الفصل الحادي والعشرون

وليس من اليسير أن نقطع برأي في عدد الجيشين اللذين التقيا بصفين واقتتلا قتالًا طويلًا منكرًا لم يُرَ مثله قط في الإسلام؛ أي لم يُرَ مثله قط بين المسلمين، فقوم يبلغون بجيش عليٍّ مائة ألف، ويبلغون بجيش معاوية سبعين ألفًا، وقوم ينزلون بهذين الرقمين إلى أقل من ذلك. وليس من اليسير كذلك أن نحصي عدد القتلى من أولئك وهؤلاء، وقد زعم قوم أن القتلى من أهل الشام بلغوا خمسة وأربعين ألفًا، وأن القتلى من أهل العراق بلغوا خمسة وعشرين ألفًا.

وليس المهم الآن أن نحصي الجيشين إحصاء دقيقًا، ولا أن نحصي القتلى منهما إحصاء دقيقًا، وإنما المهم هو أن نلاحظ أن الخصمين قد تأهبا كأحسن ما تكون الأهبة وأقواها، واضطرهما ذلك إلى أن يكشفا ثغورهما المحاذية للعدو قليلًا أو كثيرًا. وآية ذلك أن الروم طمعوا في الشام وهموا بغزوها، لولا أن معاوية وادعهم وصانعهم واشترى كفهم عنه بالمال، ولم تكن بإزاء ثغور العراق في الشرق دولة قوية منظمة كدولة الروم، ولكن كثيرًا من مدن الفرس تنكَّر للمسلمين وهمَّ بالثورة لولا ما كان من رجوع علي إلى الكوفة وتكلفه ضبط هذه الثغور، وإذا طال القتال بين جيشين عظيمين واشتد، وبلغ من القبح والشناعة ما صوره المؤرخون وأصحاب القصص، كثر القتلى والجرحى من الفريقين، وإن بالغ القصاص بعد ذلك في عدد أولئك وهؤلاء.

والشيء الذي لا شك فيه هو أن جماعة من خيار المسلمين وأعلامهم من أهل العراق وأهل الشام قد قُتِلوا في هذه الحرب، وكان قتلهم مروعًا لمن شهده ولمن سمع الحديث بذكره بعد انقضاء الحرب، وما زال مروعًا للذين يقرءونه الآن في كتب القصص والتاريخ.

فقد قُتِل من أصحاب معاوية عبيد الله بن عمر بن الخطاب، قاتل الهرمزان، كما قُتِل جماعة من خيار أصحابه وأعظمهم شجاعة ونجدة وبأسًا، وقُتِل من أصحاب علي: عمار بن ياسر، وما زال قتله من الأحاديث المأثورة بين المسلمين؛ فهو ابن أول شهيدين في الإسلام، فتن أبو جهل أباه ياسرًا وأمه سمية حتى قتلهما كما هو معروف، وهو الذي قال له النبي: «ويحك يا ابن سمية! تقتلك الفئة الباغية.» وقد أشفق الزبير — كما رأيت — من حرب علي حين عرف أن عمارًا معه، وكان خزيمة بن ثابت الأنصاري يتبع عليًّا في صفين ولكنه لا يقاتل، وإنما يتحرى أمر عمار، فلما عرف أنه قد قُتِل قال: الآن استبانت الضلالة. ثم قاتل حتى قُتِل، رأى أن أهل الشام قد قتلوا عمارًا فعرف أنهم الفئة الباغية التي ذكرها النبي في حديثه ذاك، ووقع قتل عمار من معاوية وأصحابه وقعًا أليمًا مروعًا، لم يشكوا في أن النبي قال له: تقتلك الفئة الباغية، وإنما حاولوا أن يخفوا علمهم بهذا الحديث، فلما لم يجدوا إلى ذلك سبيلًا تأولوه، وقال معاوية: أنحن قتلناه؟! إنما قتله الذين جاءوا به.

ولم يجئ أحد بعمار إلى صفين، لم يستكرهه علي على الحرب ولا على الخروج معه، وإنما كان عمار شيخًا قد نيف على التسعين، شاخ جسمه ولكن قلبه وعقله وبصيرته ظلت بمأمن من الشيخوخة، فكان شابَّ الحديث، وكان شاب المناظرة، وكان شاب الجهاد. وهو الذي سلم على عائشة بعد وقعة الجمل، ثم قال لها: كيف رأيت ضرابنا يا أمه؟ قالت: لستُ لك بأم ولست لي بابن. قال متضاحكًا: بل أنت أمي وأنا ابنك وإن كرهت. يريد أن القرآن قد نزل بأن أزواج النبي أمهات المؤمنين، فلن تستطيع عائشة أن تغيِّر ما نزل به القرآن، وكان عمار أشد أصحاب علي تحريضًا على الحرب. وكان يحارب يومًا تجاه عمرو بن العاص، وهو يرتجز:

نحن ضربناكم على تنزيله
واليوم نضربكم على تأويله
ضربًا يُزيل الهام عن مقيله
ويُذهل الخليل عن خليله
أو يرجع الحق إلى سبيله

وكان يقول لأصحابه يومئذ مشيرًا إلى راية عمرو: والله لقد قاتلت صاحب هذه الراية مع رسول الله ثلاث مرات، وهذه الرابعة، وما هي بأبرِّهن. وكان يقول لأصحابه حين رأى بعض انكشافهم: والله لو ضربونا حتى يبلغونا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق وأنهم على الباطل.

ويُقال إنه استسقى قبل أن يُقدِم على الموقعة التي قُتِل فيها، فجاءوه بشيء من لبن، فلما رآه كبر وقال: أنبأني رسول الله أن آخر زادي من الدنيا ضيح من لبن. ثم شربه واندفع إلى الموقعة وهو يدعو أصحابه: مَن رائح إلى الجنة؟ الجنة تحت البوارق، الماء مورود اليوم، غدًا ألقى الأحبة؛ محمدًا وحزبه.

وكان صاحب الراية في الكتيبة التي كان أمرها إلى عمار هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وكان من فرسان قريش وأخيارهم وأحبهم لعلي وأنصحهم له، وكان أعور، فكان عمار يدفعه إلى التقدم عنيفًا به مرة فيقول: تقدم يا أعور؛ ورفيقًا به مرة أخرى فيقول: أقدم فداك أبي وأمي. وكان هاشم بن عتبة يهدئ عمارًا ويقول له: مهلًا أبا اليقظان، إنك رجل تستخفك الحرب، وإني إنما أزحف زحفًا ولعلي أبلغ ما أريد، وكان ابن عتبة مع ذلك يقاتل، وهو يرتجز:

أعور يبغي نفسه محلَّا
قد أكثر القول وما أقلَّا
وعالج الحياة حتى ملَّا
لا بد أن يَفل أو يُفلَّا
أشلهم بذي الكعوب شلَّا

وما زال عمار يدفعه وهو يتقدم حتى قُتِلا جميعًا.

وقُتِل من أصحاب علي جماعة كثيرة من قراء الناس وصلحائهم، كانوا يقاتلون على بصائرهم، وكان الناس يرون منهم ذلك فيتأثرونهم ويفعلون فعلهم.

ولم يكن مَن قُتِل من أصحاب معاوية أقل أخطارًا في أهل الشام ممن قُتِل من أصحاب علي في أهل العراق، كان كثير من أولئك وهؤلاء يرون القتال دينًا ويتقربون به إلى الله، يذكر أهل العراق مكان علي من النبي وقول النبي لأصحابه: «ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟» فلما قالوا له: بلى، أخذ بيد علي وقال: «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه.» ويذكرون كذلك قول الله في القرآن الكريم: النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ثم يذكرون قول الله عز وجل: قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ.

فهم كانوا يرون أنهم حين يقاتلون مع علي كأنهم يقاتلون مع النبي نفسه جهادًا في سبيل الله، فليس الغريب إذن أن يطلبوا الشهادة ويتهالكوا عليها، وإنما الغريب أن يحجموا أو يدبروا أو يترددوا، وكان أصحاب معاوية يرون أن بيعة عثمان في أعناقهم وأن الذين قتلوه قد أحدثوا في الإسلام حدثًا خطيرًا، واستحلوا من دمه ما حرم الله، واستحلوا من الإمامة ما لا يحل للمسلمين أن يفرطوا فيه، فضلًا عن أن ينتهكوا حرمته.

وكان معاوية وأصحابه قد ألقوا في روع كثير من أهل الشام أن عليًّا يحول بينهم وبين إقامة حد خطير من حدود الله وهو القصاص، فكان كثير منهم إذن يقاتل لا غضبًا لمعاوية ولكن غضبًا للدين الذي انتُهكت حرمته وعُطِّلت حدوده، ولم يقم علي في تقويم ما اعوج من أمره وإصلاح ما فسد من سيرة الناس فيه، فإذا أُضيفت إلى هذا كله أمور أخرى لا ترجع إلى الدين ولا تتصل به، وإنما ترجع إلى العصبية العربية التي أخمدها عمر حينًا، والتي شغلت عن نفسها بحرب العدو من الفرس والروم، ثم فرغت لنفسها منذ شبت نار الفتنة فعادت إلى حالها في الجاهلية الأولى، وجعلت كثيرًا من العرب يذكرون قديمهم ويريدون أن يكون حديثهم ملائمًا له، واندفعوا فيما كانوا قد نُهُوا عنه من التفاخر والتكاثر والاعتداد بالنفس، وترجع كذلك إلى طلب الدنيا والحرص على متاعها وأعراضها، أقول: إذا أضفت هذا إلى الدوافع الدينية التي كانت تدفع القوم إلى القتال العنيف البشع، لم تنكر من شناعة هذه الحرب شيئًا.

غلب على قوم دينهم فقاتلوا لنصره كما يقاتل المؤمنون الصادقون، وغلبت على قوم دنياهم فقاتلوا لاحتيازها كما يقاتل الطامعون الجامحون، وخلت في أثناء هذا كله الثغور أو كادت تخلو، فطمع أعداء المسلمين فيما لم يكن لهم أن يطمعوا فيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤