الفصل الثاني والأربعون

وكان الحسن رجلَ صدقٍ قد كره الفُرقة وآثر اجتماع الكلمة وخاض غمرات الفتنة، على كره منه في أكبر الظن، قاوم الفتنة ما وسعته مقاومتها أيام عثمان فلم يخض فيما خاض الناس فيه من حديثها، ولم يشارك في المعارضة حين عظم الشر، وكان من الذين أسرعوا إلى دار عثمان فقاموا دون الخليفة يريدون حمايته، ولكن الخليفة قُتل على رغم ذلك؛ لأن خصمه تسوروا عليه الدار، ولم يكن الحسن يرى أن يشترك أبوه في شيء من أمر الفتنة من قرب أو من بعد، وإنما أشار عليه أن يعتزل الناس وأن يترك المدينة فيقيم في ماله بينبع، فلم يسمع علي له، وإنما رأى أن مكانه في المدينة حيث يستطيع أن يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر أو يصلح بين الناس.

فلما قُتِل عثمان لم يرَ الحسن لأبيه أن يقيم في المدينة ولا أن يتعرض للبيعة ولا أن يقبلها وإن عُرضت عليه، ولو استطاع الحسن لاعتزل الفتنة اعتزالًا كما فعلت تلك المعتزلة من أصحاب النبي، ولكن عرف لأبيه حقه عليه، فأقام معه وشهد مشاهده كلها، على غير حب لذلك أو رغبة منه فيه.

ثم لم يكن الحسن يرى لأبيه أن يترك مهاجره في المدينة، وأن يرحل إلى العراق للقاء طلحة والزبير وعائشة، وإنما كان يؤثر له أن يبقى في مهاجره مجاورًا للنبي، ويكره له أن يذهب إلى دار غربة ويتعرض للموت بمضيعة، وكان أبوه يعصيه في كل ما كان يشير عليه من ذلك، حتى بكى الحسن ذات يوم حين رأى ركاب أبيه تؤم العراق، فقال له أبوه: إنك لتحن حنين الجارية.

ولم يفارق الحسن حزنه على عثمان، فكان عثمانيًّا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، إلا أنه لم يُسل سيفًا للثأر بعثمان؛ لأنه لم يرَ ذلك حقًّا له، وربما غلا في عثمانيته حتى قال لأبيه ذات يوم ما لا يحب.

فقد روى الرواة أن عليًّا مر بابنه الحسن وهو يتوضأ، فقال له: أسبغ الوضوء. فأجابه الحسن بهذه الكلمة المرة: «لقد قتلتم بالأمس رجلًا كان يُسبغ الوضوء.» فلم يزد علي على أن قال: لقد أطال الله حزنك على عثمان.

وقد شهد الحسن مع أبيه مشاهده في البصرة وصفين والنهروان، وأكاد أعتقد مع ذلك أنه وأخاه الحسين قد شهدا هذه الحروب دون أن يشاركا فيها، بل نحن نعلم أن أباهما كان يضن بهما على الخطر مخافة أن يصيبهما شر فتنقطع ذرية النبي ، كان يقيهما بنفسه وبأخيهما محمد ابن الحنفية، وكان يشتد على محمد هذا ويعنف به إن رأى منه في الحرب أناة أو تقصيرًا حتى كلَّمه في ذلك بعض أصحابه.

فقد كان علي إذن أشد الناس إيثارًا للحسن والحسين لمكانهما من النبي، وكان أصحابه يصنعون صنيعه في ذلك فيؤثرونهما بالخير والبر.

ويُروى أن رجلًا أهدى إلى الحسن والحسين وترك محمدًا فلم يهدِ إليه شيئًا، فلما رأى علي ذلك من الرجل وضع يده على كتف محمد، وتمثل:

وما شر الثلاثة أم عمرو
بصاحبك الذي لا تصبحينا

فذهب الرجل فأهدى إلى محمد كما أهدى إلى أخويه.

كان الحسن إذن كارهًا للفتنة منذ ثارت، وقد روى الثقات من أصحاب الحديث أن النبي أخذ الحسن وهو صبي فأجلسه إلى جانبه على المنبر، وجعل ينظر إليه مرة، وينظر إلى الناس مرة أخرى، يفعل ذلك مرارًا، ثم قال: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين كبيرتين من المسلمين.» فإذا صح هذا الحديث — وأكبر الظن أنه صحيح — فقد وقع هذا الحديث من نفس الصبي موقعًا أي موقع، وكأنه ذكره حين ثارت الفتنة، وكأنه حاول بمشورته على أبيه في مواطنه تلك التي ذكرتها آنفًا أن يصلح بين هاتين الفئتين من المسلمين فيحقق نبوة جده .

وكأن بكاءه حين بكى لم يكن رفقًا بأبيه وإشفاقًا عليه فحسب، وإنما كان إلى ذلك حزنًا لأنه لم يحقق ما توسم به جده فيه.

والمسلمون يختلفون كما حدثتك من قبل، فأما المؤرخون والمحدثون من أهل السنة فينبئوننا بأن عليًّا أبى أن يستخلف حين طُلب إليه ذلك بعد أن أصيب.

يقول قوم: إن الناس طلبوا إليه أن يستخلف الحسن، فقال: لا آمركم ولا أنهاكم. ويقول قوم آخرون: إن الناس طلبوا إليه أن يستخلف، فأبى وقال: أترككم كما ترككم رسول الله.

وأما الشيعة فيزعمون أن عليًّا استخلف الحسن نصًّا، ومهما يكن من شيء فلم يعرض الحسن نفسه على الناس، ولم يتعرض لبيعتهم، وإنما دعا إلى هذه البيعة قيس بن سعد بن عبادة، فبكى الناس واستجابوا وأخرج الحسن فأُجلس للبيعة، وطفق — كما يقول الزهري — يشترط على الناس أن يسمعوا ويطيعوا، ويحاربوا من حارب ويسالموا من سالم، فلما سمع الناس منه تكراره لأمر السلم ارتابوا وظنوا أنه يريد الصلح، وقال بعضهم لبعض: ليس هذا لكم بصاحب وإنما هو صاحب صلح.

وقد مكث الحسن بعد البيعة شهرين أو قريبًا من شهرين لا يذكر الحرب ولا يظهر استعدادًا لها، حتى ألح عليه قيس بن سعد وعبيد الله بن عباس، وكتب إليه عبد الله بن عباس من مكة يحرضه على الحرب، ويلح عليه في أن ينهض فيما كان ينهض فيه أبوه، فنهض للحرب وقدم بين يديه اثني عشر ألفًا من الجند، جعل عليهم قيس بن سعد، وجعل معه عبيد الله بن عباس. وقوم يقولون إنه جعل على هذا الجند ابن عمه، وأمره أن يستشير قيس بن سعد وسعيد بن قيس الهمداني ولا يخالف عن رأيهما.

فمضى الجند وخرج الحسن في إثرهم في عدد ضخم من أهل العراق، وكأنه خرج يظهر لهم الحرب ويدبر أمر الصلح فيما بينه وبين خاصته، حتى إذا بلغ المدائن تسامع الجيش ببعض ذلك؛ فاضطرب الناس وماج بعضهم في بعض، واقتحموا على الحسن فسطاطه وعنفوا به عنفًا شديدًا حتى انتهبوا متاعه، فخرج الحسن يريد المدائن، وطعنه رجل فلم يصب منه مقتلًا، يقول بعض المؤرخين: إن هذا الرجل كان من أصحابه. ويقول بعضهم الآخر: إنه كان من الخوارج، وأنه قال للحسن وهو يهم به: أشركتَ كما أشرك أبوك!

وقد أقام الحسن في المدائن حتى برئ من جرحه، وتعجل السلم في أثناء ذلك، ثم رجع إلى الكوفة فاستقبل فيها سفراء معاوية الذين أعطوه كل ما أراد، أعطوه الأمان له ولأصحابه كافةً، وأعطوه خمسة ملايين من الدراهم كانت في بيت المال بالكوفة، وأعطوه خراج كورتين من كور البصرة ما عاش.

وبينما كان الحسن يفاوض في الصلح كان عبيد الله بن عباس يتعجل السلم لنفسه ويترك جيشه إلى معاوية دون أن يستخلف عليه أحدًا، رشاه معاوية بالمال، فلم يستطع أن يعصي المال، وكذلك انحرف عبد الله بن عباس عن علي، وانحرف عبيد الله بن عباس عن الحسن، كلاهما ينحرف عن صاحبه في أشد الأوقات حرجًا وأعسرها عسرًا.

ونهض قيس بن سعد بأمر هذا الجند، حتى جاءه أمر الحسن بالدخول في طاعة معاوية، فأظهر الناس على ذلك وخيَّرهم بين أن يدخلوا فيما دخل فيه إمامهم أو يقاتلوا عدوهم على الحق بغير إمام، فاختاروا العافية، ووضعت الحرب أوزارها، وفُتِحت الطريق لمعاوية إلى الكوفة، فدخلها موفورًا، وبايع له الناس ولم يبايع قيس بن سعد إلا بعد خطوب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤