مقدمة

الموسيقى هو علم يبحث فيه عن أحوال النغم من جهة تأليفه اللذيذ والنافر — وعن أحوال الأزمة المتخللة بين النغمات من جهة الطول والقصر. فعلم أنه يتم بجزئين: الأول علم التأليف وهو اللحن — والثاني علم الإيقاع وهو المسمى أيضًا بالأصول.

(فالنغمات) جمع نغمة بالتحريك وهي (لغة) الصوت الساذج الخالي من الحروف — و(اصطلاحًا) الصوت المترنم به.

(واللحن) بالسكون (لغة) صوت من الأصوات المصوغة و(اصطلاحًا) ما ركب من نغمات بعضها يعلو أو يسفل عن بعض على نسب معلومة — (والنغم للحن كالأحرف للكلام) — ثم يرتب ترتيبًا موزونًا — أي أنه يصاغ على أحد الأوزان التي سنذكرها بعد. ويقرن بشيء من الشعر أو غيره من سائر الفنون السبعة التي هي — القريض — والدويت — والموالي — والموشح — والزجل — والقومة — وكان وكان. وهذا التعريف جامع مانع؛ حيث دخل فيه زيادة على الموشحات والأدوار البشراوات والبستات والقدود والشرقيات، إذ هي مقرونة بكلام موزون على لغة من ربطها ولحنها من الترك أو الفرس أو غيرهما، فهي من جملة الألحان وداخلة في التعريف — وخرج بقيد التركيب النغمات الفردة — وبقيد الترتيب الموزون المقامات أصولاً وفروعًا؛ لأن ترتيبها غير موزون، فلا يسمى شيء مما ذكر لحنًا.

والصوت هو ما يصدر عن كل حركة اهتزازية لجسم رنان تُحدث في الهواء ارتجاجًا يسير فيه إلى بعد ما. (وسنتكلم عن تولد الصوت وعن الأجهزة المعدة لعد الاهتزازات الصوتية في باب خاص به إن شاء الله).

والأصول هي عبارة عن موازين للألحان لعدم اختلالها واختلال المغنيين عندما ينشدون معًا حتى لا يسبق أحدهم الآخر ولا يتأخر عنه بل يكون مجموعهم كواحد.

وبما ذكر يكون الغناء.

وقد أجمعت الأمم من جميع الطبقات على حبِّ الألحان ولكن ذلك حسب عاداتهم واصطلاح بلادهم؛ لأنك تجد لكل أمة من الناس ألحانًا ونغمات يستلذونها ويفرحون بها، لا يستلذها غيرهم ولا يفرح بها سواهم؛ مثل غناء الروم والفرس والأتراك والعرب والأكراد والأرمن والسوريين والزنج وغيرهم من الأمم المختلفة الألسن والطباع والأخلاق والعادات — إلا بالتعود على سماعها أو بمعرفة مواقع الطرب في لحن كان.

ومن الدليل البيِّن أن لها تأثيرًا في النفوس كون الناس يستعملونها تارة عند الفرح واللذة والأعراس والولائم — وأخرى عند الحزن والغم والمصائب والمآتم — وطورًا في بيوت العبادة والأعياد — وآونة في الأسواق والمنازل وفي الأسفار والحضر وعند الراحة والتعب وفي مجلس الملوك ومنازل السوقة — ويستعملها الرجال والنساء والصبيان والمشايخ والعلماء والجهلاء والصناع والتجار وجميع طبقات الناس.

وهي من الأدوية المفيدة في علاج بعض الأمراض العصبية. قال الشيخ أبو المواهب في رسالته: حكي أنه كان رجل مقعد لا ينصب قامته، فلما سمع آلات الطرب قام ونصب قامته وارتاحت مفاصله.

وتفيد أيضًا لترويض الفكر بعد تعبه في المسائل المعضلة١ قال الراجز:
الفكر في المسائل الصعاب
يورث في القلوب داء رابي
دواؤه سماع صوت يحسن
وذاك في (المعاق) حكمٌ بيِّن

وقال الشيخ عبد الرءوف المناوي — رحمه الله تعالى —: ينبغي للطالب عند وقوف سنه — ترويحُه بنحو شعر أو (سماع) أو حكايات؛ فإن الفكر إذا أغلق ذهل عن تصور المعاني، وذلك لا يسلم منه أحد ولا يقدر إنسان على مكابدة ذهنه على الفهم، وغلبة قلبه على التصور؛ لأن القلب مع الإكراه أشد قبولاً، وأبعد نفورًا، وفي الأثر أن القلب إذا أُكرِه عمي ولكن يعمل على دفع ما طرأ عليه بترويحه بشعر أو نحوه من الأدب، فيستجيب له القلب مطيعًا، قال الشاعر:

وليس بمغنٍ في المودة شافعُ
إذا لم يكن بين الضلوع شفيع

وقيل: إن الملاذ التي عليها مدار الوجود أربعة: المأكل لعدم قيام البدن بدونه، والسماع لتعلقه بالروح وهي أشرف أجزاء الجسم، والنكاح لتعلقه بالنسل، والملبس لستر البدن، ولا يزاد في كل منها عن اللزوم، فإن زيد فيها عن ذلك حصل الإعياء، ما عدا السماع؛ فالزيادة لازمة فيه لغذاء الروح وراحة البدن وشفائه من الأسقام.

قال أفلاطون: من حزن فليستمع الأصوات الطيبة؛ فإن النفس إذا حزنت خمد منها نورها، فإذا سمعت ما يطربها اشتعل منها ما خمد.

وكان إسكندر ذو القرنين إذا وجد في نفسه ما يُعيي مزاجه من انقباض أو حدس؛ دعا تلميذه ليحضر له العود ويضرب عليه، فيزول عنه ما كان يجده.

وقال أفلاطون: إن هذا العلم لم تضعه الحكماء للتسلية واللهو، بل للمنافع الذاتية، ولذة الروح الروحانية وبسط النفس وترويق الدم، أما من ليس له دراية في ذلك، فيعتقد أنه ما وضع إلا للهو واللعب والترغيب في لذة شهوات الدنيا والغرور بأمانيها.

قال أحد الحكماء: إن الغناء فضيلة تعذر على المنطق إظهارها ولم يتعذر على النفس إخراجها بالعبارة، فأخرجتها النفس لحنًا موزونًا — فلما سمعتها الطبيعة استلذتها وفرحت وسُرَّت بها، فاسمعوا من النفس حديثها ومناجاتها، ودعوا الطبيعة والتأمل لزينتها؛ لئلا تغرنَّكم.

وقال آخر: احذروا عند سماع الموسيقى أن يثور بكم شهوات النفس البهيمية نحو زينة الطبيعة، فتميل بكم عن سنن الهدى، وتصدكم عن مناجاة النفس العليا.

وقال آخر: إن أصوات آلات الطرب ونغماتها — وإن كانت بسيطة — ليس لها حروف معجم، فإن النفوس إليها أشد ميلاً ولها أسرع قبولاً؛ لمشاكلة ما بينهما؛ وذلك أن النفوس أيضًا جواهر بسيطة روحانية ونغمات آلات الطرب كذلك، والأشكال إلى أشكالها أميل.

وقال آخر: نعم وإن كانت ليست بحيوان، فهي ناطقة فصيحة، تخبر عن أسرار النفوس وضمائر القلوب. ولكن كلامها أعجمي يحتاج إلى الترجمان٢.

وقال آخر: إن جوهر النفس لما كان مجانسًا ومشاكلاً للأعداد التأليفية، وكانت نغمات آلات الطرب موزونة وأزمان حركات نقراتها وسكونات ما بينها متناسبة، استلذتها الطباع، وفرحت بها الأرواح، وسُرّت بها النفوس؛ لما بينهما من المشاكلة والتناسب والمجانسة — وهكذا حكمها في استحسان الوجوه وزينة الطبيعيات؛ لأن محاسن الموجودات الطبيعية هي من أجل تناسب أصباغها، وحسن تأليف أجزائها.

وقال (العلامة ابن خلدون) في سبب اللذة الناشئة عن الغناء: إن اللذة هي إدراك الملائم — والمحسوس إنما تدرك منه كيفية، فإذا كانت مناسبة للمدرك وملائمة كانت ملذة وإذا كانت منافية له منافرة كانت مؤلمة تدرك منه كيفية، فإذا كانت مناسبة للمدرك، وملائمة كانت ملذة، وإذا كانت منافية له منافرة كانت مؤلمة، فالملائم من الطعوم ما ناسبت كيفيته حاسة الذوق في مزاجها، وكذا الملائم من الملبوسات — وفي الروائح ما ناسب مزاج الروح القلبي البخاري؛ لأنه المدرك وإله تؤديه الحاسة؛ ولهذا كانت الرياحين والأزهار والعطريات أحسن رائحة وأشدّ ملاءمة للروح؛ لغلبة الحرارة فيها التي هي مزاج الروح القلبي.

وأما المرئيات والمسموعات، فالملائم فيها تناسب الأوضاع في أشكالها وكيفياتها، فهو أنسب عند النفس وأشد ملاءمة لها، فإذا كان المرئي متناسبًا في أشكاله وتخاطيطه التي له بحسب مادته، بحيث لا يخرج عما تقتضيه مادته الخاصة من كمال المناسبة والوضع، وذلك هو معنى الكمال والحسن في كل مدرك — كان ذلك حينئذ مناسبًا للنفس المدركة فتلتذ بإدراك ملائمها — ولهذا نجد العاشقين المستهترين في المحبة يعبرون عن غاية محبتهم وعشقهم بامتزاج أرواحهم بروح المحبوب، وفي هذا سر تفهمه إن كنت من أهله، وهو اتخاذ المبدأ وإن كل ما سواك إذا نظرته وتأملته رأيت بينك وبينه اتحادًا في البداية يشهد لك به اتحادكما في الكون، ومعناه — من وجه آخر — أن الوجود يشرك بين الموجودات كما تقوله الحكماء، فتودّ أن تمتزج بما شاهدت فيه الكمال، لتتحد به، بل تروم النفس حينئذ الخروج عن الوهم إلى الحقيقة التي هي اتحاد المبدأ والكون.

ولما كان أنسب الأشياء على الإنسان وأقربها إلى أن يدرك الكمال في تناسب موضوعها هو شكله الإنساني، فكان إدراكه للجمال والحسن في تخاطيطه وأصواته من المدارك التي هي أقرب إلى فطرته، فيلهج كل إنسان بالحسن من المرئي أو المسموع بمقتضى الفطرة — والحسن في المسموع أن تكون الأصوات متناسبة لا متنافرة؛ وذلك أن الأصوات لها كيفيات من الهمس والجهر والرخاوة والشدة والقلقلة والضغط وغير ذلك، والتناسب فيها هو الذي يوجب لها الحسن؛ فأولاً: ألا يخرج من الصوت إلى حده دفعة، بل بتدريج، ثم يرجع كذلك، وهكذا إلى المثل — بل لا بد من توسط المغاير بين الصوتين — وتأمل هذا من افتتاح أهل اللسان التراكيب من الحروف المتنافرة أو المتقاربة المخارج، فإنه من بابه. وثانيًا: تناسبها في الأجزاء فيخرج من الصوت إلى نصفه أو إلى ثلثه أو جزء من كذا منه على حسب ما يكون التنقل مناسبًا على ما حصره أهل الصناعة — فإذا كانت الأصوات على تناسبٍ في الكيفيات كما ذكره أهل تلك الصناعة، كانت ملائمة ملذة — ومن هذا التناسب ما يكون بسيطًا، ويكون الكثير من الناس مطبوعًا عليه لا يحتاجون فيه إلى تعليم ولا صناعة، كما تجد المطبوعين على الموازين الشعرية وتوقيع الرقص وأمثال ذلك، وتسمي العامة هذه القابلية بالمضمار، وكثير من القراء بهذه المثابة يقرءون القرآن فيجيدون في تلاحين أصواتهم كأنها المزامير، فيطربون بحسن مساقهم وتناسب نغماتهم — ومن هذا التناسب ما يحدث بالتركيب، وليس كل الناس يستوي في معرفته، ولا كل الطباع توافق صاحبها في العمل به إذا علم، وهذا هو التلحين الذي يتكفل به علم الموسيقى.

وإن حسن الصوت مما أنعم الله به على صاحبه، فقال — عز وجل —: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ جاء في التفسير من ذلك الصوت الحسن. وذم الله — سبحانه — الصوت الفظيع٣ فقال: إِنَّ أَنكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ يدل مفهومه على مدح الصوت الحسن النقي.

وقد ورد في الحديث الشريف: (حسنوا القرآن بأصواتكم؛ فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنًا).

وعن أنس بن مالك (رضى الله عنه) قال — قال رسول الله (لكل شيء حلية، وحلية القرآن الصوت الحسن).

وقد أنكر مالك — رحمه الله تعالى — القراءة بالتلحين. وأجازها الشافعي — رضي الله تعالى عنه — وليس المراد بالتلحين تلحين الموسيقى الصناعي؛ فإنه لا ينبغي أن يختلف في حظره؛ إذ صناعة الغناء مباينة للقرآن بكل وجه؛ لأن القراءة والأداء تحتاج إلى مقدار من الصوت لتعيين أداء الحروف لا من حيث اتباع الحركات في موضعها ومقدار المد عند من يطلقه أو يقصره وأمثال ذلك — والتلحين أيضًا يتعين له مقدار من الصوت لا يتم إلا به من أجل التناسب الذي قلناه في حقيقة التلحين واعتبار أحدهما قد يُخلّ بالآخر إذا تعارضا، وتقديم الرواية متعين من تغيير الرواية المنقولة في القرآن، فلا يمكن اجتماع التلحين والأداء المعبر في القرآن بوجه، وإنما مرادُهم التلحين البسيط الذي يهتدي إليه صاحب المضمار بطبعه كما قدمناه فيردد أصواته ترديدًا على نسب يدركها العالِم بالغناء وغيره، ولا ينبغي ذلك بوجه كما قال مالك، هذا هو محل الخلاف٤ والظاهر تنزيه القرآن عن هذا كله كما ذهب إليه الإمام — رحمه الله تعالى؛ لأن القرآن محل خشوع بذكر الموت وما بعده، وليس مقام التلذذ بإدراك الحسن من الأصوات، وهكذا كانت قراءة الصحابة رضي الله عنهم كما في أخبارهم — وأما قوله : (لقد أوتي مزمارًا من مزامير آل داود) فليس المراد به الترديد والتلحين، إنما معناه حسن الصوت وأداء القراءة والإبانة في مخارج الحروف والنطق بها.

وقال ابن غانم المقدسي — رحمه الله — في كتابه (حل الرموز): إن كثيرًا من المتعمقين والمتقشفين كرهوا السماع وأنكروه أصلاً وفرعًا، وحقيقة وشرعًا، وهذا غلط منهم؛ لأن ذلك يفضي إلى تخطئة كثير من أولياء الله — تعالى — وتفسيق كثير من العلماء؛ إذ لا خلاف أنهم سمعوا الغناء وتواجدوا وأفضى بهم ذلك إلى الصراخ والغشية والصعق، فكيف ينسب إليهم نقصٌ وهم سالكون أتم الأحوال، وإنما يحتاج ذلك إلى تفصيل ونظر في أهل السماع واختلاف طبقاتهم — فمن صح فهمه وحسن قصده وصقلت الرياضة مرآة قلبه وجلت نسمات العزيمة قضاء سره فصفا من تصاعد الأكدار طبعه، ونجا من بشريته وخيالات وساوسه وعري عن حظوظ الشهوات، وتطهر من دنس الشبهات، فلا تقول إن سماعه حرام وفعله خطأ.

(محاورة فلسفية) اجتمع جماعة من الحكماء والفلاسفة في مجلس ملك من الملوك ففضل أثناء المحاورة أحدهم البصر على السمع بقوله: لا أنكر أن السمع والبصر هما من أفضل الحواس الخمس وأشرفها التي وهبه الباري جل ثناؤه للحيوان، ولكن أرى أن البصر أفضل؛ لأن البصر كالنهار والسمع كالليل — فقال أحدهم: لا بل السمع أفضل من البصر؛ لأن البصر يذهب في طلب محسوساته، ويخدمها حتى يدركها مثل العبيد — والسمع يحمل إليه محسوساته حتى تخدمه مثل الملوك.

وقال آخر: البصر لا يدرك محسوساته إلا على خط مستقيم — والسمع يدركها من محيط الدائرة.

وقال آخر: محسوسات البصر أكثرها جسمانية — ومحسوسات السمع كلها روحانية.

وقال آخر: النفس بطريق السمع تنال خبر من هو غائب عنها بالمكان والزمان — وبطريق البصر لا تنال إلا ما كان حاضرًا في الوقت.

وقال آخر: السمع أدق تمييزًا من البصر؛ إذ كان يعرف بجودة الذوق الكلام الموزون والنغمات المناسبة، والفرق بين الصحيح والمنزحف والخروج من استواء اللحن — والبصر يخطئ في أكثر مدركاته، فإنه ربما يرى الكبير صغيرًا والصغير كبيرًا، والقريب بعيدًا والبعيد قريبًا، والمتحرك ساكنًا والساكن متحركًا، والمستوي معوجًا والمعوج مستويًا.

وقيل إن بعض الحكماء كان جالسًا عند بعض الملوك، فقال الملك: إن الإنسان يألف السماع إذا تعود مجالس الطرب، فقال له الحكيم: يألفه إن كان في طبعه استعداد — يعني من أصل الخلقة — فأنكر عليه الملك، وقال: هل لك دليل على ذلك — فقال: نعم — فأمر الحكيم بإحضار مائة طفل من بني الناس من أولاد الأمراء والوزراء والعلماء والكتاب والزراع والسوقة والعبيد وغيرهم، وكانت أعمارهم لا تزيد على عشرة أشهر وأحضروا في يوم معلوم من أول النهار، وقد هيّأ لهم محلًا في بستان وأمر الحكيم أمهاتهم أن يحجبن أنفسهن عنهم نصف يوم حتى أقلقهم الجوع الشديد، ثم أمر بردهم إلى أمهاتهم مرة واحدة ليرضعنهم، وبينما هم مشغولون بالتغذي، إذ أمر الحكيم بضرب آلات الطرب دفعة واحدة، فمنهم من ترك التغذي شاخصًا نحو الصوت محركًا أعضاءه وهو يضحك، ومنهم من ترك التغذي ساكنًا لا يتحرك، ومنهم من جعل يلتفت مرة ويتغذى أخرى — ومنهم من جعل يحرك رجليه ويديه ولم يترك التغذي، ومنهم من بذل همته في التغذي ولم يلتفت، فعند ذلك ظهر للملك صحة ما قاله الحكيم، ولله في خلقه ما يشاء.

وأما تأثير السماع على الحيوان غير الناطق، فما ورد من أن الطيور كانت تلقي بنفسها وتصغي لقراءة داود — عليه السلام — مزاميره، فصوته الحسن حتى إن بعضها يموت من شدة الطرب. (وكانت أصوات الأنبياء كلها حسنة) قال الراجز:

والطير قد يسوقه للموت
إصغاؤه إلى حنين الصوت

وكذلك الإبل نراها تمد أعناقها صاغية لغناء الحادي لها فتهيم وتسرع في سيرها، حتى تزعزع أحمالها، وربما أتلفت نفسها من سرعة السير مع ثقل أحمالها، وهي لا تشعر بذلك بسبب نشاطها.

وقد غفل في الأحيان أن أبا بكر محمد بن داود الدينوري (رضى الله عنه) قال: كنت بالبادية فوافيت قبيلة من قبائل العرب فأضافني رجل منهم، وأدخلني خباءه، فرأيت فيه عبدًا أسود مقيدًا بقيد، ورأيت قُباله إبلاً وجمالاً قد ماتت وبقي منها جمل ناحل ذابل كأنه ينزع روحه فقال لي الغلام أنت ضيف ولك أن تشفع لي إلى مولاي؛ فإنه مكرم لضيفه، ولا يرد شفاعتك في هذا القدر، قال: فلما أحضر الطعام قلت: لا آكل ما لم أشفع لهذا العبد، فقال: إن هذا العبد أفقرني وأهلك جميع مالي، فقلت: ماذا فعل؟ فقال: إن له صوتًا طيبًا، وإني كنت أتعيش من ظهور هذه الجمال، فحمّلها أحمالاً ثقالاً وكان يحدو لها حتى قطعت مسيرة ثلاثة أيام في ليلة واحدة من طيب نغمته — فلما حطت أحمالها ماتت كلها إلا هذا الجمل، ولكن أنت ضيفي فلكرامتك قد وهبته لك.

فأحببت أن أسمع صوته فلما أصبحنا أمره أن يحدو على جمل قوي ليستقي الماء من بئر هناك — فلما رفع صوته هام ذلك الجمل وقطع حباله فوقعت على وجهي فما أظن أني سمعت قط صوتًا أحسن منه.

ومن قبيله ما يستعمله رعاة الغنم والبقر والخيل والحمير عند ورودها للماء من الصفير ترغيبًا لها في شربه.

وقيل: إن صيادي الغزلان والدراج والقطا وغيرها لهم غناء يغنون به في وقت صيدها في ظلام الليل؛ حتى يوقعوها ويأخذوها بيدهم.

والصيادون يصيدون الفيل والغزال بالسماع وآلات الطرب، والملاهي تلهيها عن رعيها فتسهو عن الرعي والهرب حتى تؤخذ وتُصاد.

وكذلك السماكون بالنواحي يصطادون السمك بأصوات شجيّة.

وكذلك يصيدون كثيرًا من الطيور؛ لما في الغناء من الجذبة السارية الشاغلة.

وجملة القول أنه يستلذها جميع الحيوانات التي لها جامعة السمع.

واختلف في الواضع، فقيل فيثاغورث، وكان قد رأى جمعًا من الحدادين يضربون بالمطارق على التناسب، فتأمل ثم رجع وقصد أنواع المناسبات من الأصوات، ولما حصل له ما قصده بتفكر كثير وفيض إلهامي جمع آلة وشد عليها وترًا وأنشد شعرًا في التوحيد وترغيب الخلق في أمور الآخرة، فأعرض بذلك كثير من الخلائق عن الدنيا وصارت تلك الآلة معززة بين الحكماء ثم وضع بعدها قواعد هذا الفن — وأضاف بعدها العلماء مخترعاتهم إلى أن انتهت النوبة إلى أرسطو، ففكر ثم وضع الأرغنون وهي آلة قديمة لليونانيين تعمل من ثلاثة زقاق كبار من جلود الجواميس تضم بعضها إلى بعض ويركب على رأس الزق زق آخر ثم يركب على الزقاق أنابيب لها ثقب على حسب استعمال المستعمل٥.

(وذكر في الإصحاح الرابع من سفر التكوين) وعرف قايين امرأته فحبلت وولدت حنوك. وكان يبني مدينة، فدعا اسم المدينة كاسم ابنه حنوك. وولد لحنوك عيراد. وعيراد ولد محيويائيل. ومحيويائيل ولد متوشائيل. ومتوشائيل ولد لامك. واتخذ لامك لنفسه امرأتين. اسم الواحدة عادة، واسم الأخرى صلة، فولدت عادة يابال الذي كان أبًا لساكني الخيام ورعاة المواشي. واسم أخيه يوبال، الذي كان أبًا لكل ضارب بالعود والمزمار. وصلة أيضًا ولدت توبال قايين الضارب كل آلة من نحاس وحديد.

قال الكامل في تاريخه — وقيل: أول من وضعه نوح — عليه السلام — واخترع العود المعروف واستخرج منه النغمات وانعدم ذلك العود عند الطوفان — ثم في عهد داود استخرج وهذب وضرب عليه.

وقد ذكر في تصحيح الغلطات، أن أول من وضعه لامك من أولاد نوح — عليه السلام — واخترع العود المعهود وبعد فتنة بختنصر فُقدت تلك الآلة — وفي زمن إسكندر ذي القرنين أوجد الحكماء الكاملون بقوة الرياضة علم الموسيقى وقد ثبت أن أرسطو وبقراط وسقراط وجالينوس وأفلاطون قد استعملوا الموسيقى.

وقيل إن الحكماء استخرجت الصنائع بحكمتها وعلمتها للناس ومن جملتها فن الموسيقى واستعمل كسائر الصنائع.

وقيل: إن أول من وضعه جمشيد — وهو ملك من ملوك الفرس —٦ كان بمدينة اصطخر التي صارت الآن قرية صغيرة بقرب الشيراز.

وكان في سلطان العجم قبل الملة الإسلامية منها بحر زاخر في أمصارهم ومدنهم، وكان ملوكهم يتخذون ذلك ويولعون به حتى لقد كان لهم اهتمام بأهل هذه الصناعة، ولهم مكان في دولتهم وكانوا يحضرون مشاهدهم ومجامعهم ويغنون فيها — وهذا شأن العجم لهذا العهد في كل أفق من آفاقهم ومملكة من ممالكهم.

وأما العرب، فكان لهم أولاً فنّ الشعر يؤلفون فيه الكلام أجزاء متساوية على تناسب بينها في عدة حروفها المتحركة والساكنة، ويفصّلون الكلام في تلك الأجزاء تفصيلاً يكون كل جزء منها مستقلاً بالإفادة، لا ينعطف على الآخر ويسمونه البيت، فتلائم الطبع بالتجزئة أولاً، ثم بتناسب الأجزاء في المقاطع والمبادئ، ثم بتأدية المعنى المقصود وتطبيق الكلام عليها، فلهجوا به، فامتاز من بين كلامهم بحظ من الشرف ليس لغيره لأجل اختصاصه بهذا التناسب وجعلوه ديوانًا لأخبارهم وحكمهم وشرفهم، ومحكًا لقرائحهم في إصابة المعاني وإجادة الأساليب. وما من أمة لها قوة على التصرف في المعاني إلا وفيها شعراء بلسانهم، إلا أن فضل الأشعار العربية مشهور كما لا يخفى. واستمروا على ذلك وهذا التناسب الذي من أجل الأجزاء والمتحرك والساكن من الحروف قطرة من بحر تناسب الأصوات والألحان، إلا أنهم لم يشعروا بما سواه؛ لأنهم حينئذ لم ينتحلوا علمًا ولا عرفوا صناعة، وكانت البداوة أغلب نحلهم — ثم تغني الحداةُ منهم في حُداء إبلهم، والفتيان في قضاء خلواتهم، فرجعوا الأصوات وترنموا، وكانوا يسمّون الترنم إذا كان بالشعر غناء، وإذا كان بالتهليل أو نوع القراءة تغبيرًا بالغين المعجمة والباء الموحدة، وعللها أبو إسحاق الزجاج بأنها تذكر بالغابر، وهو الباقي أي: بأحوال الآخرة، وربما ناسبوا في غنائهم بين النغمات مناسبة بسيطة كما ذكره ابن رشيق آخر كتاب العمدة وغيره — وكانوا يسمونه السناد، وكان أكثر ما يكون منهم في الخفيف الذي يرقص عليه ويمشي بالدف والمزمار، فيطرب ويستخف الحلوم، وكانوا يسمون هذا الهزج وهذا البسيط كله من التلاحين هو من أوائلها، ولا يبعد أن تتفطن له الطباع من غير تعليم، شأن البسائط كلها من الصنائع، ولم يزل هذا شأن العرب في بداوتهم وجاهليتهم.

فلما جاء الإسلام واستولى على ممالك الدنيا وحاز سلطان العجم وغلبهم عليه، وكان أهله من البداوة والغضاضة على الحال التي عرفت لهم مع غضارة الدين وشدته في ترك أحوال الفراغ، وما ليس بنافع في دين ولا معاش فهجروا ذلك شيئًا ما ولم يكن الملذوذ عندهم إلا ترجيع القراءة والترنم بالشعر الذي هو ديدنهم ومذهبهم — فلما جاءهم الترف وغلب عليهم الرفه بما حصل لهم من غنائم الأمم صاروا إلى نضارة العيش ورقَّة الحاشية واستحلاء الفراغ وافترق المغنون من الفرس والروم، فوقعوا إلى الحجاز وصاروا موالي للعرب، وغنوا جميعًا بالعيدان والطنابير والمعازف والمزامير، وسمع العرب تلحينهم للأصوات فلحنوا عليها أشعارهم وظهر بالمدينة نشيط الفارسي وطويس وسائب خائر مولى عبد الله بن جعفر فسمعوا شعر العرب ولحنوه وأجادوا فيه وطار لهم ذكر، ثم أخذ عنهم معبد وطبقته وابن سريج وأنظاره — وما زالت صناعة الغناء تندرج إلى أن كملت في أيام بني العباس عند إبراهيم المهدي وإبراهيم الموصلي وابنه إسحاق وابنه حماد — وكان من ذلك في دولتهم ببغداد ما تبعه الحديث بعده به وبمجالسه لهذا العهد — وأمعنوا في اللهو واللعب — واتخذت آلات الرقص في الملبس والقضبان والأشعار التي يترنم بها عليه، وجعل صنفًا وحده واتخذت آلات أخرى للرقص تسمى بالكرج، وهي تماثيل خيل مسرجة من الخشب معلقة بأطراف أقبية يلبسها القيان ويحاكين بها امتطاء الخيل، فيكرون ويفرون وأمثال ذلك من اللعب المعد للولائم والأعراس وأيام الأعياد ومجال الفراغ واللهو، وكثر ذلك ببغداد وأمصار العراق وانتشر منها إلى غيرها.

وقيل إن الفارابي٧ صنعه لمّا مات والده وجعله على طبائع الإنسان، وقال: هذا أبي ليتسلى به، وعمل له لوالب تربط فيه الأوتار وتعرك إلى أن يضبط الساز — إن شاء حاذقًا، وإن شاء رخيمًا — ولكنه لم يجوف له بطنًا، ولم يثقب وجهه، بل جعله مسدودًا، فلما ضرب عليه ولم يظهر له طنين بل خرس تركه وصار يقول إن أبي أخرس، ثم إنه تفقده في بعض الأيام وضرب عليه فظهر له صوت عال فنظر إليه فإذا الفار قد نقره فعلم أن صوته من نقر الفار، فقال هذا ليس بأبي، بل الفار أبي قالوا: ومن أجل ذلك لقبوه به أي: بالفارابي.

وأقول: هذا ليس بشيء؛ لأنها نسبة إلى فاراب، وهي ناحية وراء نهر سيحون أو اسم المدينة أترار كما في القاموس.

والفارابي لم يبدع العود قط بعد أن علم أنه من مخترعات الأمم السابقة، ولكنه زاد فيه أنغامًا وأتقنه. وأيضًا ذكر صاحب الصحاح أن العود اسم آلة من آلات المعازف. والصحاح لم يذكر إلا لغة العرب، أي: ما نطقت به والفارابي ما ظهر إلا بعد انقراض من يعتد بلغته من العرب وهو أيضًا ليس منهم، بل عجميٌّ مستعرب.

(وفي أوائل السيوطي) أن أول من وضع الآلة المعروفة للغناء المسماة (بالقانون) ورتبها أبو نصر الفارابي أستاذ ابن سيناء.

وقيل: إن أول من صنع العود بعض حكماء الفرس، وأنه سماه: البربط وتفسيره (باب النجاة) والمعنى أنه مأخوذ من صرير باب الجنة — وقد جعل أوتاره أربعة بإزاء الطبائع الأربع — فالزير٨ بإزاء الصفراء — والمثنى٩ بإزاء الدم والمثلث١٠ بإزاء البلغم — واليم١١ بإزاء السواد — فإذا اعتدلت أوتاره، ورتبت على ما يجب، جانست الطبائع وأنتجت الطرب، وهو رجع النفس إلى الحالة الطبيعية دفعة واحدة. ثم ما زالت عدة أوتاره أربعة إلى أن ظهر زرياب وتعلم ضرب العود من إسحاق الموصلي وتمهر فيه حتى برع وفاق أستاذه وصبغ الأوتار الأربع بألوان ما هو بإزائها من الطبائع — فجعل ما بإزاء السوداء أسود — وما بإزاء اليم أحمر — وما بإزاء البلغم أبيض — وما بإزاء الصفراء أصفر، وزاد وترًا خامسًا سماه: النفس؛ لعدم قيام الطبائع الأربع بدونه.

ولما أن علم إسحاق أستاذه بهذا الأمر؛ قال: إن العراق لا يسعني ويسعك فاخرج منه. فخرج ولحق بالحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل أمير الأندلس، فبالغ في تكرمته وركب للقائه وأسنى له الجوائز والإقطاعات والجرايات، وأحلّه من دولته وندمائه بمكان — وهو الذي اخترع بالأندلس مضراب العود من قوادم النسر عوضًا عن مضراب الخشب — فأبدع في ذلك للطف الريشة، وخفتها على الأصابع وطول سلامة الوتر على كثرة ملازمتها إياه — فأورث بالأندلس صناعة الغناء ما تناقلوه إلى أزمان الطوائف، وطما منها بإشبيلية بحر زاخر وتناقل منها بعد ذهاب غضارتها إلى بلاد العدوة بإفريقية والمغرب، وانقسم على أمصارها، وبها الآن منها صبابة على تراجع عمرانها وتناقص دولتها.

وقيل: إن أول من غنى على العود من العرب بألحان الفرس.. النضر بن الحارث؛ وذلك أنه وفد على كسرى، فتعلم ضرب العود والغناء وقدم مكة فعلَّم أهلها.

وقيل: إن أول من غنى في الإسلام بألحان الفرس طويس؛ وذلك أن عبد الله بن الزبير لما بنى الكعبة ورفعها، كان في بنائها صناع من الفرس يغنون بألحانهم، فوقَّع طويس عليها الغناء العربي، ثم دخل الشام فأخذ من ألحان الروم — ثم رحل إلى فارس فأخذ الغناء وضرب بالعود وأتبعه من بعده.

وفي (أوائل السيوطي) أن أول صوت غُني به في الإسلام كن يغني به طويس:

قد براني الشوق حتى
كدتُ من وجدي أذوب

وقال السيوطي: إن أول من ضرب بالدف عند ظهور الإسلام بالمدينة المنورة الجواري من بني النجار، استقبلن رسول الله بالدفوف يتغنين ويضربن بها وهنَّ يرتجزن.

نحن جوار من بني النجار
يا حبذا محمدٌ من جار

وأول غناء تغنى به النساء والصبيان في المدينة عند قدوم رسول الله بشعر لطيف وهو:

طلع البدر علينا
من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا
ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا
جئت بالأمر المطاع

وأوَّل من أفسد الغناء القديم وجعل للناس طريقًا جديدًا رقيقًا بالأصوات الحزينة إبراهيم بن المهدي (أوائل السيوطي) — [وقلده المصريون جميعًا في ذلك للآن].

وأول من تغنى من العرب الحِجازية خزيمة بن سعد ويلقب بالمصطلق لحسن صوته في غنائه (قاموس).

وأول من أحدث الحداء غلام من مضر — روي عن ابن عباس — رضي الله عنهما — كان رسول الله في مضر فسمع صوت حاد يحدو فقال: ميلوا بنا إليه فقال: ممن القوم؟ قالوا: من مضر. فقال: أتدرون متى كان الحُداء قالوا: لا بأبينا وأمنا، فقال: إن أباكم مضر خرج في مال له فوجد غلامه قد تفرقت عليه إبله فضربه على يده بالعصا فعدا الغلام في الوادي وهو يصيح وأيداه وأيداه، فسمعت الإبل صوته واجتمعت.. فقال مضر: لو اشتق من هذا الكلام مثل هذا لكان كلامًا يجتمع عليه الإبل فاشتق الحُداء من ذلك.

وكان سلام الحادي من العرب في الدولة العباسية يُضرب المثل بحدائه، فقال يومًا للمنصور: يا أمير المؤمنين، مر الجمَّالين بأن يظمئوا الإبل ثم يوردوها الماء، فإني آخذ في الحداء فترفع رءوسها، وتترك الشرف، ففعلوا ما قال فأجرى ما التزم وارتجز:

ألا يا بانة الحادي
بشاطئ نهر بغداد
شجاني فيك صباح
طروب فوق مياد
يذكرني ترنمه
ترنم ربة الوادي
وإن جادت بنغمتها
فمن (أنجشة الحادي)

والحقيقة أن الموسيقى لم يعرف لها واضع، وكل من حدد واضعًا لها فقد أخطأه الجد وخدعه الباطل، ولم يدرك حقيقة العمران وأطوار بني الإنسان، فإن الإنسان في أي طور ظهر وأرض انتشر، فالغناء حليفه والشعر أليفه — أو ما تراك ترى الأمم الهمجية والقبائل الوحشية لها ألحان وأنغام تلائم طبعها تناسب حالها — نعم إنها تختلف في الأمم اختلافًا هائلا وتتباين تباينًا عظيمًا، ومنشأ هذا تفاوتهم في المدنيّة ودرجاتهم في العلم والحضارة — فالذي ينظر مثلاً إلى الزنجي في أفريقيا — والأديب في أوربا يضع كل واحد منهما في كفة ميزان — يرى أن الأول كأنه بالنسبة إلى الآخر ليس من نوع الإنسان، بل هو من نوع آخر يشبهه في اعتدال القامة وتقاطيع العضلات — وكما أن الفرق الذي تراه في شكلهما وعلمهما تراه بين لحنهما وغنائهما.

وقصارى القول في الموسيقى أن النفس عند سماع النغم والأصوات يدركها الفرح والطرب بلا شك، فيصيب مزاج الروح نشوة يستسهل بها الصعب ويستميت في ذلك الوجه الذي هو فيه، وهذا موجود حتى في الحيوانات العجم بانفعال الإبل بالحداء والخيل والحمير بالصفير كما علمت — ويزيد ذلك تأثيرًا إذا كانت الأصوات متناسبة كما في الغناء، وأنت تعلم ما يحدث لسامعه من مثل هذا المعنى — ولأجل ذلك تتخذ العجم في مواطن حروبهم (الآلات الموسيقية) لا طبلاً ولا بوقًا فيحدق المغنون بالسلطان في موكبه بآلاتهم، ويغنون فيحركون نفوس الشجعان بضربهم إلى الاستمالة. ولقد سمعنا أيضًا أن في حروب العرب الأقدمين من كان يتغنى أمام الموكب بالشعر ويطرب، فتجيش همم الأبطال بما فيها ويسارعون إلى مجال الحرب وينبعث كل قِرن إلى قرنه — وكذلك زناتة من أمم المغرب يتقدم الشاعر عندهم أمام الصفوف، ويتغنى فيحرك بغنائه الجبال الرواسي، ويبعث على الاستمالة من لا يظن بها، ويسمون ذلك الغناء (تاصوكايت) — وأصله كله فرح يحدث في النفس، فتنبعث عنه الشجاعة كما تنبعث نشوة الخمر بما يحدث عنها من الفرح.

وهذا الفن آخر ما يحصل في العمران من الفنون؛ لأنه كمالي في غير وظيفة من الوظائف إلا وظيفة الفراغ والفرح، وهو أيضًا أول ما ينقطع من العمران عند اختلاله وتراجعه كما هو واقع بالشرق الآن.

وفي لفظه لغتان إحداهما موسيقي بمثناتين تحتيتين بينهما قاف مكسورة (والأخرى) موسقي بحذف الياء الأولى — وعلى كل من اللغتين، هو بضم الميم وسكون الواو وكسر السين المهملة كلمة يونانية معناها علم النغمات والألحان — وكان هذا هو الأصل فيه، ثم صار عَلَمًا على هذا العلم في سائر اللغات، ويسمون المغني: المطرب، والملحن المجيد: (موسيقار) والآلة التي يصور بها كالعود وغيره (موسيقيري) حسبما يظهر من تتبع كلامهم، حيث قالوا: كل صناعة متعلقة باليد فموضوعها الجسم الطبيعي، إلا الموسيقيري، فموضوعها الصوت المشتمل على الألحان المخصوصة، ولا يخفى عليك أن تعلق الصناعة باليد إنما يجري في الآلة فقط وبعضهم يسمى المغني (بالموسيقان) وآلة الغناء (بالموسيقات).

هوامش

(١) فمن المستحسن أن يسمعها إذًا مثل القضاة والمحامين والمؤلفين والمخترعين لتخفف عنهم كد الأذهان وتعب النفوس.
(٢) فإذا كانت آلات الطرب في صدحها وأصوات الطيور في تغاريدها تطرب ولا تدل على معنى يفهم، فما ظنك بالألفاظ المفيدة الملحنة التي يسمعها السامع ويفهم ما يستفيده من معانيها!
(٣) (نكتة) حكي أنه سمع فيلسوف نغمات آلات الطرب مع التلحين فقال لتلميذه: امض بنا نحو هذا الموسيقار لعله يفيدنا صورة شريفة — فلما قرب منه سمع لحنًا غير موزون ونغمة غير طيبة فقال لتلميذه: زعم أهل الكهانة أن صوت البوم يدل على موت إنسان، فإن كان ما قالوا حقًا فصوت هذا الموسيقار يدل على موت البوم.
(٤) راجع الإحياء للغزالي — وكتاب إيضاح الدلالات، في سماع الآلات للنابلسي.
(٥) وهي التي أخذ منها على ما أظن القرب الموسيقية التي يستعملها العسكر الآن.
(٦) بدليل أن أكثر أسماء النغمات فارسية.
(٧) من أراد الاطلاع على ترجمته، فليراجع ابن خلكان.
(٨) النوا.
(٩) الدوكاه.
(١٠) العشيران.
(١١) مختلف فيه بين أنه اليكاه أو — (قرار البوسلك).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤