الفصل السابع

الحرية

(١) الدين والشرعية المزيفة

في هذا العصر الذي تتزايد فيه مظاهر الحياة الدينية، ويصبح الدين هو الثقافة والسياسة والاجتماع والاقتصاد والقانون يجدر التمييز بين الشرعية الفعلية والشرعية المزيفة باسم الدين. الشرعية الفعلية بطبيعة الحال هو الصدق مع النفس والفعل الحر، والتمييز العقلي بين الحسن والقبح، واتباع الفطرة «استفت قلبك وإن أفتوك». الشرعية الفعلية هي صفاء النية أو ما يسميه القدماء «لوجه الله» دون رعاية لمصلحة شخصية أو مغنم دنيوي. وصدق النية شرط صحة الفعل؛ لذلك خصص القدماء جزءًا كبيرًا من علم أصول الفقه للتحايل. كيف يكون الفعل شرعيًّا في الظاهر لا شرعيًّا في الباطن، وهو ما يسمى في الأخلاق النفاق والرياء، وما يعرف في علم النفس باسم ازدواجية الشخصية.

قد تأتي شرعية السلوك الإنساني من المبادئ الأخلاقية مثل الواجب، وهو ما تستطيعه النخبة وأولاد البلد. وهي أخلاق الشهامة والبطولة و«الجدعنة» بالتعبير الشعبي، وقد تأتي الشرعية من العادات والتقاليد وهو سلوك غالبية الناس إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ. هي شرعية الواقع والتداول والألفة. لا تغير شيئًا في سلوك الناس إلا بقدر ما تتغير هذه العادات نفسها بفعل الزمن وتغير العصور، وقد تأتي الشرعية من القانون وهي شرعية صورية نظرًا لعدم إيمان أحد به لأنه مفروض من النظام السياسي يعبر عن مصالح الدولة أو الطبقة الحاكمة وليس عن مصالح الأفراد، يسهل التحايل عليه بتفسيره طبقًا للمصلحة الشخصية أو بالالتفاف حوله أو بالرشوة. وإذا ما طبقت فبدافع الخوف من العقاب والغرامة وليس عن اقتناع داخلي لغياب الولاء للدولة ومعاداة النظام السياسي. وقد تأتي الشرعية من المصالح العامة وإرادة الأغلبية مثل التأميم، والإصلاح الزراعي، والقطاع الخاص، ومجانية التعليم، والسد العالي. وهي شرعية مشروطة بمدى استمرار النظام السياسي والاختيارات السياسية.

إنما الأخطر أن تأتي الشرعية باسم الدين في الظاهر وبدافع المصلحة الشخصية في الباطن. وتكثر في المجتمعات الدينية والنظم الدينية والثقافة الدينية. والأمثلة على ذلك كثيرة في كيفية ممارسة شعائر الإسلام وأركانه الخمسة؛ إذ تتمتم الشفتان بالشهادتين أمام الجنازة دون معرفة أسباب الموت، وفي لحظات العجب والاستغراب والغضب والانفعال الشديد. ويصحب التمتمة رفع إصبع السبابة إلى أعلى إعلانًا عن الوحدانية. والشهادة تحتاج إلى فعلين: نفي وإثبات، رفض وقبول. الأول «لا إله»، والثاني «إلا الله». فالشهادة فعل وليست قولًا، معارضة قبل الموافقة.

وتتم الصلاة أمام الناس بالإعلان عنه بالقول والفعل، بالسؤال عن وقتها، واتجاه القبلة، والانشغال عن أداء العمل اليومي في أماكن العمل. لذلك فضل الصوفية الصلاة بالقلب وليس بالجوارح، والحج إلى رب البيت وليس إلى البيت. ويُخصَّص الطابق الأرضي كمصلًى في عمارة من عشرات الأدوار وبيع شققها بالملايين مع الغش في مواد البناء ورشوة مهندسي الحي وللإعفاء من العوائد والضريبة العقارية. وتكثر موائد الرحمن من الأغنياء تبريرًا لثروتهم بإطعام الفقراء ونيل الحظوة الاجتماعية واطمئنان الضمير، وضمان بقاء الثروة، وتحويل الكسب غير المشروع إلى كسب مشروع. وتكثر العناوين الإسلامية واليافطات وأسماء المحلات ذات الرموز الإسلامية مثل «التوحيد والنور»، «الإسلام»، «الإيمان»، في جزارة الأمانة، وبقالة الإخلاص، وسباكة الصدق، وبلح مكة، وروائح المدينة، والطب النبوي. وفي البنوك إذا وجدت النساء طابور الرجال طويلًا دعون إلى طابور للنساء منعًا للاختلاط في الظاهر، وأسبقية للتعامل في الباطن. وإذا وجدن طابور النساء طويلًا في مكاتب البريد والاتصالات وقفن مع الرجال، فالإسلام لا يفرق بين المرأة والرجل، والمهم هو طهارة القلب في الظاهر، وفي الباطن لأسبقية التعامل في طابور الرجال القصير. والبنوك الإسلامية تصدر حوائطها وأوراقها بآية وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا وهي تضارب في أموال المودعين في البنوك الأجنبية كما حدث من قبل مع شركات توظيف الأموال. والحجاج بملابس الإحرام يخرجون من منازلهم متوجهين إلى المطار يستقبلون التهاني ذهابًا وإيابًا وهم يحيون أهل الحي الذين يودعونهم ويستقبلونهم بالزغاريد. ويأخذ الحاج اللقب ويضعه قبل اسمه كي يطمئن الناس إليه في معاملاته في السوق.

وأحد الأسباب في هذا النفاق الاجتماعي والشرعية المزيفة هو ما ورثناه من الأشعرية، عقيدة الدولة، أن الحسن والقبح من خارج الأفعال وليس من داخلها. شرعيتها من أحكام الأمر والنهي وليست من منافعها وأضرارها في حياة الأفراد والجماعات. ولو أمر الله بالقبيح لتم فعله. وبالتالي ضاع استقلال الأفعال، وأصبحت شرعيتها مشروطة بإرادة خارجية. وقد يكون أحد الأسباب الرضوخ لموجة الإرهاب الديني، وتملق الحركات الإسلامية بل والمزايدة عليها. وقد يكون بقايا من نفاق اجتماعي عام يضم الحاكم والمحكوم، الدولة والمواطن، الرئيس والمرءوس. الرئيس ليتسلط، والمرءوس ليتعايش، «إن كان لك عند الكلب حاجة قل له يا سيد».

لذلك نقد القرآن النفاق نقدًا شديدًا. النفاق مرض في القلب إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، وهو كذب مغلف وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ، وهو فسق أي خروج العمل عن النية الصادقة إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، وهو خداع للنفس ولله إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ. يظن المنافق أن نفاقه غير مرئي وهو ظاهر للعيان يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ. النفاق سلوك الأعراب والبدو الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا. يتذرعون بحجج كاذبة لعدم الجهاد وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ؛ لذلك حض القرآن على قتالهم ومساواة النفاق بالكفر يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ. وجهاد المنافقين دحض النفاق وكشف الباطن وراء الظاهر، وإيثار لحظات الصدق مع النفس والاختيار الحر، والشجاعة الأدبية كما كان الحق على لسان عمر وقلبه. لا يحتاج الإنسان للشرعية المزيفة ليكسب أفعاله غطاءً دينيًّا. يكفيه الاقتناع الذاتي بحسن الفعل وبالتالي تتحقق وحدة الشخصية الإنسانية، ويتوحد السلوك الإنساني، ويكون الإنسان حينئذٍ جديرًا بالتوحيد.

(٢) حرية الفكر

في مشروع اليسار الإسلامي يأتي تحرير الأرض أولًا ثم حرية الفكر ثانيًا. فالوطن له الأولوية على الفرد. لا خصومة في الوطن وإن تعددت رؤى الأفراد «أنا وأخويا على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب». ومصلحة الجماعة لها الأولوية على مصلحة الأفراد. قد يؤثر بعض الليبراليين حرية الفرد أولًا، فلا وطن حر دون مواطن حر. وقد تؤيد ذلك تجارب العرب المعاصرة في عصر الثورات العربية في النصف الثاني من القرن الماضي. فقد قامت حركات التحرر الوطني أولًا من أجل حرية الوطن ثم تحولت إلى نظم قاهرة للمواطن. فقد الوطن حريته واستقلاله بعد أن تم غزوه من جديد. وظل المواطن مقهورًا يحن إلى عصره الليبرالي الأول قبل ثورة الضباط الأحرار. ومع ذلك المواطن مستعد للمرة الثانية أن يتنازل عن حريته في سبيل حرية الوطن واستقلاله في فلسطين والعراق.

وما يمنع المواطن أن يكون حرًّا ليس فقط النظام السياسي الذي يقوم على القهر الخارجي بل هو القهر الداخلي مما يدفع المواطن إلى التنازل عن حريته طوعًا. ويأتي الخوف أولًا. فالحرية مخاطرة. تواجه قهرًا خارجيًّا. قد يصيب المناضل بعض الأذى قد يصل إلى حد الاعتقال أو الاغتيال. وإيثار السلامة أفضل من المخاطرة بالنفس والمال والأهل والولد. وما أسهل تبرير ذلك بالنص، وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ. مع أن هناك نصوصًا أخرى تدفع إلى نبذ الخوف، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، «الساكت عن الحق شيطان أخرس».

والتقليد أيضًا أحد أسباب التنازل عن ممارسة الحرية اتباعًا للأسلاف، إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ، أو مُهْتَدُونَ. فاتباع القدماء وطلب الأمر لديهم خير من المغامرة مع المحدثين. والتقليد ليس مصدرًا من مصادر العلم بل الاجتهاد. وماذا لو كان الآباء لا يفقهون ولا يعقلون؟ وقد تنبأ الرسول بتقليد الأمة لغيرهم، اليهود والنصارى «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ فقال: فمن إذن.» وقد يكون التقليد للعادات والأعراف واتباع الأمثال العامية التي تؤثر السكون والأمن مثل «الباب اللي يجيلك منه الريح سده واستريح». والدعوة إلى الانعزال مثل «لا لينا فيها بيت ملك، ولا طين شرك»، وكأن الإنسان لا يستطيع أن يدافع عن الأوطان إلا إذا امتلك فيها شيئًا، عقارًا أو أرضًا.

وقد يكون الخوف من «سي السيد» رمز السلطة والتسلط في الدين والدولة، في الأسرة والمجتمع، في المدرسة والجامعة، في المؤسسة والطريق العام. وقد يكون «سي السيد» شخصًا أو فرقة ناجية أو أيديولوجية سياسية مختارة. هو الأب والأخ الأكبر أو الأم أو الأخت الكبرى. هو المعلم الموجه والقائد. هو الزعيم والرئيس، صاحب العظمة والفخامة والسيادة والنيافة والغبطة مدى الحياة. هو مصدر الخوف والقهر والتسلط، صاحب الأمر والنهي. أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ. والقتل جزاء من خرج على طاعة الإمام. في حين أن الخروج على الإمام الظالم واجب شرعي بعد استنفاد الوسائل السلمية: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، النصيحة، القضاء.

ومن شدة الخوف وطول الاتباع ينشأ عدم الثقة بالنفس والإحساس بالعجز. فتنزوي الحرية الطبيعية. وتنقلب إلى الداخل، وتصبح مجرد إمكانية لا تتحقق، مجرد أمنية صعبة المنال. فتصاب النفس بالهلع والجزع في كل مرة تتفجر فيها الأحداث كالمظاهرات الطلابية أو العمالية أو اعتصام الموظفين أو حتى انتفاضات الأمن المركزي، أي جهاز الدولة من داخله. ويسري الموت في الروح بتعبير السيد المسيح.

ولما كان الإنسان بطبيعته يؤثر السلامة، والتعايش مطلب الرزق، فقد يتنازل عن حريته طوعًا لا كرهًا. ويجد في الأمثال العامية ما يبرر موقفه «إن كان لك عند الكلب حاجه قل له يا سيد»، وهو ما عارضه القرآن بنقد إيثار الدنيا على حساب الآخرة، بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى.

وتكون النتيجة إيثار السر على العلن، والخفاء على الجلاء، والهمس على الجهر. فتقع ازدواجية الخطاب والسلوك. القول باللسان دون إيمان بالقلوب. والعمل بالأركان دون اقتناع داخلي. أصبح المواطن يقول ما لا يعتقد، ويعمل بما لا يؤمن به، يكتب ما يريد على دورات المياه، في الأماكن السرية، وعلى عربات النقل فيما يسمى «هتاف الصامتين».

وهو وضع مصطنع وليس طبيعيًّا، موقف زائف وليس أصيلًا. فقد يتفجر الضمير في النهاية حينما يصبح الهم والكذب والنفاق همًّا على القلب، يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ. وكما قال السيد المسيح «ماذا ستكسب لو كسبت العالم وخسرت نفسك». كما تنفجر الثورات الشعبية بعد طول صمت وقبول الضيم. التاريخ قصة الحرية كما يقول كروتشه، والوجود هو الحرية كما يقول فلاسفة الوجود المعاصرون.

لقد عبر القرآن عن هذه المعاني بألفاظ أخرى مثل الصدق والإخلاص والإيمان والإسلام. الشعار هو التشهد ويعني الإعلان عن الحق والجهر به وليس كالمثل الصيني «لا أسمع، لا أرى، لا أتكلم»، أو المسرحية الشعبية «شاهد ما شفش حاجة»، ويتكون من فعلين: نفي في «لا إله»، وإثبات في «إلا الله». يقوم الفعل الأول بنفي كل آلهة العصر المزيفة من مال وجاه وثروة وسلطان ونساء وقوة. ثم يقوم الفعل الثاني بعد تحرر الوجدان بإثبات المبدأ العام الذي يتساوى أمامه الجميع. فالشهادة فعل الحرية.

وقد ورد لفظ تحرير في القرآن الكريم خمس مرات بمعنى تحرير الرقبة أي رفض العبودية، تكفيرًا عن ذنب مثل القتل الخطأ، وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، صديقًا كان أو عدوًّا، فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، معاهدًا أو محاربًا، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ. فإن كان ذنبًا فتحرير العبد تكفير عن هذا الذنب لأن العبودية جريمة، فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ. وإن كان إهمالًا للنساء فتحرير رقبة لأن وحدة المرأة ذنب، وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ.

وقد ذُكر لفظ «الحر» مرتين في القصاص، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى، وهو التصور الفقهي للحرية في عصر كانت العبودية نظامًا شائعًا عند الفرس والرومان والعرب.

وذُكر لفظ «محرر» مرة واحدة إثباتًا للحرية المساوقة للوجود حتى للطفل قبل الولادة كما فعلت السيدة مريم، إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ. فالحرية هي الطبيعة والفطرة، وهو معنى قول عمر الشهير «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟»

هذا هو موقف اليسار الإسلامي من الحرية. ومِن ثَم كانت الليبرالية جزء منه، وهو القاسم المشترك الذي يلتقي عليه الجميع.

(٣) اليهود والعدوان

بالإضافة إلى مفاهيم المهمشين والمظلومين والمساكين واليتامى وأبناء السبيل والأسرى والفقراء والمحرومين والمحتاجين والسائلين والمؤلفة قلوبهم، وبعد العدوان على غزة الشهر الماضي تبرز في القرآن مفاهيم العدوان والمعتدين من اليهود والمشركين.

وقد استعمل القرآن ثلاثة مصطلحات للإشارة إلى اليهود: اليهود، والذين هادوا، وبني إسرائيل. اليهود والذين هادوا للذين اعتنقوا الدين، وبني إسرائيل للشعب التاريخي الذي أرسل له الله الأنبياء. وبمصطلح المحدثين، الأول للبنية، والثاني للتاريخ.

وقد ورد اللفظ الأول «الذين هادوا» و«هود» بستة معانٍ، خمسة منها سلبية نقدًا لسلوك اليهود، والسادس إيجابي لوصف سلوك القلة منهم. فالذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه، مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ. يكذبون في قراءة المواثيق، ويئولونها لصالحهم. لا يقرءُون في التوراة إلا اختيار الله لهم، ولا يقرءُون لعنة الله عليهم لعصيانهم تعاليم الأنبياء والكفر بهم بل وقتل بعضهم، ويفعلون نفس الشيء مع مواثيق الأمم المتحدة ويجعلونها تبيح لهم العدوان على الشعب، وقتل الأبرياء، النساء والأطفال والشيوخ. لا يحفظون كلام الله لا نصًّا ولا تدوينًا ولا فهمًا إلا لصالحهم الخاص، ولا حقيقة إلا لمصلحتهم الخاصة.

والثاني الكذب، وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ. يعرفون الحق ولا يعلنون عنه، ويقولون غيره، يعلمون أنهم معتدون مغتصبون قتلة سفاحون ولكنهم يدعون أنهم يدافعون عن النفس، ويعودون إلى أرض الآباء والأجداد، وأنهم يطهرون أرضهم من الغرباء، وأنهم يعيدون شعبًا بلا أرض إلى أرض بلا شعب. فالصهيونية كذبة كبرى وسوء تأويل للتاريخ، ورؤية عنصرية لليهودية في وقت انتشرت فيه المذاهب العنصرية والقومية والرومانسية في الغرب حلًّا لقضية القوميات بعد انهيار الإمبراطوريات الكبرى، النمساوية والمجرية، وفي نفس وقت صعود المد النازي والتفسير العنصري للتاريخ.

والمعنى الثالث احترام كل ذي ظفر حي، وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ. فالحياة صفة من صفات الله مع العلم والقدرة والله خالقها ومعطيها وواهبها. هو الذي يحيي ويميت. يخلق الميت من الحي، والحي من الميت. وهم يفعلون الضد. يدمرون الأحياء، الزرع والبشر، الحيوان والإنسان. ويحرقون الناس بالقنابل الفسفورية وبالمواد الملتهبة. الحياة قيمة مطلقة؛ لذلك شُرع القصاص، العين بالعين والسن بالسن حفاظًا على الحياة. وهي شرعة كل الأنبياء، وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ. بل لقد امتد التحريم إلى أشياء حللها الله لهم منعًا لظلمهم، فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ. ومع ذلك لم يمنعهم هذا التحريم من العدوان على غيرهم واستباحة دمائهم وأعراضهم ودورهم وأموالهم.

والرابع الزعم بأنهم أولياء الله دون غيرهم من الناس، قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ للهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ. فأولياء الله من يطيعونه، ويكونون مثله في أفعالهم وسلوكهم. وهم أحرص الناس على الحياة لهم وحدهم دون غيرهم. الكل عبيد وخدم لهم. يستولون على ثروات غيرهم ويسيطرون على مقدراتهم حتى كادوا أن يستحوذوا على ثروات العالم. وأصبحت رءُوس أموال العالم كله يهودية.

والخامس اعتبار أنفسهم على حق دائم، وغيرهم على باطل، وأنهم وحدهم هم الناجون وغيرهم الهالكون، وأن من ليس معهم فهو ضدهم، وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى. فانضم إليهم النصارى وعادوا المسلمين. طريقهم هو الهداية، وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا. بل جعلوا الأنبياء كلهم يهودًا وهو حنفاء على دين إبراهيم، دين الفطرة وهو الإسلام، أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى. فلا حقيقة إلا فيهم، ولا هدى إلا لديهم.

والمعنى السادس الإيجابي الأخير هو القلة الصالحة وهم المؤمنون، لا فرق بين مللهم وشرائعهم التي تقوم على الحق والعدل، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. هم الذين ينتصرون للحق ضد الباطل، ويدافعون عن العدل ضد الظلم. هم الذين يدافعون عن الفلسطينيين ضد العدوان عليهم في غزة. وينتصرون لهم ضد جماعات الضغط الصهيونية المسيحية المحافظة. فالحق لا يموت على الألسن، والعدل لا ينطفئ من القلوب، وهو ما زال ساطعًا في الإعلام الحر ومدويًا على ألسن أمثال جافيز ودي موراليس وتشومسكي وغيرهم من الأصوات الحرة الباقية حتى آخر الزمان.

(٤) الطغيان

يعيب بعض المتغربين على الفكر الإسلامي أنه لم يعرف مفهوم الحرية بالمعنى الحديث، حرية الإنسان كما قررته الثورة الفرنسية ومواثيق حقوق الإنسان والدساتير الحديثة. بل عرف الحرية في مقابل الرق «تحرير رقبة» والحر في مقابل العبد، الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ. وقضية الحرية تتجاوز اللفظ إلى المضمون. فكثير من الثقافات عرفت اللفظ دون المضمون.

وقد عالج القرآن الكريم قضية الحرية بطريقة غير مباشرة عن طريق تحرير الإنسان من الطغيان. فالحرية يتم تناولها سلبًا من أجل القضاء على موانعها ومحدداتها ونقائضها في الطغيان والاستبداد والقهر والعبودية.

وقد ورد لفظ «الطغيان» في القرآن تسعًا وثلاثين مرة، أي إنه موضوع رئيسي. نموذجه فرعون، اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، ونظامه، وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ، الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ. وقد يتبناه أي نظام اجتماعي لقوم طاغين، أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ. فالطاغية لا يسمع نصيحة. والطغيان مجرد حلم لا يتحقق، أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ، وهو اختيار حر من الناس وليس إملاءً عليهم من أحد، من قدر أو تاريخ أو ضرورة اجتماعية، وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ. وليس إغواءً من قرين أو صديق، قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ. ومِن ثَم تتهاوى حجج الطغاة بأنهم كانوا مضطرين للطغيان لظروف سياسية واجتماعية وتاريخية. وقد يطغى الإنسان من نفسه بناء على مسئوليته الخاصة، كَلا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى. إذا ما شعر أنه ليس بحاجة لأحد، وأنه قادر على كل شيء.

والاستقامة نقيض الطغيان. فالطغيان انحراف عن الطريق القويم، فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا، فالطغيان يجلب غضب الله، وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي، بل إن الكون كله يقوم على العدل والميزان، وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ. والعدل البشري جزء من العدل الكوني، والعدل الكوني جزء من العدل الإلهي. الطغيان يخيف لأن الإنسان يأباه بطبعه وينفر منه، قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى. وإذا ما خاف الإنسان فإنه قد يزداد طغيانًا ليعطي لنفسه الأمان الزائف، وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا.

والطغيان يعادل الكفر بالله، فالطاغية كافر بالله، وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا. والكفر والطغيان إرهاق للإنسان لا يستطيع أن يتحملهما، فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا. الله والطاغوت نقيضان. ولا يمكن الإيمان بهما في نفس الوقت. الإيمان بالله يتطلب الكفر بالطاغوت، والإيمان بالطاغوت كفر بالله، فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى. الكفر بالله ولاية للطاغوت، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ. ولا يمكن لمن يؤمن بالكتاب أن يؤمن بالطاغوت في نفس الوقت، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ. ولا يمكن أن يكون الطاغوت حكمًا بين الناس وليس الشريعة الإلهية، يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ. ومن يقاتل في سبيل الله غير الذي يقاتل في سبيل الطاغوت، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ. فالعبادة لله وحده وليس للطاغوت، أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ.

ويثبت التاريخ أن الطغيان لا يدوم مثل قوم نوح، وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى. وهلكت ثمود لأنها كانت طاغية، فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ. فالطغيان عاقبة الخسران في الدنيا وفي الآخرة، فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى. وللطاغين شر عاقبة، هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ. لهم جهنم وبئس النار، إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلطَّاغِينَ مَآبًا. حينئذٍ لا ينفع الندم، قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ.

والله لن يمنع أحدًا من طغيانه لأنها مسئولية شخصية يحاسب عليها يوم القيامة، اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ. فاليقظة من الداخل. ومن لا يستطيع أن يدرك خطورة الطغيان وآثاره الوخيمة فلن يستطيع أحدٌ أن ينقذه منه، وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ. ولو ساعده الله ورحمه فإنه قد يظل في طغيانه، وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ.

محاربة الطغيان إذن هي محاربة للكفر. فالكفر ليس مقولة باللسان حول وحدانية الله بل هي إشراك إرادة أخرى مع إرادة الله، إرادة الطاغية، وحكم آخر غير حكم الله، شريعة الطاغية، ونظام آخر غير نظام الله، نظام الطاغية. الإيمان بالطاغية شرك لأنه يشارك الله في خلقه وإرادته. ومِن ثَم كانت محاربة الطغيان في النفس وفي المجتمع وفي الكون بداية التحرر بالقضاء على موانعه ومحدداته. فالحرية تمارس سلبًا قبل أن تمارس إيجابيًّا، وذلك بالقضاء على كل مظاهر القهر والطغيان.

(٥) تحرير رقبة

لم يغب لفظ الحرية ومشتقاته في القرآن الكريم، بل ورد في سياق الحضارات القديمة، فارس والروم، الحرية في مقابل العبودية، والحر في مقابل العبد. وورد لفظ تحرير خمس مرات في القرآن بمعنى تحرير الرقاب أي تحرير الرق أو تحرير الأسرى. وقد بقي رق الأفراد حتى القرن التاسع عشر في الحرب الأهلية الأمريكية بين الشمال والجنوب. وبقيت معركة حقوق الإنسان والمساواة بين الأجناس في الحقوق والواجبات والتي ظلت حتى النصف الثاني من القرن العشرين. واستُؤنِف رق الأفراد في رق الشعوب في موجات الغزو الاستعماري الغربي الحديث، استعباد شعوب بأكملها في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. وما زالت بقاياه في القرن الواحد والعشرين في غزو أفغانستان والعراق. وما زال الغزو الصهيوني لفلسطين قائمًا منذ منتصف القرن العشرين حتى الآن.

لم يكن من السهل إلغاء الرق بتشريع لأنه كان مؤسسة اجتماعية اقتصادية سياسية ثقافية. كان جزءًا من البنية الاجتماعية. بل كان الهدف هو إلغاءه من النفوس والوعي والوجدان حتى يتحرر الإنسان من استعباد الآخرين. فتحرير السيد من الاستعباد سابق على تحرير الرق من العبودية.

والصورة القرآنية «تحرير رقبة» وكأن العبودية هي عبودية للرقاب. والرقبة رمز العزة والكرامة والحرية، مرفوعة أو مطأطأة. فهي التي تحمل الرأس. وهي أضعف جزء في جسد الإنسان، تضرب بالسيف أو تخنق باليد. فمن قتل مؤمنًا خطأً فعليه تحرير رقبة مؤمنة للإيحاء بأن إبقاء العبد في عبوديته يعادل القتل، وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ. فإن كان المقتول خطأً من قوم عدو وهو مؤمن فتحرير رقبة أيضًا لا فرق بين أعداء وأصدقاء. فالحرية تتجاوز الأوضاع السياسية، فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ. وإن كان من قوم معاهدين فتحرير رقبة أيضًا لأن الرق يساوي خرق العهد، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ. فإذا كان هناك لغو في الإيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة. فالرق ذنب يعادل اللغو في الإيمان، فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ. ومن يظاهر امرأته ثم يعود لما ظاهر من أجله ولا يستطيع الالتزام بإرادته فعليه تحرير رقبة حتى يتعوَّد على قوة الإرادة. فالاستعباد ضعف في الإرادة، وخيانة للعهد الإنساني، وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ.

وفي القصاص كان الشرع أولًا الحر بالحر والعبد بالعبد، والذكر بالذكر والأنثى بالأنثى، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى. ثم نُسخ بعد ذلك النفس بالنفس بصرف النظر عن الوضع الاجتماعي أو النوع الجنسي للإنسان. فالحياة حياة، والروح روح. لا فرق بين نفس الحر ونفس العبد، ولا بين روح الذكر وروح الأنثى.

والتحرير مظهر من مظاهر الكمال الإنساني. فقد نذرت مريم ما في بطنها لله محررًا أي خالصًا كاملًا، إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا، وهو ما يقصده اللاهوت المسيحي بأنه مخلص من الخطيئة. فهو كلمة الله وروح منه، خالٍ من غواية الشيطان. فالمسيح نموذج المتحرر من أهواء البشر وانفعالاتهم خالصًا لوجه الله.

وقد تأتي صورة «فك رقبة» دون لفظ تحرير، ولكنها تعني نفس الشيء. فالعقبة هي فك رقبة، اجتياز مانع، مانع العبودية، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ. وصورة الأسير أنه «في الرقاب» يستحق الصدقة مثل المساكين وابن السبيل والسائلين، ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ. فالأسير له حق حسن المعاملة، الطعام والشراب والإيواء، وليس التعذيب والتجويع والإيذاء. الأسرى تتكفل بهم الدولة مثل الموظفين فيها والمؤلفة قلوبهم، إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ، وهو ما تنص عليه المواثيق الدولية لحقوق الأسرى وحمايتهم.

وفي السجون الإسرائيلية أحد عشر ألف أسير فلسطيني بلا حقوق. وفي معسكر الاعتقال الأمريكي جوانتانامو مئات من المعتقلين السياسيين بلا محاكمة، وفي سجون كثير من الدول مسجونون سياسيون بلا حقوق. فمتى تفك رقابهم تكفيرًا عما يقوم به سجانوهم من آثام التعذيب والاعتقال بلا محاكمة ولا دفاع؟ فقد تحول الرق الآن من المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي، من الرق بمعنى العبودية نتيجة للملكية إلى العبودية بمعنى استرقاق الأفراد في السجون واسترقاق الشعوب بالغزو. وكلاهما يفيد معنى فقدان الحرية وإن اختلفت الوسائل، الملكية أو الطغيان.

(٦) العداوة والعدوان

نظرًا للخلافات العربية العربية التي تصل أحيانًا إلى الاشتباكات المسلحة يبرز سؤال: إلى أي حد يجوز عدوان العربي على العربي، والمسلم على المسلم؟ وقد تكرر لفظ «عدو» في القرآن الكريم مائة وواحد مرة أكثر من ألفاظ المصالحة والأخوة في ثمانية معانٍ مختلفة.

  • الأول: العدوان في السبت، تجربة اليهود السابقة. فقد أخذ الله منهم ميثاق عدم العدوان في السبت واحترامه باعتباره علامة على طاعة الله، وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا. وقد اعتدوا فيه كما لاحظ السيد المسيح أيضًا، وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ. وإذا طبقوه فإنهم يفعلون ذلك بلا إيمان وعن نفاق. لذلك قال لهم السيد المسيح لتعرية نفاقهم: «إن الإنسان سيد السبت وليس السبت سيد الإنسان. أرأيتم لو وقعت نعجتكم في حفرة يوم السبت ألا تنقذونها.»
  • والثاني: تعدي الحدود وخرق الشريعة، وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. فتعدي الحدود ظلم للنفس، وظلم لله، وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ. والالتزام بالحدود ليس غاية في ذاته بل تعويدًا للإرادة على الطاعة.
  • والثالث: معنى مشابه وهو العادي، أي الذي تجاوز الحدود ولكن اضطرارًا حفاظًا على الحياة، فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. ومن يفعل ذلك فهم العادون، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ، وهو المعنى العام للعدوان أي تجاوز الحدود، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ.
  • والرابع: هو المعنى العام للعدوان، وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ. وهناك نهي مطلق بعدم الاعتداء، وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. والتخلص من العدوان يكون بالتضرع والدعاء لله، ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.
  • والخامس: العداوة من الشيطان، وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. والشيطان هنا يرمز لأهواء النفس ورغباتها وهي عادة ما تؤدي بالإنسان إلى التهلكة، إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ. فكل عمل سيئ يُنسَب إلى الشيطان اختصارًا، قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ. بل إن لكل نبي شيطانًا، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ، والشيطان هو الذي يوقع العداوة والبغضاء بين الناس، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ.
  • والسادس: منذ خطيئة آدم وهبوطه إلى الأرض وقتل قابيل لهابيل والإنسان عدو لأخيه الإنسان على الأرض، وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ. وذلك من أثر غواية الشيطان، فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ، وقد سول الشيطان إلى موسى القتل مرة ثانية، فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ؛ لذلك أصبح الإنسان عدوًّا حتى لأفراد أسرته بالضرب والطرد والقتل، إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا. وقد تكون العداوة بين الإنسان والإنسان، إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ. ويستمر ذلك إلى يوم القيامة، فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
  • والسابع: هناك عداوة متبادلة بين الإنسان والشيطان، إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا. ومن يعادي الله يعاديه، مَنْ كَانَ عَدُوًّا للهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ.
  • والثامن: عدم مقابلة العدوان بالعدوان لتأليف القلوب وكسبها بالسماحة والمحبة كما أوصى المسيح، عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً. والله هو الذي يؤلِّف القلوب كإحدى نعمه، وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا. يتحول العدو إلى ولي، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. والتعاون يكون على البر والتقوى وليس على الإثم والعدوان، وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ.

ومِن ثَم فالعداوة بين الإخوة الفلسطينيين خاصة بين فتح وحماس مثل عدوان اليهود في السبت، عدوان على الميثاق الوطني الفلسطيني، وعدوان على الثوابت الفلسطينية. واليهود هم أشد الناس عداوة للمؤمنين، لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ. هو تجاوز للخط الأحمر وعدوان على الشريعة الأرضية والسماوية. هو نزغ من الشيطان واسترجاع لخطيئة آدم وقابيل واستعداء لله على من يعاديه، يكفي عدوان الآخرين عليهم من الداخل والخارج. والإمساك أي الحصار وغلق المعابر للإضرار اعتداء، وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا. الدفاع عن النفس ضد العدوان ليس عدوانًا، وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا. والاستعداد للقتال ليس للعدوان بل للردع، تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ، ولمنع الآخرين من العدوان. فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ. والفلسطينيون مظلومون وقع عليهم العدوان. لا يعتدون على أنفسهم بل يدافعون عن أنفسهم ضد المعتدين.

(٧) الحرب والسلام

كثر الكلام أخيرًا عن السلام. واتُّهم الإسلام ظلمًا أنه دين الحرب والجهاد والقتال ورفض الآخر بل والإرهاب. وأُسيء تفسير الآيات خارج أسباب نزولها وناسخها ومنسوخها مثل وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ، وفي الناسخ لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، مَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ، فما هو وضع الحرب والسلام في القرآن الكريم؟

فقد ورد لفظ «حرب» في القرآن ست مرات فقط أي إنه موضوع عابر وليس موضوعًا رئيسيًّا محوريًّا كما تشيع بعض الدراسات الاستشراقية. ومعظم المعاني محاربة الله ورسوله وليس محاربة الناس أو الشعوب والأقوام أي محاربة العقيدة ووحدة الأمة وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ، ومن جوانب محاربة الله والرسول السعي في الأرض فسادًا إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا. والحرب مؤقتة يتلوها السلم فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، ولا توجد إلا آية واحدة تدعو إلى الحرب فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ضد الذين يخرقون اتفاق السلام وميثاق الأمن.

ومن نفس الاشتقاق أتى لفظ «محراب» مفردًا و«محاريب» جمعًا، المحراب هو المكان المقدس، المعبد للصلاة والتعبد. فقد اعتزلت مريم في المحراب كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا. وقد بشر الله زكريا بالمولود الجديد وهو في المحراب فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ. ولما خرج زكريا من المحراب لرؤية قومه أوحى الله إليهم بأن يسبحوه في الصباح وفي المساء فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا، لا يجوز لأحد أن يتسور المحراب وينتهك حرمته هَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ حتى ولو كانا خصيمين يحتكمان لداود. وقد صُنع لسليمان المحاريب والتماثيل يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ. فالمحراب هدوء وسلام وعبادة وتحنث كالحرب من أجل السلام.

أما لفظ «السلام» فهو أكثر حضورًا بمشتقات عديدة: «السلم» أي السلام بين الناس والأقوام وهو المعنى الشائع. ومنه اشتُق لفظ «الإسلام» اسمًا للدين، ولفظ «سلام» تحية للمسلمين. فقد ورد لفظ «السلم» بفتح السين ثماني مرات بمعنى السلام، سبعة منها: مرة واحدة دعوة إلى السلم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً. فالدخول في السلام أمر مطلق بصرف النظر عن شروطه وظروفه، والدعوة إلى السلم تكون عن قوة وليس عن ضعف، عن استعلاء وليس عن خضوع، يد عليا وليست يدًا سُفلَى، وستة أخرى دعوة إلى السلم مشروطة بقبول الطرف الآخر، وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ، فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ. وتتكرر نفس الشروط إذا توقف الطرف الآخر عن الحرب وأبدى استعدادًا للسلم فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا. فإن لم يتوقف الطرف الآخر عن الحرب فلا توقف من الطرف الأول فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ. فالإسلام مبادرة من الآخر وليس من الذات. إذا بادر الآخر بالسلام وتوقف عن سوء الأعمال فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ، وهو سلام مع الله قبل أن يكون سلامًا مع الناس وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ. ولا يستوي المشاكس مع المسالم رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ. فلا يوجد سلام إلا بين طرفين يريد كل منهما السلام. ولن يتحقق السلام بين طرفين: الأول لا يريد السلام بينما الثاني يريد السلام، وهو نفس الموقف الحالي بين الإسرائيليين الذين لا يريدون السلام بل الأرض والاستيطان وتهويد القدس، والفلسطينيين الذين يريدون السلام.

أما لفظ «الإسلام» الذي اشتُق من نفس اللفظ الذي يعني السلام فإنه ورد حوالي خمسين مرة ويعني السلام مع النفس ومع الله ومع الآخرين ومع العالم. وبهذا المعنى الدين عند الله الإسلام آخر الديانات إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ، ولفظ «السلام» بمعنى التحية ورد من نفس الاشتقاق، أي إن تحية الإسلام هي السلام وليس الحرب. ومن ألقى السلام هو المؤمن وليس بالضرورة المسلم وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا. هي أيضًا تحية الأنبياء السابقين جميعًا. وهي تحية أهل الجنة. فالإسلام إذن دين السلام وليس كما يشاع دين الحرب. والجهاد إنما هو فقط للدفاع عن النفس في حالة العدوان عليها، السلام هو القاعدة والحرب هو الاستثناء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤