الفصل التاسع والثلاثون

ليس من شك في أن عليًّا قد أخفق في بسط خلافته على أقطار الأرض الإسلامية، ثم هو لم يخفق وحده وإنما أخفق معه نظام الخلافة كله، وظهر أن هذه الدولة الجديدة التي كان يرجى أن تكون نموذجًا للون جديد من ألوان الحكم والسياسة والنظام لم تستطع آخر الأمر إلا أن تسلك طريق الدول من قبلها، فيقوم الحكم فيها على مثل ما كان يقوم عليه من قبل من الأَثَرة والاستعلاء ونظام الطبقات الذي تستذل فيه الكثرة الضخمة، لا من شعب واحد بل من شعوب كثيرة، لقلة قليلة من الناس، عسى أن تكون من شعب بعينه بين هذه الشعوب، وهو الشعب الذي استقر أمر الحكم فيه، بل لم يخفق علي ونظام الخلافة وحدهما، وإنما أخفقت معهما الثورة التي قامت أيام عثمان لتحفظ، فيما كان أصحابها يقولون، على الخلافة الإسلامية إسماحها وصلاحها ونقاءها من شوائب الأثرة والعبث والطغيان والفساد.

فأولئك الثائرون إنما ثاروا — فيما كانوا يزعمون — لأن عثمان لم يحسن سياسة أموالهم ومرافقهم، عجز عن هذه السياسة، على أحسن تقدير، فركب بنو أمية رقاب الناس، وعبث العمال بالولايات والفيء، وأسرف الخليفة في بيت المال يؤثر به ذوي رحمه والمقربين إليه من سائر الناس، فهم كانوا يريدون أن يردوا أمر الخلافة إلى مثل ما كان عليه أيام الشيخين بحيث يتحقق العدل وتُمحَى الأثَرة، ولا تُوضع أموال الناس إلا في مواضعها، ولا تُنفق إلا على مرافقهم، ولا تؤخذ إلا بحقها.

ولكن زعماءهم وقادتهم قُتلوا في سبيل هذه الثورة قبل أن يُتموا تثبيتها: قُتِل حكيم بن جبلة في البصرة قبل أن تقع موقعة الجمل، وقُتِل زميله البصري حرقوص بن زهير في النهروان، وقُتِل محمد بن أبي بكر وكنانة بن بشر في مصر، ومحمد بن أبي حذيفة في الشام، ومات الأشتر مسمومًا في طريقه إلى مصر، وقُتِل عمار بن ياسر بصفين.

فهؤلاء زعماء الثورة، منهم من قُتِل قبل أن تشب الحروب على علي، ومنهم من قُتِل أثناء هذه الحروب، ومنهم من خالف إمامه ثم قُتِل أثناء الخروج عليه، ومنهم من قتله معاوية وأصحابه جهرةً أو سرًّا.

وواضح أن الذين ثاروا بعثمان حتى حصروه وقتلوه لم يُقتَلوا عن آخرهم، وإنما بقي منهم خلف كانوا أتباعًا لأولئك الزعماء الذين ذكرنا قَتْلَهم، والمهم أن قادة الثورة قد ماتوا من دونها، وأن الثورة قد فقدت بموتهم عقولها المفكرة المدبرة، فأدرك سائر أصحابها الفشل والتخاذل والتواكل، وألقوا بأيديهم وآثروا العافية، وكانت الظروف التي أرادوا أن يقاوموها بثورتهم أقوى من أن تُقاوَم.

ولكن كلمة الظروف هذه غامضة تحتاج إلى شيء من الوضوح، وأول هذه الظروف وأجدرها بالعناية والتفكير: الاقتصاد، فقد كان نظام الخلافة — كما تصوَّره الشيخان — يسيرًا سمحًا لا عسر فيه، أخص ما يوصف به أنه لا يستطيع أن يستقرَّ ولا أن يستقيم إلا إذا آمن به أشد الإيمان وأعمقه أولئك الذين أُقِيم لهم من المسلمين، والإيمان بهذا النظام يقتضي قبل كل شيء إيمانًا خالصًا بالدين الذي أنشأه، إيمانًا يتغلغل في أعماق القلوب، ويسيطر على دخائل الضمائر والنفوس، ويُسخِّر لسلطانه عقول الناس حين تفكر، وأجسامهم حين تعمل، وألسنتهم حين تقول، إيمانًا لا يقبل شركة مهما يكن لونها، إيمانًا بالله لا شريك له من الآلهة والأنداد، وإيمانًا بالدين لا شريك له من المنافع والأهواء، وهذا النوع من الإيمان، إن تحقق للكثرة من أصحاب النبي، فإنه لم يخْلُص من بعض الشوائب، لا بالقياس إلى الذين أسلموا بأخرة، ولا بالقياس إلى الذين كان النبي يتألَّفهم بالمال، ولا بالقياس إلى كثير من الأعراب الذين قال الله فيهم: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ.

وكان النبي يعرف المنافقين من أهل المدينة ومن غيرهم، يدله الوحي عليهم وينبئه الله بأمرهم، وربما أنبأه الله بأن منهم قومًا لا يعلمهم هو وإنما يستأثر الله وحده بعلمهم، فلما قُبِض النبي انقطعت أو كادت تنقطع وسائل العلم بهؤلاء المنافقين، فكان المؤمنون المخلصون كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، كما قال النبي، كانوا قلة قليلة، وليس أدل على ذلك من ارتداد العرب بعد وفاة النبي، وجهاد أبي بكر وأصحابه حتى ردوهم إلى الطاعة بعد تلك الخطوب الكثيرة التي نعرفها، ثم تجاوز الإسلام بلاد العرب وبسط سلطانه على ما فتح من الأرض أيام الشيخين وأيام عثمان، فكثر الذين خضعوا لهذا السلطان غير مؤمنين به ولا مخلصين له، وإنما الخوف وحده قوام ما كانوا يبذلون من طاعة.

وكذلك كان الفتح مصدر قوة ومصدر ضعف للدولة الجديدة في وقت واحد، كان مصدر قوة؛ لأنه بسط سلطانها ومد ظلها على أقطار كثيرة من الأرض، وكان مصدر ضعف لأنه أخضع لها كثرة من الناس لا يؤمنون بها وإنما يخافون منها ويرهبون سطوتها، وكان مصدر قوة لأنه جبى لها كثيرًا من المال الذي لم يكن يخطر لها على بال، وكان مصدر ضعف لأن هذا المال أيقظ منافع كانت نائمة، ونبه مآرب كانت غافلة، ولفت إليه نفوسًا كانت لا تفكر إلا في الدين، ثم خلق حاجات لم تكن معروفة ولا مألوفة، أظهر للعرب فنونًا من الترف وخفض العيش فأغراهم بها ودعاهم إليها، ثم عودهم إياها، ثم أخذهم بها أخذًا، إلا قلة قليلة جدًّا استأثر الدين بها من دون الدنيا، وشغلها التفكير في الله عن التفكير في المال والمنافع والحاجات.

وقد لقي عمر العناء كل العناء في سياسته للعرب أيام خلافته، ثم لم يشقَ وحده بهذا العناء الذي لقيه، وإنما شقي به العرب كلهم، ضاقوا بسياسته ضيقًا شديدًا، شق عليهم العدل الذي يسوي بين القوي والضعيف، وشق عليهم الشظف الذي كان يريد أن يمسكهم فيه ويضطرهم إليه، فلما مات سُرِّي عنهم وابتسموا للدنيا وابتسمت الدنيا لهم، ولكن هذا الابتسام لم يتصل إلا ريثما استحال إلى عبوس عابس وشر عظيم، فالابتسام للمال يغري بالاستزادة منه، والاستزادة منه تفتح أبوابًا من الطمع لا سبيل إلى إغلاقها، وإذا وُجِد الطمع وُجِد معه زميله البغي، ووُجِد معه زميل آخر هو التنافس، ووُجِد معه زميل ثالث هو التباغض والتهالك على الدنيا. وإذا وُجِدت كل هذه الخصال وُجِد معها الحسد الذي يحرق قلوب الذين لم يُتَح لهم من الثراء ما أتيح لأصحاب الثراء، وإذا وُجِد الحسد حاول الحاسدون إرضاءه على حساب المحسودين، وحاول المحسودون حماية أنفسهم، وكان الشر بين أولئك وهؤلاء، وهذا كله هو الذي حدث أيام عثمان، وهو الذي دفع أهل الأمصار إلى أن يثوروا بعمالهم، ثم إلى أن يثوروا بخليفتهم، ثم إلى أن يحصروه ويقتلوه.

وقد هم علي أن يرد العرب إلى مثل ما كانوا عليه أيام عمر، ولكن أيام عمر كانت قد انقضت ولم يكن من الممكن أن تعود.

ملك المالُ قلوبَ أصحاب المال فقاتلوا عليه في العراق وقاتلوا عليه في الشام، وانتصر علي في العراق ولكنه انتصار لم يكد يتم حتى نسيه المغلوبون والغالبون جميعًا، فما أسرع ما ذكر أهل البصرة عثمانيتهم بعد الجمل! وعثمانيتهم هذه ليس معناها حب عثمان والطلب بدمه فحسب، وإنما معناها أوسع من ذلك وأشمل، معناها هذا النظام الذي عرفوه فألفوه، نظام الطمع والجشع والتنافس في المال والتهالك عليه، والضيق بتلك الحياة التي فرضها عمر على العرب والتي كان علي يريد أن يعود إلى فرضها عليهم.

وقد شكا ابن عباس أهل البصرة إلى علي أنهم بعد خروجه عنهم إثر وقعة الجمل عادوا إلى شيء من الاضطراب لم يرضه منهم ابن عباس، لم يرَ منهم ما كان ينتظر أن يرى من الانقياد والطاعة السمحة، فكتب إليه علي هذا الكتاب الذي إن دل على شيء فإنما يدل على أن عليًّا قد فهمهم حق فهمهم، وأراد أن يستصلحهم ما وجد إلى ذلك سبيلًا:

أتاني كتابك تذكر ما رأيت من أهل البصرة بعد خروجي عنهم، وإنما هم مقيمون لرغبة يرجونها أو عقوبة يخافونها، فأرغِب راغبهم واحلل عقدة الخوف عن راهبهم بالعدل والإنصاف له إن شاء الله.

هم مقيمون على رغبة يرجونها أو عقوبة يخافونها، هذا حق ليس فيه شك، ولكن الدواء الذي اقترحه علي لم يكن ميسورًا، فهو أراد أن يُرَغب الراغب ويحل عقدة الخوف عن الخائف، ولكنه أراد أن يكون هذا كله في حدود العدل والإنصاف.

والعدل لا يرغب راغبًا وإن حل عقدة الخوف عن الخائف، وليس أدل على ذلك من أن عبد الله بن عباس لم يبلغ ما أراد عليٌّ من السياسة، وإنما أراد أن يرغب الراغبين فرَغِب معهم، فلما شكاه أبو الأسود إلى علي ولامه علي فيما فعل، حمل ما قَدر عليه من بيت المال وفر به إلى مكة فأقام فيها بماله الكثير، وهَمَّ أهل البصرة أن يستجيبوا لمعاوية وأن يثوروا بزياد، لولا أن عليًّا زاد عقدة الخوف عليهم تعقيدًا، فأرسل إليهم جارية بن قدامة الذي حرق فريقًا منهم بالنار تحريقًا.

ثم لم يكن المنتصرون مع علي يوم الجمل خيرًا من المغلوبين، طمعوا في مال أهل البصرة بعد أن انتصروا عليهم، فلما ردهم علي عن ذلك جمجموا، وقال قائلهم: يبيح لنا دماءهم ثم لا يبيح لنا أموالهم!

ثم ذهب أهل الكوفة مع علي إلى صفين فقاتلوا وكادوا ينتصرون، ولكن المال أفسد على أشرافهم ورؤسائهم أمرهم كله، فكان رفع المصاحف وكان إكراه علي على قبول التحكيم.

ومنذ ذلك اليوم ظهر أن الثورة قد أخفقت، وظهر أن عليًّا لن يبلغ من إحياء سيرة عمر ما كان يريد، ثم لم يكن علي وحده هو الذي ظهر إخفاقه، فهذا أبو موسى الأشعري الذي اختاره أهل اليمن حكمًا على غير رضًى من إمامهم تبين في وضوح واضح أنه كان يرى رأيًا مخالفًا أشد الخلاف لرأي الذين اختاروه، كان يريد أن يبايع للطيب ابن الطيب عبد الله بن عمر ليحيي اسم عمر وسيرته، ولم يكن أهل اليمن يريدون عمر ولا ابنه ولا أحدًا من الذين يشبهونهما، وإلا ففيمَ كانت خيانة علي وفيمَ كان استكراهه على ما لا يريد؟!

ثم تبين أن أهل الحجاز لم يكونوا خيرًا من أهل البصرة والكوفة، فكثيرٌ منهم كانوا يتسللون إلى الشام إيثارًا لدنيا معاوية، حتى شكا أمير المدينة سهل بن حنيف إلى علي من ذلك، فعزاه علي عن هؤلاء المتسللين كما رأيت.

وليس من شك في أن كثيرًا من أهل مكة كانوا يفعلون فعل نظرائهم من أهل المدينة، بل ليس من شك في أن كثيرًا من الذين كانوا يقيمون في الحرمين ويؤثرون البقاء في الحجاز على الذهاب إلى الشام كانوا يتلقون من معاوية هداياه ومنحه، لا يرون بذلك بأسًا ولا يجدون فيه حرجًا.

والغريب أنَّا نستعرض ما روى البلاذري لنا من كتب علي إلى عماله على المشرق، فلا نرى من هذه الكتب كلها إلا كتابين اثنين يُثني فيهما عليٌّ على عاملين اثنين ثناء لا تَحَفُّظ فيه، وقد روينا لك أحد هذين الكتابين إلى عمر بن أبي سلمة حين عزله عن البحرين، فأما كتابه الثاني فقد أرسله إلى سعد بن معوذ الثقفي عامله على المدائن وهو:

أما بعد، فقد وفرت على المسلمين فيئهم، وأطعت ربك ونصحت إمامك، فِعل المتنزه العفيف، فقد حمدت أمرك ورضيت هديك وأبنت رشدك، غفر الله لك، والسلام.

فأما سائر كتبه إلى أولئك العمال، ففي بعضها التأنيب والتوبيخ، وفي بعضها العتاب والتخويف، وفي بعضها الآخر الوعظ والتأديب، وقد علمت ما كان من مصقلة بن هبيرة ومن المنذر بن الجارود، أحدهما يلتوي بالمال حتى يفر إلى الشام، والثاني يلتوي بالمال حتى يحبس فيه، وليس أمر ابن عباس منك ببعيد.

بل لم يكن كل الذين اعتزلوا الفتنة بمأمن من هذه النكسة التي أصابت المسلمين بعد الفتح حين كثر عليهم المال، فإذا كان سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة قد فروا بدينهم من الفتنة فلم يدخلوا في حرب مع أحد الفريقين الخصمين، وصمموا على عزلتهم كما أرادوها خالصة لله ودينه، فقد كان المغيرة بن شعبة مثلًا معتدلًا، يؤثر العافية في الطائف، ولكنه كان ضيقًا بهذه العافية، وكان يتحرق شوقًا إلى العمل، ولعله لم يكن يضيق بشيء كما كان يضيق بما أتيح لعمرو بن العاص من نُجح، على حين ظل هو يعلك لجامه كالجواد القارح الذي حِيلَ بينه وبين النشاط.

وكان أبو هريرة يقيم في المدينة ولا يكره أن تناله النافلة من مال معاوية بين حين وحين، وقد نشط المغيرة بن شعبة في أمر معاوية بعد أن صار إليه الأمر كله، على حين احتفظ الشيخان سعد وابن عمر بعزلتهما الوادعة.

ولم يكن أهل الحرمين يحبون القتال بعد ما بلوا من الأحداث، فكانوا وادعين يقبلون ما يساق إليهم من خير مهما يكن مصدره، ويبايعون لصاحب السلطان والبأس، كانوا على طاعة علي، ثم بايع أهل المدينة لمعاوية حين أخافهم بسر بن أرطاة، فأما أهل مكة فأجابوا بسرًا في غير ما خوف ولا رهب؛ لأن معاوية أوصاه بهم خيرًا، فلما ألَمَّ بهم قائد علي بعد أن طرد بسرًا، بايع أهل مكة لمن بايع له أهل الكوفة، دون أن يتبينوا من هو، وبايع أهل المدينة لمن بايع له أهل الكوفة، بعد أن عرفوا أنه الحسن بن علي.

كل شيء إذن كان يدل على أن سلطان الدين على النفوس لم يكن من القوة في المنزلة التي كان فيها أيام عمر، وعلى أن سلطان المال والسيف كان قد استأثر بالقلوب والنفوس، وكل شيء يدل على أن عليًّا والذين ذهبوا مذهبه من المحافظة على سيرة النبي والشيخين إنما كانوا يعيشون في آخر الزمان الذي غلب الدين فيه على كل شيء.

فقل إذن في غير تردد: إن أول الظروف التي كانت تقتضي أن يخفق علي في سياسته هو ضعف سلطان الدين على نفوس المحْدَثين من المسلمين، وتغلب سلطان الدنيا على هذه النفوس.

وكان العرب إلى أيام عمر لا يعرفون من شئون غيرهم إلا قليلًا، يحمل إليهم التجار منهم — حين يعودون بتجارتهم — أخبارًا مختلطة عن الفرس والروم والحبشة، وعن الشام ومصر والعراق خاصة، وينقل إليهم الوافدون عليهم من التجار الأجانب والمجلوبون لهم من الرقيق أخبارًا عن هذه البلاد، لعلها كانت في نفوسهم واضحة، ولكنها كانت لا تكاد تنتقل إلى نفوس العرب حتى تختلط ويشوبها كثير من الإبهام والغموض، حتى كان علم العرب بشئون هذه البلاد أقرب إلى الأعاجيب وأنباء الأساطير منه إلى الحقائق الصحيحة والوقائع الصادقة.

فلما كان الفتح رأت جيوش المسلمين الكثير من حقائق هذه البلاد، ثم استقرت فيها واستقر المستعمرون من العرب فيها كذلك، فعرفوا هذه البلاد معرفة صحيحة، وبلوا من أمورها وأمور أهلها أشياء لم يكونوا يحققونها، وقد أخذهم شيء من الدهش أول الأمر لِما رأوا وما سمعوا، ولكنهم ألفوا هذه الأشياء وهؤلاء الناس، ثم جعلوا يختارون مما رأوا من الأخلاق والسير وضروب الحياة ما يستطيعون اختياره، مما يلائم أمزجتهم وطبائعهم وأذواقهم.

وجعلت نفوس تتغير تغيرًا بطيئًا أول الأمر، ولكنه جعل يسرع ويقوى كلما طالت إقامتهم في هذه الآفاق، وقد رأوا حضارةً راعتهم، وفنونًا من الترف سحرت عيونهم، وألوانًا من خفض العيش ورقته لم تكن تخطر لهم على بال، وقد تعلقت نفوس كثير منهم بهذه الطرائف التي رأوها، وتمنت ضمائرهم — شاعرةً بذلك أو غير شاعرة به — أن تأخذ من هذه الحياة أطرافًا، وأثر هذا كله في نظرها إلى الأشياء وحكمها عليها وتقديرها لقيم الحياة.

وقد بهرهم أول ما بهرهم جلال الملك الذي أزالوه في بلاد الفرس، والذي نقصوه من أطرافه في بلاد الروم، وقارن الأذكياء وأصحاب المطامع منهم بين ما أقبلوا عليه من ذلك وما تركوا وراءهم في المدينة أو في غيرها من حضر البلاد العربية وباديتها، فأكبروا هذا الجديد وصغر قديمهم في أنفسهم، واستحيا أكثرهم من إظهار ذلك، فتناجت به ضمائرهم، وهوت إليه قلوبهم، وجعلوا ينظرون إلى من وراءهم من أولئك الشيوخ أصحاب النبي في كثير من الإجلال والإكبار، ولكن في كثير من الرفق والرثاء أيضًا يُجِلُّونهم ويكبرونهم لمكانهم من النبي وسابقتهم في الدين ويرفقون بهم ويرثون لهم لأنهم يمثلون جيلًا قديمًا قد انقضت أيامه أو أوشكت أن تنقضي.

وكان الذين يعودون منهم إلى المدينة يلقون عمر فيتكلفون التجمل بسيرته ويحتالون في ألا يظهر على دقائق أمرهم وحقائقه، يلقونه مظهرين الشظف وغلظة الحياة وخشونة العيش ليرضى عنهم ويطمئن إليهم، فإذا خلوا إلى أنفسهم أو خلا بعضهم إلى بعض أخذوا بما ألفوا من لين الحياة، وأشفقوا على عمر من حياته الخشنة تلك، في كثير من الإكبار له والإعجاب به.

فلما كانت خلافة عثمان خفت عليهم مئونة هذا التكلف، فلم يكن عثمان يحب الشظف ولا خشونة العيش، فأظهروا من أمرهم ما كانوا يكتمون، ورقت الحياة في المدينة نفسها حتى دخلها الترف واستقر فيها، وحتى جعلت الدور والقصور ترتفع في المدينة وما حولها، وحتى جعل الشباب يقبلون على ألوان من اللعب لم يكن للعرب عهد بها من قبل، وحتى اضطر عثمان نفسه — على إسماحه وإيثاره للدعة — إلى أن يقاوم هذه الألوان من الفتنة المجلوبة التي جعلت تسلك سبيلها إلى النفوس.

ثم رأى العرب جماعةً من شيوخ الصحابة وأصحاب السابقة والمكانة يستكثرون من المال ويقبلون على شيء من اللين، فأقبلوا على ما أقبل عليه أئمتهم ومعلموهم، ثم جلب الفتح إلى الحجاز وإلى بلاد العرب عامةً أعدادًا ضخمة من الرقيق، على اختلاف أجناسهم وعلى اختلاف طبقاتهم، في حياتهم القديمة التي كانوا يحيونها في بلادهم قبل الفتح، فلم يترك هؤلاء الرقيق من الرجال والنساء أخلاقهم وطباعهم وأمزجتهم وراءهم عند حدود البلاد العربية، وإنما حملوها معهم وأظهروا سادتهم على كثير منها، ثم أغروا سادتهم بكثير منها، فلم يجدوا من سادتهم مقاومة ولا امتناعًا، وإنما وجدوا استجابة وإقبالًا، فافتنُّوا فيما أحب سادتهم من هذا كله.

ثم لم يكن هذا كله مقصورًا على الرقيق الذين حُملوا إلى الأرض العربية، وإنما كان شاملًا كذلك للرقيق الذين استقروا مع سادتهم في الأقطار المفتوحة، وكل هذا جَدد النفس العربية تجديدًا يوشك أن يكون تامًّا، وباعد بينها وبين الحياة الخشنة القديمة أشد المباعدة.

فلما قُتِل عثمان وأقبل الخليفة الرابع يريد أن يحملهم على الجادة، وأن يردهم إلى السيرة التي ألفها المسلمون أيام النبي والشيخين، لم ينشطوا لذلك ولم يطمئنوا إليه، وإنما نظروا فرأوا خليفة قديمًا يدبر جيلًا جديدًا، ويريد أن يدبره تدبيرًا ينافر أشد المنافرة ما أحب من حياة الخفض واللين.

ثم نظروا بعد ذلك فرأوا أميرًا آخر قد أقام في الشام، وقد جدد نفسه مع هذا الجيل الجديد، ثم لم يكتفِ بتجديد نفسه والملاءمة بينها وبين رعيته، إنما يُغري رعيته بالتجديد ويعينها عليه بالمال، ويحتج لذلك بما شاء الله من الحجج، فهو مقيم في بلاد مجاورة لبلاد الروم، وهو يريد أن يلقي في روع الروم أنه ليس أقل منهم أبهة ولا أهون منهم شأنًا ولا أرغب منهم عن طيبات الحياة، وأن أصحابه يشبهونه في ذلك، ثم هو يحارب هؤلاء الروم فينبغي أن يحاربهم بمثل أسلحتهم، ثم هو يحارب خصمه في العراق، فينبغي أن يكيد له ويغري به ويخذل عنه ويفرق الناس من حوله، كل الوسائل إلى ذلك مستحبة، بل مفروضة لا ينبغي أن يتردد في اتخاذها.

وكذلك جعل معاوية ينفق المال ويتألف الرجال ويكيد للذين يمتنعون عليه، وكل هذه الظروف مجتمعة كانت خليقةً أن تقر في نفس علي أنه غريب في العصر الذي يعيش فيه، وبين هذا الجيل الذي يريد أن يدبر أمره من الناس، وأن تلقي في روعه كذلك أنه يحاول أمرًا ليس إلى تحقيقه من سبيل.

هذا ابن عمه يخالف عنه إلى حيث يعيش ناعمًا رَضِيَّ البال بمكة، وهؤلاء العمال يستخفون بما يستأثرون به من المال إلا أقلهم، وهؤلاء الأشراف يتلقون المال من معاوية ويهيئون له الأمر في العراق، وهؤلاء العامة يؤثرون العافية على الحرب وما تجلب من البلاء والهول، وعلي بين هؤلاء جميعًا يدعو فلا يُجاب، ويأمر فلا يُطاع، حتى يفسد عليه رأيه، وحتى يمل قومه ويملوه، وحتى يسأل الله أن يبدله بهم خيرًا منهم وأن يبدلهم به شرًّا منه، وحتى يتعجل أشقى هذه الأمة الذي ألقى إليه أنه سيقتله، فيقول: ما يؤخر أشقاها؟ وحتى ينتظر القتل بين ساعة وأخرى فيكثر التمثل بهذا الشعر:

اشدد حيازيمك للموت
فإن الموت لاقيكا
ولا تجزع من الموت
إذا حل بواديكا

وحتى يقول أثناء وضوئه بين حين وحين: لتخضبن هذه من هذه، مشيرًا إلى لحيته وجبهته.

ولو قد أطاع علي ضميره الخفي لاستعفى أصحابه من بيعتهم، وأنفق ما بقي من أيامه يعبد الله وينتظر الآخرة، ولكن هيهات! قد آمنت نفسه بالحق، وبأن القعود عن نصره جبن ومعصية، وليس هو بالرجل الذي يسرع إليه اليأس أو يفشل عن حرب عدوه مهما تكن الظروف، ولذلك قال لأصحابه حين ضاق بتخاذلهم وعصيانهم: «لتنهضن معي لقتال أهل الشام أو لأمضين لقتالهم مع من يتبعني مهما يكن عددهم قليلًا.»

كانت ظروف الحياة الجديدة كلها إذن مواتية لمعاوية منافرة لعلي، ولكنها على ذلك لم تُضعف عليًّا عن الحق ولم تخرجه عن طوره في يوم من الأيام، فاحتفظ بمزاجه معتدلًا، وبسيرته مستقيمة في جميع أطواره وأيامه.

وكان بينه وبين معاوية اختلاف آخر يغري الناس به ويجمعهم لخصمه، كان يدبر أمور أصحابه عن ملأ منهم، لا يستبد من دونهم بشيء، وإنما يستشيرهم في الجليل والخطير من أمره، وكان يرى لهم الرأي فيأبونه ويمتنعون عليه ويضطرونه إلى أن ينفذ رأيهم هم ويحتفظ برأيه لنفسه، وكان ذلك يغريهم به ويطمعهم فيه.

ولم يكن معاوية يعطي أصحابه بعض هذا الذي كان يعطيهم علي، لم يكن يستشيرهم، وإنما كان له المشيرون من خاصته الأدنين، فكان إذا أمر أطاعه أهل الشام دون أن يجمجموا فضلًا عن أن يجادلوا، ثم كان معاوية يحتفظ بسره كله لا يظهر عليه إلا من أراد أن يظهره عليه من خاصته، وكانت أمور علي كلها تُدبَّر وتُبرَم على ملأ من الناس، لا تخفى على أصحابه من أمره خافية مهما يكن خطرها.

كان علي يدبر خلافة وكان معاوية يدبر ملكًا، وكان عصر الخلافة قد انقضى وكان عصر الملك قد أظلَّ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤