الفصل السادس والعشرون

واجتمع الحكمان في دومة الجندل أو في أذْرح، أو في دومة الجندل أولًا ثم في أذرح بعد ذلك، على اختلاف في ذلك كثير، ولكنهما اجتمعا وشهدهما أربعمائة من أصحاب علي، فيهم عبد الله بن عباس، وأربعمائة من أصحاب معاوية، وبعض المؤرخين يزعم أن معاوية كان من أصحابه، أو كان منهم غير بعيد.

ودعا الحكمان إلى شهود أمرهما جماعةً من الذين اعتزلوا الفتنة منذ أولها فيهم عبد الله بن عمر، ومن الذين اعتزلوا الفتنة بأخرة فلم يشهدوا صفين كعبد الله بن الزبير، ودعوا سعد بن أبي وقاص فلم يستجب لهم على كثرة ما ألح عليه أحد أبنائه، ودعوا سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل فلم يستجب لهم أيضًا.

ثم أخذ الحكمان في أمرهما، ولم تكن مفاوضتهما على ملأ من الناس، وإنما كان كل واحد منهما يخلو إلى صاحبه فيديران الأمر بينهما، والغريب أن مقامهما في مكان التحكيم قد طال، وتفاوضهما في أمره قد كثر. ولكن المؤرخين لا يروون من ذلك إلا أطرافًا مقتضبة فيها كثير من التناقض والاختلاف، وليس لذلك مصدر إلا أن الوثيقة التي جعلت إليهما الحكم في القضية كانت غامضة غير مبينة، وقد استيقن الحكمان فيما يظهر أنهما مفوضان في أن يتناظرا في كل ما اختلف الناس فيه، ثم يقضيان بعد ذلك برأي عدل ملائم لما في كتاب الله ولما في السنة الجامعة غير المفرقة، فاتفقا أولًا على أن عثمان قُتِل مظلومًا، وعلى أن معاوية هو ولي دمه، فمن حقه إذن أن يطالب بالقصاص من قاتليه، ولكن إلى من ينبغي أن يطلب معاوية هذا القصاص؟ أيطلبه من علي، وهو يتهمه في التأليب على عثمان والتخذيل عنه؟ أم يأخذه بنفسه؟ فإذن فهي الحرب التي أمر الحكمان ألا يردا المسلمين إليها، وإذن فلا بد من اختيار إمام يرضاه الناس ويستطيع معاوية أن يطلب إليه إنفاذ قول الله عز وجل: وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا.

ويقول المؤرخون إن عمرو بن العاص اقترح أن يكون هذا الإمام معاوية نفسه، وما أكاد أصدق هذا، فما أرى أن عمرًا كان يستطيع بعد أن أثبت أن معاوية هو ولي عثمان أن يختاره للخلافة ليطلب إلى نفسه إنفاذ أمر الله، ولينفذه بعد ذلك فيُقِيد من قتلة عثمان ويكون خصمًا وحكمًا.

وقد يقال: لو قُبِل اقتراح عمرو ذاك وأصبح معاوية إمامًا لتنحى عن المطالبة بدم الخليفة المظلوم لأبناء عثمان أنفسهم، ولكن قوة معاوية إنما كانت تأتيه من النهوض في أمر عثمان، فلو قد تنحى عنه لما استطاع أحد أن يفهم لماذا صار إمامًا، ولم يكن في ذلك الوقت خير الأحياء من أصحاب النبي، فقد كان منهم نفرٌ هُم أعظم منه فضلًا وسابقة، وأحسن منه بلاء وأقرب منه مكانًا من رسول الله.

كان هناك سعد بن أبي وقاص من أصحاب الشورى، ومن العشرة الذين شهد لهم رسول الله بالجنة، وكان هناك سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أحد أولئك العشرة أيضًا، ثم كان هناك عبد الله بن عمر، الطيب ابن الطيب، كما كان أبو موسى يقول.

أنا إذن أستبعد أن يكون عمرو قد رشح معاوية، ومهما يكن من شيء فالذين يروون هذا الترشيح يروون كذلك أن أبا موسى قد رفضه، وفضل عليه عليًّا لسابقته وبلائه ومكانه من النبي. ويقال كذلك إن أبا موسى جاء باقتراح معارض لاقتراح عمرو، فذكر الطيب ابن الطيب عبد الله بن عمر، ورأى أن في استخلافه إحياء لذكرى عمر، ولكن عمرًا رفض هذا الاقتراح؛ لأن عبد الله لم يكن صاحب بأس ولا بطش ولا قوة على النهوض بهذا الأمر. وأكبر الظن أن عمرًا ذكَّر أبا موسى بأن عمر نفسه قد أحضر ابنه الشورى ولم يجعل له من الأمر شيئًا، وبأن رأي عمر في ابنه معروف، وقد كان يقول: إنه لا يحسن يطلق امرأته.

ويتزيد الرواة من أهل العراق فيزعمون أن عمرًا لقي عبد الله بن عمر وخلا إليه وعرض عليه الخلافة إن أعطاه مصر، فأبى عبد الله أن يشتري الخلافة بالرشوة ويعطي الدنية من دينه.

وما أرى إلا أن هذا غلو دُفِع إليه الذين أبغضوا عمرًا من أهل العراق، والشيء المحقق هو أن الحكمين لم يتفقا على رجل يرشحانه للخلافة، فاتفقا عن اقتراح أبي موسى أو عن اقتراح عمرو على أن يخلعا من هذا الأمر عليًّا ومعاوية جميعًا، وأن يتركا للأمة أمرها شورى بينها تختار له من تشاء، ثم لم يضعا نظامًا لهذه الشورى ولا شيئًا يشبه النظام، ولم يقدِّرا أن الأمة ستختلف حين تستقبل أمرها، فينحاز أهل العراق إلى علي وينحاز أهل الشام إلى معاوية، ويتبع أولئك وهؤلاء مَن مَال إليهم من المسلمين. وربما نهض أهل الحجاز فاختاروا سعد بن أبي وقاص، أو سعيد بن زيد، أو عبد الله بن عمر، أو غيرهم من أصحاب النبي من المهاجرين. لم يفكرا في شيء من ذلك ولم يحتاطا له، وإنما اكتفيا بما انتهيا إليه من خلع الرجلين ورد سلطان الأمة إليها.

وهنا تأتي المشكلة الخطيرة التي اتفق المؤرخون عليها، لم يكد يشذ منهم أحد، فقد ظهر الحكمان للناس وأعلنا أنهما قد اتفقا على ما فيه الرضى للمسلمين، ثم قدم عمرو أبا موسى ليبدأ بإعلان ما اتفقا عليه، وكان عمرو — فيما يقال — يظهر دائمًا تقديم أبي موسى وإكباره؛ لسبقه إلى صحبة النبي ولسنِّه أيضًا. ويقال كذلك إن ابن عباس أشفق من خداع عمرو، فأشار على أبي موسى أن يتأخر، حتى إذا تكلم عمرو استطاع هو أن يتكلم بعده، ولكن أبا موسى لم يسمع لابن عباس، وإنما قام فحمد الله وأثنى عليه ثم أعلن أنهما قد اتفقا على خلع علي ومعاوية ورد الأمر شورى بين المسلمين، وأمر الناس أن يستقبلوا أمرهم ويختاروا لخلافتهم من يرضون.

ثم قام عمرو فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن هذا قد خلع صاحبه وأنا أخلعه مثله، ولكني أثبت صاحبي. فقال له أبو موسى: ما لك، لا وفقك الله؟! غدرت وفجرت، إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث. وقال له عمرو: إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارًا.

وماج القوم، فأقبل شريح بن هانئ رئيس الوفد من أصحاب علي فقنع عمرًا بسوطه، وقام محمد بن عمرو فقنع شريحًا بسوطه، وأقبل الناس فحجزوا بينهما، وانطلق أبو موسى فركب راحلته ورمى بها مكة، وعاد أهل الشام إلى معاوية فسلموا عليه بإمرة المؤمنين.

وإذن فقد غدر عمرو غدرةً منكرة، إن صح ما كاد المؤرخون أن يجمعوا عليه، اتفق مع أبي موسى على خلع الرجلين ثم لم يخلع منهما إلا واحدًا، جار إذن عن العهد الذي أعطاه على نفسه في الصحيفة، فسقط حكمه وسقط حكم صاحبه أيضًا.

وتفرق القوم على غير شيء كأنهم لم يجتمعوا، وكان الظافر في هذا كله معاوية، فقد رُفِعت الحرب عن أصحابه وأتيح له أن يريحهم وأن يستعد لاستقبال أمره أشد قوة وأمضى عزمًا وأعظم بأسًا، وورط أصحاب علي في الخلاف والفرقة، واضطرهم إلى الفتنة وجعل بأسهم بينهم شديدًا.

ومن المؤرخين من زعم أن عمرًا لم يبلغ بكيده إلى هذه المنزلة من الغدر، وإنما اكتفى بخلع الرجلين كما خلعهما أبو موسى، فسوى بين علي ومعاوية، وكان هذا ظفرًا عظيمًا.

ولكن هذه الرواية الشاذة لا تستقيم، فلو قد قال عمرو كما قال أبو موسى: إنهما اتفقا على خلع الرجلين جميعًا، لما عاد أهل الشام مسلِّمين على معاوية بالخلافة، وفيهم عمرو نفسه. ولما قبل كثير من أهل العراق إمرة علي بعد أن خلعه الحكمان اللذان ارتضاهما وأعطاهما العهد على نفسه بأن ينفذا حكمهما، ولكان من الطبيعي أن يضطرب الأمر أشد الاضطراب في مكة والمدينة، فهؤلاء قوم أعطوا على أنفسهم عهدًا ليسمعن لحكم الحكمين إن لم يجورا، ثم هم ينقضون ما أعطوا من العهد ويسيرون سيرة جاهلية، فكيف يرضى عن ذلك من اعتزل الناس من أخيار الصحابة ومن بايعوا عليًّا من خيارهم أيضًا؟!

وليس لهذه الرواية معنى إلا أنها تتهم الأمة كلها بإيثار المنفعة الخاصة واتباع الهوى والمخالفة عن أمر الله عز وجل حين قال: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ۚ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ ۚ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ ۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ.

وليس من المعقول أن تجتمع الأمة كلها على نقض العهد وإيثار الضلالة على الهدى، والغدر على الوفاء، ولكن أحد الحكمين — وهو عمرو — خدع صاحبه وهو أبو موسى، ولم يكن أبو موسى مغفلًا كما قال المؤرخون، ولو كان مغفلًا لما اختاره عمر لولاية الأمصار، ولما اختاره أهل الكوفة لولاية مصرهم حين ظهرت الفتنة واشتدت أيام عثمان، ولكنه كان رجلًا تقيًّا ورعًا سمح النفس، رضي الخلق، يظن أن المسلمين — ولا سيما الذين صحبوا النبي منهم خاصة — أرفع مكانة في أنفسهم وفي دينهم من أن ينزلوا إلى الغدر، فأخلف ظنه عمرو، ولا أكثر من ذلك ولا أقل، وهو من أجل ذلك فرَّ بدينه إلى مكة، فاعتزل فيها مجاورًا نادمًا على أنه لم يسمع لابن عباس. وعاد الوفد من أهل العراق إلى عليٍّ فنبأوه بما كان، ولعل النبأ كان قد سبقهم إليه في الكوفة، فلم يدهش لذلك كأنه كان يتوقعه، وإنما ذكر تحذيره لأصحابه في صفين حين رفعوا المصاحف، فقال لهم: «إن القوم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن.»

وقد حَنِقَ الصالحون من أهل الكوفة على هذا الغدر وأصحابه وجعلوا يستعدون للقتال، وأخفى الماكرون من طلاب الدنيا مكرهم وجعلوا يظهرون الاستعداد للحرب كغيرهم من الناس، ولكن الخوارج حالوا بين علي وبين أن ينهض بأصحابه إلى الشام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤