاثة، الماضي والحاضر والمستقبل، في الميلاد والموت والبعث في حياة المسيح سواء في صيغة إخبارية، وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا، أو في صيغة المتكلم، وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا. فاليوم يعني الأمس واليوم والغد. وهي دورة الحياة الإنسانية منذ قدماء المصريين.

ويظهر اللفظ معرفة بالجمع «الأيام» بمعنى التاريخ، وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ، وهو نفس المعنى في الأغاني الشعبية «ومرت الأيام، ودارت الأيام»، وهو نفس المعنى الوارد في التوراة في تعبير «أيام الله». فالتاريخ هو تراكم الأيام وتداولها باعتبارها قوة وريادة للبشر.

وفي صيغة جديدة «يومئذٍ» يُضم لفظ «يوم» مع لفظ «إذن» أي عندما يحين اليوم بعد طول انتظار وهو يوم القيامة (حوالي سبعين مرة) أي الزمان باعتباره توقعًا. والتوقع هو توتر بين أبعاد الزمان الثلاثة من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل. لذلك يعني اليوم الأمس والغد في آنٍ واحد؛ لذلك يمكن إعادة بناء الوعي الشعبي بالزمان بدلًا من انحيازه للماضي على حساب الحاضر أو المستقبل يمكن إيجاد ميزان التعادل بين هذه الأبعاد الثلاثة حتى تخف العودة إلى الماضي، ويتم التركيز على الحاضر، والإعداد والتخطيط للمستقبل. ولا يعني المستقبل يوم القيامة أو اليوم الآخر أي اليوم البعيد بل الغد أي اليوم القريب. فاليوم البعيد بعد الموت وحين البعث حين ينتهي الأجل. واليوم القريب قبل الموت وفي الحياة متسع للعمل والتصحيح. ولماذا يتفوق علينا الغربي في الإحساس بالزمان وإعطاء الأولوية للمستقبل على الماضي ويعيش الحاضر وينشط فيه دون إغراق في جنة الماضي أو وعود وأحلام المستقبل؟

(٦) الفجر

لا يرتبط الزمان فقط بالإنسان مثل الوقت والساعة واليوم أو بالتاريخ مثل القرن والدهر، بل أيضًا بدوران الأرض حول نفسها أي بالزمان الطبيعي أو الجغرافي، دورة النهار والليل، والصباح والمساء، والضحى والعشاء، والفجر والعصر، والشروق والغروب. يفهم حقيقة كزمان طبيعي أو مجازًا كصورة فنية مثل الشروق والغروب في المعارف والأذهان والعقول والقلوب والحضارات كما يفعل الفلاسفة والصوفية.

وقد ورد لفظ «الفجر» في القرآن الكريم ست مرات. اثنتان للقسم نظرًا لعظمة الفجر ورونقه وجماله ودلالته، وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ. فهو فجر واحد وليالٍ كثيرة. فجر متفرد. لكل فجر بهاؤه وطلعته في حين تتكرر الليالي، وهو وتر أي مفرد، والليالي شفع أي مزدوجة. يطلع لحظة، والليل ممتد، وهو نهاية الليل وبداية النهار، لحظة بين زمانين ممتدين، سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ. يسبقه نوم وهدوء واستكانة واطمئنان وسلام. ويتبعه يقظة ونشاط وحركة وقلق وجهاد. ومرتان اثنتان لقراءة القرآن. فإذا كان الليل للصلاة فإن الفجر لقراءة القرآن، أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ. فصوت القرآن نغم وسحر في هدوء الليل وصمت النائمين. يدخل إلى القلب مباشرة. يسمعه القاصي والداني، الناس والملائكة، الإنس والجن، البشر والله، إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا. ومرة واحدة للصلاة، مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ، إشارة إلى وقت الراحة وخلع الملابس ليلًا في الظلام وظهرًا اتقاءً للحر دون حرج من الأطفال غير الكبار. ومرة واحد للصوم إعلانًا عن نهاية الليل وبداية النهار، والكف عن الطعام والشراب وبداية الصوم، انشقاق النور من الظلام، حقيقة ومجازًا، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ. فالفجر علامة فاصلة بين لحظتين، وفعلين وسلوكين، من الطبيعة إلى الإرادة، ومن الإشباع إلى الامتناع، ومن الأرض إلى السماء، ومن الخلق إلى الخالق.

وهو نفس اللفظ الذي اشتق منه لفظ «فجَّر» و«تفجير» للماء من الأنهار والبحار والينابيع والعيون (إحدى عشرة مرة). انبثاق النور من الظلام لحظة الفجر مثل انفجار الماء من الأرض. وهي ليست استحالة كما يظن الكفار، وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا، بل هي ممكنة بفعل الإيمان. فقد فجر موسى بعصاه البحر، وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ. وفجر من الصخر ينبوعًا. وجعل الله في الأرض اليابسة أنهارًا وعيونًا جارية دافئة. وفي الجنة أنهار وعيون مثل الأرض. ومن علامات الساعة تفجير البحار وبعثرة القبور، وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ. فالماء قوة. تتولد منها الكهرباء، وتدار بها الآلات، وتنظف بها الأرض والأجساد. يروي الظمآن، ويزرع الوديان. فالماء من الأرض لحظة الري كالنور من الظلام لحظة الفجر. وهي صورة الإسلام عند محمد إقبال وسيد قطب، تفجير الحياة من الصخر كما فعل الكليم موسى عند إقبال. وكان الإسلام حركة إبداعية في الفن والحياة عند سيد قطب.

وعلى النقيض، هو نفس اللفظ الذي يشتق منه لفظ «الفجور» أي خروج الفعل على المنهج القويم، وانحرافه عن الطريق السليم. فالخروج ليس فقط في الطبيعة، خروج النور من الظلام في لحظة الفجر أو تفجير الماء من الأرض في العين والينبوع وسريانه في البر والبحر، بل أيضًا خروج الفعل عن التقوى مثل الفسوق، فسوق الحب. والفجور كفر وجحود. والالتزام إيمان وتقوى. والأصل هي المعاني الطبيعية التي يهتدي بها الإنسان في سلوكه وأفعاله.

ونفس المعنيين الإيجابي والسلبي للفجر، تفجير المياه وفجور السلوك، موجودان في الحياة الشعبية في عادة الاستيقاظ مبكرًا والارتباط بالشمس لدرجة عبادة الشمس والإله آتون في الدين المصري القديم. والغناء للجو الصحو دون السماء الملبدة بالغيوم. ويحب الأجانب من بلاد الشمال الجو الصحو في بلاد الشرق والجنوب. وعلى النقيض من هذه الصورة الإيجابية هناك صورة سلبية للإقطاعي الذي ينام حتى الظهر، والعاطل الذي لا يستيقظ عند نور الفجر. وهناك زوار الفجر للقبض على الأبرياء، ولصوص الفجر للسطو على ممتلكات الناس، وحروب الفجر للعدوان على الآمنين. والإنسان قادر على التمييز بين الصورتين واختيار أيهما أقرب إلى القرآن الكريم والسلوك القويم.

(٧) الضحى والعَشِي

من ألفاظ الزمان في القرآن الكريم مع الفجر والعصر، والصباح والمساء، والليل والنهار، الضحى والعَشِي على التقابل. فقد ورد لفظ «الضحى» سبع مرات بخمسة معانٍ. الأول القسم، وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى، وهو قسم بالليل أيضًا للتقابل بين بداية النهار ونهايته أو بداية النهار وبداية الليل، من الصباح إلى المساء أي طول الوقت. والله حاضر مع النبي لم يتركه ردًّا على المشركين الذين ظنوا ذلك عندما تأخر نزول الوحي على الرسول، والوحي لا ينزل إلا عند الحاجة. والقسم أيضًا بالضحى مقرونًا بالشمس، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا. فالضحى إشراق نور الشمس. وبعد أن يبدأ الليل يتلو القمر. فهو قسم بالنور، بمصباحي السماء، الشمس والقمر. والله يقسم بمخلوقاته لعظمتها. فهي التي تأتي بالليل ويخرج منها الضحى، وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا، وهو المعنى الثاني في استعمالات اللفظ. والمعنى الثالث موعد اللقاء في أول النهار، قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى، وهو الموعد الذي حدده فرعون لمواجهة موسى بالسحرة لإثبات أنه ليس نبيًّا ولا يقدر على ما يقدر عليه سحرة فرعون من إتيان بالمعجزات. وفي المعنى الرابع يتم الانتقال من الحدث الأصغر إلى الحدث الأكبر، من موعد البشر إلى موعد الله يوم الحشر الذي قد يأتي بغتة في الضحى والناس لاهية تلعب، أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ. فوظيفة الحشر الإحساس بالزمان وتوقع الأحداث فيه. فإذا وقع فإنه يقع بغتة. ولا يشعر الإنسان أنه عاش إلا نهارًا أو مساءً، ضحًى أو عشية، كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا. والخلود في الجنة لا ظمأ فيه ولا ضحى، أي لا عطش ولا زمان، وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى. فالخلود ري دائم.

وفي المعاني التداولية يعني الضحى الإشراق بعد ظهور الشمس وبداية الصباح وأول النهار. هي مرحلة من مراحل النور بعد الظلام، من الفجر إلى الصباح إلى الظهر إلى العصر إلى المغرب إلى العشاء والمساء، وهي مواعيد الصلاة، وهو نفس الاشتقاق الذي منه لفظ «ضحَّى» و«ضحية» أي الفداء وقت الضحى في عيد الأضحى، وهو في النحو فعل ينصب مفعولين «أضحى» مع «أمسى» و«أصبح» أفعال التغير والتحول ضد الاتهام الشائع للإسلام بأنه ثقافة الثبات والسكون مع الثناء على الغرب بأنه ثقافة التحول والحركة.

وقد ورد لفظ «العَشِي» في عدة صياغات: «العشاء» و«العشي» و«عشية» بخمسة معانٍ كذلك. الأول الموعد في الزمان. ففترات الزمان عبر النهار من الصباح إلى المساء مواعيد للعمل، وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ. فالعمل بالنهار وحصيلته سلبًا أم إيجابًا بالليل. وقد عرضت على داود الجياد بالعشي رمزًا للقتال الليلي، إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ. وسُخرت له الجبال يسبحن معه من الشرق إلى الغروب، إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ. والله له الحمد في السموات والأرض، في الصباح وفي المساء، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ. والثاني موعد الصلاة، وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ. وهي آخر صلاة بالنهار بعدها تبدأ الراحة والسكينة والتجرد عن الملابس للاستجمام. والثالث في مقابل الإبكار أي البداية في مقابل النهاية، وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ. فالإبكار بداية النهار أو نهاية الليل. كما أنه وقت الذكر والتسبيح، هو أيضًا وقت الاستغفار، وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ. والإبكار مثل البكرة، الإبكار فعل ذاتي، والبكرة وقت موضوعي، فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا. وجزاء لذلك ينالون الجنة التي لهم فيها رزقهم من الصباح إلى المساء، لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلا سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا. والرابع في مقابل الغد أي صبيحة اليوم التالي، بداية الليل ونهايته لدعاء الله، وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ. وهم في حاجة إلى صبر معهم لأنهم ينتظرون الآجل دون العاجل، وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ. وقد يحدث النقيض لمن لا يؤمن بالله ولا يدعوه أو يسبح له أو يذكره. إذ يُعرض على النار ذهابًا وإيابًا من النهار إلى المساء ومن المساء إلى النهار، النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا. والخامس اللحظة المباغتة التي لا يعيها الإنسان إذا كانت في الصباح أو في المساء، في الضحى أم في العشي لأنه لاهٍ عن الزمان غير واعٍ به، كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا.

ولا تخرج المعاني التداولية في الحياة اليومية عن هذه المعاني الخمسة، الموعد في «أجيلك في العشية»، والطعام في «موعد على العشاء»، وفي الصلاة «صلاة العشاء»، ومن نفس اللفظ اشتق «عاش»، «يعيش» «عيشًا» أي الحياة. والخبز قوام الحياة. والزمان هي الحياة.

(٨) الصبح والإصباح

ومن مفاهيم الزمان الجغرافي مع الفجر والضحى والعَشِي، الصبح والإصباح. ولا يوجد في مقابل المساء فعلًا أو اسمًا بل يوجد الأمس في مقابل اليوم والغد، أبعاد الزمان الثلاثة.

وقد ورد اللفظ في القرآن خمسًا وأربعين مرة لأهميته، فعلًا أكثر منه اسمًا بنسبة الثلاثة الأخماس إلى الخمسين (٢٨ : ١٧)، للدلالة على التحول والتغير عكس الثبات والسكون. والفعل من أخوات كان مع «أمسى» و«صار» ضد شبهة ثبات الفكر العربي وسكون الفكر الإسلامي، وهو سبب تأخر المسلمين. في حين تقدم الغربيون الذين آثروا التحول على الثبات، والتغير على السكون، وكما عبر عن ذلك أدونيس في رسالته الشهيرة ذات الأربعة الأجزاء «الثابت والمتحول».

والغريب ورود اللفظ بمعانٍ سلبية أكثر منها بمعانٍ إيجابية، أربعة أخماس في مقابل خُمس (٣٦ : ٩). فهل يعني ذلك أن التحول سلبي أكثر منه إيجابيًّا، أم أن التحول لو ترك لنفسه لكان سلبًا ويحتاج إلى إرادة الإنسان للمقاومة وتحويله من سلب إلى إيجاب؟ قد يصيب التحول السلبي الثمر فيفسد، وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا. وقد يصيب نبات الأرض فيصبح هشيمًا تذروه الرياح، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ. وقد يصيب الجفاف الماء فلا ينبت زرع ولا ثمر، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ. وقد يهرب الماء إلى باطن الأرض فلا يمكن رفعه، أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا. وقد تجف الخضرة وتصفر وتصبح الجنة كالصريم، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ. وقد يصيب الهلاك الحرث، فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ. وقد يصيب الفساد حياة البشر وتمنع أرزاقهم، وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ. وتهدم مساكنهم، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ. وقد يصيب الفساد حياة الإنسان، ضميره وفؤاده. يصاب بالخوف من القتل، فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ. ونتيجة لذلك ينتاب الإنسان من سوء أفعاله الندم لأنه لم يستطع حتى أن يواري سوءة أخيه بعد قتله، فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ. وعقر اليهود الناقة عاصين ربهم فأصبحوا من النادمين، فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ. بل يندم الإنسان على ما يسر في نفسه من شر، فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ. وتؤدي سوء الأفعال إلى الخسارة، فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ. تحبط الأعمال. يكفر بالنعمة، وينهار البنيان والعمران وتأخذ الناس الرجفة والصيحة، فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ.

وفي مقابل هذا التحول السلبي من جراء سوء الأفعال هناك تحول إيجابي لحسن الأفعال. فيهبط الماء وتخضر الأرض، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً. ويتحول الليل الهادئ السكان إلى صبح للنشاط والفعل، فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا. والتحول من الكراهية إلى المحبة، ومن الفرقة إلى الجماعة، ومن التفكك إلى الترابط، فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا. والتحول من الهزيمة إلى النصر، ومن التقهقر إلى الظفر، فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ، وهو نفس المعنى الاشتقاقي الذي منه المصباح، مفردًا وجمعًا. فنور الله مثل نور المصباح في المشكاة، والمشكاة في زجاجة، مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ. وقد زينت السماء الدنيا بمصابيح، وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ، وهو نفس المعنى الاشتقاقي للصبح كموعد للقاء، سلبًا لفعل السوء أو إيجابًا لفعل الخير. فالسلب مثل، وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ. وقد تحل به المصائب، إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ. ويحل الجزاء في الصباح، فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ. وقد يكون الصبح موعدًا للثواب جزاءً على حسن الأفعال عن قريب، أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ، وهو عنوان كتاب الطاهر بن عاشور ليعلن فيه بزوغ فجر الإصلاح. لذلك يكون القسم به للتأكيد على سوء الأفعال، وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ، أو على صدق الرسول، وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وهو وقت حضور الملائكة، وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا، أو النشاط والحركة.

وفي المعاني التداولية والاستعمالات الشعبية الصباح أقرب إلى الإيجاب منه إلى السلب. فالصبح هو الإشراق والبداية والاستفتاح والبراءة وحب الخير للناس. هو السلام واللقاء ووقت الذهاب إلى الأعمال. يُذكر في الأغاني الشعبية «يا صباح الخير، يا صباح النور» فإذا حدث مكروه فإنه يكون مشئومًا بوجه غير صبوح، وهو اسم لفتاة «صباح» ولفتًى «صبحي». ولا يكون المساء اسمًا. إنما الصباح والمساء موعد للتسبيح، فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. الصباح يجبُّ المساء. فالصباح تحول وإشراق، نشاط وحركة، فرح وتفاؤل، واستبشار وأمل.

(٩) الليل والنهار

من مفاهيم الزمان الجغرافي مثل الضحى والعَشِي، الصبح والإصباح، واليوم والأمس والغد، والساعة والسنة، والفجر والعصر، الليل والنهار. وقد ورد لفظ الليل في القرآن اثنتين وتسعين مرة أكثر من النهار، سبعًا وخمسين مرة، لأن الليل أكثر إغراءً ووقت العبادة.

ورد لفظ «الليل» مقرونًا بالنهار ثمانيًا وأربعين مرة، وبمفرده أربعًا وأربعين مرة، أي أكثر من النصف بمعنى تعاقبهما، وهو المعنى الجغرافي الناتج عن دوران الأرض حول نفسها مرة كل أربع وعشرين ساعة. ويستعمل القرآن عدة ألفاظ لذلك. منها اختلاف، اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، مع خلق السموات والأرض، والحياة والموت، ونزول الرزق من السماء، وولوج أي دخول وخروج، يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ، وتكوير أي تلبيس أحدهما في الآخر، يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ، وسلخ أي إخراج، وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ، والقلب أي التحول، يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وتسخير لصالح الإنسان، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، والغشي أي الحلول والحضور، يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ، في مقابل النهار والتجلي، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى، والآية، وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، والتقدير، وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، تعاقب الليل والنهار نظام كوني، لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ، والمحو والإثبات والتحول من العمى إلى الإبصار، فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً، والسكن والإبصار، هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا. يسكن الإنسان بالليل ويعمل بالنهار، وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ. الليل للسكن والنهار للسعي والرزق، جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ. وفيهما يتحقق الأمر الإلهي، أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا. والليل والنهار وقت للإنفاق والصلاة والتسبيح والدعاء، الإنفاق سرًّا بالليل وعلانية بالنهار، والصلاة، وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ، والتسبيح، وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ، والدعاء، قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا.

وقد يأتي الليل منفردًا دون النهار. يجن ويحل ويغشى ويسجى ويعسعس ويدبر وينشأ ويمر. جن، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ، أي حل وأتى، وأدبر، وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ، وعسعس، وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ، وعم وغم، وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ. يسري فيه الظلام، وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ، ويغشى، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، ويسجى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، ويعمى ويغطش، وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا، وهو نوم وقيام وسكن ولباس وغطاء. هو سكن، وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا، ولباس، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا، وهو موعد للقاء، وفترة من الزمن، فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ. ويطول ويقصر بأمر الله، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا، وهو لقاء وموعد، وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً أو ثلاثين. وهو وقت للسير الآمن سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ أو وقت هبوب الريح، سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ. وبه يكون القسم بليالٍ عشر، وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ. وفي ليل تتم انفراجة السماء وينزل القرآن في ليلة القدر المباركة، إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وفي الليل تقوم الصلاة ويكون الصيام والتهجد والقنوت والتسبيح والسجود والدعاء، الصلاة، أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ، والصيام، ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ، والتهجد، وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ، والقنوت، أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا، والتسبيح، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ، والقيام، قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلًا، والسجود، وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا، والهجوع، كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، وهو وقت الإسراء، سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا، ووقت الدعاء، قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا.

وقد ورد لفظ «النهار» سبعًا وخمسين مرة، واحدًا وخمسين مع الليل، وست مرات فقط بمفرده. ومع الليل بنفس المعاني، اختلاف الليل والنهار وولوج أحدهما في الآخر، والتقلب والتكوير والتقدير والغشيان والخلق. وله نفس التقابل مع الليل بين السر والعلانية، والسكون والحركة، والنوم واليقظة، والخفاء والتجلي، واللباس والصحو. وله نفس المعاني المفردة مثل المدة من الزمن والآية والنظام الكوني، والتسخير والأمر. وبه نفس الأفعال، التسبيح والصلاة والدعاء. والنهار من اشتقاق «النهر» فكلاهما سريان.

وفي التجارب الحية يشعر الإنسان بالليل والنهار على نفس النحو، النوم واليقظة، السكون والحركة، الهدوء والصخب، العبادة والمعاملة، الراحة والتعب. وتؤكد الأمثال العامية هذه التجارب مثل «النهار له عينان»، «كلام الليل زبدة يطلع عليه النهار يسيح»، والتوعد بالليلة السوداء «ليلتك سودا»، والبشارة بالنهار الأبيض «نهارك أبيض»، «نهارك فل»، «نهارك عسل». والليل للغناء للحبيب «يا ليل»، والسهر في حبه له وشقائه به ليلًا ونهارًا، وهو التقابل بين سهر الفنانين ونوم العاطلين.

(١٠) الأمس والغد

ومن مفاهيم الزمان مع القرن والدهر، والوقت والساعة، واليوم، والضحى والعَشِي، والصبح والإصباح، والليل والنهار، الأمس والغد. وقد شاعت فكرة وصلت إلى حد اتهام الفكر العربي والإسلامي كله أنه ماضوي، الأمس فيه أفضل من اليوم، وأن التاريخ ينهار كلما تقدم الزمان، وأن السلف خير من الخلف، وأن السلف ما ترك للخلف شيئًا، فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ. وكانت النتيجة أن أصبح التقليد أفضل من الإبداع، والقدماء أفضل من المحدثين. فالتاريخ طبقات. والطبقة الأولى أفضل من الثانية. والصحابة أفضل من التابعين، والتابعون أفضل من تابع التابعين. المعتزلة طبقات، والفقهاء طبقات، والمحدثون طبقات، والمفسرون طبقات. وكانت النتيجة أن أصبح المجتمع طبقات، والناس طبقات، والعالم طبقات، والزمان طبقات، كل شيء طبقات. فما هي صورة الأمس والغد في القرآن؟

ورد لفظ «الأمس» في القرآن أربع مرات وفي صورة لغوية واحدة. في حين ورد لفظ «الغد» خمس عشرة مرة مما يدل على خطأ الفكرة الشائعة أن الأمس أفضل من اليوم، واليوم أفضل من الغد. في حين أن الغرب قد تقدم بالتصور المضاد أن اليوم أفضل من الأمس، وأن الغد أفضل من اليوم. وقد ورد لفظ القرآن «الأمس» في مراته الأربع كأسماء بمعنى الانهيار والتلاشي مقارنة باليوم، فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ. فبناء الأمس وهم لا يصمد بالنسبة لقوى اليوم، الأمس يوم الاستنصار ولكن اليوم يوم التخلي والانهيار، فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ. الأمس يوم القتل وسفك الدماء، قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ. الأمس زمان الأوهام والتمنيات الخادعة، وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ. وفي نفس الوقت يمكن تأويل هذه المعاني السلبية تأويلًا إيجابيًّا أن الأمس ينهار لصالح اليوم، وأن الأمس أقرب إلى الوهم والخداع الذي ينقشع اليوم. وبالتالي الأمس لا ثبات له ولا أساس مما يجعل التقليد مستحيلًا، والتشبث بالماضي ضد التقدم في الزمان. وفي اللغة التداولية للأمس نفس المعنى، التحسر على أيام زمان والنعيم الضائع والفردوس المفقود، والهناء الذي تحول إلى شقاء «امتى الزمان يرجع يا جميل، واسهر معاك على شط النيل». وفي نفس الوقت الأمس وقت القلق والأرق «ليلة امبارح ما جانيش نوم». فلا يوجد تصور ثابت للأمس إذ يمكن اعتباره الزمن الضائع ويمكن تأويله على أنه يمكن تغييره إلى غدٍ أفضل.

أما لفظ «الغد» فقد ورد في القرآن خمس عشرة مرة بصور لغوية مختلفة، فعلية ثلاث مرات، واسمية اثنتي عشرة مرة في صورتين. «الغد» ست مرات أي الزمان القادم، و«الغدو» ست مرات أي التحرك نحو الغد. ويفيد فعل «يغدو» التحول من الأمس إلى اليوم، ومن اليوم إلى الغد أي مسار الزمان المتصل، وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ. وقد يكون التحول سلبًا بمعنى أصبح، فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ. وقد يكون إيجابًا، وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ. أما الصيغة الاسمية «الغد» فقد تعني المستقبل البعيد، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ. وغد الغد هو يوم القيامة والبعث، يوم الحساب والجزاء، سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ. والمستقبل القريب، الغد بالمعنى الزمني هو استعداد، أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ. وقد يعني الغد الاحتمال والتوقع والتخطيط والإمكانية، وهو ليس بيد الإنسان وحده. فهناك عوامل موضوعية أخرى محددة له، وهو ما يسمى في العقائد مشيئة الله، وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ. أما صيغة «الغداة» فتعني فترة من الزمن في مقابل العشي أي المساء. والغد مقدم على العشي في حين أنه في التوالي الزماني بعده. وهما وقتان للدعاء، وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ. ويحتاج الدعاء إلى صبر قبل أن يتحقق، وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ. أما صفة «الغدو» فتعني الحركة في الزمان مقرونة بالآصال، وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ. ويعني الصباح أو المساء. فالغدو حركة متصلة من الأمس إلى اليوم للريح، وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ. فالغدو قد يمتد من يوم إلى شهر وهو المستقبل بين القريب والبعيد. والغدو للتسبيح، يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ، وللسجود لله، وَللهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ، وهو مع العشي يوم الحساب لأهل النار إشارة إلى استمرار العذاب ليل نهار، النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا. وفي الأمثال العامية يفيد لفظ «بكرة» نفس المعنى، وهو نفس اللفظ القرآني، بُكْرَةً وَأَصِيلًا. ويستعمل إما للتسويف أي الغد الذي لا عمل فيه «فوت علينا بكرة» أو للغد المملوء بالأمل، الأمل في اللقاء «حاقبله بكرة» أو الأمل في السفر واكتشاف الجديد وارتياد المجهول «بكرة السفر بكرة».

(١١) الحين

قد تكون ألفاظ الزمان مزدوجة على التقابل مثل الضحى والعَشِي، الليل والنهار، الأمس والغد. وقد تكون مفردة مثل القرن والساعة والفجر. ومنها الحين. وقد ورد لفظ «حين» أربعًا وثلاثين مرة بثلاثة معانٍ. الأول الحياة المؤقتة وليست الدائمة والتي نهايتها الموت. هي حياة الأرض وليست حياة السماء، وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ. والمتعة فيها أيضًا مؤقتة، وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ. ودفء الدنيا وزينتها متاع إلى حين، وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ. وهي فتنة في الدنيا، وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ، وهو ما حدث لقوم ثمود، وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ.

وقد يعني اللفظ ثانيًا فترة من الزمان ووقتًا محددًا سلبًا أم إيجابًا. فالوقت محل للفعل. والفعل حسن أم قبيح، ونتيجته ثواب أو عقاب. فالقرآن ينزل في الزمان، وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ. والأرض تنبت بالزرع خضراء للآكلين كل حين، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا. وفي الأرض جمال حين الراحة فيها وحين التجوال، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. ووقت الظهيرة يضع الإنسان ملابسه من الحر إلى حين وأثناء النوم، مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ. وذكر الله في المساء وفي الصباح، حين يمسي الإنسان وحين يصبح، فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. والإنسان يستيقظ ويقوم في الوقت حينًا من الزمان، وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ. وفي هذه الحالة يكون على صلة بالله، وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ.

والحين أيضًا ثالثًا هو وقت للفعل السلبي. هو وقت البأس والضراء، وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ، وهو وقت التغطية بالثياب ظانين الستر والتخفي، أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ. والحين هو وقت الغفلة والنسيان، وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا، وهو وقت العذاب، أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، وهو وقت العدم قبل الخلق وبعد الموت، هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، وهو وقت الموت والوصية، شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ. والنفس تموت حين يأتي الأجل، اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا.

وفقدان الإنسان حريته ودخوله السجن إلى حين. فلا يوجد سجن أبدي مدى الحياة، ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ. وقد يكون المسجون مظلومًا والسجان ظالمًا. والجنون أيضًا مؤقت والاتهام به إلى حين، إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ. والغفلة أيضًا إلى حين؛ إذ لا توجد غفلة دائمة. فكل غفلة تتبعها يقظة، فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ. والإعراض والتولي إلى حين. فلا يوجد إعراض إلى الأبد لأن كل شيء يتحول ويتغير، فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ. بعدها تبدأ اليقظة ويكون الإبصار.

والعذاب في الآخرة إدراك في الزمان ووعي بالفعل في الزمان، لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ، وهو إدراك متأخر وقت الجزاء. فالوعي له لحظته ووقته، وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا. وإن لم يتيقن الإنسان بذلك في اللحظة الراهنة فإنه يعلم النبأ بعد حين، وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ.

وقد أتى لفظ «حين» مرة واحدة في صيغة «حينئذٍ» أي هذا الحين عندما يحين الحين للتأكيد على صفة الوقوع. فالحين ليس مجرد فترة زمنية مؤقتة في زمان مجرد كزمان ساعة اليد بل هو زمن واقع ولحظة راهنة.

ولا يظهر اللفظ في اللغة التداولية لأنه لفظ عربي فصيح لا يتحول إلى لفظ عامي لقصره. فهو مجرد حرفين ساكنين بينهما حرف علة. واستبدل بألفاظ وظروف زمان أخرى مثل «لما» أو «عند» أو أسماء مثل «شويَّة» أي بعض الشيء، فترة من الوقت. وعادة ما تكون لطلب الانتظار وتأخير الفعل. وفي الأغاني الشعبية «عندما يأتي المساء»، وليس «حينما يأتي المساء».

و«الحين» اسم فعل من «حان» «يحين» أي أتى الوقت وحل الزمن، وهو ما يندر الإحساس به في الوعي العربي. فالزمن لا يحين. والفعل ينتظر. وبالرغم من الأذان للصلاة للإعلان عن حلول الوقت وبالرغم من أن الصلاة في أول الوقت أفضل من الصلاة في آخره، إلا أن الفعل يمكن أن يُؤدَّى على التراخي وليس على الفور، قضاءً لا أداءً. وهناك أمثلة عامية لترحيل الحين إلى وقت آخر مثل «هيه الدنيا طارت»، «ربنا خلق الدنيا في ستة أيام»، «هو أنت ابن سبعة»، «على مهلك شوية»، «سوق على مهلك سوق، بكره الدنيا تروق». فالكل واقف في ساحة الانتظار.

(١٢) الأجل

من ضمن المفاهيم المفرودة للزمان في القرآن مثل القرن والدهر والساعة والفجر والعصر مفهوم الأجل، وهو زمن الإنسان وحياته أي عمره المحدد بالميلاد وبالموت، وقد ورد اللفظ ستًّا وخمسين مرة بخمسة معانٍ مختلفة:

  • الأول: الأجل بمعنى المدة المعينة في العلاقات الزوجية (ست مرات) سواء في عقد النكاح، وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ أو في مدة الحمل، وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ أو الطلاق والفراق، وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ دون حسم حتى لا تترك كالمعلقة، لا زوجة ولا مطلقة، وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ. فالإمساك بمعروف والتسريح بإحسان، فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ. فإذا طلقت الزوجة وانقضت العدة فهي حرة في نفسها أن تتزوج من جديد، فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ.
  • والثاني: الأجل بمعنى مدة الدَّيْن قبل الوفاء به وقضائه (مرتين). والأشياء أقل أهمية من الأفراد. فالدَّيْن إلى أجل يُكتب حتى يلتزم الطرفان، الدائن والمدين، بشروطه، إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ. ولا يهم إذا كان الدين صغيرًا أم كبيرًا. فحفظ الحقوق جزء من العلاقات الإنسانية السليمة، وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ، وهو ما دفع الحضارة الإسلامية كلها إلى تدوين العلوم بما في ذلك القرآن.
  • والثالث: الأجل بمعنى حياة الفرد والعمر، وهو أكثر المعاني شيوعًا (إحدى وثلاثين مرة). ويزيد على نصف المرات. فالأجل نهاية الحياة المحددة بالميلاد والموت، هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى، وهو معنى الآية الشهيرة، لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ. ولا تغيير فيه، وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى. وإذا جاء الأجل لا يتأخر ساعة ولا يتقدم، إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ، وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا. فالله هو الذي يحدد الآجال، رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا. وتحدد الآجال والنفوس ما زالت في الأرحام، وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى. فالأجل محدد منذ ساعة الخلق، هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا، وهو يقين لا ريب فيه، وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ. والوفاة حين يأتي الأجل، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى. ونظرًا لحب الإنسان الحياة لما فيها من متع بالأشياء وبالأفراد فإنه يتمنى تأجيل الأجل، والتأجيل والأجل من نفس الاشتقاق، رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا. فإذا تمت الاستجابة فإلى أجل معدود وليس إلى الأبد، وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأَجَلٍ مَعْدُودٍ، وهو تأجيل رحمة من الله للعباد وليعطيهم فرصة أخرى للقيام بأعمال صالحة، يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى. ويتم ذلك بناء على طلب البشر، من يشعر منهم بأنه في حاجة إلى وقت ليصلح بعد أن أفسد، فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ، وهو تحقق مطلب إنساني وليس كل مظاهر الحياة التي لها أجل محدد كالنبات والحيوان لأن الإنسان فقط هو المسئول الحر القادر على تغيير الأفعال، مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى. ومن الناس من يستعجل العذاب لأنه لا يأمل في التغيير، وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ. فالحساب له وقت محدد. فلعل الإنسان يستفيد من طول العمر، وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ، ولكن الغالبية من الناس تريد مهلة وفرصة ممتدة لتعمل عملًا صالحًا، فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ. ويقابل الله السيئة بالمغفرة، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى. ومهما استعجل الإنسان الشر أو الخير فإن العمر ما زال أمامه مديدًا، وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ. وقد يتمنى أحد تأجيل الأجل لتأجيل القتال إشفاقًا منه، وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ.
  • والرابع: حياة الجماعة والأمة. فلكل أمة أجل، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً. وتلك هي دورات الحضارات، وقيام الأمم وسقوطها، مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ. وكما يُبعث الأفراد تنهض الأمم والشعوب من جديد، ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ.
  • والخامس: أجل الكون والطبيعة، مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى. فالكون له أجل محدود منذ الخلق إلى البعث، لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ. فكل شيء في الطبيعة يسير طبقًا لقانون زماني، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى.

وفي اللغة التداولية الأجل بمعنى العمر المحدد بالموت هو المعنى الشائع كما هو الحال في القرآن، المعنى الثالث، ويستعمل في الدعاء على الأعداء «ربنا يأخذ أجلك». وقد تحولت آية لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ إلى مثل شعبي وقول مأثور. ومع ذلك لا يمنع تحديد الأجل من الاستعجال فيه أي القفز إلى الأمام أو الاستبطاء فيه. فالحركة داخل الزمان ممكنة للإسراع والتأخير. حينئذٍ يتحول الزمان إلى خلود.

(١٣) المشرق والمغرب

من مفاهيم الزمان المزدوجة في القرآن مثل الضحى والعشي، والليل النهار، والأمس والغد، «المشرق والمغرب». وهما الأكثر استعمالًا أو «الشروق والغروب» وهما الأكثر دلالة على الزمان، وهو الزمان الجغرافي المرتبط بدوران الأرض حول نفسها كل أربع وعشرين ساعة مرة. فينشأ تعاقب الليل والنهار، والشروق والغروب، واليقظة والنوم، والنور والظلام.

وقد ورد لفظ «شرق» في القرآن سبع عشرة مرة في صيغ عديدة كلها اسمية باستثناء مرة واحدة في صيغة فعلية «أشرق» بمعنى أشرقت الأرض أي سطع عليها النور حين الشروق، وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا. والصيغة الأكثر استعمالًا «المشرق» بالمفرد في مقابل «المغرب»، وكلاهما لله في وَللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ، وهو ما اعتمد عليه الصوفية في وحدة الشهود ووحدة الوجود. ويهدي الله من يشاء إلى أي اتجاه، قُلْ للهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وليس الإيمان في الاتجاه المكاني بل في تقوى القلب، لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. والله هو رب المشرق والمغرب بحكم العقل، قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. إله واحد عليه التوكل، رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا. هو الذي يأتي بالشمس من المشرق ويجعلها تغرب من المغرب كقانون طبيعي ضروري وليس إرادة الإنسان الحرة، فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ. ويستعمل اللفظ في صيغة المثنى مرتين. فالله هو رب المشرقين، رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ. ويرمز إلى البعد، يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ. ويستعمل في صيغة الجمع ثلاث مرات. فالله هو رب المشارق ورب المغارب، فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، وهو رب المشارق والسموات والأرض وما بينهما، رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ. ويعني اللفظ جمعًا أيضًا جميع الأمكنة التي يمارس فيها الإنسان نشاطه، وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا. أما الاستعمالات الأخرى فتعني وقت الشروق بالجمع، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ، فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ. وقد يكون في صيغة «إشراق» بمعنى الصباح مقرونًا بالعشي، يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ. وقد يعني الاتجاه نحو الشرق، وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا. فالشرق كمكان أفضل من الغرب. والحقيقة في الوسط لا شرقية ولا غربية، يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ، ضد الميل والانحياز للأطراف.

أما لفظ «غرب» فقد استعمل ست عشرة مرة تقريبًا على قدر مساوٍ للفظ «شرق» وبنفس المعاني. أكثرها في صيغة اسمية، أربع عشرة مرة، ومرتين فقط في صيغة فعلية لوصف غروب الشمس على أهل الكهف، وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ أو أمام ذي القرنين، حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ. والأكثر استعمالًا في الصيغ الاسمية المفردة «المغرب»، سبع مرات لوصف الله بأنه مالك المشرق والمغرب، وَللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، وهو رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. وفي المثنى مرة واحدة، رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ، وفي الجمع مرتين، رَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، ووراثة الكون كله للمستضعفين في الأرض، وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا، وهو وصف للمكان، وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ، وهو صفة للوسطية، لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ.

ويتضح من هذا التحليل أن اللفظين «شرق» و«غرب» مرتبطان بالزمان المكاني أكثر من ارتباطهما بالزمان الإنساني. فالكون له زمان كما أن الإنسان يعيش في الزمان. ويعنيان أيضًا المكان الشامل. والله رب المكان والزمان. فيهما يتجلى الحضور الإلهي وتتحقق القدرة الإلهية.

وفي الاستعمالات اليومية، لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ هو المعنى الأكثر تداولًا، ويعني عدم الانحياز والوسطية كما تجلت في سياسة عدم الانحياز بين الشرق والغرب وفي مفهوم العالم الثالث ومفهوم الحياد الإيجابي، كما يستخدمان أيضًا ضد السلوك المتطرف والمواقف المتطرفة، وهو ما يتفق مع وصف الأمة بأنها أمة وسط. وأحيانًا يستعمل على نحو سلبي لتثبيت الوضع القائم والوقوف ضد التغيير بدعوى الوسطية وكأن كل تغير هو تطرف بالضرورة، وهو ما تفعله الطبقة المتوسطة دفاعًا عن حقوقها ضد الطبقتين المتطرفتين الأخريين، العليا والدنيا، الأغنياء والفقراء. تدافع عن القانون والنظام. فكل دعوة من الفقراء للمشاركة في أموال الأغنياء تطرف شيوعي. وكل دعوة للأغنياء لمزيد من الغنى تطرف رأسمالي. مع أن الله هو الجامع لكل شيء، وهو الشامل لكل الاتجاهات، والجامع لكل الطبقات. هو الواحد الذي يجمع اثنينية المشرق والمغرب، وجمع المشارق والمغارب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤