الفصل الثاني عشر

المجتمع

(١) وحدة الأمة

إذا كانت القضية الأولى في اليسار الإسلامي هي تحرير الأرض من الاحتلال واستكمال حركة التحرر الوطني، والقضية الثانية هي تحرير المواطن من كل صنوف القهر، والقضية الثالثة العدالة الاجتماعية ضد التفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء، فإن القضية الرابعة هي وحدة الأمة، عربية أو إسلامية.

فقد قُضي على الدولة العثمانية وتقطعت أطرافها بعد الحرب العالمية الأولى. وسقطت الخلافة بعد الثورة الكمالية في ١٩٢٣م. ووجد العرب في القومية العربية بديلًا يحميهم من أطماع الاستعمار والتي لم تتوقف، تلم شمل الدول العربية التي أنشئت بفعل اتفاقية سايكس- بيكو. ثم انهارت القومية العربية بعد هزيمة يونيو (حزيران) ١٩٦٧م وانتهى المشروع العربي التحرري القومي إلى احتلال مصر وكل فلسطين وسوريا. وبعد أن عادت إليها الروح في حرب أكتوبر (تشرين الأول) ١٩٧٣م انهارت مرة أخرى بعد غزو العراق لإيران في ١٩٨٠م في حرب الخليج الأولى ووضع تناقض بين الثورة العربية والثورة الإسلامية، ثم غزو العراق للكويت في ١٩٩٠م حرب الخليج الثانية ووضع تناقض بين القومية والقطرية.

والآن تُغزى الدول من جديد كما حدث في العراق وأفغانستان. وتُفكك الأوطان كما يحدث في السودان والصومال. وتتحول إلى فسيفساء طائفي عرقي مذهبي، سُني وشيعي وكردي وتركماني في العراق، وسني ماروني درزي في لبنان، وسني شيعي في دول الخليج، ومسلم قبطي في مصر، وعربي بربري في المغرب العربي كله، وعربي أفريقي في السودان، وزيدي شافعي في اليمن، ونجدي حجازي في السعودية، وصومالي سنغالي في موريتانيا، ومغربي صحراوي في المغرب الأقصى. وبالتالي تأخذ إسرائيل شرعية جديدة من طبيعة الجغرافيا السياسية في المنطقة لإقامة دولة قومية يهودية في فلسطين، وطرد أكثر من مليون فلسطيني من عرب ١٩٤٨م. وتمنع أكثر من مليونين آخرين من اللاجئين من نكبة ١٩٤٨م ونكسة ١٩٦٧م. وتنتهي أية قوة وحدوية في المنطقة، إسلامية أو عربية أو قطرية في الدول التاريخية في المنطقة، مصر والعراق والمغرب. ويُقضى على إمكانية تكوين قطب إسلامي أو عربي في مواجهة القطب الأول، الولايات المتحدة الأمريكية، وإقامة عالم متعدد الأقطاب. فالعولمة ذات اتجاهين وليست اتجاهًا واحدًا، توحيد المركز، مجموعة الثمانية، الشركات المتعددة الجنسيات، الغرب الصناعي، وتفتيت الأطراف في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية كي تبقى سوقًا للاستهلاك أو مصادر للمواد الأولية أو للعمالة الرخيصة.

وقد ذُكر لفظ «الأمة» ومشتقاته في القرآن حوالي مائة وثماني عشرة مرة. منها ما يقرب الثلث بمعنى الأم والرحم. فالأمة بمثابة الأم، أم الجميع. والثلثان تقريبًا بمعنى الأمة، معظمها بالمفرد «أمة» وأقلها بالجمع «أمم». ومن اللفظ اشتُق لفظ «إمام» بمعنى القيادة. والنادر «أمي» بمعنى صاحب العلم الطبيعي الذي لا يأتي فقط من القراءة والكتاب. فمحور استعمالات «الأمة» كفرد حوالي النصف.

وهي أمة واحدة، تعبيرًا عن الإله الواحد، وانعكاسًا لصفة الوحدانية في حياة البشر، إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ. وهي أمة مسئولة على البشر جميعًا. فهي آخر الأمم، فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا. وهي صاحبة رسالة، وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ. وهي رسالة الإله الواحد الذي يتساوى أمامه الجميع، وحدانية البشر، دون تمييز بين قوة وضعف، كثرة وقلة، لون أو لغة أو دين. أمة تدعو وتبلغ وتبين للناس. وهي رسالة خلقية توحيدية لا تقوم على المعيار المزدوج أو قسمة البشر إلى مركز ومحيط، متحضر وبدائي، رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ. وهي أمة وسطية لا تغالي. تأبى التطرف والغلو، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا. وهي أمة ملتزمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. لذلك كانت خير أمة أخرجت للناس، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ. هي أمة إبراهيم، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً. هي أمة في التاريخ لها عمر كالأفراد لا تقلدها غيرها من الأمم السابقة. فالمتقدم لا يقلد المتأخر، إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ. وبالرغم من أن المسئولية فردية، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا. وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ، إلا أن المسئولية أيضًا جماعية، أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ، كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا، جزاء التقليد الذي يؤدي إلى الهلاك وعدم تحمل المسئولية الجماعية.

ليست وحدة الأمة بالضرورة وحدة سياسية مركزية كما كان الحال في السابق في الدول الأموية والعباسية حتى العثمانية. فقد كانت الخلافة اسمية، والأمصار مستقلة عنها، أكثر أو أقل. بل هي وحدة الأخوة والتعاطف المشترك، الوحدة الوجدانية. وهي أيضًا وحدة نسق القيم والمبادئ والتصور المشترك للعالم المستمد من التوحيد. وهي وحدة التضامن الاجتماعي والشعور بالأمة. هي وحدة المبادئ والغايات، المقاصد والأهداف لتحقيق الإسلام كنظام مثالي للعالم. وبلغة المحدثين هي وحدة الثقافة والحضارة ونسق القيم والتصور للحياة. وهي وحدة الجوار الجغرافي والتاريخ المشترك. وهي وحدة المصالح في الحرية والاستقلال والتنمية والتعاون ضد الأخطار المشتركة، الاستعمار وكل أشكال الهيمنة، والصهيونية كاستعمار استيطاني جديد.

لا تعني وحدة الأمة بالضرورة وحدة سياسية كما كان الحال عند القدماء في نظام الخلافة بل تعني اللامركزية التي طالما دافع عنها المصلحون. وقد تعني الفيدرالية أي سلطة مركزية في الدفاع والخارجية، وسلطات محلية في التنمية والحكم المحلي، جمعًا بين العام والخاص. وقد تكون تعاونًا إقليميًّا بين دول الجوار مثل مجلس التعاون الخليجي ومجالس التعاون بين كل دولتين جارتين قريبتين مثل مصر وليبيا، مصر والسودان، مصر والأردن، مصر والسعودية، أو بعيدتين مثل مصر وتونس، مصر والجزائر، مصر والمغرب، مصر والعراق، مصر وسوريا. فمصر باستمرار هي أحد الأطراف بدلًا من الشكل القديم للوحدة المركزية بقيادة الدولة القاعدة.

لا تعود وحدة الأمة إلا تدريجيًّا ابتداء من وحدة الأقطار والحوار الداخلي بين تياراتها المختلفة في جبهة وطنية أو ائتلاف وطني مع اتفاق على الحد الأدنى على البرامج الوطنية. ثم تبدأ وحدة دول الجوار مثل الوحدة المدنية بين الشمال والجنوب، وحدة سياسية في دولة مركزية واحدة. ثم تأتي وحدة مجالس التعاون مثل مجلس التعاون الخليجي كنوع من الفيدرالية. ثم تأتي مجالس التنسيق والتعاون بين دولتين، قريبتين أم بعيدتين كما تفعل مصر. ثم تأتي الوحدة الإسلامية في النهاية، في صورة عالم إسلامي متفق في الأهداف. يكوِّن كتلة تاريخية كبيرة مثل باندونج، العالم الثالث، عدم الانحياز، دول القارات الثلاث.

ليست الوحدة شعارات أو تمنيات. بل هي وحدة عملية تتحقق في الواقع ويشعر الناس بآثارها وأهميتها ونفعها وصلابتها. تتحقق بفتح الحدود، ورفع الحواجز الجمركية، وحرية التجارة، وإلغاء تأشيرات الدخول في «شنجن» عربي. فالعرب يتمتعون بالشنجن الأوروبي، ويمنعون بالساعات في مطاراتهم أو يُرحَّلون حيث أتوا حرصًا على الأمن. وقد كانت السوق العربية المشتركة في أوائل الخمسينيات أسبق من السوق الأوروبية المشتركة. وقد تستطيع معاهدة الدفاع العربي المشترك أن تمنع من غزو الأقطار، واحدًا تلو الآخر كما حدث في العراق وفلسطين. قرارات كثيرة وتحققات قليلة. كلام كثير وأفعال قليلة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ.

(٢) التنمية المستدامة

إذا كانت القضية الأولى في اليسار الإسلامي تحرير الأرض من الاحتلال، والثانية تحرير المواطن من القهر، والثالثة العدالة الاجتماعية ضد فقر الأغلبية وثراء الأقلية، والرابعة الوحدة ضد مخاطر التجزئة والتقسيم الطائفي المذهبي والعرقي، فإن القضية الخامسة هي التنمية المستدامة.

والمصطلح غربي، من الدراسات التنموية الحديثة بعد صعود العالم الثالث إثر حركات التحرر الوطني، وأخذه مكان الصدارة، وأغلبية الأصوات في الأمم المتحدة، وثلثي سكان العالم. ولا يعني لفظ «التنمية» مجرد النمو الاقتصادي الكمي أي تنمية الموارد، بل يعني أساسًا التنمية البشرية أو التنمية الشاملة. فالإنسان هو الهدف الأول من التنمية، تنمية الإدراك والقدرات الذهنية والبواعث النفسية من أجل التوجه نحو الطبيعة، ووجود الإنسان في العالم، ويتم الفعل والإنتاج والعمل والكد والكدح والسيطرة على مظاهر الطبيعة من خلال التعرف على قوانينها.

وهي التنمية المستدامة أي التي تعتمد على ذاتها وليس على المعونات الخارجية التي تنضب بالتوزيع دون إيجاد وسائل للاستثمار وتحويلها من كم إلى كيف، من توزيع إلى إنتاج. هي التنمية التي تولد ذاتها بذاتها مثل التيسير الذاتي، تنمية الإنتاج وليس تنمية الاستهلاك. وهي التنمية التي تحققت في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية عن طريق مشروع مارشال، وفي اليابان لإعادة بنائها بعد تدميرها في الحرب، وفي كوريا الجنوبية وماليزيا والصين والهند، اعتمادًا على القدرات الذاتية ووضع خطط للتنمية المستمرة بعد الدفعة الأولى.

والهدف من التنمية المستدامة تحرير الإرادة الوطنية من الاعتماد على الخارج ودون ارتهانها بالمعونات الأجنبية المشروطة بالدخول في أحلاف مع الدول المانحة أو إقامة قواعد عسكرية، برية وبحرية على أراضيها. فالطعام لا يستورد وإلا جاع الشعب في حالة الحصار. والأمة التي لا تأكل مما تنتج تظل أسيرة لمصادر طعامها، وأهمها القمح، فرغيف الخبر حاجة أساسية كالماء والهواء والتعليم والصحة والإسكان. تدعمه الدولة حتى تستطيع الطبقات الفقيرة شراءه بالأجور المحلية التي لا تستطيع مجاراة الأسعار العالمية.

وتدخل التنمية المستدامة ضمن إعمار الأرض وتأسيس العمران في مفهوم الأرض في القرآن الكريم، فالأرض خضراء وليست صفراء. تخضر من نزول الماء عليها، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً. فالنبات الأخضر من فعل الطبيعة بنزول الماء على الأرض ومن فعل الإنسان بزراعة الصحراء، فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا. فالإنسان في زراعته الأرض يتشبه بالله الذي ينزل الماء عليها لتصبح مخضرة. والأخضر ضد اليابس. يأكله ويحتويه، وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ. واللون الأخضر هو لون أرائك الجنة، مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ، ولون ثياب أهل الجنة، عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ.

أما اللون الأصفر فهو لون سلبي، لون الجفاف والصحراء والهشيم الذي تذروه الرياح والذي يسهل اقتلاعه من الأرض، ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا، وهو لون الريح العاتية التي تهب فلا تبقى ولا تذر، وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ، وهو لون شرار النار، إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ. هو لون الموت والضحية مثل بقرة نبي إسرائيل، قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ. وفي الثقافة الشعبية توحدت الثقافة العربية بالصحراء، التوحيد امتدادها اللانهائي، وأخلاقها التعاون والبر والتكافل، رموزها الجمل والناي والخيمة.

ويستمر الحديث في صورة القرآن في التأكيد على أن اللون الأخضر هو لون الحياة المستمرة. «لو جاء أحدكم ملك الموت وفي يده فسيلة فليغرسها». فالاخضرار فعل مستمر للإنسان من المهد إلى للحد. وفي زيارة القبور يوضع العشب الأخضر، والزرع الأخضر ترحُّمًا على الميت. فالحياة الخضراء مستمرة بعد الموت، وهو اللون المفضل عند الصوفية في عمائمهم وأعلامهم وشاراتهم وبيارقهم. والشيخ الخضر رمزهم وإمامهم، وهو اللون الذي آثرته العديد من الدول الإسلامية لأعلامها الوطنية رمزًا للأرض الخضراء، وهو اللون الذي يستعمل في الحياة السياسية مثل «المسيرة الخضراء» و«الكتاب الأخضر».

مهمة الإنسان في الطبيعة إذن السيطرة عليها وتسخير قوانينها لصالحه. علاقة الإنسان بالأرض هي علاقة الفاعل بالمفعول، الزارع بالزرع. فقد خُلق الكون كله لصالح الإنسان. الأرض لفأسه، والماء لريه. دوره زرع الأرض وتحويل الصحراء الصفراء إلى أرض خضراء، وإقامة السدود وبناء الجسور لحفظ المياه كما فعلت الملكة سبأ في تشييد سد مأرب. والإنسان قادر على تفجير الماء من الصخر كما فعل موسى حينما ضرب الصخر بعصاه فانفجرت منه العيون، وعندما سعت السيدة هاجر زوجة إبراهيم بين الصفا والمروة بحثًا عن الماء لشرب ولدها إسماعيل حتى لا يهلكا عطشًا فانفجرت عين زمزم والتي أصبحت فيما بعد من مناسك الحج.

ويرتبط مفهوم التنمية المستدامة ليس فقط بالطبيعة وتسخير قوانينها بل أيضًا بمفهوم التقدم. وفعل «قدم» يعني في نفس الوقت القديم والتقدم والسبق، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، وهو عكس التأخر، لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ. التنمية خير والسبق فيها فضيلة، فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ، وهو منافسة في التقدم، فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا. والسابقون هم الذين ينالون الفوز، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ. ولفظ «سبق» أيضًا مزدوج المعنى. يعني السبق إلى الأمام والسبق إلى الخلف، وهو ضد تصور آخر شائع يقوم على أن السلف خير من الخلف، فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ، وأيضًا «خير القرون قرني، ثم الذي يلونه» حيث يبدو التاريخ منهارًا، وأن السابقين خير من اللاحقين، وهو ضد الزمن والتقدم جوهره. وهي طبقات المؤرخين والمتكلمين والمفسرين والفقهاء.

إن كل شروط التنمية المستدامة متوافرة في الوطن العربي: رءوس الأموال من عوائد النفط، والعقول العربية القادرة على التنمية على مستوى أعلى الخبرات العالمية، والسواعد العربية والعمالة المهاجرة والخبرة التاريخية بالزراعة في مصر والسودان والعراق، والأسواق الشاسعة وملايين البشر للاستهلاك. فلا يوجد ما يمنع من إقامة السوق العربية المشتركة القائمة على التكامل الاقتصادي.

وإذا كان العالم، كما يقال قرية واحدة، وكانت العولمة قانونه فإنه لا يحل أزمة الغذاء وأزمة المياه في العالم إلا التوجه نحو الطبيعة والسيطرة عليها، وتسخير قوانينها، ونمو الأرض لزراعتها وتحويلها من أرض صفراء قاحلة إلى أرض خضراء يانعة. الإنسان في العالم مصدر خير وليس عدمًا أتى من لا شيء وينتهي إلى لا شيء.

ولما كانت الشعوب الإسلامية باستثناء البعض مثل ماليزيا وتركيا وإيران ضمن الدول النامية، حينئذٍ يكون معنى التنمية الدول التي تخطط للتنمية المستدامة وليست الدول الوسطى بين الدول المتخلفة والدول المتقدمة. ويكون للتنمية معناها الدائم حتى عند الدول المتقدمة. فالتنمية موقف الإنسان من الطبيعة سيدًا لها ومسخرًا لقوانينها. وهي جانب من عملية التقدم الشاملة في الكون والتاريخ.

(٣) الهوية والتغريب

إذا كانت القضية الأولى في اليسار الإسلامي تحرير الأرض استكمالًا لحركات التحرر الوطني ضد الهيمنة الجديدة وعودة الغزو العسكري للأوطان كما حدث في العراق، وكانت الثانية حرية المواطن ضد صنوف القهر الداخلي من نظم الحكم، والثالثة العدالة الاجتماعية ضد التفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء، بين من لا يملكون أي شيء ومن يملكون كل شيء، والرابعة توحيد الأمة على المستوى الوطني أولًا ثم العربي ثانيًا ثم الإسلامي ثالثًا طبقًا لنظرية الدوائر الثلاث، الوطن والعروبة والإسلام، والخامسة التنمية المستقلة المستدامة ضد الاعتماد على الخارج والمعونات الأجنبية حتى تستهلك الأمة ما تنتج. فإن السادسة هي الدفاع عن الهوية ضد مظاهر التغريب، وإثبات الأنا ضد الآخر، وهو ما سماه الفلاسفة المعاصرون «الاغتراب»، أي تحول الأنا إلى آخر والذوبان فيه، وفقد هويتها بحيث يصبح الأنا غريبًا على نفسه، فاقدًا لهويته. والاغتراب في حياتنا المعاصرة تغريب؛ لأن الآخر الذي يستقطب الأنا هو الغرب. فأصبح الاغتراب تغريبًا بالضرورة أي الانبهار بالغرب واعتباره هو النموذج الوحيد للتحديث. ومن لم يكن غربيًّا فهو ليس حدثيًّا، أو أصولي سلفي.

والتغريب هو أولًا ظاهرة ثقافية تعبر عن الاعتداد بالنفس وهويتها المستقلة وكيانها الذاتي. تعبر عن نفسها من خلال الثقافة الوطنية التي تحمي هوية الشعب وخصوصيته. كما تتجلى في الفن وأساليب العمارة وطرز البناء، وفي الزي الشعبي مثل الجلباب والعباية والخف بعد أن اختفى الطربوش التركي، وفي الأثاث العربي المعروف باسم «الأرابيسك» وفي أنواع الأطعمة الشرقية الشهيرة. وتتمسك كل الشعوب بذلك. فهناك الطراز الصيني والياباني والكوري والهندي والماليزي والإندونيسي والتركي والإيراني والعربي والأفريقي والأوروبي. هذه الخصوصيات والتعددية الثقافية والفنية هي أساس التعارف بين الشعوب المختلفة اللغات والمشارب من أجل التعارف والإثراء المتبادل. ثقافات متعددة وحضارة إنسانية واحدة. ويقطع الناس الفيافي والبحار ويعبرون القارات للتعرف على ثقافات الشعوب الصينية واليابانية والهندية والفارسية والمصرية القديمة والعربية. يعشقون الآخر، ويتمثلون ثقافاته وفنونه حتى أصبحت السياحة لدى بعض الدول المصدر الأول للدخل القومي. كما أن التمسك بالهوية ليس مجرد عود إلى الماضي بل هو حفاظ على الاستمرارية في التاريخ وعلى الهوية المتجددة بين الماضي والحاضر والتي يساهم فيها كل جيل. هي موطن الإبداع، فلا معاصرة بلا أصالة، ولا جديد بلا قديم، ولا تحديث بلا تراث. لذلك أضيف إلى اسم بعض وزارات الثقافة «والتراث القومي»، بالإضافة إلى مصلحة الآثار والمهرجانات التراثية الشعبية التي تقام كل عام على الصعد الوطنية والعربية والعالمية.

والأهم من ذلك كله هو الأثر السياسي لقضية الهوية والتغريب؛ إذ تعني الهوية الاستقلال الوطني، والإرادة الوطنية المستقلة، والثقل السياسي، والتمسك بالثوابت الوطنية، وبالأمن القومي القائم على الجغرافيا والتاريخ والذى يعبر عن الموقع والموقف، تعني الهوية رفض الدخول في الأحلاف السياسية والعسكرية التي تجعل الدول الوطنية ملحقة بالدول المركزية الكبرى، وتبعية الأطراف للمركز كما كان الأمر في حلف وارسو، وكما هو قائم الآن في حلف شمال الأطلنطي ومشاركته في الغزو الأمريكي لأفغانستان. تفقد الدول شخصياتها، وتتصف مواقفها السياسية بالميوعة، ويغيب التعاون الإقليمي والاعتماد المتبادل بين دول الجوار. وتفقد قدرتها على التأثير في موازين القوى العالمية، وتعجز عن لعب أي دور مؤثر في السياسة الدولية.

مخاطرها بطبيعة الحال في تحدي القوى الكبرى ورغبتها في الهيمنة على الدول الصغرى لتأمين مصادر الطاقة، والاقتراب من روسيا والصين، ومقاومة سياسة الأحلاف كما فعل عبد الناصر في مقاومة حلف بغداد في ١٩٥٤م، والحلف الإسلامي بين طهران وكراتشي في ١٩٦٥م، ورفض إقامة أي قواعد عسكرية في مصر والوطن العربي، وهو ما تفعله الثورة الإسلامية في إيران الآن دفاعًا عن حق إيران في الطاقة النووية مثل باكستان والهند شرقًا وإسرائيل غربًا وامتلاك كل القوى الكبرى غربًا وشرقًا لها.

والدفاع عن الهوية ضد التغريب هو روح القرآن والحديث تمسكًا بالهوية الثقافية والشخصية المستقلة في سورة الكافرين، قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ. وتتكرر بعض الآيات مثل، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ للتأكيد. كذلك يرفض القرآن موالاة الآخر العدو مثل اليهود والنصارى، وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ. ومن يواليهم يصبح منهم، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ.

ويستمر الحديث في رفض الموالاة والتبعية للآخر «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى. قال: فمن إذن؟» وهو سبب كتابة «علم الاستغراب» للتخلص من صورة الغرب كمصدر للعلم كي يصبح موضوعًا للعلم، وللقضاء على أسطورة الثقافة العالمية التي وحد الغرب نفسه بها. وكل حضارة بنت تاريخها وظروفها وعصرها، وللقضاء على عقدة العظمة لدى الغرب، وعقدة النقص لدى الشعوب اللاغربية من أجل حوار متكافئ بين الحضارات يقوم على الأخذ والعطاء، والتعليم والتعلم ضد المعلم الأبدي والتلميذ الأبدي.

وكلما اشتد التغريب بكل ما ينتج عنه من قيم الاستهلاك وملذات الحياة والتميع والذوبان والانصهار في الآخر نشأت الحركات السلفية والأصولية للدفاع عن الهوية، والتمسك بالأصالة لدرجة «المفاصلة» بين الأنا والآخر، بين الإسلام والغرب طبقًا لثنائيات الإسلام والجاهلية، والإيمان والكفر، والحق والباطل، والصواب والخطأ، والهداية والضلال. وهي ظروف نفسية نشأت عن تعذيب أعضاء الجماعات الإسلامية في السجون كما حدث لسيد قطب في ١٩٥٤م وكتابه «معالم على الطريق» الذي يكفِّر فيه المجتمع بعد أن كان من دعاة الاشتراكية الإسلامية في «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، و«الإسلام والرأسمالية»، و«السلام العالمي والإسلام». واليسار الإسلامي هو استئناف لسيد قطب الأول في المرحلة الاشتراكية بعد المراحل الشعرية والأدبية والنقدية والفلسفية. كما أنه استئناف لمصطفى السباعي في سوريا في «الاشتراكية والإسلام».

هذا التقابل بين الأنا والآخر، في الواقع النفسي والثقافي والسياسي والتاريخي، ليس موقفًا مبدئيًّا بل فقط حين تتبع الذات الآخر وتذوب فيه. إنما الموقف المبدئي هو الحوار بين الذات والآخر كندين متكافئين مجتهدين دون تحديد مسبق أي الفريقين على خطأ وأيهما على صواب، وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. وفي نفس الوقت الذي يحرم فيه القرآن موالاة الآخر بمعنى التبعية وفقدان الهوية يثبت المودة له، وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. كما يؤكد التقاء الأنا والآخر على كلمة سواء، نسق من القيم يقوم على الحرية والعدل للجميع في آية المباهلة، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ. وبتعبير الثوار المحدثين، يد تقاتل التبعية والتغريب، ويد تسالم من أجل حوار متكافئ بين الطرفين.

(٤) تجنيد الجماهير

إذا كان فقه الأولويات في اليسار الإسلامي يبدأ أولًا بتحرير الأرض ضد الاحتلال، وثانيًا بحرية المواطن ضد القهر، وثالثًا بالعدالة الاجتماعية ضد الفقر، ورابعًا بوحدة الأمة ضد التجزئة، وخامسًا بالتنمية المستقلة ضد التبعية، وسادسًا بالهوية ضد التغريب، فإن القضية السابعة والأخيرة هي تجنيد الجماهير أو حشد الناس، وتحويل الأمة من الكم إلى الكيف، وتحويل حوالي مليار ونصف من المسلمين أي ربع سكان المعمورة من مجرد عدد كمي إلى طاقة كيفية قادرة على الصمود في مواجهة خمسة ملايين من المستوطنين في فلسطين. يساندهم ثمانية ملايين من يهود العالم. ومن ورائهم الدوائر العنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية خاصة المحافظين الجدد. فالأفكار في حاجة إلى بشر، والأيديولوجيات في حاجة إلى جماهير، والنبوات حركات تغير ودفعات تقدم في مسار التاريخ. الأفكار بمفردها لا توجد إلا في أذهان النخبة ثم تتحقق في حركة الجماهير، من الخاصة إلى العامة، ومن القادة إلى الشعب.

وهو موضوع فلسفي واجتماعي وسياسي. تحدث فيه أورتيجا في «ثورة الجماهير» ودوسيل في «تربية المضطهدين». وتعرض إليه القدماء بتفرقتهم بين الخاصة والعامة على نحو معرفي خالص. فالخاصة هم القادرون على فهم الباطن وتأويل النصوص، في حين أن العامة وظيفتهم التطبيق لظاهر الشريعة وطاعة الأحكام.

والسؤال هو: لماذا هذا السكوت المطبق للجماهير؟ أين الشارع العربي؟ «وين الملايين؟» يتحرك الشارع الأوروبي بالملايين من أجل قضايانا، ضد الغزو الأمريكي للعراق، وضد الاحتلال الإسرائيلي لكل فلسطين، والشارع العربي صامت، إلا من بؤر محدودة هنا وهناك، في المغرب ومصر والبحرين والسودان واليمن وموريتانيا وعلى نطاق أوسع في لبنان، والعرب ثلاثمائة وخمسون مليونًا لا يتحركون لفك الحصار عن غزة. والمسلمون مليار ونصف ولا يتحركون لتحرير القدس، أولى القبلتين وثاني الحرمين. فما السبب في هذا السكون المطبق؟

هل الخوف من السلطان وحكمه المطلق وأجهزة الأمن والشرطة العلنية والسرية؟ فهي الرعية وهو الراعي، تشبيه الغنم وراعي الأغنام. عليها السمع والطاعة، أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ. الخروج عليه فتنة، وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ. هل العقائد الأشعرية هي المسئولة؟ القضاء والقدر والأمثال العامية التي تولدت منه والتي حاول المصلحون مناهضتها، فالحاكم الظالم قضاء من الله، وقدر منه، لا يمكن تفاديه. هو امتحان واختبار وبلاء. فالمؤمن مصاب. هل تصور الإمام عند الفلاسفة والمتكلمين، كامل الأوصاف الذي لا يوجد أكمل منه؟ حكمه بالطبيعة والتاريخ والزعامة الشخصية ومدى الحياة. ليس محددًا بمدة أو بسلطة إلا الكتاب الذي يمكن تأويله لصالح النخبة ولصالح الجماهير في آن واحد وكما يتضح هذه الأيام في مبدأ «الحاكمية». هل الهروب إلى التصوف والطرقية هو السبب في تحويل الدين إلى اغتراب خارج العالم، والاتحاد بالله بالقفز فوق العالم، والتحول إلى الرأسي تعويضًا عن الأفقي؟ هل هي كل القيم التي أفرزها التصوف، المقامات والأحوال، الصبر والتوكل والخوف والخشية والرضا والتسليم التي منعت الناس من الثورة والغضب والتمرد والاعتراض والنفي والمواجهة؟

هل تعودت الجماهير في تاريخها الحديث من محمد علي حتى عبد الناصر على أن تعمل في الدولة وتخدم مشروعها الوطني الذي تقوم به الدولة نيابة عن الأمة؟ فتعودت الجماهير على الطاعة والسلبية والتصفيق للحكام، حربًا أم سلمًا، اشتراكية أم رأسمالية، قطاعًا عامًّا أم خاصًّا، باسم الديمقراطية المباشرة التي يعبر فيها الزعيم والقائد والأخ عن مصالح الجماهير؟ هل اكتفاء الجماهير بالسعي وراء الرزق والبحث عن رغيف الخبز مع التنازل عن الحرية، في حين أن القرآن يجمع بينهما، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ. هل لأن الفترة الليبرالية كانت قصيرة في حياتنا بعد ثورة ١٩١٩م؟ وكانت وافدة من الخارج وليست نابعة من الداخل. تمثلتها النخبة دون الجماهير.

هل السبب هي الانقلابات العسكرية الأخيرة في منتصف الخمسينيات التي احتكرت من خلال الحزب الواحد، العمل السياسي، بعد ثقة الجماهير بالضباط الأحرار، ومشاهدتهم على الطبيعة إنجازات الثورة: الإصلاح الزراعي، التأميم، القطاع العام، تدعيم المواد الغذائية، لجان تقدير الإيجارات، بناء المدارس. وعلى الصعيد الخارجي: مقاومة الاستعمار والصهيونية، القومية العربية، باندونج، العالم الثالث. كانت هناك هبات شعبية محدودة مثل أزمة مارس ١٩٥٤م، والمظاهرات الشعبية ضد أحكام الطيران في مارس ١٩٦٨م، والهبة الشعبية ضد غلاء الأسعار في يناير ١٩٧٧م، وتحركات الأمن المركزي ضد الفقر في يناير ١٩٨٦م، والمظاهرات ضد العدوان الأمريكي على العراق في يناير ١٩٩١م وضد الغزو الأمريكي للعراق في مارس ٢٠٠٣م. فلا يمر عقد من الزمان إلا وفيه هبَّة شعبية. تنطفئ بمجرد أن تندلع لأنها لا عصب لها قادرًا على أن يستولي على السلطة وأن يكوِّن سلطة بديلة. كانت نخبوية طلابية دائمًا وفي أقلها شعبية جماهيرية بالاشتراك مع كافة طبقات الشعب، مطالبة بالخبز والحرية في آن واحد.

وكما يوجد في الموروث القديم ما يجعل الجماهير مطيعة للحكام فإن فيه أيضًا ما يجعل الأئمة والناس، الخاصة والعامة خارجة على الحاكم الظالم. مثل: إن أعظم شهادة قولة حق في وجه إمام جائر. البداية بالنصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما تقوم به صحافة المعارضة، ثم اللجوء إلى القضاء لمقاضاة الحاكم إذا ما صالح الأعداء، وتهاون في إقامة الثغور وتقوية الحدود ﻟ «الذب عن البيضة»، وإن لم يأخذ حقوق الفقراء من أموال الأغنياء، وإن قام الحكم على الظلم وليس العدل، فالعدل أساس الملك. وعليه قامت السموات والأرض بالميزان. وحاكم كافر عادل خير عند الله من حاكم مسلم ظالم. فإن لم يرعَ الحاكم فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والخروج عليه واجب بقيادة قاضي القضاة وعلماء الأمة كما يفعل نادي القضاة في هذا العصر.

كما يتحدث القرآن عن الشعوب والقبائل والأقوام والرهط والأناس أي الجماعات والفتية الذين آمنوا بربهم وازدادوا هدًى. وفي الحديث الذي يُروى أيضًا عن موسى «تناسلوا تكاثروا فإني مباهٍ بكم أمتي يوم القيامة». ويدعو القرآن إلى تحمل الأمانة والرسالة التي حملها الإنسان طوعًا واختيارًا، إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ. هي أمانة تحقيق كلمة الله كنظام مثالي للعالم. وراثة النبي بعد استقلال العقل وحرية الإرادة.

لقد خرجت حركات التحرر الوطني في حياتنا المعاصرة عن جبة الحركات الإصلاحية في المغرب العربي والسودان واليمن وفلسطين لقدرتها على حشد الناس، والتوحيد بين الوطن والعروبة والإسلام دون وضع لتصادم مفتعل بينها كما هو الحال في القطرية المغالية، الوطن أولًا أو القومية المغالية، القومية العربية العلمانية للجمع بين المسلمين والنصارى، والأصولية الأممية التي لا ترضى بأقل من الأمة الإسلامية ودولة الخلافة. وقامت الثورات الإسلامية، المهدية، والإيرانية على أكتافها. ونجحت في حصد الأغلبية مثل حزب العدالة والتنمية في تركيا والمغرب. وما زالت هي أقدر الحركات والتيارات السياسية قدرة على تحريك الجماهير في مصر والأردن. وتقاوم في العراق وفلسطين بل وأفغانستان والشيشان.

إن الجماهير هي القادرة على ردع العدوان كما فعل حزب الله في حرب يوليو (تموز) ٢٠٠٦م، والقادرة على تعمير الصحراء، وجذب العمالة والعقول المهاجرة، وإعادة ربطها بالأوطان بدلًا من السكون المطبق للشارع العربي والغياب التام له. هي القادرة على رفع القهر في الداخل ومقاومة العدوان من الخارج. التحدي هو التحول من الكم إلى الكيف. كما تنبأ الرسول بأن الأمم ستتداعى علينا كما تتداعى الأكلة على قصعتها. ليس من قلة بل نحن كثير كغثاء النحل ولكن بسبب حب الحياة وكراهية الموت أي الاستشهاد في سبيل الأوطان وذهاب رهبة الأمة في قلوب أعدائها.

اليسار الإسلامي إذن ليس تأويلًا ثوريًّا تقدميًّا اشتراكيًّا يساريًّا للإسلام، بل هو عمل جماهيري يبدأ بتحرير الأرض وينتهي بحركة الجماهير.

(٥) التقدم والتأخر

التقدم مطلب رئيسي لدى الشعوب النامية، شعوب أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، شعوب العالم الثالث. وهي أسماء حديثة تشير إلى العالم الإسلامي. كما أن من ضمن أسماء اليسار الإسلامي في مصر الإسلام التقدمي في تونس وإذا كان لفظ اليسار لفظًا قرآنيًّا بمعانٍ مختلفة، فإن لفظ التقدم والتأخر لفظان قرآنيان، فماذا يعنيان؟

وقد قرن القرآن الكريم بين التقدم والتأخر وليس بين التقدم والتخلف كما تفعل النظريات التنموية المعاصرة. فقد ارتبط التخلف والخوالف بالقتال والقعود عن الجهاد. في حين ارتبط التقدم والتأخر بالعمل الصالح والطالح. التقدم للخير، والتأخر للشر. التقدم للحسنة، والتأخر للسيئة، وهو ما يعيه الإنسان يوم القيامة، يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ. إذ تتكشف الحقائق بعد الموت، وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ. حينئذٍ يعلم الإنسان مَن المتقدم ومَن المتأخر، وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ. وفي مقابل هذه الإمكانية للتقدم والتأخر في الحياة عن طريق أفعال الإنسان الحر. لا يتقدم الموت ولا يتأخر. ويقع في وقت معلوم، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ.

والتقدم لغويًّا من فعل «قدم» الذي يعني شيئين: الأول القدم بمعنى القدم في الزمان، صفة لله، فالله قديم، والعرجون والضلال والإفك قديم، والآباء الأقدمون. والثاني بمعنى التقدم أي المستقبل. ويرمز إلى ذلك بصورة القدم في الرجل الذي يتقدم بالخطوة. فالتقدم إلى الأمام جهد إنساني. فالقدم قدم صدق، وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ. والقدم يخشى من زَللـِهِ، وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا. لذلك يحرص الإنسان على ثبات الأقدام، وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ. ويؤخذ الأشرار بالنواصي والأقدام، من أعلى ومن أدنى، يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ. ويداسون بالأقدام، أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ.

وقد ذُكر لفظ التقدم في القرآن الكريم ثمانيًا وأربعين مرة. معظمها أفعال، وأقلها (ثلاث عشرة مرة) أسماء. مما يدل على أن التقدم فعل بشري وليس جوهرًا ثابتًا في المجتمع والتاريخ، مرهون بالإرادة البشرية. والتقدم أو التأخر فعل حر، لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ، وهو مرتبط بالإرادة الحرة أو المشيئة المختارة. فلا يوجد شعب متقدم بطبيعته، وآخر متأخر بطبيعته. ليس قدرًا محتومًا على أحد كما تروج لذلك بعض النظريات العنصرية البيضاء ضد الأفارقة والآسيويين لولا ظهور النمور الآسيوية، والنموذج الآسيوي للتنمية والتقدم.

ومعظم معاني اللفظ في القرآن تشير إلى الأعمال في صورة التقديم باليد. فاليد أداة العمل. والعمل تقديم، وهو في الغالب عمل سلبي، ذنب يرتكب أو مصيبة، فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ، أو سيئة، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ. وقد يكون التقديم أيضًا للخير والعمل الصالح وليست للذنب والمعصية فحسب، وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا، وهو أيضًا تقديم الصدقات، أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ. والنسل والذرية تقديم للنفس وتقوية للأمة، فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ.

والتقدمة تكون من النفس استعدادًا للغد، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ. وقد تقدم النبي بالوعيد إنذارًا وتبصرة للمتخاصمين، قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ. فَهْم المستقبل أحد وسائل التقدم.

أما لفظ «أخر» فقد ورد في القرآن الكريم خمسًا وعشرين مرة، أقل كمًّا من لفظ التقدم مما يدل على أهمية التقدم على التأخر. كلها أفعال إلا واحدة اسم فعل «المستأخرين» مما يدل على أن التأخر فعل بشري ومسئولية إنسانية. وقد ارتبط بالتقدم (عشر مرات) مما يدل مرة أخرى على اقتران الموضوعين، التقدم والتأخر. وهما للفعل وللأجل وللأفراد وللأمم، مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ. وهنا يظهر لفظ سبق بمعنى تقدم مما يدل على أن التقدم سباق ومنافسة.

ولكل فعل وقته ولا يمكن التأجيل كما هو الحال في الصلاة أداءً أو قضاءً، على الفور أو على التراخي. فالفعل مرهون بالحياة. وللحياة أجل فلا يمكن تأجيل القتال لدرء العدوان، رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ. وللدنيا أجل عندما يأتي يوم القيامة في الوقت المحدد، قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً.

تأخير فعل إبليس وحده إلى يوم القيامة ممكن. فقد طلب من الله الوقت أي الزمان لغواية بني آدم ولإثبات أن إبليس أفضل منه، وأن آدم ليس بأفضل من إبليس، قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلًا. ويمكن التقدم أو التأخر في فعل محدد مثل ذكر الله أيامًا معدودات في مناسك الحج، فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ. ولا يفيد الندم بعد فوات الوقت. فالزمان لا يستعاد. وما انقضى لا يعود، رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ. فإذا أتت الآخرة فلا يمكن استعادة الدنيا، لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ.

ومع ذلك يمكن تأخير العقاب على الذنوب لاستثمار التوبة حتى يأتي الأجل، مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأَجَلٍ مَعْدُودٍ، إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى. فإذا انقضت الحياة وجاء الأجل انتهى التأجيل. وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا.

لقد استطاعت اليابان تحويل مفهوم التقدم الروحي الأخلاقي في البوذية إلى تقدم علمي وصناعي، وحولت المحور الرأسي للتقدم، التقدم إلى أعلى أو التقدم إلى الداخل، إلى أعماق النفس، إلى محور أفقي إلى الأمام، من أجل تأصيل نهضتها المعاصرة في موروثها الثقافي القديم. كما استطاعت توسيع مفهوم التقدم الفردي إلى تقدم جماعي لأمة.

أما نحن العرب والمسلمين فلم نؤصل مفهوم التقدم في تراثنا القديم بالرغم من أنهما مرتبتان حركيتان في المقدمات النظرية لعلم العقائد، التقدم بالرتبة وبالشرف. وأخذنا التقدم بالمفهوم الغربي إما بمعنى النمو الاقتصادي أو بمعنى التنمية البشرية الشاملة. وحاولنا القيام بالأول أكثر من الثاني لأنه أصعب. فمن السهل تنمية الموارد بوضع خطط للتنمية. ومن الصعب تنمية البشر بمكوناتهم التاريخية الموروثة. لذلك سرعان ما انهار التخطيط. وابتلعت الزيادة السكانية كل معدلات التنمية، بالإضافة إلى التبذير، وهدر الإمكانيات. كانت التنمية مركزية بفعل الدولة ودون مشاركة شعبية كبيرة أو رقابة، ودون إحساس من الناس بأن عائدها لهم. فإذا قامت محاولات تنموية جديدة فالأجدر أن تبدأ بإعادة صياغة مفاهيم التقدم والتأخر في الثقافة الموروثة حتى تتأصل مشاريع التنمية في الثقافة الشعبية، وتكون نابعة من الناس، من تاريخهم تحقيقًا لمصالح حاضرهم وأملهم في المستقبل.

(٦) التخلف والقعود

ليس التخلف فقط في مقابل التقدم كما هو الحال عند المعاصرين بل هو أيضًا في القرآن الكريم تخلف عن الجهاد وقتال العدو وقعود عنه كما هو الحال في ترك الفلسطينيين يقاومون الاحتلال وحدهم دون مساندتهم من الإخوة في العروبة والإسلام في دول الجوار القريب أو البعيد. ليس التخلف فقط هو المعنى الاقتصادي بل أيضًا المعنى السياسي. المتخلف اقتصاديًّا من لا يطعم نفسه ويعيش على المعونة الخارجية، والمتخلف سياسيًّا هو من لا يستطيع أن يقاوم ويحرر نفسه.

المتخلف عن القتال تضيق عليه الأرض بما رحبت كما حدث للثلاثة الذين تخلفوا عن القتال أيام الرسول، وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ. يشعر بالذلة والمهانة. يسير مطأطئ الرأس، منحني الظهر، مطبق الجفنين من الإحساس بالعار والانكسار.

ولا يجوز لمن يقول إنه مسلم يتبع الرسول أن يتخلف عنه، مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ. والعرب أهل قتال وحرب في الجاهلية من أجل العصبية والعدوان وهم كذلك في الإسلام دفاعًا عن المظلوم والمستضعف. وتسمع في المساجد كل أسبوع ضرورة الاقتداء بالرسول. يفهم بعض المسلمين الأفارقة الاقتداء في تعدد الزوجات لإيجاد شرعية للعادة الأفريقية. وفي الطرق الصوفية وصل الإصرار على الاقتداء إلى حد التأليه في «الحقيقة المحمدية»، وفي الأدعية «أغثنا يا رسول الله»، «أعنا يا رسول الله». مع أن الاقتداء به لشعب محتل هو التحرر وجهاد العدو.

وكيف يفرح المتخلفون عن الرسول في الجهاد، فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ والاقتداء يتطلب العزة والكرامة ورفع الرأس وارتفاع القامة «مرفوع القامة أمشي»؟ إنه فرح زائف، ورضا بالحياة الدنيا. التخلف عن القتال رضا بالضيم وقبول بالمهانة، جهل وسوء فهم، رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ، وتغييب للوعي. والأعذار كثيرة للتخلف منها الانشغال بالدنيا والحرص عليها، السلطة والثروة، سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا، إيثار الدنيا على الآخرة، وتفضيل المصلحة الخاصة على المصلحة العامة. ومع ذلك يريد القاعدون والمخلفون أخذ نصيبهم من الغنائم وآثار النصر المادية والمعنوية دون جهاد ومقاومة، سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ. يريدون الغنم وليس الغرم، يحرصون على العاجل دون الآجل. مع أن الجهاد مكسب مرتين: الأولى دفع العدوان، والثانية نيل أجر الشهادة.

والمتخلفون والقاعدون مضطرون إلى مواجهة العدوان، قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ. فالجهاد مفروض على الناس لدرء العدوان، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ. وإذا كان العدوان طبيعيًّا في البشر فإن الدفاع والمقاومة طبيعيان أيضًا.

والقعود تخلف. والقاعدون مثل المتخلفين، إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ. فالقعود أول مرة يؤدي إلى القعود ثاني مرة حتى يصبح القعود عادة مهما وقع على الذين تعودوا على القعود من عدوان مستمر ويومي كما يحدث في فلسطين.

القعود تكذيب للرسول، وإنكار لنبوته، وعصيان لرسالته وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ. فالإيمان ليس نظريًّا بل هو إيمان عملي. ليس قولًا باللسان بل عملًا بالأركان ومنها الجهاد. واتباع الرسول ليس فقط في العبادات بل أيضًا في المعاملات، ليس فقط في الأخلاق بل أيضًا في السياسة.

القعود رفض لاتباع الرسول، فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ كما فعل بنو إسرائيل مع موسى. وفي قلوب المسلمين جميعًا، الرسول قدوة. وفي شعار كبرى الحركات الإسلامية المعاصرة «الرسول قدوتنا». ولم يكن قاعدًا عن قتال ولا متخلفًا عن غزوة. بل إنه لما لبس لَأْمته استعدادًا للقتال بناء على مشورة المسلمين الذين تراجعوا عن مشورتهم.

والقعود لا يمنع من الموت، فلكل أجل كتاب، والشهادة في القتال خير من الموت على الفراش كما قال الشاعر:

وإذا لم يكن من الموت بد
فمن العجز أن تموت جبانا

وكما تأسف خالد بن الوليد وهو يموت بأنه خاض مئات المعارك، ولا توجد قطعة من جسمه لا يوجد فيها طعنة رمح أو ضربة سيف ومع ذلك يموت في فراش كما تموت النعاج، فالموت مصير البشر، وهكذا فسر الأفغاني الإيمان بالقضاء والقدر بأنه لا يبعث على الكسل والتواكل ما دام كل شيء قد قُدِّر سلفًا بل يبعث على الشجاعة والإقدام. ومن الأفضل أن يموت الإنسان في ساحة الوغى على أن يموت خوفًا من المرض. الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا.

والاستئذان في القعود حرص على السلطة والوجاهة والصدارة الاجتماعية، اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ. هو إيثار للدنيا على الآخرة، وقبول الدنية في الدين. وقديمًا كان يُعفى من الجهادية أولاد الطبقة العليا من الباشوات، ودفع البدلات. فيقع الجهاد على الفلاحين نزعًا من الأرض «يا أعز من عيني أنا نفسي أروح بلدي، بلدي يا بلدي، السلطة خدت ولدي».

ولا يستوي القاعدون مع المجاهدين في الدرجة والمقام، لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ. فالقاعد غير المجاهد، والمتخلف غير المتقدم. وجزاء الحسنة حسنة مثلها. وجزاء السيئة سيئة مثلها. يظن القاعد أنه كسب مرتين، بالقعود خوفًا من الموت وفي التمتع بالغنيمة بعد النصر، ماديًّا ومعنويًّا، وهو خاسر في الحالتين. خسر الكرامة والعزة وخسر الشهادة والتضحية والنعيم الأوفى. ويظن القاعد أن المجاهد قد خسر مرتين، خسر حياته في الدنيا بالاستشهاد وخسر نعيمها في المال والبنين، وهو إدراك خاطئ لأن المجاهد كسب حياته مرتين، احترام الناس والدفاع عن العزة والكرامة في الدنيا، والنعيم الأوفى في الآخرة. ولا يستوون في الأجر والفضل والجزاء، وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا. فالقاعد خسر كل شيء ولم يكسب شيئًا. والمجاهد كسب كل شيءٍ ولم يخسر شيئًا.

فصبرًا آل غزة، إن غدًا لناظره قريب. وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا.

(٧) إنما المؤمنون إخوة

في هذا الوقت الذي يضع فيه كل فلسطيني وعربي ومسلم يده على قلبه وأنظاره إلى القاهرة لمعرفة نتيجة الحوار الفلسطيني الفلسطيني، خاصة بين فتح وحماس تستدعي الثقافة الوطنية مع مفاهيم الصلح والخصام مفهوم الأخوة، فقد ورد لفظ «أخ» بكل مشتقاته في القرآن الكريم ستًّا وتسعين مرة أي إنه موضوع رئيسي. بل إن اللفظ يتردد أكثر من لفظي «صالح» و«خاصم».

ويرد لفظ «الأخ» إيجابًا بستة معانٍ:
  • الأول: أخوة النبي لقومه. فالنبي أخ لبني قومه، وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا، وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا، وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا، إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ، إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ. فالنبوة أخوة، والأخوة من النبوة. والإخوة والأنبياء لا يتقاتلون بل يتكاملون. والنبوة نموذج للسلوك الفاضل.
  • والثاني: الأخوة للنبي مثل أخوة هارون لموسى. يخلفه من بعده حتى يعود موسى من تعبُّده في سيناء. ويغضب منه عندما يجد قومه قد عادوا إلى عبادة العجل. وأخو النبي نبي مثله، وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا. وأحيانًا يسمى وزيرًا، وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا. ولكلٍّ آيات وسلطان، ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ. وقد دُعيا كلاهما إلى السكن بمصر، وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا. ولما استخلف موسى أخاه، وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي عصاه قومه ولم يستطع هارون الحفاظ على إيمانهم فعبدوا العجل، وعاد موسى غاضبًا وأخذ بلحية أخيه وألقى الألواح التي دُونت بها التوراة، وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ. فبنو إسرائيل يعصون الأنبياء ويعودون إلى طبيعتهم الوثنية إذا ما تركهم النبي أو توفي.
  • والثالث: أخوة المؤمنين جميعًا بعضهم لبعض، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ، فلا يجوز الخصام بينهم. ولا يجوز الفصال والقطيعة، هؤلاء في الضفة وهؤلاء في القطاع، وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ. والله يساعدهم، وينزع ما في قلوبهم من غل، وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ. ويؤلِّف بينهم، فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا.
  • والرابع: الأخوة علامة الإيمان حتى بعد الكفر والتوبة، فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ. فالإيمان مقياس الأخوة وليس المصلحة أو السلطة أو الثروة أو الاحتجاج والتذرع بالضعف والموازين الدولية، الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا، أو القعود بدعوى الإعاقة، قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا أو النفاق وتناقض القول والعمل، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا.
  • والخامس: لا فرق بين الإخوة في الجنس، ذكر أم أنثى. فالأخت مثل الأخ، مثل أخت هارون أي مريم، يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا. وتسير أخت موسى لترشد القوم على من يكفل الطفل، إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ.
  • والسادس: الأخوة في الميراث. فالأسرة واحدة. والإخوة، ذكرًا أم أنثى، من نظام القرابة. فلكل منهما نصيب من تركة الأب، وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ وكذلك بنات الأخ وبنات الأخت. ومع الميراث الزواج، وعدم جواز الجمع بين الأختين، وتحريم الأمهات والبنات. فالأخوة رابطة طبيعية تسبق المصاهرة.
ويفيد لفظ الأخ سلبيًّا أيضًا بستة معانٍ:
  • الأول: ما فعله قابيل بأخيه هابيل بقتله غيرة وحسدًا وهو ما يحدث أحيانًا بين الفلسطينيين من فتح وحماس، فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ. بل إنه لم يشعر بضرورة مواراته التراب كما فعل الغراب، فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ. وربما هذه الخطيئة الثانية قتل الأخ لأخيه أهم من الخطيئة الأولى، الأكل من الشجرة المحرمة.
  • والثاني: عداوة إخوة يوسف ليوسف وكراهيتهم له لمحبة أبيه له، إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا، ووضعه في البئر ثم إنقاذه وبيعه إلى منزل فرعون، ثم اتهام إخوته لأخيه الثاني بالسرقة، قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ. فقد نزغ الشيطان بين يوسف وإخوته، مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي.
  • والثالث: الجشع، رغبة ممن له تسع وتسعون نعجة أن يستولي على نعجة أخيه الواحدة، إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ. الأخوة تعني المشاركة والمساواة، والعطاء وليس الأخذ، والكثير يذهب إلى القليل، وليس القليل الذي يذهب إلى الكثير.
  • والرابع: غيبة الأخ لأخيه أو التعريض به علنًا في أجهزة الإعلام وتشويه صورته وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ، وإعطاء الأولوية للخلاف بين الإخوة على الاتفاق بينهم، ونسيان أن بين الإخوة هناك حقًّا موضوعيًّا، يرمز إليه الإيمان بالعقيدة والوحي والعمل الصالح.
  • والخامس: إخوان الشياطين الذين يفرقون أكثر مما يجمعون، وينفرون أكثر مما يوحدون والذين يبذرون في ثروات الأوطان بدلًا من المحافظة عليها، إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ هم الذين يجعلون الشيطان فيما بينهم وليس الحق أو الأخوة في الدين، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ.
  • والسادس: الكافرون والمخادعون الذين يفضلون الحزب على الحق، والفصيلة على الوطن، لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ، وسماع صوت الأخ مشروط بسماع صوت الحق، وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ.

ومع ذلك على كل أخ مسئولية فردية، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ. فلا ذريعة بالجماعة أو المذهب أو الطائفة. إن هذه الأخوة تمنع من الخلافات القطرية في فلسطين والعراق والسودان ولبنان والصومال واليمن كما تمنع من الخلافات العربية وسياسة المحاور بين مصر والسعودية والأردن والمغرب من ناحية وسوريا وحزب الله وإيران من ناحية أخرى. الأخوة تآلف وتوحد، والمحاور تفرق وصراع. الأخوة من الله، والتنازع من الشيطان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤