الفصل الثامن

المعرفة

(١) البرهان

البرهان من طرق المعرفة في القرآن مثل الحوار والدليل والجدل، ووسائل المعرفة مثل الحس والعقل والقلب والفؤاد واللب، وأشكال المعرفة مثل القصص والأمثال والأساطير.

آثره الفلاسفة على كل أنواع الاستدلال، فقد ميز ابن رشد بين ثلاثة أقاويل: الخطابة والجدل والبرهان. الخطابة للعامة والوعاظ، والجدل للمتكلمين، والبرهان للفلاسفة. وجعل المناطقة المسلمون ما لا دليل عليه يجب نفيه. وكل الأنبياء أتوا بأدلة تثبت نبوتهم، سواء عن طريق المعجزة والإبهار الحسي وما يظهر باعتباره خرقًا لقوانين الطبيعية أو عن طريق العقل والبرهان. تعتمد المعجزة على القوة مثل غرق فرعون وتدمير أقوام عاد وثمود ولوط ونوح، ويعتمد العقل على البرهان والاستدلال مثل إبراهيم أبي الأنبياء ومحمد خاتم الأنبياء. ولما انتهى عصر المعجزات لم يبقَ أمام البشر الآن إلا البرهان والدليل. فكل أصحاب الدعاوى يطالبون بالدليل. ولا توجد نظرية إلا وتقوم على برهان.

وقد ورد لفظ «برهان» في القرآن ثماني مرات بمعانٍ ستة:
  • الأول: البرهان من الله وهو الوحي والنبوة والرسالة دليلًا على وجوده بالرغم من إمكانية وصول العقلاء له، يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ. فما كان الله ليحاسب البشر دون دليل أو برهان، وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا. الوحي كله برهان، وكلام الله كله دليل، وإبلاغ الناس بالوحي حجة عليهم؛ لذلك لم تخلُ أمة إلا ولها نذير، وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ.
  • والثاني: إعطاء نموذج فرعون، فقد أرسل الله له موسى بالأدلة والبراهين، بالحجة والإقناع لإثبات الوحدانية أو بالقوة والمعجزة وهذان هما البرهانان، فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، مثل ضم الجناح وإخراج اليد من الجيب بيضاء للناظرين. فتكرار البراهين أكثر مدعاة للتصديق. برهان واحد قولًا لا يزيل الشك كله ولا يخفف من التعصب كله. برهان بعد برهان هو الذي يقضي على جذور الشك ويحوله إلى يقين.
  • والثالث: أن الشرك لا يصمد أمام البرهان، فالشرك جهل وتعصب وعمى، أَءِلَهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فالتحدي للشرك أنه لا برهان على صدقه. والبرهان الطبيعي هو الذي يؤدي إلى وحدانية الله. وقد تكرر هذا المعنى في ثلاث آيات أخرى، أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ، فالشرك بلا دليل، والوحدانية اتجاه طبيعي للعقل وبداهة وجدانية.
  • والرابع: الشرك قول بلا برهان لأن التوحيد طبيعي في البشر، تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فالأماني مجرد تمنيات ورغبات ذاتية لا أساس موضوعيًّا لها، هي ذات بلا موضوع، وهوًى بلا عقل، ورغبة دون واقع؛ لذلك وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ، فالدعوة بلا برهان مسئولية تجعل صاحبها موضعًا للتساؤل والحساب، فالإنسان حر عاقل مسئول.
  • والخامس: أن البرهان ليس فقط برهانًا نظريًّا للتعقل والتدبر والاقتناع بل هو برهان عملي فعَّال يحفظ من الرذيلة، ويمنع من الوقوع في الخطأ. البرهان هنا عصمة، وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ، البرهان هنا يتجه نحو القلب وليس نحو العقل، نحو السلوك وليس نحو النظر، البرهان دليل عملي وليس استدلالًا نظريًّا، فغاية البرهان الفعل وتغيير السلوك وليس فقط تغيير الاقتناع والتحول من رأي إلى آخر.
  • والسادس: البرهان هو شهيد على كل أمة مثل برهان كل نبي على أمته أنه أبلغ الرسالة وأدى الأمانة. وقد أعذر من أنذر، وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ، البرهان هنا شهادة فرد على جماعة، فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا، فلكل أمة شهيدها وهو نبيها، والرسول شهيد على كل الأمم لأنه خاتم الأنبياء، والإسلام آخر الرسالات.

البرهان إذن يجمع بين النظر والعمل، بين العقل والسلوك، بين الفرد والجماعة، ليس البرهان هو ما يستعمله المناطقة والرياضيون؛ البرهان العقلي الخالص، أو ما يستعمله العلماء الطبيعيون وهو البرهان التجريبي، بل هو ما يستعمله علماء العلوم الإنسانية الذي يعتمد على البداهة والحس الطبيعي والتجربة الحية، يجمع بين النظر والعمل، بين الدليل والعصمة، بين المعرفة والأخلاق. يحمي نفسه من صورية المناطقة والرياضيين ومن مادية العلماء الطبيعيين، يتجه نحو التجربة الإنسانية والخبرة الحية، والتجربة المشتركة كما يحاول الظاهراتيون من أنصار الظاهريات وهو منهج تحليل الخبرات الشعورية الفردية والجماعية.

(٢) الدليل والبرهان

يُتهم الفكر العربي دائمًا بأنه فكر خطابي إنشائي ينقصه الدليل والبرهان، على نقيض الفكر العلمي الذي يعتمد عليهما، ويمكن مراجعة أحكامه وقوانينه باللجوء إليها. الخطب الإنشائية تتصادم فيما بينها ولا تتحاور أو على الأقل تتجاور. لا يحدث فيها تراكم تاريخي معرفي لأن الخطابة وقتية تتبخر في الهواء بمجرد سماع صوتها. قد تؤثر في النفس ولكنها لا تقنع العقل.

ومن الألفاظ القرآنية الدليل والبرهان وهما على نقيض الخطابة والإنشاء. بالرغم من أن من مبادئ أصول الفقه الدليل والبرهان مثل «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر». ومن مبادئ المنطق الإسلامي «ما لا دليل عليه يجب نفيه».

وقد ورد لفظ «دليل» في القرآن سبع مرات، ستة أفعال، واسم مرة واحدة مما يدل على أن الدليل استدلال وأنه فعل. وقد ورد بأربعة معانٍ:
  • الأول: الدليل الطبيعي الكوني لإثبات حركة الظل وثبات الشيء إذا ما تحركت الشمس، وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا، وهو الظاهر. والحقيقة أن الشمس هي الثابتة والأرض هي المتحركة فيتحرك الظل، وهو نفس الدليل الذي أراد به اسبينوزا أن يثبت لليهود أنه لا وجود للمعجزة إذا ما تحرك الظل وثبت الشيء لأن المصباح وراءه إذا تحرك الظل. إنما جهل اليهود بقوانين الضوء هو الذي جعلهم يعتقدون بأن ما فعله أشعيا معجزة.
  • والثاني: أن الدليل يقوم به الحيوان والشيطان وليس الإنسان فقط لأنه المؤشر على الشيء. فقد دلت الدابة في الأرض على موته عندما أكلت منسأته، مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ. كما أشار الشيطان على آدم على شجرة الخلد التي يأكل منها ولا يبلى فأضله، قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى. فالدليل قد يكون مؤشرًا على شيءٍ خاطئ.
  • والثالث: الوحي دليل على وجود الله، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، وهو دليل على صحة الإيمان. والنبي دليل على النبوة، هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ. فالنبوة دليل على صدق ما يحدث.
  • والرابع: أن الأخت تدل على أخيها وتشير إليه، إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ وهو موسى بعد أن ألقته أمه في اليم، هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ فرجع الطفل إلى ثدي أمه، وقرت عينها. فالدليل هنا حسي: شمس أو دابة أو شجرة أو نبي أو طفل. ولا يمكن إنكاره لأنه مشاهد بالعيان.
أما لفظ «البرهان» فقد ورد في القرآن ثماني مرات بخمسة معانٍ:
  • الأول: البرهان ضد الأماني والتمنيات، تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فالأماني بلا برهان ينقصها الصدق ويعوزها التصديق. هو ادعاء أي قول بلا برهان. والبينة على من ادعى، وكثير من جوانب الخطاب العربي المعاصر أمانيُّ دون براهين، وأصوات بلا صدًى، وما ينبغي أن يكون دون ما هو كائن، خلط بين الأخلاق والعلم، بين الذاتية والموضوعية.
  • والثاني: إيمان بآلهة دون برهان، أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ. فلا يوجد دليل على وجود آلهة غير الله أو على تعدد الآلهة، بل كل الأدلة تثبت أن الله واحد كما حاول المتكلمون والفلاسفة قديمًا — مثل دليل التمانع عند الأشعري، وهو استنكار عقلي ووجداني — إثبات أن هناك إلهًا مع الله، أَإِلَهٌ معَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. ومن يدع مع الله إلهًا آخر لا برهان عليه فإنه يقع تحت المسئولية والحساب، وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ.
  • والثالث: أن الله يرسل البراهين عن طريق الوحي وعصمة الأنبياء. فالوحي نفسه برهان على وجود الله وصحة الإيمان، يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ، وصدق الوحي في العقل والواقع ومصلحة الجماعة برهان على وجود الله، وهو الذي عصم يوسف من الغواية، وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ.
  • والرابع: المعجزة برهان من الله على يد الأنبياء كي يؤمن الأقوياء مثل فرعون، فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، فالقوي لا يؤمن إلا بالقوة، والجبار لا يصدق إلا الجبروت، وقد استعملت المعجزة في تاريخ النبوة ولدى كل الأنبياء منذ نوح حتى عيسى. وفي ختم النبوة وآخر الأنبياء استبدل بها الإعجاز أي التحدي اللغوي والبلاغي والتشريعي وليس خرق قوانين الطبيعة بالمعنى القديم.
  • والخامس: شهادة كل نبي على أمته في حاجة إلى برهان، البلاغ والتصديق، الإعلان والإيمان، وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ.

الفكر الإسلامي إذن فكر برهاني؛ لذلك يحاور ويحاجج، يقنع ويقتنع. فالإسلام دين الحوار. والقرآن كتاب الحوار مع الخصوم دون تحديد مسبق أي الطرفين على حق، وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ؛ لذلك كانت تفرقة ابن رشد بين الأقاويل الثلاثة: الخطابي والجدلي والبرهاني تفرقة إسلامية أصيلة. استعملها لنقد المتكلمين والفقهاء دفاعًا عن الفلاسفة كما نستعملها نحن الآن للدفاع عن الفقهاء والمتكلمين لاستبعاد الفلاسفة، أصحاب البرهان.

(٣) الحجاج

يغلب على الفكر العربي طابع «المونولوج» وليس «الديالوج»، أي الخطاب الفردي وليس الحوار الثنائي لأن الفكر عقائد وأحكام مسبقة لا تقبل النقاش ولا الحوار مع أن القرآن الكريم كتاب حجاج وحوار، ومحاولات إقناع للخصوم؛ لذلك استعمل أسلوب الحجاج.

وقد ورد لفظ «حجج» في القرآن كفعل ثلاث عشرة مرة، بأربعة معانٍ:
  • الأول: الحجاج في الله مع أن الله ليس موضوعًا للحجاج لأنه واضح بذاته، موضوع للبرهان، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ، الحجاج هو الأخذ والعطاء، النفي والإثبات، هو أقرب إلى الجدل منه إلى البرهان، والله واضح بذاته، والغريب هو الحجاج بعد معرفة الحقيقة لدحضها ولتبرير الباطل، أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ. ولا يمكن الحجاج مع من هداه الله لأن الظن لا يدحض اليقين، وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ، فالرسول يحاجج قومه ويثبت لهم الحق والقوم لا يحاجُّون الرسول لإثبات الباطل ودحض الحق، ولا سبيل إلى مواجهة الحجاج إلا إسلام الوجه لله أي العودة إلى الفطرة، فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ. والحجاج بعد الاستجابة له لا قيمة له أن العمل يجبُّ النظر، وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ.
  • والثاني: هو الحجاج عن علم وليس عن جهل، هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ، الحجاج عن علم مقبول لأنه يمكن الوصول إلى الحقيقة، أما الحجاج عن جهل فإنه يتحول إلى جدل عقيم. والحجاج بعد العلم لا يحتاج إلى حجاج مضاد بل إلى حياة مشتركة تقوم على العدل وترفض الظلم والكذب والبهتان، فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ.
  • والثالث: الحجاج فيما نزل من قبل وليس فيما نزل من بعد لأن الحجاج في الأصل وليس في الفرع، يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ. فلا يمكن الحجاج في إبراهيم وقد أُنزلت التوراة والإنجيل بعده، فقد عاش إبراهيم في القرن الثامن عشر قبل الميلاد وأُنزلت التوراة في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، والإنجيل في القرن الأول الميلادي.
  • والرابع: الحجاج في النار لا يؤدي إلى شيء لاعتراف الضعفاء أنهم كانوا تبعًا للأقوياء، وفقد استقلال عقولهم، وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا. الحجاج تسليم واقتناع.
أما لفظ «حجة» فقد تكرر ثماني مرات كاسم بخمسة معانٍ:
  • الأول: أن الله هو الحجة البالغة. ولو شاء لهدى الناس أجمعين، قُلْ فَلِلهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ، ولكن الله ترك الناس لعقولهم ومسئولياتهم وحرياتهم ولاختياراتهم وإلا فما لزمت الحجة أي وسيلة الإقناع. فإذا استمر الحجاج في الله بعدما استجيب للحجة الأولى فإن الحجة الثانية تكون داحضة، وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ لأن الحجة لم تتوجه إلى العقل بل اصطدمت بتصلب الإرادة التي لا ينفع معها توالي الحجج، فالعناد ليس حجة مضادة يمكن دحضها حتى يأتي الإقناع.
  • والثاني: الحجة للناس على الله، وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ. فالتوجه نحو الله يمنع ذريعة الناس بأنه لم يهتدِ أحد، ويثبت أن الحجة أقنعت، وأن الإقناع بالحجة أفاد، وأن الاقتناع النظري تحول إلى سلوك عملي بالتوحد نحو غاية واحدة وهدف واحد. كما يمنع الناس من أن يكون لهم حجة على الله بعد إرسال الرسل، لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ، وأن البلاغ قد تم، والرسالة قد وصلت، وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا. فالوحي حجة، والرسالة حجة، والبلاغ حجة، وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ.
  • والثالث: حجة النبي على قومه مثل حجة إبراهيم، وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ. وما أكثر حجج إبراهيم، تكسير الأصنام وتحدي كبيرها بالدفاع عن نفسه أو عن صغار الأصنام أو أن يسمعوا كلام القوم، تفجير ينبوع الماء بين أصابعه في زمزم وهو يسعى بين الصفا والمروة بحثًا عن المياه لأسرته حماية لها من الهلاك، بل إن إبراهيم استعمل الحجة مع نفسه للهداية والوصول إلى الله، بالانتقال من الأصغر إلى الأكبر، من النجم إلى القمر إلى الشمس إلى ما وراء الشمس، ومن الكم إلى الكيف، ومن المرئي إلى اللامرئي. كما طلب من الله حجة كي يطمئن قلبه بوجوده وهو أخذ طير وتقطيعه أربعًا ثم مناداته كي يعود سليمًا حيًّا من جديد.
  • والرابع: الحجة كمعجزة، إحضار الآباء أي بعث الموتى، وهو تعجيز أكثر منه حجة، مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. هي ذريعة للتنصل من إعمال العقل والنظر والتعصب للرأي ورفض الطبيعي إلى المصطنع، والتهرب من الانصياع للحق.
  • والخامس: إذا توقفت الحجة عن أداء دورها في الإقناع والاقتناع فلم يبقَ إلا العمل لكل فريق. والعمل خير حجة في نهاية الزمان كرصيد للإنسان بعد أن ينتهي الوقت وينقضي العمر ويأتي يوم الحساب. فالعمل خير حجة ليس للإقناع بل للإنقاذ والخلاص، لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ. الحجة إقناع ومشاركة ومسئولية جماعية. في حين أن العمل مسئولية فردية وتحمل للنتائج، ثوابًا كان أم عقابًا.

(٤) أحسن القصص

من الأشكال الأدبية التي يستعملها القرآن القصص والأمثال للتعبير عن المضمون في مجتمع ثقافته أدبية وهو الشعر والنثر الفني. وقد استعمل لفظ «القصص» ستًّا وعشرين مرة، عشرين فعلًا وستًّا أسماء للدلالة على ثمانية معانٍ:
  • الأول: قصص الأنبياء لإخبار الرسول بأنبياء الأمم السابقين وتجارب الأنبياء مع أقوامهم من أجل تربية الوعي التاريخي عن الرسول، وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ. فقبل الحاضر يأتي الماضي، وقبل البنية يأتي التاريخ حتى تتجذر أصولها وتثبت في الوعي التاريخي، وَكُلًا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ. ولا يحتاج الوعي التاريخي إلى كل الأنبياء، يكفي البعض الذين في الوعي التاريخي من قبل من خلال القصص السابق دون البعض الآخر، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ. يكفي الرسل أولو العزم: آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، المراحل الكبرى في النبوة دون المراحل الصغرى، إسماعيل وإسحاق ويعقوب ويحيى وزكريا ومريم.
  • والثاني: يخبر هذا القصص الرسول بأنباء القرى، تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا، فقد كانت القرية نموذج الأمة والشعب في التاريخ، ينهض ويسقط، يقوم وينهار، ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ. وظيفة القصص الإخبار عن أنباء ما سبق، كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ. فالوحي والتاريخ شيء واحد، وما يأتي رأسيًّا من الوحي مصدق لما يأتي أفقيًّا من التاريخ، تراكم الوحي.
  • والثالث: القصص هو الذي يأتي بالآيات والبراهين على صدق الوحي في التاريخ، أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي، فالرسول يبلغ قومه آيات الله عبر القصص كبرهان على صدق الوحي في التاريخ؛ لذلك قام علم التاريخ مستندًا إلى هذه الآيات، فالآية هنا قص وبرهان تاريخي، سماع ومشاهدة، نص وواقع، وحي وتاريخ.
  • والرابع: القصص عبرة. تبعث على الشجاعة وعلى الخوف، فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ، فالتاريخ يعيد نفسه، والإيمان يدرك أن القصص واقع، وأن التاريخ قصة. التاريخ اعتبار، يبعث على الخوف لأنه شاهد عيان على صدق الوحي، فالقصة هنا ليست محض خيال بل هي رؤية لما حدث، وواقع تحول إلى ذاكرة، وذاكرة أصبحت دليلًا حيًّا على صدق القصة.
  • والخامس: أن من يصدق في حقه القصص يثق بما يسمعه لأنه يعلم أنه القصص الحق، وأن من يصدق في حقه في الحاضر هو مثل الذي صدق في حقه في الماضي فلا يخاف، فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ، فالعالم بالقصص والخير به يطمئن من يسمعه لأول مرة. الأفقي تصديق للرأسي؛ لذلك كان قصص اليهود تصديقًا لقصص القرآن.
  • والسادس: القصص هو أحسن القصص الذي لا خلاف فيه بين السمع والمشاهدة، بين الوحي والتاريخ، بين الحاضر والماضي، بين النظرية والتصديق، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ، وهو القصص الواقعي الذي يتطابق فيه المعنى مع الواقع، والقصد مع التجربة بعيدًا عن الأحلام والخيالات كما هو معهود في القصص والحكايات. يقص على بني إسرائيل ما كانوا فيه يختلفون، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. وقد يعني القص متابعة الواقع ووضعه تحت البصر وعدم خروجه عن مجال الرؤية، وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. القصص هو تتبع مسار الواقع ووصفه كما هو دون مبالغة، قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا.
  • السابع: هو قصص بالحق. لا يقص إلا عن واقع مشاهد، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ. فهو مثل ما يقال في النقد الأدبي القصص الواقعي التاريخي أو القصص الواقعي. لا يعبر إلا عن حقيقة، والحقيقة مطابقة للواقع، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللهُ. هو قصص عن علم وليس عن خيال، افَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ. فالقصص عن مشاهدة ويقين وليس عن أخبار ووسائط معرفية بل عن معرفة مباشرة دون رواية.
  • الثامن: القصص للتفكُّر والاعتبار والاتعاظ، فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ، فالتاريخ موعظة وعبرة، لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ؛ لذلك كانت جلسات الاستماع للقصص مثل حلقات الذكر عند الصوفية للاعتبار والموعظة، القصص وسيلة للتربية وتهذيب النفس، وطالما أعطيت للأطفال في دروس التربية الدينية.

وهي غير قصة الحلم وتعبير الرؤيا الشبيهة بالقصص، فهو قصص ذاتي لا شأن له بقصص الأنبياء، قد يصدق وقد لا يصدق، قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ تجنبًا للحسد والغيرة. ومع ذلك وقع ما كان لا يمكن تجنبه، وحدث ليوسف ما حدث حتى أُكرم في قصر العزيز فرعون مصر، وأصبح وزيرًا في بلاطه، وأنقذ مصر من المجاعة. فالقصص القرآني يعطي نوعًا من الحكاية الوصفية للواقع دون مبالغة أو خيال كي يتحول الوعي بالتاريخ إلى وعي بالواقع.

(٥) أساطير الأولين

من المفاهيم المعرفية الشائعة في الثقافة الشعبية «أسطورة» وجمعها «أساطير»، وتعني حكاية خرافية من اختراع القدماء كالأساطير اليونانية والرومانية والبابلية والآشورية والفارسية والهندية، فكل شعب له أساطير، دخلت الكتب المقدسة في لحظة التدوين كما دخلت الأساطير البابلية في العهد القديم وبعض الإسرائيليات مثل سفر التكوين في كتاب «بدء الخلق» في البخاري، لدرجة أن بعض اللغويين اعتبروا اللفظ مشتق من اللفظ اليوناني «استوريا» أي قصة أو حكاية، ومنه اشتق أيضًا لفظ التاريخ. فكلاهما تدوين القدماء.

وقد استعمل تسع مرات في القرآن الكريم في صورة لغوية واحدة وشكل أدبي واحد «أساطير الأولين» وبمعنًى واحد إشارة إلى الوحي الإسلامي، إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ، فهو اتهام غير المؤمنين به قول الآخرين، فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ. وهي تهمة عامة للوحي بصرف النظر عن صفته، سمعًا أم تلاوة أم إملاءً أم كتابة أم نزولًا أم وعدًا.

هي تهمة عامة ممن لا يؤمنون بالوحي، يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ، فهو قول الخصوم. ويعنون بأساطير الأولين قصص اليهود والنصارى والمجوس والصابئة وهي الفرق الدينية المذكورة في القرآن، والتي وجدت في شبه الجزيرة العربية. وماذا عن أساطير مصر القديمة وقد كانت على صلة بشبه الجزيرة العربية عبر التجارة؟ وماذا عن أساطير الأحباش وقد كانوا في غارات مستمرة على اليمن ومكة مثل غزوة أبرهة؟ وماذا عن أساطير بابل وآشور وكنعان في حضارات ما بين النهرين من خلال التجارة، رحلتي الشتاء والصيف، ومن خلال الأساطير اليهودية؟

ثم يتم تفصيل هذه التهمة، فهو وحي مسموع سمي في التراث «السمع» في مقابل العقل، قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ. فكلها روايات شفاهية مثل غيرها في شبه الجزيرة العربية، وهو وحي متلو مقروء، إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ. لذلك سمِّي القرآن تلاوة، وهو قرآن مدون مكتوب، وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا؛ لذلك سمِّي القرآن المصحف أو الكتاب، وهو الذي نزل من السماء، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ؛ لذلك سمِّي القرآن التنزيل، وقد سمِّي أيضًا الوعد الذي وعِد به الآباء والأجداد، لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ. التعبير إذن تهمة وقدح في الوحي وتشبيهه بأساطير الأولين من صنع الخيال الجمعي والثقافة الشعبية، مجرد حكايات خرافية لا صلة بها بالتاريخ ولا بالواقع. هي محض خيال، جزء من الآداب الشعبية القديمة حول الأبطال ومسارات الشعوب في التاريخ.

ومع ذلك يستعمل نفس اللفظ باشتقاقات أخرى مثل مسطور، يسطر، مستطر بمعانٍ مشابهة ودلالات قريبة، ولكن على نحو إيجابي؛ إذ يقسم الله بالكتاب المسطور وهو القرآن المدون، وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ باعتباره شيئًا مرئيًّا ملموسًا مثل جبل الطور وأي رق منشور. وكل ما يحدث في الواقع ويقع في التاريخ مدون في كتاب سواء اللوح المحفوظ أم القرآن، كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا، وهو كتاب لا يسطر إلا الخير والأفعال الحسنة، إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا كي يشجع الناس على العمل الصالح وفعل الخير. كما يستعمل الفعل «سطر» للتدوين أي لحفظ المعرفة وليس للقرآن وحده. فالقرآن جزء من النسق المعرفي الإنساني، ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ. وهذا التسطير بالقلم جزء من النعمة الإلهية. فالوحي نفسه مدون مسطور في اللوح المحفوظ، والقرآن مدون في اللوح المحفوظ. والوحي كله مدون في الصحف، صحف إبراهيم وموسى، التوراة والإنجيل والزبور، وهي كتب الأولين المذكورة في القرآن. ويعني اللفظ أي شيء مدون، صغيرًا كان أم كبيرًا، وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ.

التدوين خطوة كبيرة في تطور الحضارة بعد نشأتها في المرحلة الشفاهية. التحول من الشفاهي إلى المدون نقلة حضارية كبيرة؛ لذلك عظم دور الكتبة، الأحبار والكهنة والفقهاء الذين اشتغلوا بمهمة التدوين. وخطورة ذلك هو عدم التطابق بين الشفاهي والمدون على فرض تطابق الشفاهي مع نفسه؛ لذلك أتت تهمة القرآن للكتب المقدسة السابقة بالتحريف والتغيير والتبديل، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ. وحرص المسلمون الأوائل على تدوين القرآن خشية من استشهاد حفظة القرآن ودخول التحريف والتبديل عليه، والزيادة والنقصان تحقيقًا لآية، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ. والحفظ ليس بالفعل الإلهي بل بمناهج النقل في علوم القرآن، وعدم مروره بفترة شفاهية كالحديث أو مثل باقي الكتب المقدسة، التوراة والإنجيل.

وبالرغم من رد الفلسفة الغربية المعاصرة الاعتبار إلى الأسطورة باعتبارها صورة رمزية للفكر عند كاسيرر في كتابه «فلسفة الصور الرمزية» إلا أن اللفظ في الثقافة الشعبية ما زال له مدلول سلبي، أي الخرافة والتي هي أشبه بقصص الأطفال الخيالية أو ثقافات الشعوب البدائية التي تقوم فيها الأساطير بدور العلم والفلسفة والدين.

(٦) ضرب الأمثال

من أساليب التعبير في القرآن الكريم كالقصة ضرب الأمثال، فالمثل نوع من التشبيه الذي هو نوع من المجاز في ثقافة عربية تقوم على أساليب البلاغة وفنون القول، والمجاز في القرآن، درسه علماء أصول الفقه والتفسير والقرآن والبلاغة.

وقد ذكر لفظ «مثل» في القرآن بمعنى المثل بالكامل، تشبيه شيء بحكاية ثمانين مرة، وستًّا وثمانين مرة أخرى كمجرد تشبيه بسيط، تشبيه شيء بشيء، فإذا أخذنا التشبيه المركب لضرب الأمثال لوجدنا أن القرآن يقصده مع الاعتراف بحدوده، فالمثل لا يطابق الممثول مطابقة تامة ولا حتى المترادفات في اللغة؛ لذلك يظل المثل الأعلى لله وحده، وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وقد استعملت الأمثال من قبل في التوراة والإنجيل، فمن يحمل التوراة ولا يعمل بها كالحمار يحمل أسفارًا، مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا. كما ضرب الإنجيل مثلًا للمسيح فلم يؤمن به قومه، وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ. أنعم عليه الله وجعله مثلًا لبنى إسرائيل، إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. وضرب القرآن مثلًا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط، ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ. وضرب مثلًا للذين آمنوا امرأة فرعون، وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ. فضرب الأمثال في التوراة والإنجيل، ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ. والقرآن مملوء بالأمثال من كل نوع، وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ. والغاية أن يستمع له الناس حتى يتدبروا معناه، يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ومع ذلك لا يغني ضرب المثل عن هلاك الأولين، فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ. ويخضع المثل الذي يأتي به الآخرون لتفسيرات عدة تتفاضل فيما بينها، وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا. ومن يكذب بالمثل فإنه ينال جزاء السوء، بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ. ومن يكفر بالله يكفر بالمثل حتى يجد عذرًا لعدم الإيمان، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا.

لذلك يضرب الله الأمثال للناس، كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ. وذلك من أجل تذكُّر المعنى وعدم نسيانه، وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. ولا يحتاج الإنسان أن يضرب المثل لله لأن الإنسان لا يعلم والله يعلم ولا يحتاج الإنسان أن يُفهِم الله ويشرح له، فَلا تَضْرِبُوا للهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. فإذا ضرب أحد الأمثال لله فإنه يضل، انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا.

ويمكن تصنيف الأمثال في البيئة الصحراوية إلى سبعة أنواع مستمدة منها:
  • الأول: النبات والماء والزراعة، مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ. ولا فرق بين جنة الدنيا وجنة الآخرة، وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ. ومثل الجنة التي وعد بها المتقون، جنة تجري من تحتها الأنهار، أُكُلها دائم وظلها وافر، جنة بها أنهار ومن ماء غير آسن. والكلمة الطيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. والكلمة الخبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ليس لها من قرار. والحياة الدنيا كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فيصبح مصفرًّا ثم يكون حطامًا. وهي صورة الجفاف في الصحراء. والحياة الدنيا كماء نزل من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها فرحين بها أتاها أمر الله فأصبحت حصيدًا. ومثل العمل السيئ كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدًا أي نبات سطحي على صخر يجرفه أقل ماء.
  • والثاني: الريح الذي يشتد بالرماد فيذهبه مثل أعمال الكفار التي لا تصدر عن شيء ولا تنتهي إلى شيء وليس كالأرض الخضراء التي ينبت فيها الزرع.
  • والثالث: الحيوان والحشرات في الصحراء، فمن يخلد إلى الأرض ويتبع هواه مثله مثل الكلب إن يُحمل عليه يلهث أو يُترَك يلهث، فهو لاهث في كل الحالات، ومن يحمل التوراة ولا يعمل بها كالحمار يحمل أسفارًا. ومثل الذين يتخذون من دون الله أولياء مثل العنكبوت التي تعيش في أوهن البيوت. ولا يستحيي الله أن يضرب مثلًا بالبعوضة أقل أو أكثر. فالمهم الدلالة وليس الدال.
  • والرابع: الوعي الإنساني اليقظ عن طريق الحواس، السمع والبصر. فمثل الكافر كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً. هو كالأعمى والأصم بعكس المؤمن البصير والسميع. ولا يستوي رجلان الأول أبكم لا يقدر على شيء وهو عالة على مولاه لا يأتي بخير كالآلة الصماء والآخر يأمر بالعدل وله وعي مستقل.
  • والخامس: النور والظلمات، النهار والليل في الصحراء حيث لا نور إلا النار. فالمؤمن له نار يبصر بها. وصدق الإيمان شرط أن تتحول النار إلى نور ولا يطفئها الله. ونور الله كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة، لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور، يهدي الله لنوره من يشاء.
  • والسادس: القرية الآمنة المطمئنة التي يأتيها رزقها رغدًا من كل مكان. فلما كفرت ذاقت عذاب الجوع والخوف جزاءً على أعمالهم. والقرية الظالمة لم تصدق بالمرسلين، الأول فالثاني فالثالث. ولم تسمع لمن أتى من بعيد، وهو مثل تاريخي.
  • والسابع: مثل آدم خلقه من تراب ثم قيل له كن فكان. ومثل المسيح الذي خلق على نحو آدم ولكن على نحو أسهل. فآدم بلا أب ولا أم، والمسيح بلا أب، وهو مثل كوني.

وضرب الأمثال إذن وسيلة لإفهام الدلالات وتبسيطها وتحويلها من مستوى النظر إلى مستوى الشواهد الحسية طبقًا لقواعد التشبيه والمجاز، وقد يكون التماثل قاعدة عامة في الكون، تماثل كل شيء مع كل شيء فيما سمَّاه الشيعة «علم الميزان».

(٧) إن بعض الظن إثم

الظن واليقين مقولتان معرفيتان في القرآن الكريم. وفي الفكر العربي المعاصر. يغلب الظن على اليقين، واليقين على الظن في معظم الأحوال. وفي أحوال أخرى يسود اليقين في صورة القطع على الظن والاحتمال.

وقد ورد لفظ «ظن» في القرآن تسعًا وستين مرة، سبعًا وأربعين فعلًا مما يدل على أنه فعل معرفي من أفعال الشعور واثنتين وعشرين مرة اسمًا كلها الظن إلا واحدة الظان. وكلها لها معانٍ سلبية. الظن حيث يجب اليقين، باستثناء أربع مرات إيجابية، الظن حيث يجب الظن.

وقد وردت المعاني السلبية في نقد الظن من حيث هو ظن دون تحديد موضوع الظن مثل، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ، واستبدال الظن بالعلم، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ، والظن لا يغني من الحق شيئًا، وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا. والظن أقرب إلى هوى النفس، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ. والظن نقيض العلم، وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، وهو اعتقاد أكثر الناس، وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا.

ثم تتحدد موضوعات الظن في خمسة:
  • الأول: ظن أنه لا يوجد أقوى منهم ولا أقدر، وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا. وظن أنه ناجٍ من قوى أكبر منه، وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ. وظن ذو النون لقوته أنه لا يقدر عليه أحد، وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ. وظن البعض أن حصونهم مانعتهم، مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ، وظنوا أن الجبل يعصمهم، وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ، وهو الذي يلجئُون إليه، وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلا إِلَيْهِ. فإدراك حدود القوة جزء منها، فلا يوجد قوي إلا ويوجد أقوى منه. فالقوة على درجات، وقوة الإنسان إحداها.
  • والثاني: الظن بأن هذه الدنيا هي الكلمة الأولى والأخيرة، فيها يحيا الإنسان ويموت، وليس هناك قيامة ولا بعث ولا حساب ولا عقاب. فقد ظن البعض أن الله لن يبعث أحدًا، وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَدًا، ظنوا أنهم لا يرجعون إلى الله، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ، وأنه لا خاتمة لهم ولا مصير، وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ، وأن الدنيا باقية إلى الأبد، قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا، وأن الساعة ليست قائمة، وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا، وأنهم غير مبعوثين، أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، وأنهم لا يدرون ما الساعة وأنها غير قائمة، قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا.
  • والثالث: الظن بأن رسالة الرسل باطلة. فقد ظن فرعون أن موسى مسحورًا، فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا. وكذب فرعون موسى لأنه لم يطلع على إلهه. فكل شيء لديه حسي، لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ. ويريد سُلمًا يرتقي به إلى السماء، فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا. وظن قوم الرسول أنه في سفاهة وأنه من الكاذبين، إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ. فالرسول بشر مثلهم ولا يزيد عليهم شيئًا، وَمَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ. وليس له عليهم أي فضل، وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ.
  • والرابع: ظن أن لا أحد يعلم عنهم شيئًا، وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ. يظنون بالله غير الحق، ظن الجاهلية، يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ. ولا يعلم اليهود يقينًا مصير المسيح، مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا. فلا يتبعون إلا الظن، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ، والظن لا يغني من الحق شيئًا، إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، وهو ليس فقط ظن العلم بل ظن الأخلاق، ظن السوء، وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا. والظن غير اليقين، إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ لا يعلمون الكتاب إلا أماني أي كما يشتهون، لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ. وإذا ظنوا بالله شيئًا فإنه ظن السوء، الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ. وظن السوء ينتهي إلى البوار، وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا.
  • الخامس: ومع ذلك بعض الظن ظن حسن، يساعد على الإدراك، ويقلل من القطيعة والعناد والتعصب للرأي. فالظن أن حديث الإفك إفك ظن خير، لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا. وقد يؤدي الظن إلى إدراك الحقيقة والاستغفار ثم التوبة كما حدث لداود، وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ. والظن بألا تقام الحدود فيتم التراجع عن فعل شيء ظن حسن، فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ. وقد يظن الإنسان أنه ملاقٍ حسابه فيعمل صالحًا، إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ. وقد يدرك الظان أنه ظن بعيد عن اليقين، إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ. ومن يظن أن ملاقٍ الله يدرك قانون أن الكيف له أولوية على الكم، قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ. ورؤية اليهود لنهاية المسيح مجرد ظن صحيح، مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا.

الظن مقولة معرفية ليست بمفردها بل مع اليقين. الظن في اليقين هدم للمعرفة، واليقين في الظن غلق لها. لكل دائرته. الظن حيث يجب الظن، واليقين حيث يجب اليقين. وفي مجتمع يغلب عليه اليقين بعض الظن يفيده. فالظن شك، والشك مقدمة لليقين.

(٨) اليقين

اليقين والظن لفظان قرينان في القرآن الكريم، وهما مقولتان معرفيتان ومنطقيتان. ويغلب اليقين على الفكر العربي المعاصر. وتحول إلى اعتقاد وقطعية. وتوارى الظن بمعنى الشك. وفي تاريخ الفكر الإنساني ارتبط الشك باليقين خاصة عند الغزالي وديكارت، الشك مقدمة لليقين.

وقد ورد اللفظ «يقن» في القرآن ثمانيًا وعشرين مرة، نصفها أسماء، والنصف الآخر أفعال. فاليقين ذات وموضوع، فعل وشيء. وتدور معاني الآيات حول خمسة محاور. الأول موضوع اليقين، يقين بماذا؟ الآيات أي الشواهد والأدلة على وجود الله والقيامة، قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. فالآية دليل ومؤشر وعلامة. ليست فقط نصًّا مثل آية القرآن بل مؤشرًا طبيعيًّا، وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ، الخلق آية، نبات وحيوان وإنسان، وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. الأرض مملوءة بالآيات للموقنين. فالآية توحي إلى الموقن، والموقن يستقبل دلالة الآية، وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وتدل الآيات على مدلولاتها ومنها القيامة والبعث والنشور ولقاء الله أي المعاد بعد الخلق، وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. ولا فرق بين إيتاء الزكاة والإيمان بالآخرة، وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. ولا فرق بين إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإيمان بالآخرة. فالعبادات وسائل للمعاد، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. فالله يدبِّر الأمر ويفصل الآيات حتى يوقن الناس بلقائه، يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ، وهو رب السموات والأرض عند الموقن، رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ.

أما الموقن فهم الناس والأقوام والبشر، قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، فالموقنون هم الجماعة، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، وهو ما لا ينفي اليقين الفردي. وفي الخلق ومظاهر الحياة آيات لقوم يوقنون، وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. والإيقان بشرط البصيرة وإدراك الدلالة والهدى بعدها، هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. والموقن أيضًا هم نحن أي المتكلم، رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ. الإيقان في الدنيا من أجل الخلاص في الآخرة، وليس في الآخرة بعد أن ينتهي زمن العمل الصالح. والإيقان أيضًا للمخاطب الذي يدرك رب السموات والأرض من خلال الإيقان، رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ. والنفس توقن حتى ولو جحد العقل، وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا. فالجحود ظلم واستكبار. نموذج الموقن هو إبراهيم الذي كان يستدل على وجود الله من الكبير إلى الأكبر، من النجم إلى القمر إلى الشمس، ومن الكم إلى الكيف، من الشمس إلى قوة وراء الشمس وكما حدث لآمون في مصر القديمة، وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. وعلى الذين أوتوا الكتاب اتباع طريق إبراهيم في الانتقال من الشك إلى اليقين، لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ.

واليقين على درجات. هناك اليقين في النبأ، الخبر اليقين، أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ، وهو اليقين التاريخي الذي من أجله وضع القدماء علم مصطلح الحديث ومناهج الرواية وتمييزهم بين التواتر والآحاد ووضع علم الجرح والتعديل لضبط شعور الراوي. وهناك اليقين ذاته الذي يأتي بعد العبادة، يقين الفتح والإشراق، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ. فاليقين يأتي بعد الشك والتكذيب، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ. حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ، وهو يقين كشفي لا تاريخي، يقين ذاتي باطني وليس يقينًا موضوعيًّا تاريخيًّا، وهو اليقين الذي دافع عنه الصوفية في مقابل اليقين التاريخي عند الفقهاء. وهناك التمييز بين علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين كما فعل الصوفية. أولًا علم اليقين هو الوحي الصادق المنقول نقلًا صحيحًا، كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ. لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ. ثانيًا حق اليقين هو يقين اليقين، ومعرفة أن هذا اليقين يقين، إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ، ومرة أخرى، وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ. ثالثًا عين اليقين هو يقين اليقين أي مشاهدة اليقين والتعرف عليه، ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ.

والظن في مقابل اليقين، درجة أدنى في المعرفة، معرفة احتمالية ترجيحية، مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا. الظن علم ينقصه البرهان اليقيني التاريخي أو الذاتي أو الكشفي. والعالم الحق يعترف بالفرق بين الظن واليقين، إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ.

ومع ذلك من حق الإنسان أن لا يوقن بالرغم من كل الآيات والشواهد الذاتية والموضوعية. فاليقين فعل حر، أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ. فاليقين طبيعي، وعدم اليقين طبيعي أيضًا. المهم أن ينحاز الإنسان للموقنين. ولا يتأثر بعدم الموقنين، فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ. ومهما كان دليلهم من آيات فإنهم لا يوقنون أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ. فعدم الإيقان عناد ومكابرة.

الظن ضروري للمعرفة الاحتمالية، وتعدد الافتراضات دون الترجيح بينها. واليقين ضروري للمعرفة البديهية. تحتاج المعرفة الإنسانية إلى الثوابت والمتغيرات كما تحتاج المعرفة الفقهية إلى الأصول والفروع. المهم ألَّا تطغى الثوابت على المتغيرات، ولا تبتلع الأصول والفروع حتى يبقى للزمان والتغير في حياة الناس مكان. فيعيشون عصرهم.

(٩) الصدق

الصدق والكذب مقولتان أخلاقيتان في سلوكنا اليومي، وعادتان شائعتان في حياتنا الأخلاقية. نتمنى الصدق، ونتحاشى الكذب قدر الإمكان. كلاهما واقع في حياتنا. نجاهد مع الصدق، ونجاهد ضد الكذب.

وقد ذُكر لفظ «الصدق» في القرآن مرات عديدة، مائة وخمسًا وخمسين مرة أي إنه موضوع رئيسي بستة معانٍ رئيسية:

  • الأول: وهو الأكثر شيوعًا، هو إمكانية الصدق وضرورة البرهنة عليه في صياغة، إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. مثل ادعاء وجود شهداء من دون الله، وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، وتمني الموت للحرص على الحياة مثل اليهود، فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، والشك في الوعد، وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، والتحدي بإحضار العذاب، إِلا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، واستبطاء الفتح، وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، والاستفتاح بالكتاب، فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، والإيمان، بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، والمطالبة بالبرهان، قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، وبالآية والدليل، قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، وبالعلم، نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، والإيمان بالكتب السابقة مثل التوراة، قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فالإيمان لا يكون إلا بدليل. والدعوى لا تكون إلا ببرهان، وما لا دليل عليه يجب نفيه كما قال المناطقة المسلمون.
  • والثاني: التصديق بالأنبياء السابقين، وبمراحل الوحي السابقة، فمحمد خاتم الأنبياء، والإسلام خاتم الرسالات حوالي عشرين مرة، وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ، وهو الكتاب المصدق لما معهم، وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ، وهو كتاب مبارك بلسان عربي مبين، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وما بين يديه هي التوراة. فالإنجيل مصدق للتوراة، والقرآن مصدق للتوراة والإنجيل، وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ، وهو تصديق الرسول للأنبياء السابقين، ولَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ. فالإيمان بالكتب المنزلة واحد، ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ. فلا يمكن الإيمان ببعض الكتب والكفر بالبعض الآخر، إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ.
  • والثالث: التصديق بالوعد القادم، وبالحياة بعد الموت، وبالحساب وبالجزاء، وبعالم قادم يسوده الحق والعدل إن امتنعا أن يتحققا في هذا العالم. فالصدق هنا يعني الواقع، إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ. وكان الرسول لا يعد إلا صدقًا، إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا. والواقع هو الحق، وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ.
  • والرابع: صدق الله والرسول. فالله صادق في أمره البشر اتباع ملة إبراهيم، قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا. والله صادق في حديثه، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا. والله صادق في وعده، وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ. ويحمد الناس صدق الوعد الإلهي، وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ، ووعد الله بالنجاة صدق، ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ، ووعد الله حمله الرسول، قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ، وهو وعد صادق. وإذا كانت رؤية للرسول فهي صادقة، لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ. فما وعد به الله يصدق به الرسل ثم يصدق به المؤمنون، هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ. فالله يبعث الحق ويصدق به المرسلون، بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ. ثم يصدق به المتقون، وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.
  • والخامس: الصدق كفعل بشري، اتفاق القول والفعل، وهو مضاد للكذب، افَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ. فالصادق هنا هو اللسان، وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا، وهو لسان صدق في الدنيا والآخرة، وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ.
  • والسادس: الصدق كاتفاق الفعل مع الإيمان. ولما كان الإيمان فعلًا فهو اتفاق الفعل مع الفعل، أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ. وهم النخبة الذين يتجاوزون درجة المؤمنين إلى درجة الصادقين، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ. وهم الذين لهم قدم صدق، وتبوءُوا مبوأ صدق، ودخلوا مدخل صدق. وهم الذين يبلغون درجة صدِّيق، يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ مثل يوسف وإبراهيم وإدريس، وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا، وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا. والصدِّيقون كالشهداء والصالحين. ومريم كانت صدِّيقة، وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ.

إن سبب غياب الصدق هو الخوف أو المصلحة. وكلاهما ليسا من صفات المؤمنين.

(١٠) الكذب

والكذب في لغة الحياة اليومية قرين الصدق وعلى النقيض منه. وبلغة الأخلاق الصدق فضيلة والكذب رذيلة. وقد ذُكر لفظ «الكذب»» في القرآن مائتين واثنتين وثمانين مرة، أي حوالي مرة ونصف من الصدق. فالتعريف سلبًا أهم من التعريف إيجابًا. تعريف الصدق بنفي الكذب، وتعريف الكذب بنفي الصدق. وقد استُعمل اللفظ في القرآن بستة معانٍ، حسب الأهمية على النحو الآتي:
  • الأول: تكذيب الآيات وهي أدلة وبراهين حسية على صدق الله ورسله ووعده ووعيده، وهو أيضًا افتراء الكذب على الله، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ. والتكذيب بآيات الله صد وافتراء وظلم، وهو نتيجة للاستكبار، بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ. وقد يؤدي الاستكبار ليس فقط إلى الكذب بل أيضًا إلى القتل، اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ. والتكذيب نوع من الجهل وعدم الإحاطة، حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا، وهو نتيجة للصمم والعمى، وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ في الظُّلُمَاتِ، واتباع للأهواء، وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا، وهو نوع من الغفلة، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ، وهو ظلم للنفس، سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ، وهو خسارة مع الظلم، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ. وقد أتت آية فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ في صيغة استفهام استنكاري أكثر من ثلاثين مرة. والآية ظاهرة طبيعية للرؤية أو قول قرآني للتلاوة، أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ، أو تذكر قوانين التاريخ وشواهده، فَسِيرُوا في الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ. التكذيب نوع من اللعب وعدم الجدية، فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ هُمْ في خَوْضٍ يَلْعَبُونَ.
  • والثاني: يكون التكذيب أيضًا للرسل وقد جاءُوا بالصدق، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ. وتكذيب الرسول هو تكذيب لله لأن ما جاء به الرسول من الله، وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ. ولا يؤثر تكذيب الرسل في نصرتهم، حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا. وتكذيب الرسول عادة عند كل الأقوام، وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. ولا يوجد رسول إلا وكذَّبه قومه، إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ. والعقاب وعيد، كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ. وقد كذب كل من قوم نوح وعاد وثمود ولوط وأصحاب الرس وقوم شعيب، فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ.
  • والثالث: تكذيب الوعد ولقاء الله وما أتى به من كتب والساعة، بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ، وهو تكذيب بالحق، فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ، وهو تكذيب بلقاء الله، قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ، وهو التكذيب بما لا يُرى.
  • والرابع: التكذيب نقيض الرؤية بالفؤاد، مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى. فاليقين يقين داخلي. والرؤية انقلاب للنظرة من الخارج إلى الداخل عن طريق الاستبطان. التصديق تطابق الرؤية مع الموضوع في النفس وليس تطابق النظر مع الموضوع في الخارج نظرًا لخداع الحواس.
  • والخامس: الكذب كذب على النفس، وانقسام النفس قسمين، رؤية صادقة وتكذيب بها باللسان، انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وهو ظلم للنفس، سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ. والتكذيب اعتداء على النفس وعلى الآخرين، وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ. والتكذيب بالدين إنكار لحقوق اليتيم، أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ. فالكذب فعل اللسان، وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى. والكذب يدحضه البرهان، إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ.
  • والسادس: عقاب المكذبين في الجحيم، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ. يعذبون فيها، وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ، ومن أصحاب النار، وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ. ولا تفتح لهم أبواب السماء، إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ. وتتكرر آية، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أكثر من عشر مرات للتأكيد على العاقبة والعقاب في الآخرة وفي الدنيا أيضًا. يعاقبون في الدنيا بالغرق وقطع الدابر لأن الكذب يؤدي إلى العمى. التكذيب إحباط للأعمال. والمكذبون يهلكون بذنوبهم، كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ. ويدمرون تدميرًا، فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا. نتيجة التكذيب الهلاك، فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ، تأخذهم الرجفة، فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا في دَارِهِمْ جَاثِمِينَ. ويجدون جهنم، هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ.

التكذيب إنكار للواقع وللتاريخ وللمستقبل. الواقع هو الحاضر، والتاريخ هو الماضي، والمستقبل ما يقع للإنسان بعد الموت. التكذيب ليس فقط فعلًا أخلاقيًّا، بل هو أيضًا فعل معرفي، وموقف تاريخي ومخاطرة ومجازفة بالنسبة للمستقبل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤