الفصل الثامن والعشرون

وترك علي أصحابه أيامًا ليريحوا ويستريحوا ويستعدوا، كما زعم له رؤساؤهم في النهروان، فلما ظن أنهم قد بلغوا من ذلك ما أرادوا دعاهم إلى الخروج وحثهم عليه وحرضهم على الجهاد، ولكنهم سمعوا له ثم لم يصنعوا شيئًا، فأمهلهم أيامًا ثم خطبهم كالمستيئس من نصرهم، فقال: «يا عباد الله، ما بالكم إذا أُمرتم أن تنفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة بدلًا، وبالذل والهوان من العز والكرامة خلقًا؟! أفكلما دعوتكم إلى الجهاد دارت أعينكم في رءوسكم كأنكم من الموت في سكرة وكأن قلوبكم قاسية، فأنتم أُسود الشرى عند الدعة، وحين تنادون للبأس ثعالب رواغة، تُنتقَص أطرافهم فلا تخاشون، ولا ينام عدوكم عنكم وأنتم في غفلة ساهون، إن لكم علي حقًّا: فالنصيحة لكم ما نصحتم، وتوفير فيئكم عليكم، وأن أعلمكم كيلا تجهلوا، وأؤدبكم كيما تعلموا، وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصح في المغيب والمشهد، والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم.»

على أن خطبته هذه بلغت أسماع أصحابه دون أن تتجاوزها إلى قلوبهم، فانصرفوا عنه ولم يصنعوا شيئًا، لم ينفروا للحرب ولم يتأهبوا لها، بل لم يُظهروا ميلًا إلى التأهب فضلًا عن أن يُظهروا الميل إلى النفير، وإنما قَروا في مَصرِهم وأقبلوا على حياتهم وادعين يدبرون أمورهم في أمن وفراغ بال، كأنهم لم يهموا بغزو الشام وكأنهم لم يستأذنوا عليًّا في العودة إلى مصرهم، ليكون استعدادهم للحرب أتم وتأهبهم لها أشد وأمضى، وليس من شك في أن لهذه الظاهرة أسبابها المختلفة وعللها المتباينة.

وقد أشرنا إلى بعض ذلك حين ذكرنا كآبة المنتصرين يوم النهروان، وما اندس إلى قلوبهم من الحزن على من قُتِل في ذلك اليوم من الخصم والولي جميعًا، فقد كان أولئك وهؤلاء أبناءهم وإخوانهم وصديقهم وذوي عصبتهم، فإذا أضفنا إلى ذلك أن عليًّا منذ نهض بأمر الخلافة لم يدفع جيوش المسلمين من أصحابه إلا إلى هذه الحرب الوبيلة، التي تقطع الأرحام وتُوهي العُرى وتفسد الصلات التي يجب أن تُرعى، حرب الآباء للأبناء وحرب الإخوان للإخوان وحرب الصديق للصديق والولي للولي، أقول: إذا أضفنا هذا كله عرفنا أن أهل العراق معذورون إن شاع الملل في نفوسهم وكرهوا هذا الصراع الذي لا يعقبهم إلا حسرة وحزنًا، وليس على الإمام في ذلك لوم، وما ينبغي أن يلومه فيه لائم، فقد كان يؤمن أشد الإيمان وأنقاه بأن على المسلمين أن ينصروا الحق مهما يكلفهم ذلك من جهد، ومهما يجر عليهم ذلك من خَطْب، ومهما يدفعهم ذلك إلى المكروه.

وكان أصحابه يرون ذلك كما كان يراه، يؤمنون به على أنه الدين؛ ولذلك بذلوا نفوسهم ودماءهم يوم الجمل، وبذلوها في صفين، وكانوا يهمون ببذلها مرة أخرى، قد نهضوا لذلك ومضوا إليه ولكنهم اضطروا إلى النهروان ليحموا ظهورهم وليؤمنوا من وراءهم وما وراءهم من الأهل والمال، فلم يجنوا في النهروان إلا شرًّا، أضافوا دماء إلى دماء وحزنًا إلى حزن وحسرات إلى حسرات، وهم بعد ذلك قد ألفوا منذ أيام أبي بكر وعمر جيوشًا أُرصِدت للفتح، وعُبِّئت لبسط سلطان الإسلام، واستعدت لقتال العدو من غير المسلمين، وقد امتُحِنوا بقتال المسلمين مرات فلم يروا إلا شرًّا. وهم ينظرون فيرون الفتح قد وقف، وسلطان الدولة قد أخذ يضطرب في الثغور؛ طمع الروم في الشام وهموا بالغزو فلم يتقهم معاوية إلا بالمال، وجعلت الثغور الشرقية تضطرب على عمال علي نفسه، فلا يكاد يردها إلى الطاعة إلا بعد الجهد أي الجهد، والعناء أي العناء.

وهم يرون بعد هذا كله قومًا من خيار أصحاب النبي قد اعتزلوا الفتنة واجتنبوا الحرب، وكرهوا أن يقاتلوا أهل القبلة، وأن ينصبوا الحرب لقوم يقولون: «لا إله إلا الله» ويشهدون بنبوة محمد ، ومنهم من كسر سيفه؛ لأن سيوف المسلمين قد أُرصِدت لقتال العدو لا لقتال الصديق.

وليس كل الناس من اليقين وقوة الإيمان ومضاء العزم وتصميم الرأي بحيث كان علي رضي الله عنه، فليس غريبًا إذن أن يجتمع هذا كله على هؤلاء الناس فيثير في نفوسهم الحزن، ويشيع في قلوبهم الشك، ويقر في ضمائرهم هذا الندم الغامض الذي يدفع أصحابه إلى الحيرة، والذي يفل الحد ويثبط الهمم.

هذا كله إلى أن أصحاب علي في العراق كانوا يجدون في السلم والأمن راحة مغرية ودعة مطمعة، فهم قارون في أمصارهم يُوفَّر عليهم فيئهم في غير حرب، وقد سن فيهم علي سنة لم يألفوها من قبل، أشار بها على عمر فلم يستجب له، فكان طبيعيًّا أن ينفذها حين يصير السلطان إليه، فقد أشار علي على عمر حين استشار الناس في هذا المال الكثير، الذي أخذ يُحمَل إليه من الثغور، بأن يقسم كل ما يُحمَل إليه من هذا المال على الناس حتى لا يبقى منه في بيت المال شيء، فلم يقبل عمر هذا الرأي وإنما قبل رأي الذين أشاروا عليه بتدوين الديوان وفرض الأعطيات للناس.

فلما صار الأمر إلى علي جعل يقسم ما يأتي من المال إثر وصوله على الناس، بعد أن يحتجز منه ما ينبغي أن يُنفَق منه في المرافق العامة، ولم يكن علي يكره شيئًا كما كان يكره الادخار في بيت المال، كان يتحرج من ذلك أشد التحرج، حتى روي أنه كان يحب بين حين وحين أن يأمر فيُكنَس بيت المال ويُرَش، ثم يأتي فيصلي فيه ركعتين. كان يكره أن يلم به الموت فجأة ويترك في بيت المال شيئًا لم يردده إلى أصحابه، فكان يقسم على الناس الفاكهة حين تُحمَل إليه الفاكهة قَلَّت أو كثرت، وكان يقسم عليهم العسل والزيت وأشباه العسل والزيت، حتى قسم عليهم ذات يوم إبرًا وخيطًا، فقد كان السلم إذن محببًا إلى هؤلاء الناس الذين كان يحمل إليهم فيء الثغور وخراج ما فتح على المسلمين من أرض المشرق، فلا يكاد يبلغ المصر حتى يصير في أيديهم قليلًا كان أو كثيرًا.

كان هذا السلم محببًا إليهم، وكان على كل حال أحب إليهم من هذه الحرب العقيم التي لا غنم فيها، وفيها الغرم كل الغرم، وفيها بعد ذلك قتل الولي والصديق.

وكذلك مضى أصحاب علي في إيثار الراحة والدعة والنكوص عن الحرب كلما دُعوا إليها.

ثم جاء مكر معاوية فأضاف مالًا إلى مال، وثراء إلى ثراء، وزاد السلم حبًّا إلى سَراتهم ورؤسائهم؛ فقد اتصلت كتب معاوية إلى هؤلاء السراة والرؤساء تحمل إليهم الوعود والأماني، وتقدم بين يدي الوعود والأماني العطايا والصلات، يعجل من ذلك بما يرغب في عاجله، وما يغري قليله المعجل بكثيره الموعود، حتى اشترى ضمائر هؤلاء السراة والرؤساء وأفسدهم على إمامهم، وجعلهم بالقياس إليه منافقين، يعطونه الطاعة بأطراف ألسنتهم، ويطوون قلوبهم على المعصية والخذلان، ويذيعون ذلك فيمن وراءهم من الناس.

لم يكن علي يستبيح لنفسه مكرًا ولا كيدًا ولا دهاء، كان يؤثر الدين الخالص على هذا كله، وكان يحتمل الحق مهما تثقل مئونته، لا يعطي في غير موضع للعطاء، ولا يشتري الطاعة بالمال، ولا يحب أن يقيم أمر المسلمين على الرشوة، ولو شاء علي لَمكَر وكاد، ولكنه آثر دينه وأبى إلا أن يمضي في طريقه إلى مثله العليا من الصراحة والحق والإخلاص والنصح لله والمسلمين، عن رضى واستقامة لا عن كيد والتواء.

وقد جعل يدعو الناس بين حين وحين، يرفق بهم كثيرًا ويعنف عليهم أحيانًا، حتى قال لهم ذات يوم: «أيها الناس المجتمعة أبدانهم المختلفة قلوبهم وأهواؤهم، ما عزَّت دعوة مَن دعاكم، ولا استراح قلب مَن قاساكم، كلامكم يوهي الصم الصلاب، وفعلكم يطمع فيكم عدوكم، إذا دعوتكم إلى الجهاد قلتم كيت كيت، وذيت ذيت، أعاليل بأباطيل، وسألتموني التأخير، فعل ذي الدين المطول حيدي حياد، لا يدفع الضيم الذليل، ولا يدرك الحق إلا بالجد والعزم واستشعار الصبر، أي دار بعد داركم تمنعون؟ ومع أي إمام بعدي تقاتلون؟ المغرور والله من غررتموه، ومن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب، أصبحت لا أطمع في نصركم ولا أصدق قولكم، فرق الله بيني وبينكم، أبدلني بكم من هو خير لي منكم، أما إنكم ستلقون بعدي ذلًّا شاملًا، وسيفًا قاطعًا، وأثرة يتخذها الظالم فيكم سنة، فيفرق جماعتكم، ويُبكي عيونكم، ويدخل الفقر بيوتكم، وتتمنون عن قليل أنكم رأيتموني فنصرتموني، فستعلمون حق ما أقول، ولا يبعد الله إلا من ظلم.»

ولكنهم سمعوا منه وتفرقوا عنه ولم يصنعوا شيئًا حتى أيأسوه من أنفسهم، وحتى روى بعض الرواة عمن رآه، وقد رفع المصحف حتى وضعه على رأسه، ثم قال: «اللهم إني سألتهم ما فيه فمنعوني ذلك، اللهم إني قد مللتهم وملوني، وأبغضتهم وأبغضوني، وحملوني على غير خلقي وعلى أخلاق لم تكن تُعرف لي، فأبدِلني بهم خيرًا لي منهم، وأبدلهم بي شرًّا مني، ومِث قلوبهم ميث الملح في الماء.»

وقد كانت حياة علي بعد النهروان محنة متصلة، محنة شاقة إلى أقصى حدود المشقة، كان يرى الحق واضحًا مضيئًا صريحًا له كما تضيء الشمس، وكان يرى في أصحابه من القوة والبأس ومن العدد والعدة ما يمكنه من بلوغ هذا الحق وإعلاء كلمته، ولكنه كان يرى أصحابه قاعدين عن حقهم متخاذلين عن نصره، يُدعَون فلا يجيبون، ويؤمَرون فلا يطيعون، ويوعَظون فلا يتعظون، قد أحبوا الحياة وكرهوا الموت، وآثروا العافية وضاقوا بالحرب، واستلذوا الراحة وسئموا التعب، حتى أخذ معاوية ينتقص أطرافهم في العراق ويُغير على الأقاليم خارج العراق، وعلي يدعو فلا يُجاب، ويأمر فلا يُطاع، ويقول فلا يسمع له إلا قليلٌ من أصحابه لا يكادون يُغنون عنه شيئًا.

وقد كان يرى أنه أحق الناس بالخلافة منذ وفاة النبي، ولكنه صبر حين صُرِفت عنه إلى الخلفاء الذين سبقوه، فلما جاءته الخلافة لم تجئه صفوًا ولا عفوًا، وإنما جاءته بعد فتنة منكرة وكلفته وكلفت أصحابه معه أهوالًا ثقالًا، ثم أسلمته بعد ذلك إلى هذا الموقف البغيض إلى كل نفس أبية، وإلى كل مؤمن صادق الإيمان، موقف الإمام الذي لا يُطاع، والذي يريد الحق فلا يبلغه، لا لضعف فيه ولا لقلة في أصحابه ولا لوهن في أداته، بل لأن أصحابه لا يريدون أن يطيعوه ولا أن ينصروه، بعد أن جربوا الطاعة والحرب، فلم يجنوا منهما إلا تقطيع الأرحام وقتل الصديق واحتمال المشقة والتعرض للهلكة في غير غنيمة، فآثروا الدعة واطمأنوا إليها، ثم لم يؤثروا الدعة وحدها وإنما فرغوا لأنواع الجدال العقيم، ينفقون فيه أوقاتهم وجهودهم، حتى جاءه نفر منهم ذات يوم يسألونه عن رأيه في أبي بكر رضي الله عنه، يسألونه عن ذلك وقد جاءته من إحدى نواحيه أنباء ثقال ملأت قلبه حزنًا وغيظًا، فقال لهم محزونًا: «أَوَقدْ فرغتم لذلك، وهذه مصر قد فتحها أهل الشام وقتلوا واليها محمد بن أبي بكر؟»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤